كثيرة هي الأفلام الأردنية والعربية التي حاولت تصوير جوانب من واقع النساء العربيات، ونقل تعقيدات حياتهن وصراعهن مع السلطة المجتمعية، لكن قليلًا منها نجا من الوقوع في الكليشيهات والمبالغات، وتجنب النظر إلى المجتمع بعيون غريبة عنه، والأقل هو الذي تمكن من رواية قصته بشكل مسلٍ وواقعي. يأتي فيلم «بنات عبد الرحمن» للكاتب والمخرج الأردني زيد أبو حمدان كمحاولة جديدة في هذا الإطار، ليمثل خطوة للأمام مقارنة بما سبقه.
يروي الفيلم قصة أربع أخوات أخذتهنّ الحياة في مسارات مختلفة، يجمع بينهن اختفاء والدهن بشكل غامض من بيت العائلة في جبل الأشرفية في عمّان، ليضطررن إلى التعامل مع بعضن في سياق مشحون يثير الاختلافات التي تعاملن معها حتى ذلك الوقت بالصمت والجفاء، بعدما رحلت والدتهن إثر المرض قبل سنوات.
زينب، التي لعبت دورها فرح بسيسو، هي الأخت الكبرى الأكثر سعيًا للمّ شمل العائلة، التي لم تتزوج وبقيت لترعى والدها المسن وتعيله عبر العمل كخياطة. أمّا الأخوات الثلاث الأصغر، فكل منهن سعت للهروب من بيت العائلة على طريقتها: تزوجت آمال، التي تلعب دورها صبا مبارك، رجلًا محافظًا يوحي الفيلم بأنه أفقر من عائلتها، واتجهت -طوعًا أو قسرًا- نحو التدين لترتدي النقاب، وتعمل في الطبخ حسب الطلب من منزلها لتساهم في إعالة أسرتها وأبنائها المراهقين. سماح، بتمثيل حنان الحلو، هربت كذلك عبر الزواج، لكن من رجل غني أتاح لها عيش نمط حياة لم توفره أسرتها، سواء إن كان من حيث اللباس والاهتمام المفرط بمظهرها أو من حيث السيارة الفارهة والبيت الأنيق والعاملة المنزلية المقيمة. أمّا ختام، أو كيكي، الأخت الأصغر، التي تلعب دورها مريم باشا، فاختارت طريقًا مختلفًا للهروب، حين انتقلت لدبي للعيش مع شريكها دون زواج، مسببة بذلك أزمة أبعدتها عن عائلتها ثماني سنوات، وجلبت لوالدها مقاطعة العائلة الممتدة، وجعلت الأب والأخوات الأربعة هدفًا سهلًا لأحاديث الحي.
حين تجتمع الأخوات للبحث عن والدهن الذي بدأ يفقد ذاكرته وتماسكه الذهني، تظهر الفوارق بينهن منذ اللحظة الأولى، ويتسبب احتكاكهن ببعضهن بمفارقات مضحكة أحسن الفيلم إخراجها بشكل عفوي، بما في ذلك النكات والتلقيحات والشتائم التي جاءت في مكانها ولم تبدُ مقحمة على السياق كمحاولة لإضفاء «الجرأة» على الحوار، كما شهدنا في أفلام أردنية أخرى. بدت حدة التوتر بين الأخوات متطرفة في بعض الأحيان، كما يظهر عبر الصراخ والمشادات التي لم نفهم أحيانًا كيف انفجرت، لكن الفيلم يظهر ببراعة تعقيدات العلاقة الأخوية من الاغتراب بينهن، والأحكام التي يسقطنها على بعضهن، والتعبيرات المرتبكة عن الشعور بالذنب أو الشفقة تجاه بعضهن، وكيف عشن تجارب متباينة مع الأب والأم، كاسرًا بذلك قدسية العلاقة الأخوية ليظهر كيف يمكن أن تولد داخل عائلة واحدة نسخ مختلفة من الواقع نفسه.
قد يكون أفضل ما نجح به الفيلم هو تصوير طبقات السلطة المتعددة المسلطة على النساء، ومحاولاتهنّ الهروب من سلطة الأب بأشكال مختلفة.
تفاوت مدى نجاح الفيلم في تطوير شخصيات الأخوات الأربع بشكل مقنع وقابل للتصديق. إذ كانت شخصيتا زينب وسماح الأكثر غنىً وبدت تفاصيلهن وسلوكياتهن منسجمة مع الواقع الذي يعشنه. فزينب كالعديد من النساء في مجتمعنا اضطرت للتخلي عن الكثير من تطلعاتها الفردية (سواء علاقاتها العاطفية أو شغفها بعزف العود) من أجل رعاية الأب في ظل غياب أي شبكة حماية عامة توفرها الدولة للمسنين، خاصة الفقراء ومتوسطي الدخل بينهم. ومع التمثيل البارع لفرح بسيسو، خرجت شخصية زينب بشكل يتسق مع هذا الواقع، فهي قلقة على الدوام نظرًا للمسؤوليات التي تتحملها، وطويلة البال بحكم أنها لا تملك خيارًا سوى تسليك الحال، وتتجنب المشاكل من أجل الحفاظ على استقرار الوضع القائم قدر الإمكان. أما سماح، فقد انعكس انتقالها الطبقي عبر الزواج على الكثير من جوانب شخصيتها، فهي تغالي في إظهار تفوقها المادي عبر الملابس الباهظة والصارخة والزيارات المتكررة لصالونات وعيادات التجميل، بشكل يعكس كونها دخيلة على الطبقة التي صعدت إليها. كما أنها تعبر عن خروجها عن بيئتها السابقة بعدم الاكتراث بالمعايير المفروضة على نساء الحي، فهي سليطة اللسان وكثيرة التدخين ولا تخفي نزقها تجاه الأسرة أو الجيران.
أمّا ختام، التي سلكت الطريق الأبعد عن أسرتها، فنرى في شخصيتها العائدة من دبي آثار الانفصال عن العائلة لمدة طويلة، إذ كانت خياراتها في الاهتمام بنفسها عبر لعب اليوغا والتحول إلى الخُضرية مثار استغراب وتهكم بين الأخوات، وقدمت على أنها الأكثر «عصرية» واستقلالية بينهن. ورغم أن خيارها بالمساكنة قبل الزواج كان سببًا في خلق شرخ مع العائلة الممتدة ووضع «سمعة» الأسرة تحت ضغط مجتمعي كبير، إلا أنها حاولت أن تظهر عدم اكتراثها ولم تبدِ أي حنين للبيت والعائلة. رغم ذلك، كثيرًا ما خاضت ختام مع شقيقاتها حوارات بدت أقرب للتنظير بما يجب ولا يجب الاهتمام به. لكن نظرًا إلى أن الفيلم يصور عودتها بالاضطرارية للحصول على «ورقة» زواج لا تعني لها الكثير، لم يبدُ منطقيًا أن تستثمر بهذا الشكل في إقناع أخواتها بتغيير وجهات نظرهن وخياراتهن في الحياة.
في المقابل، كانت آمال الأقل إقناعًا من بين الشخصيات الأربع. فرغم أن اتجاهها نحو الزواج -مبكرًا كما يوحي الفيلم- اتفق مع ما عاشته من ضغوط في بيت أهلها، خاصة في ظل علاقتها المتوترة والعنيفة أحيانًا مع والدتها الراحلة، إلا أن الفيلم لم يعطِ صورة واضحة عن ماضيها الذي توحي سماح بأنه لم يكن ملتزمًا بشروط العائلة والمجتمع. والأهم أنه لم يفسر بوضوح كيف اتجهت نحو التدين، وما إذا شكل ذلك ملجأً لها، وبالأخص ارتداءها للنقاب، وما إذا كان خيارها أو جاء بتأثير من زوجها، الذي لم نعرف أيضًا كيف ولماذا تزوجته، خاصة وأنه يبدو أكثر تشددًا من والدها. ولعل الزج بالنقاب جاء كمحاولة للتشديد على التنوع بين الأخوات، لكنه بدا مقحمًا تحديدًا وأن النقاب في الواقع يأتي في سياقات اجتماعية محددة ليست قريبة من البيئة المرسومة لعائلة عبد الرحمن، وقد يكون استثنائيًا جدًا في إطارها.
البوستر الترويجي للفيلم.
إن كانت كل من شخصيات الفيلم واقعية بحد ذاتها بدرجة أو أخرى، إلا أن جمع هذه النماذج الأربعة في أسرة واحدة لم يكن بذات الإتقان. من الواضح أن المخرج حاول جعل عائلة عبد الرحمن نموذجًا مصغرًا لتنوع المجتمع، إلا أن هذه العائلة بالنهاية تنتمي لطبقة وسياق اجتماعي محدد، ولا يمكن أن يحدث فيها كل ما يحدث في المجتمع ككل. ربما كان تخفيف حدة «الشذوذ عن القاعدة» في كل من شخصيات الأخوات سيجعل العائلة ككل أكثر إقناعًا، لكن النزعة نحو قول كل شيء يمكن قوله عن حال بعض النساء في المجتمع طغت في النهاية على ضرورة تقديم قصة متماسكة ومقنعة. كان هذا واضحًا أيضًا في الزج بزواج القاصرات عبر قصة هبة، ابنة آمال ذات الـ15 عامًا، دون أن يقدم أي سياق أو سبب لذلك سوى أن الأب «شراني» ومتسلط، وبتجاهل لكون زواج القاصرات لم يعد يحدث إلا بنسب قليلة جدًا وفي بيئات اجتماعية محددة كذلك، لا تبدو بيئة آمال وعائلتها مماثلة لها.
قد يكون أفضل ما نجح به الفيلم هو تصوير طبقات السلطة المتعددة المسلطة على النساء، ومحاولاتهنّ الهروب من سلطة الأب بأشكال مختلفة. وعلى اختلاف أشكال علاقاتهن الزوجية، تظهر شخصيتا آمال وسماح أن هذا الهروب من سلطة الأب لسلطة الزوج لا يمثل انعتاقًا حقيقيًا، حيث تستمر المساومات التي تضطران لإجرائها، وتستمر حاجتهما لبذل مجهودات كبيرة للحفاظ على توازنهن، سواء بالعمل المضني لتحقيق مصدر دخل بسيط كما في حالة آمال، يذهب حصرًا لإعالة أبنائها، أو بالاهتمام الهوسي بالجمال واستمداد الثقة بالنفس من الجاذبية في حالة سماح.
وحين يغيب الأب فعليًا ومجازيًا، تحضر محله سلطة المجتمع، برجاله ونسائه، ممثلة بالجيران الذين يعتاشون على استضعاف بنات عبد الرحمن. ففي شخصيات الجارات الجالسات بشكل دائم على الشرفات، والشباب المقيمين على درج الحارة، نرى كيف يسعى كل طرف لتحسين موقعه في التراتبية الاجتماعية للحي عبر التسلط على من هو في موقع أضعف. فأم معتز التي تراقب الحركة على الدرج على الدوام تنظر بدونية لزينب «العانس» وتستخدم ما تجمعه من معلومات كعملة اجتماعية تتبادلها مع الجارات، في حين لا نراها تمارس أي دور يشرعن التفوق الذي تعبر عنه، باستثناء تأمّرها على شاندرا العاملة المنزلية المقيمة في بيتها. أما ابنها معتز، الذي نراه في جميع أوقات الليل والنهار متكئًا على الدرج، فيمثل الذكورة الهشة التي تستمد قيمتها من التحرش بالنساء، في حين أن والده وغيره من رجال الحي ينظرون إليه بصفته شابًا «هاملًا» لا يحقق الشروط المنتظرة منه كرجل.
في شخصيات الجارات الجالسات بشكل دائم على الشرفات، والشباب المقيمين على درج الحارة، نرى كيف يسعى كل طرف لتحسين موقعه في التراتبية الاجتماعية للحي عبر التسلط على من هو في موقع أضعف.
لكن إن كان الفيلم نجح في نقل هذه الدينامية التي تحكم علاقات القوى داخل مجتمع الحي الصغير، إلا أن بعض الرسائل التي حاول تمريرها، خاصة في نهاية الفيلم، تتناقض مع هذا الواقع المعقد. ففي أحد المشاهد الأخيرة، تخرج زينب عن طورها المتحفّظ لتقف على الدرج وتلقي خطبة عصماء توبخ فيها الجيران على تعاليهم في حين لدى كل منهم سرًا لا يقل «فضائحية» عن أسرار عائلتها. ينتهي المشهد بأن ينكفئ الجيران ويغلقوا نوافذهم، قبل أن تتجه سماح وهي تترنح ثملةً نحو معتز لتصفعه وتحذره إن تجرأ على الحديث عنها أو عن أخواتها أو «أي وحدة بالحارة أو على الكوكب».
إلى جانب الخطابة المفرطة في المشهد -وهو ما رأيناه في مشاهد أخرى كذلك- فإن تصوير المرأة البطلة بأنها قادرة على الانتصار لكل النساء بمجرد التمرد والتوقف عن الاهتمام بكلام الناس والانفجار في وجههم كان أقرب لنهاية سعيدة مفروضة فرضًا على واقع غير مشرق، يتجاهل كل ما جاء به الفيلم سابقًا من نقل للمساومات والتوازنات المعقدة في حياة الأخوات، ليقول إن تحررهن من السلطات المتعددة هو مجرد قرار فردي وليس شأنًا جماعيًا، حتى وإن كانت الأخوات استطعن في لحظة معينة استمداد القوة من بعضهن. لو كان للفيلم جزء ثانٍ، بوسعنا أن نتخيل كم ستكون مشكلتهن مع «كلام الناس» باتت أكبر في اليوم التالي لهذه المواجهة.
ليس على كل فيلم روائي أن يمثل كل الناس ولا أن يقول كل ما يجب قوله، لكن المهم أن يستطيع أن يروي بإتقان وإمتاع قصة قريبة من الواقع الذي يسعى إلى نقله، تقودها شخصيات متعددة الأبعاد نستطيع مع مرور وقت العرض أن نفهمها ونعرف كيف تفكر ولماذا تتصرف بالشكل الذي تتصرف به. رغم بعض الكليشيهات والحوارات الخطابية والحبكات الثانوية المقحمة، استطاع فيلم «بنات عبد الرحمن» أن يحقق ذلك، بشكل يتفوق على ما سبق وشاهدناه في الكثير من الأفلام الروائية الأردنية.