ربمّا كان لا بد أن يمرَّ وقت على رحيل زكريا محمد، قبل البدء في الكتابة عنه وعن نتاجاته الأدبية والمعرفية المتنوّعة، ليس لاستيعاب هذا الرحيل المفاجئ والخاطف لزكريا محمد، فالرجل شيخ في السبعين من عمره، وله تاريخ مرضي طويل على الرغم من صحته الجيدة البادية على مظهره العام؛ بل لإدراك حقيقة أن هذا الموت سيُشكّلُ فراغًا حقيقيًا لوجود المثقف والباحث والشاعر الفلسطيني القادر على أن يظلّ دون كللٍ قادرًا على الاشتباك الحيّ واليوميّ مع مفردات الحياة الفلسطينية السياسية والاجتماعية والعامة؛ ليس لعدم وجود كُتّاب ومثقفين وباحثين فلسطينيين، بل لقلّة وجودهم كمشاركين حقيقيين وفاعلين في السياق العام فلسطينيًا، بهذا الشكل الفج واليومي والدؤوب الذي كان يُمثّله حضور زكريا محمد في حيواتنا العامة والخاصة. ورغم أنه عاش حياة حافلة ومتنوعة وذاهبة في مساراتٍ كثيرة، مَكّنتْ له حضورًا محاطًا بالمهابة والوقار يوفر له إمكانية عيش حياة تقاعدية هادئة في مُنعزلٍ مكتبي بعيد، آثر زكريا محمد الغوص في تفاصيل حروب كثيرة اعتبرها جميعًا حروبه وظلَّ يقاتل في جبهاتٍ عدة، باندفاع شديد دون أن يُعير اعتبارات كثيرة، عادةً ما يُعيرها الأشخاصُ في مثل عمره اهتمامًا.
انحسار إضافيّ
واحدةٌ من أهم ملامح هذا الغياب، هي أننا سنعيشُ انحسارًا إضافيًا لرقعة التأثير الثقافي المُنحسرة أصلًا، بسبب الحضور العام المتواطئ، أو المأجور، أو على أقل تقدير الخامل للنخب الثقافية الفلسطينية في مختلف مناطق الوجود الفلسطيني، والتي لا يمكن الرهان عليها إلا في الزهيد جدًا من الشخصيات. وعلى عكس التأثير الواضح لمثقفي فلسطين من الجيل الأول بعد نكبة العام 1948، والذينَ كان لهم حضور وازن في الحياة السياسية والعامة فلسطينيًا، سواء أكان هذا الحضور مؤيدًا أو معارضًا للظرف العام الحاصل في حينه، إذ كانت لديهم قدرة على تحريك الحجارة الراكدة في قاع النهر، أو أن تحرفَ اتجاه النهر في بعض الأحيان إلى وجهة أخرى، وهو ما لم يعد موجودًا في فضاء الممارسة الثقافية الفاعلة في حاضرنا، وهذا الذي سيزيد رحيل زكريا محمد من وجوده وتجذّره أكثر فأكثر.
ولا بد من أن يمرَّ مزيدٌ من الوقت، لإدراك مدى الفراغ الذي تركه زكريا محمد شاغرًا، بعيدًا عن مبالغات بيانات النعي، وأحاديث الشلل والثنائيات الصغيرة في بيوت العزاء، وبمعزلٍ عن خطابات التأبين، وبالارتكاز فقط على إدراك حجم الحضور الذي شَكّلهُ الراحل في حقول الشعر وقصة الأطفال والميثولوجيا والبحث، وكذلك في ميدان النضال السياسي والاجتماعي المعارض. والذي حضر فيه زكريا محمد، حضورًا لا يمكن تجاوزه أو غض الطرف عنه، حضورًا مزعجًا ومكررًا جعل خصومه يُدخلونه السجن وهو في هذه السن، حضور تجاوز كذلك المشاركة الافتراضية على فيسبوك، إلى المشاركة في أغلب الاعتصامات والاحتجاجات على دوّار المنارة في رام الله وغيرها من الأماكن فشارك في حملة «رفع العقوبات» التي تفرضها السلطة الفلسطينية على قطاع غزة، وفي المظاهرات المنددة باغتيال الناشط نزار بنات واعتقل إثرها، بالإضافة إلى مشاركات في أغلب الاعتصامات والاحتجاجات التي كان يتم تنظيمها أثناء العدوانات الإسرائيلية المتتالية على قطاع غزة.
لم يحصل هذا لأنه مثقف من الفئة المشتبكة بالمعنى الغرامشي، بل لأنه باعتقادي اهتدى بعد الكثير من التجارب والمحاولات إلى فكرة أنه لا بد من مواجهة الحقيقة التي لا يمكن أن تهزمها الأوهام أو التمنيات. والحقيقة التي توَصّل إليها زكريا محمد تدفعه دائمًا إلى المواجهة والقتال على الرغم من الهدوء البادي عليه، والذي يتوارى خلفه بحر يموج بالتمرّد والغضب واللذوعة، وهذا ما يمكن أن نَلحظهُ بوضوحٍ فيما يقوله شاعرا وباحثًا ومعارضًا.
من الشِعر إلى الميثولوجيا، ومن الميثولوجيا إلى الشِعر
كان لا يمكن لنا في فترة ما من تاريخ وجود الحياة، أن نفرّقَ بصورةٍ حِديّة ودقيقة بين النص الشعري والأسطورة أو النص الميثولوجي إن صح التعبير، فالنصان يتماهيان ويتقاربان ويمتزجان وينعكاسان من على وجه البحيرة ذاتها، ولذا لا يمكننا النظر إلى ملحمة «جلجامش» على سبيل المثال وأن نعزل فكرة كونها نصًا شعريًا ملحميًا طويلًا، كون الشعر والأسطورة ينطلقان من ذات المحرّك كما أعتقد، وهو الرغبة في مواجهة حِدّة الحقيقة وواقعيتها ومحاولة تفسيرها وقسوتها، وهذا ينسحب على العديد من الملاحم الشعرية الأسطورية مثل: الإلياذة والاينيادة والفردوس المفقود والكوميديا الإلهية وغيرها. ولقد انطلق زكريا محمد من هذه الفكرة تجاه الشِعر، ولذا لا يمكن لنا قراءة نتاجه الشعري دون أن نلحظ بصورةٍ واضحة القيعان الميثولوجية التي تغوص بها مقولاته الشعرية.
الحضور البحثي في حقول الأديان القديمة والميثولوجيا في النصوص الشعرية لزكريا محمد مختلف عن الحضور المعتاد للأسطورة في النص الشعري، إذ أنه لا يسحب الأسطورة ليوظفها في سياق نص شعري يقدّمُ معالجات واقعية للحدث السياسي أو الاجتماعي، وإنما هو توظيف يتعاطى مع الشعر نفسه على اعتباره مقولة مفارقة للسياق العام وتنطلق من ذاتها كما تنطلق الأسطورة من نفسها. فعلى عكس ما تعتقده مذاهب النقد الاجتماعية حول ضرورة أن ينعكس الأدب بالعموم من مقولة المجتمع وقضاياها وما يريد الناس التعبير عنه، وجد زكريا محمد أن الشعر لا بد من أن ينبثق من ذاته وصولًا إلى المجتمع وليس العكس، فهو مقولة مفارقة تقدم ذاتها أولًا ثم تتفاعل مع محيطها، يقول: «كل مخلوق يغني لسيده إلا الشعر. فهو يغني لذاته فقط. يغني للحلقات الفلكية في ذيله. يغني للشعاع الذي يخرج من عينه ومن فمه: أنا سهيل اليماني، وأنا شقيقه. أنا الماء، وأنا أصله».
فالنص لدى زكريا هو ميثولوجيا من حيث كونه نصًا أولًا، لا من حيث كونه مساحة يريدُ الشاعر أن يحشدَ فيها إلماحات أسطورية لإعادة تركيب الواقع المعاش.
هذه العلاقة مع الميثولوجيا وشغفه بها، ساعدته في حلَّ علاقته مع الشعر نفسه، العلاقة التي ظلّتْ مرتبكة ومشوّشة لسنواتٍ طويلة، دفعتهُ أحيانًا إلى الصمت كثيرًا. تشوّش يمكن الإحساس به عند قراءة عنوان مجموعته الشعريّة الأولى، «قصائد أخيرة»، وكأنه يبدأ تجربته الشعرية مُنتهيًا، لكن لم تكن تلك قصائد أخيرة، فلقد تلتها خمس مجموعات شِعرية إضافية، وفي مسار محاولاته لفك معضلة الشِعر كما يراه ويتوقعه، حضرت الميثولوجيا لحل هذه الارتباك في العلاقة مع الشعر، فهو يريد من الشعر أن يكون مقولة ليس مهمتها تغيير الكون لكنها مقولة تستطيع أن تبقى حاضرة وحية كقدرة الأسطورة نفسها على البقاء والحياة.
أمارات الموت المفاجئ في شعر زكريا محمد
في قصيدة «العربة» من مجموعته الشعرية «قصائد أخيرة» يصف لنا الشاعر فلسفته الخاصة في التعاطي مع الحياة، فلسفة تغلب عليها روحية الاندفاع والجموح. ينطلق زكريا محمد ولا يستدير إلى الوراء، يركض في ممرات لا نهاية لها ويأخذ الأشياء ساخنة طازجة دون أن ينتظر، في حالة متقدة تتحرك بصورةٍ دؤوبة، ولا يوجد ما يشير إلى سكون أو موت، لأن الموت سيكون لحظة خاطفة لن يسبقها هدوء أو راحة، كأن شيئًا ما مُتقد سيختفي فجأة. كما تختفي الشهب والنجوم بصورةٍ خاطفة.
«هل يمكن للسهم أن يستدير، عائدًا إلى اليد التي أطلقته
أندفع، أندفع، كي لا أموت»
يرى زكريا محمد أن الحياة حرب، وعلى الشاعر/ الإنسان، أن يندفع في مدياتها راكضًا بأقصى ما يُمكن أن يركضَ به إنسان، وإن حطّمَ هذا الركض المندفع عظامه وجمجمته، الركض في اتجاه الموت هو أفضل وسيلة للهروب منه، هكذا يدعو الشاعر نفسه والآخرين إلى خوض غمار الحياة وكأنهم على مسافةٍ صغيرة من حربٍ وشيكة.
«أمّا أنا فسيتوقف نبضي قبل أن أتوقف
سأقطع ألف ميل بعد أن يتوقف نبضي
والذين سيصلون إلى أبعد مما وصلت
سيجدونني مبعثرًا على الطريق:
جمجمة مهشمة
وبراغ
ومسننات ما زالت ترتعش وتدور»
وفقًا لهذا الفهم ظلَّ زكريا محمد يُناطح الحياة، بقرون الحقيقة والخيال. الحياة أسطورة ومن الممكن لكل أحدٍ منّا أن يصنع أسطورته الخاصة، والموت الوشيك سيمر كومضة خاطفة في مسيرة الركض الطويلة والقاسية التي يُجابه بها الحياة بجمجمة مهشمة وبراغي ومسننات ترتعش وتدور بمحركين من الغضب والشهوة الجارفين.
«أعرف أن الموت مثل كسرى آنوشروان ، لم تُفلت قبضته أسيرًا قط. لكنني لا أستسلم أبدًا. سأظل أغني حتى يعودوا. سوف أهبط سلالم الجحيم وأعود بهم. سيكونون قربي هنا. ولن أقبل بأقل من هذا».
يدرك زكريا محمد كما ندرك جميعا حتمية الموت، لكنه يواجه حتميته بحتمية الحياة من حيث كونها فرصة متاحة لكسب الوقت في المواجهة والقتال، كل دقيقة يمكن لها أن تكون رصاصة في صدر الزمن وسبرًا إضافيًا لأغوار التجربة، بمزيد من الصعود والهبوط في سلالم هذا الجحيم يمكن للفرد أن يكون فعلًا موازيًا وقويًا، فعلًا مدويًا يبقى حاضرًا كندبة لا يمكن لأغطية النسيان محوها، وبهذا يأتي الموت مهزومًا، بعد أن يعصر الشاعر الحياة تمامًا ولا يترك فيها مجالًا لأوقات مفقودة.
«أنا متأكد أنني سأموت بعنق مرفوعة فوق الرمال مثل عنق أبي الهول»