«حيوات ماضية»: أو في رثاء ما كان يمكن أن يكون

الأربعاء 19 حزيران 2024

تستهلّ الكاتبة المسرحيّة سيلين سونج أوّل عمل روائيّ طويل من تأليفها وإخراجها بمشهد محوريّ نطالع فيه قبالتنا امرأة بملامح آسيويّة ورجلين، أحدهما آسيويّ والآخر أبيض، يجلسون في أحد الحانات. وبينما لا نسمع من حديثهم شيئًا، تُنبئنا لغة أجسادهم وتعبيرات وجوههم بشيء مثير، ويأتينا في الخلفيّة صوت اثنين من النظّارة (من المتواجدين في الحانة، ربمّا) وهما يحاولان تخمين ماهيّة العلاقة التي تجمع بين هؤلاء الثلاثة، تخمينات سنعرف لاحقًا أنها جميعًا غير دقيقة. 

هكذا تبدأ قصّة فيلم «حيوات ماضية» (Past Lives) الذي تتتبّع فيه مخرجته الكنديّة-الكوريّة الجنوبيّة قصّة نورا (جريتا لي) التي تهاجر رفقة أسرتها من كوريا الجنوبيّة إلى كندا في سن 12 عامًا تاركة خلفها حبّها الأوّل وصديق طفولتها هاسونج (تيو يو). يعاود هاسونج ونورا التواصل بعد مرور 12 عامًا من فراقهما، ثمّ ينقطع تواصلهما لـ12 عامًا أخرى، لكنّهما يلتقيان أخيرًا وجهًا لوجه بعد مضيّ أكثر من عقدين من الزمن، وفي ظلّ ما تخلّل مسارات حياتيهما من تحوّلات. 

سيعود الفيلم قرب نهايته إلى حيث بدأ، إلى مشهد الحانة ذاته، لكن بعدما نكون انتقلنا نحن أيضًا من موقع الفضوليّ والمتلصّص، كما المُعلِّقَين في الحانة، إلى موقع المنشغل والمتورّط في أسئلة الفيلم ومعضلة أبطاله، ثلاثيّ الحانة، نورا وزوجها الأمريكيّ آرثر (جون ماجارو) وهاسونج العائد من ماضيها. 

سؤال المسافة

قد تبدو قصّة نورا وهاسونج بسيطة ظاهريًّا، خاصّة في ضوء اعتماد الفيلم على تقنية سرديّة كلاسيكيّة إذ يعود بطريقة الـ«فلاش باك» من نقطة النهاية إلى نقطة البداية ثمّ إلى نقطة النهاية مرّة أخرى. لكنّ انكشاف طبقات متعدّدة من حكاية نورا وهاسونج، وبما توظّفه مخرجة العمل من لغة سينمائيّة دالّة ومتقنة، سرعان ما يثبت عكس ذلك. 

إنّ تجربة نورا محفوفةٌ بما يعاينه المهاجر بصورة حتميّة من عوارض ومآلات الارتحال والتنقّل الدائم بين الأماكن والأزمنة واللغات والهويّات. إنّها تجربة مسكونة بالمراوحة بين الحدود والعوالم، وبالعبور من قارة إلى أخرى، ومن الطفولة إلى الشباب، ومن ضرب من الحبّ إلى آخر، على ما تعتريه هذه المراوحات الدائمة من أسئلة وتوتّرات وما تستتبعه من قرارات تؤسّس لمقولة الفيلم ولمواجهات أبطاله. وذلك ما يُمسِكُ به الفيلم بإحكام بما يبنيه من تتابع بصريّ يحاكي إيقاع التنقّل المستمرّ ويماثل ما يكشف عنه من عوالم بينيّة عبر المشاهد المتواترة للمطارات وحركة الحافلات والقطارات وما إلى ذلك.

فيلم «حيوات ماضية» ليس مجرّد قصًّة شائقة عن حبّ غير متحقّق، بل مقولة بالغة العمق والعذوبة حول الحبّ والقدر والمسافة والحدود والتباسات الحياة

إنّ علاقة نورا وهاسونج محكومة، من ثمّ، بالمسافات والحواجز. فبينما يحاولان تجاوز الجغرافيا التي باعدت بينهما في الطفولة ويعاودان التواصل بعد سنوات عبر تطبيق «سكايب»، تظلّ المسافة حاضرة بقوّة عبر وسيط افتراضيّ يشوبه ما يشوب وسائط الاتصال الحديثة من أوجه خلل وزوال، وبفعل فارق التوقيت بين كوريا الجنوبيّة والولايات المتحدة التي سافرت إليها نورا لمتابعة مهنتها ككاتبة، ولانشغال كلّ منهما بعالمه الآنيّ ومشاريعه المستقبليّة. وينتهي الأمر فعليًّا، تحت وطأة هذه الحواجز، بأنّ تقرّر نورا قطع اتصالها بهاسونج لفترة حتى يتسنّى لها التركيز على ما أتت إلى الولايات المتحدة من أجله. لكنّ ما اضطرّ إليه نورا وهاسونج من ابتعاد مؤقت امتدّ إلى ما يربو على عقد آخر من الغياب تخلّله زواج نورا من آرثر الذي تعرّفت عليه في برنامج إقامة فنيّة جمعهما وارتباط هاسونج بفتاة أخرى سينفصل عنها لاحقًا.

تبدو هذه الحواجز التي انبنت في لاوعي نورا وهاسونج ماثلة بشكل واضح في تلك المسافة الفعليّة التي غالبًا ما تُباعد بين جسديهما وتحول دون الاقتراب بشكل حميم بينهما ربّما في كلّ ما جمع بين الاثنين من مشاهد، جلوسًا أو وقوفًا أو ترجّلًا، عدا مشهدي عناقهما عند لقائهما في نيويورك وعند وداعهما الأخير. لكن حتّى في مشهد العناق الأوّل يُبدي جسد هاسونج تحفّظًا واضحًا في ردّة فعله في بادئ الأمر. وربّما يتمثّل في ذلك المشهد في عربة المترو إذ يقف هاسونج ونورا في مواجهة بعضهما ممسكين بعامود فاصل بينهما وتكاد أيديهما تتلامس أقصى ما استطاعه الاثنان من تقارب جسديّ رغم هذا الحاجز الفاصل بينهما، في لحظة صامتة ومشحونة بالعاطفة تكثّف ببلاغة جوهر تلك العلاقة التي لا تحتمل الابتعاد التام ولا الاقتراب التام. هذا بينما تتعمّد سونج إظهار الضدّ بضدّه إذ تحاوط نورا وهاسونج في مشاهد لقائهما وهما يتجوّلان في نيويورك بخلفيّة تضجّ بمشاهد العناق والحميميّة الجسديّة الحرّة والمنسابة.  

«بعض ما نفعله من عبور يُكلّف أكثر من غيره؛ وبعضه قد يكلّفك حياتك كلّها»، تقول إحدى النساء في عرض فنيّ تحضره نورا التي يتبدّى في ملامح وجهها وقع هذه الكلمات القويّ عليها. ربّما انتبهت نورا وقتئذ فقط لما عليها أن تدفعه، تمسّكًا أو تخليًّا أو تصالحًا أو غير ذلك، لبعض ما قامت به من عبور. 

سطوة ما لا يُسمَّى

من اللافت في فيلم «حيوات ماضية» أنّ علاقة نورا وهاسونج تبدو عصيّة على التسمية وعلى تعيين ماهيّتها، رغم حضورها وسطوتها الطاغية. فنحار بينما نتابع قصّتهما وهي تتكشّف تباعًا في توصيف هذه العلاقة التي تبدو بالتأكيد أكبر من كونها مجرّد صداقة ولكنّها ليست في الوقت ذاته حبًّا بالمعنى التقليديّ. ومن المثير أنّ هذه العلاقة تبدو خارج التصنيف أيضًا لدى طرفيها؛ فهاسونج ينفي في أحد لقاءاته الافتراضيّة مع نورا أنّهما يتواعدان، أمّا نورا فترفض وصف زوجها لهاسونج بـ«حبيبها السابق». 

ربّما لهذا السبب أدخلت سونج في ثنايا فيلمها مفهوم «الإن يون» (Inyeon) الرائج في ثقافة كوريا الجنوبيّة والذي، كما تشرحه نورا لآرثر، يتعلّق بدور القدر في ترتيب العلاقات الإنسانيّة. ففعل بسيط وعارض كتلامس ملابس غريبين في الشارع، مثلًا، يعني طبقًا لهذا المفهوم أنّه ثمّة ما جمع بين هذين الغريبين في حياة سابقة من صلات. أمّا إذا تزوّج اثنان فذلك يعني أنّه لا بدّ أن جمعتهم 8,000 طبقة من الروابط في حيوات أخرى عديدة. 

يضيف مفهوم «الإن يون»، والكلمة ذاتها عصيّة على الترجمة، بُعدًا متجاوزًا (transcendental) لحكاية نورا وهاسونج، ولذا فربّما يستطيع هذا المفهوم وحده الإمساك بكنه علاقتهما، التي تبدو، كما القدر، عصيّة على التفسير وغير قابلة للإنكار، لكنّها ذات سطوة بالغة. كما يبدو هذا المفهوم مهمًّا في تعاطي نورا مع تجربتها التي تنطوي بحكم الهجرة على فقد أشياء واكتساب أخرى، وكوسيلة لتعزية الذات وللتصالح مع ما قد مضى بإحالته إلى ترتيبات قدريّة تتحكّم فيمن تتقاطع طرقهم مع من، وفيمن يفترقون عمّن، وفي أيّ توقيت. يبدو مفهوم «الإن يون» هاهنا، إذًا، دافعًا لتأمّل كنه العلاقات الإنسانيّة والكونيّة وطبقاتها المتراكمة، ومسوّغًا للتذرّع بما هو أكبر من أن يُسمَّى أو يُقاوَم.

لقاء حتميّ

بالعودة إلى مشهد الحانة إذ تتوسّط نورا هاسونج من ناحية وآرثر من ناحية أخرى وتتولّى الترجمة بينهما، تصل قصّة الفيلم إلى ذروة انكشافها بما يتضمّنه المشهد من مواجهة حتميّة بين «مثلّث الحبّ»، وبما يتكثّف فيه من مشاعر ودلالات. فبشكل ما، يمثّل هاسونج وآرثر ماضي نورا وحاضرها، ووجهين مختلفين من أوجه هويّتها، دون اختزال لما يعنيه كلّ منهما لنورا في هذا الجانب أو ذاك بالضرورة. فبينما يمثّل آرثر واقع نورا الآنيّ، المعيش والملموس، بكلّ ما يعنيه ذلك من قرب وحميميّة وحضور لا ينقطع، يحضر هاسونج دائمًا، كما الماضي، على مسافة من نورا، ويتمثّل وجوده طوال الفيلم، كذكرى، أو كطيف، أو كصورة في مخيّلة نورا أو على شاشة حاسوبها الشخصيّ، أو كانعكاس على سطح مرآويّ ما، إن كان زجاج نافذة، أو صفحة مياه نهر، أو غير ذلك. 

وإذ يتقاسم آرثر مع نورا نفس المهنة والاهتمامات وتفاصيل الحياة اليوميّة في الولايات المتحدة، تتجسّد في هاسونج أبرز ملامح الهويّة الكوريّة وقيمها التقليديّة. تقول نورا لآرثر إنّها تشعر في وجود هاسونج أنّها كوريّة بشكل أكبر وبشكلّ أقلّ في الوقت نفسه، إذ بينما تتقاسم مع هاسونج ملامح هويّة مشتركة، فإنّها ليست «كوريّة» بنفس الطريقة وبنفس القدر بفعل انقطاعها عن موطنها الأصليّ لسنوات، وبحكم ثقافتها الهجينة. لذا فإنّ نورا تشعر بهويّتها الكوريّة مع هاسونج بشكل مختلف عمّا تختبرها، مثلًا، مع أصدقائها من الأمريكيّين-الكوريّين. 

لا يقدم الفيلم معالجة كلاسيكيّة لقصّة امرأة تحار بين زوج وحبيب سابق، بل لقاءً ثلاثيًّا هادئًا وغير صداميّ، يتّسم بالاحترام والتفهّم، حتّى وإن كان مسكونًا في العمق منه بالتوتّر والترقّب والهواجس لدى أطرافه الثلاثة.

وعليه فإن لقاء نورا وهاسونج وآرثر كان لقاءً لازمًا تمثّلت فيه حاجة أبطال الفيلم إلى تأمّل الماضي والحاضر ومساءلتهما. فبينما ينخرط هاسونج ونورا في تذكّر ماضيهما وفي التفكير فيما كان ممكنًا من علاقة  بينهما، وفيما كان محتملًا من مسارات وحيوات بديلة، تحفّز عودة هاسونج دافعًا لدى آرثر للتساؤل حول كنه علاقته بنورا، ومدى ما يعنيانه لبعضهما، وما إن كان حبّه كافيًا لها. كما مثّل هذا اللقاء فرصًة مهمّة لنورا لكي تتصالح مع ماضيها، ولكي ترثي ما كان يمكن أن يكون حتّى تستطيع أن تعيش حاضرها كما هو كائن وتتجذّر فيه. 

يُذكَر أنّه عندما افترق نورا وهاسونج في الطفولة لم يودّعا بعضهما بشكل لائق ولم ينطقا بكلمة واحدة. وقد ظلّ عبء اللاوداع هذا، فيما يبدو، يطارد نورا وهاسونج لأكثر من عقدين حتّى استطاعا أخيرًا تعزية أنفسهما بوداع لائق، على الأقلّ، إلى أن يلتقيا مجدّدًا ربّما في حياة أخرى يكون هذا الحاضر الذي اضطرّا إلى الافتراق فيه في يومٍ ما ماضيًا لها. وقد كان مشهد الوداع الأخير بين نورا وهاسونج مشهدًا بارعًا ومشحونًا بالعاطفة الجيّاشة حتّى في لحظات الصمت التي غلبت عليه والتي كانت، رغم ذلك، عالية الصوت وبالغة التأثير.

ويَحسُن بفيلم «حيوات ماضية» أنّه خرج عن نمط الأفلام الرومانسيّة الكلاسيكيّة ونجا من فخّ الابتذال والإغراق في الإثارة العاطفيّة. في حديثه مع نورا، يتأمّل آرثر قصّة نورا وهاسونج في صيغتها الكلاسيكيّة: حبيبان منذ الطفولة يلتقيان أخيرًا بعد فراق سنوات، إذ يعود هاسونج ليستردّ حبيبته من زوجها الأمريكيّ الوغد. 

لكنّنا، على العكس من ذلك، لسنا هاهنا أمام معالجة كلاسيكيّة لقصّة امرأة تحار بين زوج وحبيب سابق، ولسنا إزاء صراع على نورا بين غريمين، بل نرى في مشهد الحانة لقاءً ثلاثيًّا هادئًا، وغير صداميّ، ويتّسم بالاحترام والتفهّم، حتّى وإن كان مسكونًا في العمق منه بالتوتّر والترقّب والهواجس لدى أطرافه الثلاثة. كما تتمثّل في هذا اللقاء الفريد ذروة ضبط النفس، لا سيّما من جانب آرثر الذي كان عليه التعاطي مع المشاعر الرجوليّة المتوقَّعة في سياق كهذا بحكمة وضبط نفس لا يخلوان من ملامح الهشاشة الإنسانيّة. ربّما لذلك لا نميل، كمشاهدات ومشاهدين، وعلى خلاف ما هو متوقّع في قصص مماثلة، للتعاطف مع طرف ضدّ آخر، فليس ثمّة صراع بين بطل ووغد في هذه القصّة، وليس ثمّة علاقة حدّيّة لا تستقيم إلّا بفوز طرف على حساب آخر، بل ما نراه في هذا المشهد هو مواجهة شجاعة مع النفس ومع الآخر تقوم على التفهّم والتفاوض، لا على النفي والاستبعاد.

فيلم «حيوات ماضية» ليس، إذًا، مجرّد قصًّة شائقة عن حبّ غير متحقّق، بل مقولة بالغة العمق والعذوبة حول الحبّ والقدر والمسافة والحدود والتباسات الحياة وغيرها من معانٍ نجحت كاتبة الفيلم ومخرجته في تضفيرها في نسيج العمل وفي توليف جميع عناصر الفيلم ببراعة حتّى خرج كأنّه قطعة موزاييك أصليّة، نادرة.

Leave a Reply

Your email address will not be published.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية