«وإنْ قلتَ بالتنزيهِ كنتَ مُقيِّدا
وإنْ قلتَ بالتشبيهِ كنتَ مُحدّدا
وإنْ قلتَ بالأمرين كنتَ مُسدّدا
وكنتَ إمامًا في المعارف سيِّدا»
– ابن عربي، «فصوص الحِكم»
وافت المنيّةُ الكاتبة والفنّانة إيتيل عدنان في 14 تشرين الثاني 2021 عن عمر يناهز 96 عامًا. رحلت عدنان تاركة وراءها شريكة حياتها على مدى أكثر من أربعين عامًا، الرسّامة والنحّاتة والنّاشرة الأدبيّة سيمون فتال.
إنّ مواجهة أعمال عدنان هي بمثابة دعوة إلى رحلة سفر. في قلب تلك الرحلة، يمكنُ أن تلمحَ ارتباط عدنان بالآنيّة. في مقابلاتها كثيرًا ما كانت تُسأل عن جذورها، أمّها يونانيّة مسيحيّة من مدينة سميرنا، وأبوها سوري مسلم كان ضابطًا عثمانيًّا، ولطالما أكدت عدنان في إجاباتها على تكامل ذاتها، مُشيرةً إلى أنّ أصولها الثقافيّة والدينيّة لا يُقصي عنصرٌ فيها عنصرًا آخرَ، كما يحلو للمنطق المعياريّ أن يصور.
قبلٍ عقدٍ أو نحو ذلك، قرأت كتابيْن لإيتيل عدنان، هما رواية «ست ماري روز» وقصيدة «الأبوكاليبس العربيّ» التي يبلغُ طولُها كتابًا بأكمله. كلا الكتابيْن تركا أشدّ الأثر في نفسي. وتأثّرتُ، على نحوٍ خاصّ، بالتجريب الشكليّ عند عدنان الذي يتّسمُ بالإلحاح والحميميّة. وبعدما تعرفت على كتاب «انظرْ إلى البحرِ لتُصبحَ أنتَ: مختارات لإيتيل عدنان»، غيّر عملها تصوّري حول إمكانية التعبير الفني وآفاقه.
تتوفّر هذه الطبعة المؤلّفة من مجلّدين على مختاراتٍ من شعر عدنان ونثرها. وهي تتضمن خمسة كتبٍ بأكملها : «ستّ ماري روز»، و«الأبوكاليبس العربيّ»، و«رحلة إلى جبل تامالبايس»، و«زهورُ الربيع وتجلّيات الرحلة»، و«عن مُدنٍ ونساء (رسائل إلى فوّاز)».
يكشْف المُجلدان عن عدنان الشاعرة وعدنان متعددة الثقافات والمناهج، التي تتنقل من علم الفلك إلى النقد السياسي إلى الفنّ الحداثيّ بحبالٍ وقفزاتٍ حدسيّة. وتتسم أعمال عدنان بجرأة صراحة التعبير، وبساطة الخطاب أحيانًا، بساطة تقترن بجمع واسع وجميل من الأجناس الأدبيّة. إن قراءة مقالاتها يعني أن تشهدَ على عمليّة تشكل صلات رحم فريدة داخل النص، صلات تنشأ من حساسية تجاه الظروف التاريخية والشخصية على حد سواء، وكأنّ سردها يتدفق بدقّة حرة.
هناك عملٌ كثيرًا ما أعود إليه، هو «سيد الخسوف»؛ وهو عملٌ يطمس، من الناحية السرديّة، الحدود بين الأجناس الأدبيّة، فهو يشملُ الرثاءَ والقصّة القصيرة وكتابة الرحلات والنّقد الفنيّ.
تخلق عدنان فضاءً مترعًا بالآنيّة حيث تتبدل وتتصادف مناخات المتعة والإرجاء والخطر؛ فالمتحدثة في وحدةٍ وعزلةٍ تتواصلُ مع الحيوانات والأشباح، تتجاوزُ ارتباطاتها المخيالَ الاجتماعيّ المعياريّ.
يبتدئ المقالُ بذكرى رحلة قادت عدنان إلى مهرجان ثقافيّ في إيطاليا. كانت عدنان تتساءل خلال رحلتها عن دور الثقافة بوصفها ترياقًا متصوَّرًا لعالمٍ غارق في الظلم واللاعدالة، وعن نزعة تأطير هذه الاشكالية من منظور قطبيّة الخلاص والعقوبة. وفي المهرجان، التقت بالشاعر العراقي الكردي بلند الحيدري، فجاء عملها «سيد الخسوف» مرثية له ترجمتها من خلال مشاهدَ حيّةٍ تجوبُ العراق ولبنان وإيطاليا وفرنسا، مع إيلاء اهتمام ورعاية بشعر الحيدري وحياته.
تظهر عدنان هنا كشاهدة على حميميّاتٍ عنيفة: إذ يقتلُ أخو الحيدري أختهم، وصدّام حسين لا يقتلُ بيديه بل بأمرٍ استبداديّ، وتقتلُ أميركا عن بعد من خلال العقوبات والتفجيرات والقذائف.
تضمنت المرثيّة أيضًا مشهدًا يجمعها بأستاذٍ يدرسُ أعمال الحيدري، تَبيّن أنّه عميلٌ إمبرياليّ. واحتفالًا بالغزو الأميركيّ المزعوم لـ«الزمان»، عبر محْو التواريخ، يقعُ الأستاذ/ العميل في حيرةٍ من أمره: كيف للحيدري -وهو ملحدٌ قديم معروف- أن يُظهر اهتمامًا شعريًّا عميقًا بالملائكة والزمان؟
تُسجّل عدنان استجاباتها -الرقيقة والمرتابة- على هذه الأحداث. وتجابهُ المنظورَ المشوّه والاختزاليّ الذي يسعى الأستاذ/العميل إلى تمريره باعتباره «واقعًا» لكي يفرضه. بيد أنها ترفضُ تشيّيئ الآلام أو إخفاءها، تلك الآلام الناتجة من العلاقات الأسرية أو البينية عبر الأجيال أو التاريخية. تقرأ عدنان الحياة الشخصيّة المعقدة للحيدري ورؤاه الفنيّة -الأساطيريّة والملائكيّة- بعنايةٍ، وتضع شعره في علاقةٍ مع أعمال بول كلي وفالتر بنيامين. وتلاحظُ عدنان كيف أنّ شعرَ الحيدريّ يطرح إشكالية «الفكر» بحدّ ذاته، حيث تكتبُ عنه: «إذا قرأه أحدٌ بعنايةٍ، فيمكنه أن يرى أنّه لم يكن مُشتبكًا مع المعتقدات بل مع المنظور والرؤية. ولم يكن أيضًا معنيًّا بالفكر. إذ نعلمُ أنّ التفكيرَ -غالبًا- ليس إلّا بحثًا عن طُرق للهروب والخداع والتقنُّع والتمسُّخ أو الخيانة». ينتهي «سيد الخسوف» برؤيةٍ مروّعة: تواجه عدنان الشاعرالحيدريَّ في كابوس يعترفُ فيه لها بأنّ ملائكته خانته.
ما من حبٍّ حميد
هناك عملٌ مهم يمثّل مفتاحًا أساسيًّا لفهم مقاربة عدنان للفنّ، وهو مقال «كُلفة الحبّ التي لا نرغبُ في دفعها»؛ المقال يختتمُ المُجلّد الثاني من مختاراتها. تنتقلُ عدنان في عملها هذا، وهي تسبرُ أغوار رؤاها أنّ «ما من حبّ حميد»، من تأمّلها في تضحيات نيتشه والحلّاج في سبيل الحقيقة الإلهيّة، إلى وصفها الهوس بحبّ البحر، أو الليل، أو جبل تامالبيس، أو الأرض المستعمَرة والمُبتلاة بأزمةٍ بيئيّة. مشدّدةً على التوصيف الكلاسيكيّ للحبّ في الأدب العربيّ بأنّه مسّ من الجنون، تعلن عدنان أنّه أنْ تُحبّ يعني أن تنفتح بشكلٍ راديكاليّ على الاتساع على عنف حركات الحب التحويلية. إنّ قوّةً كهذه إنّما تجتازُ بصورةٍ طبيعيّةٍ حدود النوع البشريّ، حيث تنسال على ما هو جيولوجيّ؛ إذ تسلتزمُ تنصّلًا من الاستهلاك الرأسماليّ ومن التوالف الاجتماعيّ المنصوص عليه سلفًا.
وفي مقابلةٍ مع الشاعرة الكنديّة ليزا روبرتسون في مجلّة «بومب» بعد ثلاث سنوات من نشر المقالة، تستعملُ عدنان كلمة «حبّ» أكثر من خمسينَ مرّة، مشيرةً إلى اهتمامها بابن عربيّ، كما ذكرت في رسالةٍ لها إلى فوّاز طرابلسي في كتابها «عن مُدنٍ ونساء» عام 1990. تقول عدنان، وهي تصفُ نحت الصّورة: «تستخدمُ الصورة تقريبًا مثل القوّة المُبدعة النابضة. فالصّورة تتحرّك، على عكس فكرة أفلاطون الثابتة. إنّها فكرةٌ نَشِطة يمكن أن تكون شيئًا داخليًّا وخارجيًّا في الوقت نفسه. يستخدم الصوفيّون الحبّ على هذا النحو؛ إذ إنّ حب الزهور أو حبّ العالم هو جزءٌ من الحبّ عمومًا».
يُمثّل جبل تامالبيس [في كاليفورنيا] أحد غرامات عدنان، وهو الجبل الذي وصفته بأنّه القُطب المُوجّه لكينونتها، والذي رسمته على مرّ السنين (مرارًا وتكرارًا). في كتابها «رحلةٌ إلى جبل تامالبيس»، تصف عدنان الجبل وعلاقتها به، منطلقة من التضامن العابر للعرق والمناهض للكولونياليّة. فترفض عدنان تسمية الإسبان للجبل بـ«Mal-Pais» أو «البلد السيّء»، وتعود للتسميةَ الأصليّة له «Tamal Pa» التي تعني «القريب من البحر». هذه المقالة التي يبلغُ طولُها كتابًا بأكمله، والمرصّعة برسوم للجبل، تقدّم تبصّرًا عابرًا للثقافات بخصوص شِّعريّة الفضاء والمكان، حيث تصفُ عدنان كيف أن التعبير المرئي تُشكّله الحركة التي تؤسس للإدراك.
يكشفُ شعرُ عدنان عن نزوعٍ مماثل للإدراك باعتباره مَنحىً للقول والتراجع والإيحاء نحو الحقيقة. فمثلًا، في هذه القصيدة المقتطفة من ديوانها «تجلّيات الرحلة»، تومئُ عدنان على نحو لعوب إلى الذكاء غير البشريّ. فتأكيدها فيما يخصّ حديث الشجرةِ هو حقيقة متساوقة مع معارفَ تقليديّة وأصلانيّة عديدة لم يلحقها ويعترف بها العلمُ الحديث إلّا مؤخرًا. إنّ قصيدةُ عدنان في لبّها تعترفُ بعتامة الشجرة، وتبصر حدود فهمنا العقلانيّ لما هو «طبيعيّ» وسماوي.
حينما لا تعرفُ المجرّاتُ
أنّا نتحدثُ عنها؛
هل يصيبها الذعرُ؟
وعندما تعرفُ،
هل تموّت جرّاء هذه الحقيقة؟
دعونا نواصل الحديث عن الأشجار!
أولم يُمنح الكلامُ لنا لئلّا نعرف؟
حينما تسمعين الأشجار
وهي غارقةٌ
في أحاديث لانهائيّة
ستقابلي فتحة مُغلقة.
فالشعر يبدأ حينما ينتهي المعنى
وما يوم الحسابِ سوى فن المسرح
فماذا بوسعك أن تفعلي مع شجرةٍ مترحّلة؟
شعريّة كويريّة
تبتعدُ أعمال عدنان عن المعياريّة من قبل أن نخلق مصطلحًا لترسيم تلك العلاقات والمسارات المغالى في تقييمها (والمفروضة علينا) بطريقة مهيمنة. في كتابها «في قلبِ قلبِ بلدٍ آخر» -مجموعة قصائد نثرٍ- تحشدُ عدنان فضاءً من الحميميّات الجموحة والحيوانات الصغيرة والأشياء المُزدراة. يوصّف الكتاب، بنغماتٍ متبدّلة -فالمتحدثة غامضة ولعوب وتهكميّة- تقلّب الفضاء المنزليّ والوطني، بتجاوره مع نظام العالم ذي المنطق الحدوديّ، وبانهياره فيه.
في قصيدة «بيتي، قطّتي، صحبتي»، يواجه القرّاء مشاهد من حياةٍ تشارك فيها المتحدّثة لحظةً مُطلقةً من الكمال مع قطّة، وتُفصح عن ولعها الكبير بالنّمل، وتعيشُ مع امرأةٍ «لا تنطلقُ من مصدر الضوء بل من مصدر الظلال»؛ امرأة لها أحلام متكرّرة تحملُ فيها نعش أخناتون في «رحلاتٍ ليليّة». بيد أنّ المتحدّثة تعلن أيضًا عن تفردها وإحساسها بالوحدة: «أنا أجناسٌ بمفردي. لذا لا أسماك تأتي لتسبح في مياهي الإقليميّة. ولا أعداء لي».
وبالتالي، تخلق عدنان فضاءً مترعًا بالآنيّة حيث تتبدل وتتصادف مناخات المتعة والإرجاء والخطر؛ فالمتحدثة في وحدةٍ وعزلةٍ تتواصلُ مع الحيوانات والأشباح، تتجاوزُ ارتباطاتها المخيالَ الاجتماعيّ المعياريّ. وهكذا، تسيرُ رحلةُ القصيدة على نحوٍ مائل ودوري، وحينما يأتي الموت قبل أن يتبعه انبعاث المتحدثة، فإنّه يكون «قصيرًا كزمن تستغرقه حركةُ جفن».
على سبيل الختام
رغم أنّ إيتيل عدنان قد أثّرت على أجيالٍ من الكُتّاب عبر القارات، إلّا أنّ أعمالَها، بشكل عامّ، ما تزالُ قليلة الدراسة. أوّل كتاب نقديّ نُشرَ عن أعمال عدنان هو «إيتيل عدنان: مقالات نقديّة عن الكاتبة والفنّانة العربيّة-الأميركيّة»، من تحرير أمل عميرة وليزا سهير مجج. تشير المحررتان في المقدّمة إلى أنّ عدنان «كاتبة تثابر على الاشتباك مع الوقائع السياسيّة والتاريخيّة والاجتماعيّة؛ كاتبةٌ تُعتبر تجربة الإبعاد وتوسّط المسافة والشّوق بمثابة ثيمات سائدة بالنسبة إليها. وهي، في الوقت نفسه، فنّانة منخرطة بشكلٍ حادّ مع محيطها المباشر، مع الطبيعة، مع اللون والضّوء؛ إنّها شخصٌ يعتبرُ الإدراك بمثابة اللحظة الحاسمة».
حتى النهاية، يبقى استدعاء إيتيل عدنان للحبّ، كقوة لا تنزلق إلى التسطيح الفج، بوصفه أصلًا للخلق، ووسيلة لرصد مفارقات وتناقضات التاريخ بصراحة على مرأى من الجميع، مرشدٌ لنا.
يتألّف هذا الكتاب النقديّ من جزئين، يجمعُ الجزء الأوّل مقالاتٍ مُكرّسةً لشعر وفنّ عدنان، ويجمع الجزءُ الثاني مقالات تركّز على «ست ماري روز». ومنذ نشر كتاب عميرة ومجج ، أصدرت دار بوست أبولو كتابًا تكريميًّا لإيتيل عدنان، وهو منشور يجمع مقالات قصيرة تحتفي بكتابتها وفنها.
منذ ستّ سنوات، أسّس الشاعران فادي جودة وحيان شرارة جائزة شعريّة للشعراء العرب الناشئين بالتعاون مع جامعة أركنساس وسمّوها تيمنًا بإيتيل عدنان. وقد قدّموا لجمهور القرّاء بالإنجليزيّة حتى الآن خمسة شعراء أميركيين عرب، هم جيس رزق الله، وبيتر طوال، وجيسكا أبو غطاس، وزينة الصوص، ودانييل بدرة. وقد كتبَ جودة في ذكرى عدنان: «أن تكون في زمن الحرب: تكريمًا لإيتيل عدنان (1925-2021)»، وهو رثاء جميل يعيد تدوير الأسطر من كتابها «في قلبِ قلبِ بلد آخر».
وقبل أسابيع قليلة من رحيل عدنان، كتبت مايا مكداشي مقالة مؤثّرة بعنوان «كانت بيروت من جديد، تارةً أخرى». ويمكن العثور على الكثير من الكتابات حول عدنان على الشبكة، بما في ذلك مقال منى كريم ومقابلات ومقالات أخرى.
لقد ألمَّ بي حزنٌ عميقٌ برحيل عدنان، وتوقٌ للمزيد من الاطلاع على أعمالها الإبداعيّة الثريّة. فهي قدمت لنا جرأة كويريّة وسخاءً، وحتى النهاية يبقى استدعاؤها للحبّ، كقوة لا تنزلق إلى التسطيح الفج، بوصفه أصلًا للخلق، ووسيلة لرصد مفارقات وتناقضات التاريخ بصراحة على مرأى من الجميع، هو مرشدٌ لنا. ونحن، بلا ريبٍ، مدينون لأعمالها بمزيد من الاهتمام.