تشمل هذه المراجعة حرقًا لجزء من أحداث الفيلم. ولذا يمكن قراءتها بعد الانتهاء من مشاهدته.
لا يسعك وأنت تفرغ من مشاهدة الفيلم الباذخ «جنيّات إينيشرن» (The Banshees of Inisherin) سوى أن تتجوّل طويلًا في نفسِك، أو في شقّتك، أيّهما أوسع لعدد خطواتك، وتفكّر إلى أقصى درجةٍ في أشياء أُلقيت كلّها في جعبتك على نحوٍ من المباغتة، لعلّ أوّلها المعنى الوجوديّ للصداقة والألفة والملل، وليس آخرها الحرب والقسوة والألم.
في جزيرة، لا تشبه إلّا نفسها في جمالها المترف وكأنّها جنّة خُلد، على الضفّة الأخرى من الحرب الأهلية الإيرلنديّة، بدايات العقد الثالث من القرن العشرين، عام 1923 على وجه التحديد، أخرجَ لنا مارتن ماكدونا، وهو المخرج والكاتب على حد سواء، فيلمًا مفعمًا بالأسئلة الوجوديّة، لا من خلال سيناريو ميتافيزيقيّ، بل من خلال سيناريو عفويّ حتى أخمص قدميه، يُشبه يوميّات الجزيرة، المترعة بالتفكير والبحر والملل والضّجر الأصيل في الوجود البشريّ.
نحن أمام سيناريو غير معقّد تقنيًّا، بيد أنّه مكثّف جدًا كثافة الحياة اليوميّة في «إينيشرن» التي لا يصلها إلّا صوت القنابل من الجهة الأخرى في الحرب الأهليّة، لكنّها تخوض حربَها الأهليّة الخاصّة بها. وههنا يتأتّى ذكاء ماكدونا في أنّه لم يجعل الجزيرة مقلوب الجهة الأخرى الدائرة عليها الحرب، بل هي الحياة الإيرلنديّة بين صديقين، قطع أحدهما «كولم» (برندان غليسون) وصال الصداقة دون سابق نذير أو سبب مع صديقه الحميم «بادريك» (كولين فاريل) «الذي يظنّ أنه إنسان لطيف» ولا يشغله سوى ذلك في الحياة. لم يحذف ماكدونا صراع الحرب متوجّهًا إلى جزيرة يوتوبيّة، وإنّما حوّل الجزيرة إلى إمكان وجوديّ لأسئلة أكثر عمقًا عن الصداقة والضّجر الوجوديّ والحبّ والموت.
عزاء الوجود
يستهلّ الفيلم بحدث القطيعة المباغت، وسط يوم هادئ في الجزيرة، حينما لا يردّ كولم على بادريك، وينتظره في الحانة نفسها التي يرتادها الجميع كلّ يوم عند الساعة الثانية بعد الظهر، ومن ثمّ حين يسأله بادريك لمَ لا تحدثني، يخبره بعدم رغبته بأن يتوجّه إليه بأيّ كلام، «فأنا بكل بساطة لم أعد أحبّك». وفي معمعةٍ من الذهول، تضرب بادريك عواصف الأفكار وكأنّ هذه القطيعة/ الحدث بمثابة انهيار وجوديّ كامل؛ مما يجعله لا يحسن أن يمضي يومه الرّتيب والعاديّ دونما إحساس فادح بالخسارة. وحين يحاول مرارًا أن يكلّمه ثانيةً، يحذّره كولم بأنّه حال توجّه إليه بالكلام ثانية فسيقطع أصابعه إصبعًا إصبعًا ليعلم مدى جديّة الأمر بالنسبة إليه، وهو ما يحصل فعلًا، حيث قطعَ أصابع كفّ كاملة له، وكأن قطع أصابعه بمثابة الألم الذي يسبّبه له بادريك حين يكلّمه.
إنّ الصّديقين الإيرليندييْن في الفيلم والقطيعة المفاجئة بينهما دون سبب هي بمثابة مشهد سياسيّ ووجوديّ على حدّ سواء، وهو ما يجعل نافذة التأويل مفتوحة كالبحر الذي تقع عليه الجزيرة. يجدُ كولم نفسه، بعد أن بلغَ به الكبرُ عتيًّا، قد أمضى حياته دونما فعل شيء، وإنّما يمضي ساعاته بالاستماع إلى صديقه بادريك الممل والعاديّ، وأحاديثه حتى عن حمارته الصّغيرة لمدة ساعتين، وفجأة يجد طعم اللاجدوى وقد خنقه تمامًا، محاولًا أن يجد في تأليفهِ الموسيقيّ عزاءً. وعليه؛ فإنّ كولم يستغني عن اللطافة (أكثر كلمة مُستعملَة في الفيلم)، حالًّا «الخلود» -بالمعنى الموسيقيّ- محلها. ففي إحدى الليالي التي يبلغُ فيها سُكر بادريك أوجه، إثر فجيعة القطيعة، يتوجّه إلى كولم ويحدّثه عن أنّ اللطافةَ هي ما يبقى، في حين أنّ بادريك يقول له إن الموسيقى هي ما يبقى، موازرت هو الذي نتذكّره الآن، لا اللطافة والدّعة.
من الفطنة أنّ ماكدونا اتخذ من الموسيقى طابعًا لفكرة الخلود، لأنّ الموسيقى هي أشدّ الفنون تجريدًا، مما يجعلُ تجريدها معقدًا تعقيد الحياة نفسها. إنّ الفيلم هو صراع على معنى أن نحيا ونعيش، وهل المعنى مهمّ بالأساس للعيش.
هذا الخّصام الشخصيّ يحوّله ماكدونا ببراعةٍ إلى خصامٍ أنطولوجيّ كبير حول سؤال مصيريّ: ما الذي يُبقي أثرًا؛ الطيبةُ أم خلود مقطوعة موسيقيّة؟ وهو أيضًا خصام سياسيّ: ماذا يعني العيشُ المشترك في ظلّ التباينات الشخصيّة؟
يبتعدُ الفيلمُ بكلّ ذكاء عن فكرة وسم الصّديقين كولم وبادريك بالأنانيّة، رغم أنّ الأنانيّة جزءٌ من التكوين النفسيّ. وبالتالي، يبتعد ماكدونا عن أيّ صيغة مبسّطة عن الأنانيّة، لاستخلاص حكم أخلاقيّ على العلاقة؛ بل يفتح جدلًا تأويليًّا معنيًّا بالوجود بالأساس حول الأنانيّة نفسها. فبادريك، وهو يتلوّع حزنًا واكتئابًا جرّاء القطيعة، لا يبدو لنا بأيّ شكل شخصًا «تملّكيًا»، كما لا يبدو لنا بالمثل كولم «أنانيًّا»؛ وإنّما يصرّف المخرج هذا الإشكال تصريفًا أكثر تعقيدًا من الصيغ التبسيطيّة التي تقوم عليها العلاقات اليوم في عصر الصّوابيّة السياسيّة الذي نحياه؛ حيث العلاقات كلّها مصنّفة، والأنانيّة تهمة، والوسم بالأذى مجانًا على الطرقات. فالقطيعة في فيلم ماكدونا «حدث» بالمعنى الفلسفيّ: ماذا يعني أن تحتمل الوجود فجأة وحدَك، بعد كلّ هذه الاعتياديّة على وجود الغير؟ وهل بالإمكان أن يقوم وجودٌ دونما صداقة؟
إنّ الفيلم، عكسَ ما يبدو، هو انتصارٌ عميق للصّداقة في زمن يُبخَس فيه مفهوم الصّداقة إلى معان استهلاكيّة تمامًا. ففي شدة الافتراق بين كولم وبادريك، يرجعُ كلّ منهما إلى حيوانٍ ما يرعاه؛ حيث كولم إلى كلبه الذي يُراقصه بعد تأليفه لحنًا رائعًا، وبادريك الذي يَحفل بيته رفقة أخته -الجميلة المثقفة- بالحيوانات. وفي لحظة مشهديّة، حين يُداهم بادريك بيت كولم، ويجده يراقص كلبه، مستشعرًا الغيرةَ، يقول له بادريك ها أنت تحتاج إلى «آخر»، إنّك تراقص الكلب. يعبّر لنا هذا المشهد عن عمق المعنى الوجوديّ والسياسيّ عند ماكدونا: لا إمكان وجوديّ بلا «آخر» يشاطرنا النّصف في كلّ شيء.
وهكذا، فإنّ حماقة بادريك هي ببساطة معنى وجوده؛ وهي في الآن نفسه اللا معنى بالنسبة إلى صديقه، الطاعن في السن. ففي حين أنّ بادريك ملتحف باللطافة ظانًّا أنّ هذا هو أعظم إنجاز بشريّ، أي أن تكون لطيفًا، يجدُ كولم في هذا الملل عزاء، باحثًا يخالطه اليأس عن معنى يخلّد شيئًا. هل علينا أن نعيش بكلّ لطافة كأشخاص لا يعنيهم سوى أن يكونوا طيّبين (بادريك) معروفين باللطف تجاه البشر والحيوانات والجمادات، أم علينا أن نبحث عن خلودٍ ما حتى وإن اعتزلنا العالم؟ في الصّراع ما بين هذا وذاك، بين اللطف والتعقيد الموسيقيّ، يقيمُ ماكدونا فيلمَه العظيم. ومن الفطنة أنّ ماكدونا اتخذ من الموسيقى طابعًا لفكرة الخلود، لأنّ الموسيقى هي أشدّ الفنون تجريدًا، مما يجعلُ تجريدها معقدًا تعقيد الحياة نفسها. إنّ الفيلم هو صراع على معنى كيف نحيا ونعيش، وهل المعنى مهمّ بالأساس للعيش.
جنيّات وعنف مكبوت
تضطلع فكرة «النّذير» بدور مركزيّ في الفيلم؛ نذير الموت المتمثّل في شخصيّة «ماكورميك» في الفيلم، إنّها البانشي. وفي الإطلالات المتراوحة لماكورميك، نقرأ المستقبل الآتي على هذه الجزيرة التي لا حبّ فيها على الإطلاق، وكأنّ علينا دائمًا أن ننصتَ إلى أشياء خارجيّة لنعلمَ ما يُخبّأ لنا.
إنّ حمقَ بادريك أكسبه البراءة وإن أفقده الذّكاء. ومن هنا تأتي شخصيّة الفتى «دومينيك» الذي يَصحب بادريك طوال الفيلم، بريئًا مثله، متعرّضًا لعنف أعلى من أبيه الذي لا ينتشي إلّا بأن يبرّحه ضربًا وأن يستمني. لكن، مع حدث القطيعة بين الصديقين، فإنّ بادريك تُحوّله القطيعة إلى شخص مصروع طوال الوقت، حتى إنّه يفقدُ براءته تدريجيًّا، ويكذب على تلميذ صديقه كولم الذي يأتي إليه لعزف الموسيقى، ليخبره أن يعود إلى بيت أبيه لأنّه وصله طرد يقول إنّ أباه صطدمته عربة خبز، كاذبًا، ومأخوذًا بالغيرة من قربه لصديقه القديم. وحيث يقصّ بادريك هذه القصّة على دومينيك، فإنّه ينصرف عنه قائلًا: «كنت أحسبك بريئًا، فإذا أنت مثلهم تمامًا». سنلاحظ دائمًا في الفيلم أن «أحداث المباغتة» هذه تتكرّر، وكأنّها سمة الوجود الملازمة.
يرسمُ لنا ماكدونا في الفيلم صورةً للعطب البشريّ، لما لا يمكن إصلاحه. يصير حدث القطيعة بين الصديقين عطبًا يستحيل تجاوزه بالنسبة إلى بادريك، حدّ أنّه يجعله يفقد كلّ شيءٍ كان يحفظ عليه لطفه وهدوءه.
تقوم «الأحداث المباغتة» هذه بدور عظيم في الفيلم، وكأنّ الحياة -حين إدراكها- هي صنيع مباغتة بحدّ ذاتها. ففي يومٍ واحد، يبتعدُ دومينيك عنه، وتقرّر أخته «شوبان» أن تهجر الجزيرة بعد أن أشارت إليها الجنيّة «ماكورميك» بالمجيء إلى الضّفة الأخرى، إثر حماقات أخيها التي يمارسها تجاه صديقه الذي لا يرغب في شيء سوى ألّا يكلمه فحسب، وتموت حمارته إثر محاولتها أكل إصبع من أصابع كولم التي رماها على باب داره. تتحوّل الوحدة ههنا إلى كهف كافكاويّ تمامًا بالنسبة إلى بادريك: حيث «ينمسخ» إلى شيء آخر تمامًا، دون أن يعرف ذنبه؛ فينجرّ بعنف مكبوت من القطيعة إلى حرق بيت صديقه انتقامًا لحمارته التي ماتت وهي تأكل إصبعه التي قطعها. فيما يمثل عنفًا مأساويًّا؛ عنف يُضرم نيران بادريك المشتعلة حرقة وغيرة، ولكنّه لا يحرّك ساكنًا عند كولم الذي يستشعر الذنب لموت الحمارة، ولا يحسّ بأي شيء حيال قطع صداقته بصديقه.
إنّ محاولة بادريك لأن «يتحوّل» إلى شخص معتدّ بنفسه، وواثق، يؤطّرها الفيلم داخل سياق أعقد من الأفكار الرائجة عن تحول الذات بالمعنى الإيجابيّ أو السلبيّ. فإذا كان هذا الفيلم يقدّم لنا شيئًا، فهو الابتعاد عن الثنائيّات؛ لأنّ الوجود أعقد من ثنائيات العقل المحض. ليسوا أشرارًا ولا أخيارًا؛ إنّها مباغتة الحدث التي تحرّك الكينونة البشريّة، بكلّ ثقل المباغتة وتفاهته على حدّ سواء. ومن ثمّ، فإنّ الباحثين عن البراءة الصرف، والهدوء المحض ليس مكانهم هنا؛ عليهم أن يموتوا أو يرتحلوا إلى مدينة أخرى. وفعلًا، تتحقّ نبوءة ماكورميك؛ حيث يغرق الفتى دومينيك في النهر، حيث «القلب الضعيف لا يمكن أن يحظى بامرأة جميلة» كما كان يكرّر طوال الفيلم، وترتحل الأختُ التي جُنّت من أفعال أخيها إلى مدينة «أناسها هادئون؛ غالبًا لأنّهم من إسبانيا» كما تقول في رسالة إلى بادريك.
أشياء لا يمكن إصلاحها
يرسمُ لنا ماكدونا في الفيلم صورةً للعطب البشريّ، لما لا يمكن إصلاحه. يصير حدث القطيعة بين الصديقين عطبًا يستحيل تجاوزه بالنسبة إلى بادريك، حدّ أنّه يجعله يفقد كلّ شيءٍ كان يحفظ عليه لطفه وهدوءه. لكنّ هذا لا يعني أنّ بادريك فقد براءته؛ فمكادونا يعلّمنا ربمّا أن في البراءة عنفًا، كما أنّ في العنف براءة. ويتجلّى هذا في المشهد الختاميّ؛ حين يلتقي بادريك وكولم على الشاطئ، كلّ منهما يتأمّل فيما صار إليه. وحين يخبر كولم بادرك أنّ الحرب الأهليّة ربما أوشكت على الانتهاء، يردّ بادريك أنّها لربما ابتدأت الآن. لعلّ الحرب الشخصيّة هي حرب أهليّة بلغة أخرى، حرب الذات مع نفسها، وإعادة استبصار هذه الذات في الوحدة المطلقة، حيث لا أحد إلّا الحيوانات والجمادات من حولك.
تتمتّع فكرة «العطب» عند ماكدونا في هذا الفيلم بقوّة كبيرة، حتى ليبدو أنّ العراك لا ينطلق من أسئلة كبيرة وكليّة عن الوجود، بل من أسئلة صغيرة للغاية، لا يمكن إصلاحها، والذّات من ثمّ لا تتجاوز «أحداث المباغتة» هذه؛ وتنشأ حروبنا الأهليّة الداخليّة.
وأخيرًا، من المهم الإشارة إلى أنّ الطابع الفردوسيّ لإينيشرن من طبيعة وجمال لا يمنحها بتاتًا صبغة الفردوس، وهنا مكمن ذكاء ماكدونا. حيث حوّل المخرج هذه الأرض/ الفردوس (كصورة) إلى حرب أخرى دائرة على نحو بشريّ تمامًا، ربّما لا تقلّ في ضراوتها عن الحرب الأهليّة الدائرة على الطرف الآخر، سابرًا عمق الإيرلنديّ بما هو إنسانٌ عاديّ للغاية، مفرط في عاديّته، في مكان غير عاديّ، لتكون مقاطعة صديق لصديقه بمثابة حدث لا يمكن إصلاحه أو تجاوزه، ليس فقط لدى الصّديقين، بل لأهل الجزيرة كافّة.
وهنا تتأتّى فكرة «الآخر» بالمعنى السياسيّ والوجوديّ التي سبقت الإشارة لها: فالحروب الأهليّة ليست وقفًا على الاحتراب بالسّلاح، بل ربّ صداقةٍ فُكّ عقالها كانت سببًا في حرب أشدّ ضراوة؛ وتلك هي الحروب الإنسانيّة الحقّة التي على البشر خوضها للوصول إلى معنى الصّداقة والآخر دون أيّ حسّ ليبراليّ كلبيّ بضرورة الآخر المكمّل للذات الأنانيّة، بل الآخر بالمعنى الوجوديّ الذي يشاطرنا عبء الوجود.