يُروى أن غاندي حين سُئل عن «الحضارة الغربية» أجاب ساخرًا: «ستكون فكرة جيدة». بما يشبهُ المدح سخر الزعيم الوطني الهندي من التناقض الكامن بين المصطلحين. فالغرب الذي يدّعي امتلاك «الحضارة» التي ينكرها على الآخرين، قد تصرّف بوحشية تفوق أولئك الذين وصفهم بالبربرية، ولاسيما في بلاده، ولعله كان يعلّق على «مذبحة أمريتسار» التي ارتكبت عام 1919. لكن هذه السخرية الغاندية المُرّة لا تكشف فقط عن التناقض بين الإبادة والحضارة، بل كذلك عن مركزية الكلام في التحرّر بوصفه تعبيرًا عن الذات. فكل كلمة تخرج من أفواه التابعين والمظلومين والمكسورين، تحمل في طياتها تاريخًا خاصًا ومعانٍ دقيقة، وفي المقابل كل عبارة تشيعها قوى الهيمنة لها الخصوصية نفسها. ولا يمكن تطهير أي مصطلح من كل شبهة أو تحيّز إلا بالوعي به وبالشروط التاريخية التي خلقته.
هذا الوعي أو الإدراك السياقي والتاريخي لسلطة الكلمات هو ما يحاول الكاتب والصحفي التونسي، بسام بوننيّ، أن يقوم به في كتابه «عبارات الطوفان: حرب الكلمات والسرديات».[1] ينطلق بسام من تجربة خاصةٍ تدفعه للكتابة في الشأن العام. ولأنه ليس بعيدًا عن سوق الكلام وأساليبها، بوصفه صحافيًا ومراسلًا خدم في بقاعٍ كثيرةٍ من الأرض، وغطى حروبًا وثوراتٍ كثيرةٍ، حكى عنها بتفاصيلٍ في كتابه الأول «أيام قلقة: سجلات عشر سنوات من الثورات العربية» (بالفرنسية 2021)، فإنه يملك -فضلًا عن القدرة البحثية والتحليلية- حاسةً وخبرةً في تقليب الكلام على وجوهٍ كثيرةٍ، وليس الاكتفاء بالوجه العامٍ له كما تريد لنا وسائل الإعلام السائدة وشبكات التواصل، المدفوعة بقوة الخوارزميات، أن نستهلكه بلا نقدٍ أو سؤالٍ. ومن وراء ذلك يريد القول إن الحروب اليوم -كما الأمس- تخاض داخل عالمين متوازيين متزامنين: عالم ساحة الحرب النارية، وعالم معارك السرد والكلام في وسائل الإعلام وعلى المنصات الرقمية وبين الناس، مُسلِّطًا الضوء على الدور الحاسم للكلمات في تشكيل الوعي العام والخطاب السياسي للمستعمر والمقاوم على حد السواء. فضلًا عن الروابط المعقدة والغامضة بين الواقع والخيال، والتي صارت في حروب اليوم تشكل جميع الروايات الإعلامية.
البحث عن الذات
بعد أيام قليلة على انطلاق طوفان الأقصى، وفي اليوم التالي لمجزرة المستشفى الأهلي المعمداني، قدم بسام بونني استقالته من هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي التي كان يعمل فيها مراسلًا، بعد أن زعمت القناة أن قصف المستشفى سببه إمكانية وجود أنفاق لحركة حماس تحته. وقد غطى هذا الزعم على فظاعة القصف، الذي راح ضحيته المئات، وصار الرواية السائدة عالميًا. كان ذلك الحدثُ فارقًا بالنسبة لبسام، ولكن قرار الاستقالة كان قد قرّ في يقينه منذ اندلاع الحرب، بسبب انجراف القناة إلى تعميم ودعم الرواية الإسرائيلية.
وفي تلك الأيّام التي فصلت بين الطوفان ومجزرة المستشفى المعمداني، تراكم الغضب والضيق، لكن الاستقالة لم تكن مجرد صرخة غضب، بل دافعًا للتفرغ للكتابة عن حرب الكلمات والسرديات فيما جرى وما زال يجري في غزة، من موقعه بين الصحافي والواقف على تخوم البحث والمنحاز في الوقت نفسه كليًا لقضية فلسطين، فهو كما يقول: «قضية فلسطين، تكاد تكون من أكثر القضايا التي يظهر فيه الحق واضحًا. لا أقول ذلك لأنني عربي. أنت لا تحتاج لتكون عربيًا أو مسلمًا أو مسيحيًا لتدرك جبهة المظلوم في هذه الحرب المستمرة منذ حوالي ثمانية عقود». هذا الانحياز، تقابله قدرة على التحليل العقلاني، الذي يتوسل مناهج وأدوات اجتماعية وسياسية وأنثروبولوجية وفلسفية تعطي الانحياز نفسه حقه وتقوي متونه. وقد أشار الدكتور مصطفى البرغوثي في مقدمة كتبها للكتاب إلى أنه «يمثل وثيقة بحثية شيقة لا غنى عنها لأي كاتب أو إعلامي أو سياسي، بل ولأي مواطن عربي يريد أن يتسلح بالمعرفة للدفاع عن قضيّة شعبه وقضية فلسطين».
يؤسس الكتاب الذي يبدو كمعجمٍ للعبارات أو الكلمات أو الشعارات التي عاشت في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي على لسان الضحايا أو في خطاب الجلادين، لسرديّة جديدة، لكنه ليس معجمًا بالمعنى التقني. يختار الكاتب ثلاثين مدخلًا ويحلل سياقها الإعلامي والسياسي والتاريخي وأحيانًا الجيوسياسي. وتتنوع هذه المداخل بين زفرات الضحايا، التي تحولت إلى أيقونات، مثل «معلش، روح الروح، الولاد ماتوا بدون ما ياكلوا…» أو شعاراتٍ رفعت في المظاهرات والمسيرات أو في وسائل التواصل مثل «لا سمح الله، الشعب يريد تجريم التطبيع… ». كما يشمل الكتاب عباراتٍ تنتمي للرواية الصهيونية إعلاميًا وسياسيًا «هل تدين حماس، حيوانات بشريّةٍ، الرضع مقطوعي الرؤوس»، كاشفًا من خلالها كيف يمكن أن يكون العنف منطويًا في الكلام نفسه، فهذه العبارات تؤذي وتستبعد وتجعل من الهجوم الرمزي مكوّنًا حقيقيًا للحرب. فضلًا عن مصطلحاتٍ أخرى تنتمي لمعجم الصراع يشرحها ضمن سياقٍ تاريخي وجيوسياسي مثل «اللوبي الصهيوني، الجبهة الشمالية، باب المندب، النكبة».
الكتاب كما يصفه كاتبه «يقدم عشرات العبارات بما تكتنزه من معان ودلالات، مع الوقوف على خلفيّاتها في الماضي ومحاولة فهم أثرها في الحاضر لاستشراف تداعياتها في المستقبل».
وفضلًا عن التحليل السياقي، ينهض الكتاب بدورٍ مرجعي، فهو شديد الثراء من ناحية التحليل التاريخي، من خلال حشد كمٍ كبيرٍ من المراجع والإحالات المصدرية، من وثائق وكتب ورسائل، تشرح بشكلٍ مستفيض مسار بناء الكلام في التاريخ وكيف تتحول الكلمات من سياق إلى آخر وتفرض هيمنتها بالشيوع والبداهة على الناس.
يكشف بسام بونني عن أن اللغة اليوم أصبحت تشكل بعدًا أساسيًا في ساحة المعركة. فالخطابات السياسية والإعلامية والرقمية ليست مجرد تعليقات على الحرب، بل هي بعض أدواتها. ومن خلال تحليل عبارات أنتجتها وسائل إعلامية أو منصات تواصلٍ، يصف لنا حربًا معرفية يتم فيها الطعن في الحقيقة، وتحويلها واستبدالها بسرد استراتيجي يخدم الرواية الصهيونية رأسًا. وأحيانًا لا يتعلق فقط بسرد الحرب، بل بخلق الحرب من خلال سرد القصص، فقد شكلت الأخبار الكاذبة وحملات الدعاية على وسائل الإعلام التقليدية ووسائل التواصل الاجتماعي أدواتٍ إسرائيلية لإضعاف قوة الرواية الفلسطينية، ثم ستارًا للشروع في الإبادة تحت غطاء الدفاع عن النفس.
يساعد هذا العمل، الذي يجمع بين كونه تحليلًا لغويًا تاريخيًا وموقفًا سياسيًا وأخلاقيًا، كُتب بأسلوب هادئ وسهل الفهم لعامة الناس، على فهم قوة الكلمات التي نحسبها هينةً وهي في ميزان الحرب عظيمة. وفي وقت أصبحت فيه حرب الكلمات حاضرة في كل مكان -من الدبلوماسية إلى المنصات الاجتماعية- يذكرنا هذا الكتاب بأن الدفاع عن الإنسان يعني أيضًا الدفاع عن استخدام معينٍ للغّة.
حروب السرد
ينتمي كتاب «عبارات الطوفان» إلى موجةٍ جديدةٍ من أدبيات نزع الاستعمار عن اللغة، والتي تتوزع على مجالاتٍ مختلفةٍ من الفكر؛ بين التاريخ والفلسفة والدراسات اللغوية والمعجمية وكذلك الصحافة والإعلام.
لطالما شغل أداء اللغة في السياسة مفكرين مثل ميشيل فوكو، وحنا أرندت، وجوديث بتلر، وكارل شميت، وكذلك الحال مع نظريات القوة والعنف الرمزي والأداء، وذلك في سبيل البحث عن الكثافة المفاهيمية للصراع اللفظي المعاصر، وهي موجة يختلط فيها السياسي بالعلمي على نحوٍ شديد التشابك. من خلال سياقات الكتابة ودوافعها عند بسام بونني، يتجلى بوضوح أن السعي إلى تحرير الكلام من عبء الهيمنة الاستعمارية والإبادية، كان دافعه الأساسي هو الواقع؛ واقع الحرب والإبادة. وكذلك الشأن بالنسبة لأغلب الأدبيات المتعلقة بنزع الاستعمار عن المعرفة بكافة فروعها، فهي تصدر عن قطاعٍ من الباحثين في الغرب والشرق، يمتلكون الأدوات العلمية اللازمة لخوض التجربة، ولكنهم يمتلكون أساسًا الوعي بضرورة ألّا يكون العلم في خدمة الهيمنة، ولكي لا يكون كذلك لا بد من إعادة تصويب انزياحاته التاريخية السابقة للمضي قدمًا.
يسلط بونني في ثنايا معجمه الصغير، وعبر التحليل المستفيض لولادة العبارات وتطورها في التاريخ والوعي، الضوء بقوةٍ على دور حروب السرديات في كسب معارك التضامن العالمي والدعم. وربما كان للتفوق الصهيوني لعقودٍ في هذه المجال دورٌ أساسيٌ في كسب «إسرائيل» دعمًا دوليًا قويًا، لا سيما في سنوات سيطرة وسائل الإعلام التقليدية المغلقة على حفنة من الرأسماليين المحظييّن. لكن هذا التفوق الصهيوني ليس قدرًا -كما يرى بونني- بل يرتبط بشروط تاريخية وسياسية نحن قادرون في ظل التحوّل التي تأخذه أشكال ومحامل وسائل الاتصال والإعلام على قلبه لصالحنا.
يتقاطع كتاب بونني على نحو تكاملي مع كتاب عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي، ديدييه فاسان، «الهزيمة الغريبة: عن القبول بسحق غزة»[2] الذي صدر بعد كتاب «عبارات الطوفان»، والذي يحلل فيه استسلام وسائل الإعلام ومراكز الفكر والمثقفين في الغرب لشهوة سحق غزة والمذبحة التي ارتكبتها «إسرائيل» بحق سكانها، بالإضافة إلى اضطهاد سكان الضفة الغربية، وكيف وفروا الخطابات والكلمات والتغطيات اللازمة لذلك.
كما يلقي الضوء على تعاظم قوة «شرطة الفكر»، مقدمًا أرشيفًا وتحليلًا لهذا التنازل التاريخي، فيوثق العديد من حالات الرقابة التي استهدفت المنتقدين لتصريحات وأفعال الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، في الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا، مشيرًا في الوقت نفسه إلى الأخطاء التاريخية في خطابات الشخصيات العامة. كما يناقش فاسان الاستخدام الفاضح لتهمة «معاداة السامية» ضد من يطالبون بوقف إطلاق النار وإنهاء المجازر، ويشير إلى استمرار خطاب عنصري ذي طابع استعماري في اتهام منتقدي الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون. وربما تدفع القوة التي كتب بها فاسان كتابه إلى أن يتعرض لما تعرض له من كتب عنهم، لذلك فإن كتابه مجردًا خطوة شجاعة في سياق شاملٍ من الترهيب، قياسًا لموقعه في أكبر مؤسسة أكاديمية فرنسية «كوليج دو فرانس».
-
الهوامش
[1] منشورات نيرفانا، تونس، 2024.
[2] صدر عن Paris -La Découverte 2024