في مشهدٍ من مسرحية «كاسك يا وطن» الشهيرة، يصرُّ السّجين السّياسي على كتابة مذكّراته ويمتنع عن الكلام حتى يأتوا له بورقة وقلم. وبعد أن يذهب المحقق ليأتي بطلبه يعود فيناديه ليقول له: «لا تجيب لي قلم حبر ناشف متل وشّك بدي ريشة ودواية بيليكان،[1] غِطّ هالرّيشة وأنفضها مثل الجاحظ».
لعلّ هذه المسرحيّة وغيرها من المعطيات الثقافيّة ظلّت تتسرّب إلى لاوعينا حتى صِرنا لا نتخيل الكاتب ولا المفكّر ولا السّجين السّياسيّ ولا الأب المُغترب ولا السجين المحكوم بالإعدام، إلا وهم محنيوّ الظّهور على طاولة، يمسكون بقلمٍ ويكتبون على ورقة. حتى إنني أتذكّر لقاءً نشرتْه مجلة العربي الكويتيّة مع الكاتب التركي «أورهان باموك» سنةَ فاز بجائزة نوبل للآداب (2006) قال فيها: «الكتابة تمرينٌ يوميّ، إنني أكتب كلّ يومٍ لساعاتٍ حتّى صارت طاولة الكتابة امتدادًا لجسدي».
كنتُ حينذاك شابةً أؤمن بجمال أحلامي، وكنتُ سعيدة/ مذهولة لأن واحدًا منّا، هنا في الشرق، استطاع أن ينال «شرف الفوز» بجائزة لا يفوز بها عادةً إلا البيض ذوو العيون الشقراء، ورحتُ أكتب كلّ يوم، كلّ يوم، على كل طاولات المدرسة والجامعة والمقاهي والمطاعم والحدائق العامّة، وكنتُ دائمًا أتخيّل الكاتب كما وصفَ نفسه في المقابلة: ملتصقًا بطاولته، قابضًا على قلمه. لم أتخيّله يكتب على حاسوبه، ولا يدقّ على لابتوبه، تخيلته فقط: يكتب بالقلم.
عندما نرى أن «مبادرة المعايير الحكومية الأساسية» الأمريكية للتعليم أزالت مهارةَ الكتابة بالحروف المتّصلة (cursive) من قائمة المهارات التي ينبغي أن يتمتّع بها خرّيج النظام المدرسي الأمريكيّ، ومشتْ على خطاها أنظمة تعليمية في بلدان مثل فنلندا وسويسرا، فإننا نتوقّف لنتساءل: وما الضّير في ذلك؟ إن كان الطّلبة ما زالوا قادرين على الكتابة بالحروف المنفصلة، فأين المشكلة؟
تأتينا التقييمات لتخبرنا أن 33% من الطلاب في الولايات المتحدة الأمريكية يواجهون صعوبةً في مهارات الخط الأساسية، أي أنّهم لا يستطيعون أن يكتبوا الحروف الأبجديّة، الكبيرة والصّغيرة، بخطٍ مقروء.
وفي هذا الفيديو من الصين نرى أن الصينيين يعانون من مشكلة أكبر تؤّدي بهم إلى الغربة عن لغتهم، حيث إن اللغة الصينية لا تعتمد على الكتابة الصّوتية كأغلب اللغات، بل على الكتابة برموزٍ لكلّ واحد منها قراءة أو عدّة قراءات وتمثّل معنى لكلمة أو فكرة. مصيبة الصينيين تتمثّل في أن الأجهزة الذكية تجعلهم يكتبون الرمز كتابةً صوتية ثم تقترح عليهم عددًا من الرموز التي قد تُقرأ بهذه الطّريقة فيختارون من بينها الرّمز الذي يريدون كتابته. وكما نرى في الفيديو، فإن الغالبية يقتربون من هيئة الرمز العامّة، ولكنّهم يغفلون عن شيءٍ من تفاصيله بطريقةٍ تغيّر المعنى.
وقد يلاحظ منْ يستخدم النصَّ التنبّؤي على هاتفه أثر هذه «الميزة» على دقّته الإملائية. في دراسة أجراها الأستاذ صباح عبد الحسن صابط، عضو جمعية المترجمين العراقيين، على مجموعة من أساتذة اللغة الإنجليزيّة، جمع فيها خمسين معلمًا ومعلمة من مستخدمي النصّ التنبؤيّ، وطلب منهم كتابة كلمات إنجليزية سمعوها في تسجيل صوتي، ثم طلب منهم في اختبار آخر أن يختاروا التهجئة السليمة للكلمة من بين أربع خيارات لكل كلمة. وجدت الدّراسة أن الأساتذة لم يتذكروا إملاء أواخر الكلمات التي سمعوها في التسجيل الصّوتي، بينما كان استذكارهم أفضل عندما رأوا الكلمة نفسها في الاختيارات المعطاة في الاختبار الثاني.
ولكن، ماذا لو وضعنا دقة الإملاء وسلامة اللغة جانبًا للحظة (لا تخف عزيزي القارئ/ عزيزتي القارئة، سنعود إليهما بعد قليل ولن نترك شرفنا اللغوي ملطشةً للغادي والرّائح) وسألنا أنفسنا: لماذا نكتب؟ وهل تؤثر «طريقتنا» في الكتابة على الغرض الذي نكتب لأجله؟
لم يعد المحِبّون يكتبون الرّسائل لحبيباتهم (عندما رأيتُ خطّ زوجي لأوّل مرّة في رسالةٍ أرسلها إليّ -تحت التهديد- أيام الخطوبة، شعرت بأنني تزوجت طبيبًا! تبيّن لاحقًا أنه لم يمسك قلمًا منذ سنوات وأنه يعتمد اعتمادًا كليًا في الكتابة على جوّاله). إذن، أين يكتب الناس؟ يكتبون في القاعات الصفّية في المدارس والجامعات.
أجرى باحثان في جامعة «تروندهايم» النرويجيّة دراسةً قارنا فيها بين الكتابة بالقلم والطباعة على الأجهزة، وأثرهما على التوصيل الدماغي لدى الطلبة الجامعيين بينما يدوّنون ملاحظاتهم داخل القاعة الصفّية. أجُريت الدراسة على 36 طالبًا وطالبة واستُخدمت فيها مستشعرات لتخطيط كهرباء الدّماغ، وتبيّن أن أنماط التّوصيل الدماغي كانت أكثر تفصيلًا عند الكتابة بالقلم مقارنةً بما كانت عليه عند الطباعة على الأجهزة الذّكية.
أشارت الدّراسة إلى نقطة بالغة الأهمية، وهي أن أنماط التّوصيل الدماغي هذه ضرورية لتكوين الذاكرة وترميز المعلومات الجديدة، وبالتّالي فإن الكتابة باليد مفيدة للتعلُّم والتذكُّر. (فكّر بالأسئلة التي كتبتها على غوغل أو التي طرحتها بصوتك على الأستاذة أليكسا أو الأستاذة سيري. هل تذكر أيًا من تلك الإجابات؟ أم أنك استخدمت الإجابة حينها ثم تبخّرت مباشرةً من ذاكرتك؟).
ورغم انحيازي الصّريح للكتابة بالقلم (وإنفاقي تحويشة عمري على الأحبار والأقلام والأوراق المصقولة والدفاتر المعالجة التي لا تتدهور أوراقها مع السنين والتخزين) إلا أن الأمانة العلمية تقتضي أن أعترف أن الدراسة النرويجيّة تحدّثت عن الكتابة «بالقلم» وأن تعريف الدراسة للقلم كان يشمل قلم الحبر وقلم الرّصاص والقلم الرّقمي أيضًا. فهل للقلم الرقمي نفس الفضائل؟
أستخدمُ في هذه الحقبة من حياتي هاتفًا مطويًا (تسميه الأعاجم: فولد) عندما أفرده، يصبح صفحةً بحجم كفّي يدي، ومعه قلم رقمي، أستخدمه أحيانًا لتوقيع الوثائق وللتسطير تحت الاقتباسات التي تعجبني في الكتب التي يجبرني زماني على قراءتها بصيغة البي دي أف، وأحلّ به أوراق العمل وواجباتِ قواعد اللغة الروسية التي أدرسها عن بُعد مع معلمة روسيّة لم يسبق لها أن رأت جدران مكتبي المغطّاة بأوراق المعاني المكتوبة بخط يدي.
أحيانًا أكتب مواضيع تعبير وأصرِّف الأفعال الروسية (وما أكثرها) على الورق، ثم أصوّر الورقة وأرسل صورتها لمعلمتي لأنني أريدها أن ترى خطّي. أريدها أن تعرفه (فتعرفني) وأريدها أن تقيّمه وتصحح لي هفواتي، فهذه في النهاية أبجدية جديدة تعلمتُها وقد تجاوزت الثلاثين. ولا أشعر أن تصريف الفعل أو معاني المفردات قد ترسّخت في ذهني إلا إذا كتبتها بالقلم «الحقيقي»، فتساءلت: هل هذا الشعور حقيقيّ؟ أم أنّه وهمٌ من أوهام الجيل الذي دخل المدرسة وتعلّم كل مهاراته الأساسية قبل ظهور الإنترنت والتابلت والتشات جي بي تي؟
بحثتُ فوجدتُ دراسةً يابانيةً شارك فيها 48 طالبًا جامعيًا قُسّموا إلى ثلاث مجموعات، ثم قرأ كل واحد منهم حوارًا متَخيّلًا بين عدد من الطلبة يتحدثون فيه عن جدولهم الدراسيّ خلال الشهرين القادمين، ثم طُلب من أعضاء المجموعة الأولى أن يكتبوا الجدول الدّراسي على دفاتر ورقيّة، بينما استخدمت المجموعة الثانية قلمًا رقميًا، واستخدمت المجموعة الثالثة لوحة المفاتيح على شاشات اللمس على الهواتف الذكية.
وبعد ذلك بساعة أجاب الطلاب على أسئلة تختبر قدرتهم على تذكر الجدول الدّراسي بينما هم يُفحصون بجهاز الرنين المغناطيسي حتى يقيس الباحثون النشاطَ الدماغيّ في مناطق الذاكرة المرتبطة باللغة والتخيُّل البصريّ.
كان أداء مجموعةِ الدفتر الورقيّ أفضل بقليل من أداء المجموعتين الأخريين، ولكن النشاط في مناطق اللغة في الدّماغ كان أعلى بكثير عند مجموعة الدفتر الورقيّ مما يدلّ على أن آليات الاستذكار كانت أقوى عندهم.
عزا الباحثون في هذه الدراسة الاستظهار الأعلى للمعلومات بخصائص الورق، كالملمس والمساحة. وقال عالم الأعصاب الياباني كوني يوشي ساكاي إن «الأدوات الرقمية تتصفح النصوص بطريقة ثابتة إلى الأعلى والأسفل، ولها طريقة موحَّدة لتنظيم النص وحجم الصور، ولكن إذا تذكرت كتابًا ملموسًا مطبوعًا على الورق، فسيكون بوسعك أن تغمض عينيك وأن يُهيّأ لك أن ترى الصورة الموجودة في ثلثِ الصفحة الأيسر، وأن تتذكر الملاحظات التي كتبتها على هامش الصّفحة».
إذن، ملمس الورق ومكان الكتابة واتجاهها، يحفّز مساحات الذاكرة في الدماغ بينما يمكن أن يُعاد تنظيم النصّ ومسحه والتعديل عليه مرارًا على شاشات الأجهزة بشكلٍ لا يقدم للذاكرة أي إسناد. لقد قطع كوني يوشي قول كلّ خطيب!
بعد هذا كله، عزيزي القارئ/ عزيزتي القارئة، ألا تشعران أنّه ضربٌ من ضروب التّرف أن نتناقش كلّ هذا النّقاش حول موضوعٍ كهذا؟ ألا يقول لكم أولادكم: ما الفائدة من هذا كله؟ (وإذا كانوا من طلاب الإنترناشونال فسيقولون لكم: واتس ذة بوينت أوف أول ذيس؟) وسوف ترتبك عزيزي/عزيزتي، وستشعر بأن أولادك تأبطوا ذراع التشات جي بي تي وأفلتوا يديك ويدَ تاريخك وحضارتك. لكن لا تجزع، فكّرْ بأن اختراع المصاعد لم يقضِ على صعودِ الدّرج، وأن اختراع السيّارات لم يقضِ على المشي، وتذكّر أنّنا نعيش في زمنٍ يقدّس السهولة والسرعة، ويقدمهما على المعنى والفن، وأننا أثناء سعينا المحموم لتحقيق كل شيء بسهولة صرنا نلبس نفس الملابس ونفرش بيوتنا بنفس الأثاث ونعبّر عن فرديّتنا وتميّزنا باستخدام نفس القنوات والأدوات.
قد تكون الكلمة المطبوعة أكثر أناقةً وتناظرًا من الكلمة المكتوبة، ولكن من منّا سيفضّل بطاقة عيد ميلاد جاهزة من محل القرطاسيّة على ورقةٍ كتب له فيها ابنه الصغير بكل ما في الدنيا من تعتعة: «كول سنا وانتا سالم يا بابا»، ومن منّا سيفضّل بلوزة صوفيّة من «شي إن» على بلوزة كروشيه حاكتْها يد الجدّة بكل الحبّ وبالكثير من الهفوات؟
لعلّ أجمل ما تهدينا إياه الكتابة باليد هو التمهُّل.
هنالك دراسة أمريكية تقول إن الأمريكيّ يطبع في المتوسط 40 كلمة في الدقيقة، ويكتب 13 كلمة في الدقيقة، أي أن الجلوس إلى الورقة يجبرنا على أن نتمهّل وأن ننظر في أنفسنا وأن نواجه أفكارنا. الكتابة باليد تجعلنا بشرًا يتنفّسون بينما يكتبون بدلًا أن يكزّوا على أسنانهم وهم يطبعون.
قبل سنة من الآن سجّلتُ نفسي وأولادَ أخي في دورة لخط النّسخ. لم أكن أتوقّع من الدورة أي مخرجات، كان عندي هدف واحد فقط: «داخلة عليكم وعلى النبي، افعلوا أيّ شيء حتى يترك هؤلاء الصّغار التابلت».
ورحتُ أتأمل شيئًا فشيئًا تلك المعجزة، فقد كان حمودة (ثماني سنوات) وأمل (11 سنة) من ضحايا التعليم عن بعد أيام الكورونا، وكانت خطوطهما شنيعة (سامحوني يا عمتو، ولكن الخط البشع لا يُغطّى بغربال) وكانت كلماتهما هائلة الحجم ككلمة «من» في مسرحية «مدرسة المشاغبين».
أخذ الأستاذ يعلمّهم الحروف واحدًا واحدًا، ثم يعلّمهم كيف تُربط الحروف مع ما قبلها وما بعدها، ولم يكن يعلمهم ذلك بهدف الكتابة والتهجئة (فقد كانا يجيدان الكتابة) بل علمّهما حبًا في الجمال وتأمّلًا في حروف القرآن الكريم (المكتوب بخط النّسخ)، وكانوا يجلسون في أماكنهم ثلاث ساعات في كل حصة (مع الحد الأدنى من النق والشكوى) يكتبون ويعضّون على ألسنتهم من شدّة التركيز، ينسّقون بين حركة العين وحركة اليد، ويتعاملون مع الإحباط، ويتقبّلون النّقد، ويتسامحون مع الفشل، ويعيدون ويكررون، حتى رأيت خطوطهم تنكمش أمام عيوني، وتتأنق وتتحلى، ووسط هذا كله، رأيتُ فيهم الجمال والسلام والتواضع الذي يورثنا إياه العلم والجمال.
أريدك عزيزي القارئ/عزيزتي القارئة، أن تتأمل جمال هذه الرّسالة التي كتبها عبد الحميد الكاتب (المولى الفارسي الذي تعلّم العربية طفلًا) إلى الكتّاب في العصر الأموي كما جاءت في كتاب «الفن ومذاهبه في النثر العربي»:
«فنافِسوا معشرَ الكُتّابِ في صنوف العلم والأدب، وتفقّهوا في الدّين، وابدأوا بتعلّم كتابِ الله عز وجلّ والفرائض، ثمَّ العربية فإنّها ثِقَافُ[2] ألسنتكم، وأجيدوا الخطّ فإنه حِلْيَةُ كتبكم، وارووا الأشعارَ واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيامَ العربِ والعجمِ وأحاديثها وسِيَرها، فإن ذلك معينٌ على ما تَسْمُونَ إليه بهِمَمكم، ولا يضعفنَّ نظركم في الحساب فإنه قوام كُتّاب الخَراج منكم».
أترى عزيزي القارئ/عزيزتي القارئة هذه الوصيّة؟ لقد توسّطَت إجادةُ الخطِّ الرّسالة، ولكنها لم تكن الوصية الوحيدة، فالكاتب الذي يمضي حياته مع الكلمات يجب أن يفتح أبواب قلبه لكل العلوم وأن يطيل النّظر في الكتب (أو الوثائقيات أو البودكاستات، فالحكمة ضالّة المؤمن، خذها حيثما وجدتها) وأن ينشرح قلبه لحبّ العلم وأن يرافقه، في دفتره وعلى تابلته وعلى شاشته الذكية أيضًا.
أجيدوا الخط فإنه حِلية كتبكم، وإنه الإناء الذي سيمتلئ بجميل علمكم وفكركم.
-
الهوامش
[1] بيليكان: ماركة ألمانية شهيرة تصنّع الحبر والأقلام.
[2] ثِقاف الرّماح: أداة من حديد أو خشب تُستخدم لتقويم ما انثنى من الرّماح.