تكتشف باحثة فلك شابة وأستاذها نيزكًا متجهًا إلى كوكب الأرض، حجمه كفيل بإحداث كارثة تنهي الحياة على الكوكب، فيأخذان على عاتقهما مسؤولية إبلاغ المسؤولين وتحذير الرأي العام. ويبدآن بذلك رحلة كارثية-هزلية في دهاليز مؤسسات رسمية وإعلامية ومالية مشغولة بمصالحها الذاتية والضيقة، لا تريد الانتباه إلى أن هذه الأزمة قد تنهي حياة الناس أجمعين.
يذهبان إلى رئيسة الجمهورية لإقناعها بأن توجه ضربة نووية للنيزك لتفتيته قبل الارتطام بالأرض، فيجدانها مشغولة بفضائح سياسية ومعارك تتعلق بتنصيب أصدقائها في مناصب كبرى وحسابات انتخابية ضيقة، ولا تلاحظ في البداية أن هذه المسائل لن تعني شيئًا إن أفنى النيزك كوكب الأرض، ثم تقرر مواجهة النيزك عندما تجد أنها تستطيع استثماره إعلاميًا وانتخابيًا. أما المؤسسات المالية التي تقف وراء الرئيسة فيهمها استثمار النيزك من أجل مصالح اقتصادية أكثر مما يهمها منع هذه الكارثة. وفي أحد المشاهد التي يعترض فيها أحد الباحثَيْن على محاولات الانتفاع من النيزك قائلًا «ما نفع تريليونات الدولارات إذا كنا سنموت جميعًا» يسخرون منه، ويقول له ابن الرئيسة (المدلل) ورئيس طاقمها بلهجة استهزاء «وماذا لو أصبحنا آمنين وأثرياء».
الحلول في عقلية صناع القرار في الفيلم، وربما في عقلية صناع الفيلم، لا تخرج عن الحليّن العسكري والنيوليبرالي: إمّا الضربة النووية وإمّا الاستيعاب من أجل الاستغلال وامتصاص الثروات، وأن الحل النيوليبرالي يجعل حياة الناس مجرد عنصر من عناصر المعادلة لا أولوية له بالضرورة. أمّا الإعلام فلا يريد أن ينقل أخبارًا إن لم يكن محتواها خفيفًا ومرحًا؛ والرأي العام منقسم بين من يصدق العلم ومن يرفض الإيمان بالنيزك ويرى في الأمر مجرد مؤامرة.
انشغل النقاد في الولايات المتحدة بمناقشة ما إذا كان النيزك قد مثل مجازًا مناسبًا عن أزمة التغير المناخي، وما إذا كان الجمهور فعلًا لا يهتم بالأزمة المناخية ولا بالشأن العام كما يصوره الفيلم (وفي رأيي فإن الفيلم، حتى وهو يجعل المجاز عن التغير المناخي والحثّ على مواجهته رسالتَهُ الرئيسية، اتخذ من ردات الفعل على أزمة التغير المناخي مادة لخلق عالمه الخاص وللسخرية من المؤسسة الرسمية والثقافة العامة في الولايات المتحدة، وبالتالي ليس من المنطقي مساءلته عما إذا كان قد قدم مجازًا دقيقًا لظاهرة التغير المناخي بالذات)؛ ولا يخلو الفيلم كذلك من أشباح أزمة كوفيد، وبالذات ردة فعل إدارة ترامب ومنكري العلم وأصحاب نظرية المؤامرة على أزمة الفيروس، التي وصلت إلى التقليل من شأنه أو إنكاره تمامًا.
أمّا ما يعنينا نحن فنظرته الساخرة، والمستهزئة، إلى العقل الإمبراطوري وإلى ثقافة المركز.
السخرية من المركز
ولأن الفيلم ينتمي إلى صنف الكوميديا «عديمة التوقير» (irreverent) فإنه لم يضف قداسة ولا وقارًا على أحد.
فإن كانت الإشارة، في بداية الفيلم وقبل أن نرى الطاقم الرئاسي، إلى رئيسة الجمهورية، قد تعني بالنسبة للجمهور الليبرالي نوعًا من التقدمية فإننا نفاجأ بأن رئيس الجمهورية جاني أورلين (التي تلعب دورها ميريل ستريب) تشبه في مظهرها وثيابها ولون شعرها هيلاري كلينتون (وتظهرها أحد الصور على مكتبها وهي تعانق بيل كلينتون) وتتصرف مثل دونالد ترامب، كما أنها مدخنة شرهة، كانت في أول الأمر تتخفى من الصحفيين قبل أن تتصالح مع هذه العادة وتفرضها على الآخرين، في إشارة ربما إلى باراك أوباما الذي كان مدخنًا شرهًا وكان هروبه من عدسات الصحفيين للتدخين مادةً للحملات ضده (خاصة إذ تتحدث الرئيسة أورلين عن حكايتها مع التدخين وفي الخلفية صورة لها مع النجمة بيونسيه التي كانت من مؤيدي أوباما وغنت في حفل تنصيبه).
يسخر الفيلم من سيطرة الرأسماليين على اللعبة السياسية، ويستهزئ بعدم كفاءتهم ورؤيتهم التي تقتصر على ما يريدون، فتفشل حتى في تأمين مصالحهم أنفسهم على المدى البعيد.
وبهذا يستبق الفيلم أي محاولات لقراءته كدعاية للحزب الديمقراطي أو للتيار الليبرالي ويراوغها، حتى وهو يستثمر سخافات ترامب والجمهوريين كمادة للسخرية. تشير رئيسة الجمهورية طوال الوقت إلى «حزبها» دون أن تسميه؛ فتنسحب السخرية على الطرفين. وفي عدم توقير المؤسسة السياسية بحزبيها، نرى -ربما- حنق المخرج آدم مكاي الذي يؤيد الحزب الديمقراطي إجمالًا ويعتبر نفسه «ديمقراطيًا اشتراكيًا»، وكان من مؤيدي بيرني ساندرز، على التيار السائد في حزبه (وحنق ديفيد سيروتا، كاتب خُطَب بيرني ساندرز، الذي شارك في كتابة هذا الفيلم).
كما سخر الفيلم بذكاء من تحكم الممولين (أو «المتبرعين») في قرارات السياسيين؛ ويظهر المليونير الذي يستثمر في التكنولوجيا بيتر إشرويل (يلعب دوره مارك ريلانس) سلطةً عليا، فيحق له اقتحام كل الاجتماعات حتى وإن كانت سرية، ووقف القرارات السياسية المصيرية وتغييرها لتناسب مصالحه المالية، ويدعو الرئيسة فتلبيه مهرولة وتعتذر له عن تأخرها في تلبيته. وما دام الممول هو الذي يمسك بخيوط اللعبة، فلا فرق كبير بين الحزبين. وقد جاء الفيلم في أعقاب تداعيات قضية النائبين الديمقراطيين جو مانشين وكريستين سينما اللذّين عرقلا حزمة الإصلاحات المتعلقة بالبيئة وتوسيع شبكة الضمان الاجتماعي، التي اقترحها جو بايدن وأيدها بقية النواب الديمقراطيين؛ فيما يراه بعض المراقبين تزلفًا للممولين؛ خاصة وقد زاد «التبرع» للنائبين، ولمانشن بالذات، من قِبَل ممولين معروفين بتأييدهم للحزب الجمهوري، على إثر موقفهما الرافض للإصلاح. كما يأتي الفيلم في وقت نرى فيه تأثير «المال السياسي» الذي تنفقه شركات الأدوية والتأمين لإبعاد النواب الديمقراطيين عن خيار التأمين الصحي العام.
لا يسخر الفيلم فقط من سيطرة الرأسماليين على اللعبة السياسية، ولكنه يستهزئ كذلك بعدم كفاءتهم ورؤيتهم التي تقتصر على ما يريدون، فتفشل حتى في تأمين مصالحهم أنفسهم على المدى البعيد.
شخصيات الفيلم وأنماط المثقفـ(ة)
يبدأ الفيلم وطالبة الدكتوراة كيت ديبياسكي (الت تلعب دورها جينفر لورنس وقد غيرت هيأتها المعتادة ليبدو عليها الجد والإرهاق) تجري أبحاثها، وتكتشف النيزك المتجه إلى الأرض. منذ البداية يبدو على كيت التعب والهم، ومع تصاعد الأحداث يزداد همها وتتصرف بانفعالية وتوتر إلى أن تنفجر في الصراخ والبكاء في برنامج تلفزيوني، حين لا تجد المذيعين مُقدّرين لمدى خطورة الوضع.
هذه الصورة، رغم ما فيها من مبالغة كوميدية، شبيهة بالصورة الواقعية للباحث المهموم؛ وتختلف عن صورة نمطية أخرى يقدمها الإعلام الأمريكي عن طلاب الدراسات العليا كما لو كانوا يعانون من الفراغ ويهربون منه إلى علاقات ومسائل شخصية، ويبدون طوال الوقت جذابين لا أثر للإجهاد أو الهمّ عليهم (وبما أنني حديث العهد بالدراسات العليا في الولايات المتحدة فإن الصورة النمطية كانت تستفزني، في حين كنت أضحك على انفعالات كيت ديبياسكي وهي تذكرني بمواقف حقيقية كدنا، أو تمنينا، أن نفعل مثلها).
يقبل الإعلام، في الفيلم والحقيقة، بالمثقف إذا انضوى ضمن أحد الصور النمطية الجذابة، إلى أن يحمل همًا حقيقيًا ويبدأ في التشكيك فيما تبثه المؤسسة الرسمية، فيطرده الإعلام من جنته.
طبعًا انفعالية كيت وصراخها يتبعان صورة نمطية أخرى هي صورة المرأة الهستيرية (التي تنسحب في بعض الأحيان على المثقفين والفنانين نساءً ورجالًا)؛ ولكن في هذا الفيلم، ورغم المبالغة في انفعالية كيت وتوترها من أجل إدرار الضحك، فإننا نرى أن هذه الحالة الانفعالية وراءها همٌّ علمي واجتماعي-أخلاقي.
تتعدى هذه الملاحظة الإشادة ببراعة المخرج والممثلة في رسم وتجسيد الشخصية، وبراعة الفيلم «عديم التوقير» في تقديم أبطال «عديمي الوقار»، إلى فتح الباب لمناقشة صورة المثقفة والمثقف، والمساحة الممنوحة لهما، في الإعلام الأمريكي السائد.
فالمثقفة والباحثة لها مكان تحت الأضواء إن كانت لا تحمل همًا حقيقيًا، وقدمت صورةً «خفيفة ومرحة» وجذابة، أو كانت غارقة في الذات والشؤون الشخصية؛ وفي هذا السياق يطلب معدو البرنامج من كيت وأستاذها أن يبقوا الأمور «خفيفة ومرحة»، ويطلبون من كيت بالذات أن تغير ثيابها، ويحضرون لها ثيابًا ترفضها (لا نرى ما هي هذه الثياب ولكن نرى الامتعاض على وجه كيت). أمّا إن قالت كلامًا جادًا أو تحملت مسؤوليتها العلمية والأخلاقية، أو انفعلت تحت وطأة هذه المسؤولية، فلا مكان لها؛ إذ سرعان ما تصبح كيت مادةً للسخرية.
وفي مقابل كيت يقدم أستاذها راندل مينداي (الذي يلعب دوره ليوناردو ديكابريو) صورة قريبة هي الأخرى من الواقع -على ما فيها أيضًا من مبالغة وتنميط كوميديين- للأكاديمي الذي يجد نفسه ضائعًا أول الأمر أمام لعبة الإعلام، ثم يجد فيه الإعلام صورة محببة للرجل الأبيض الحكيم الأكبر سنًا قليلًا من متابعيه، فتأخذه لعبة الإعلام وتغويه، إلى أن يجد نفسه حائرًا ما بين متطلبات اللعبة الإعلامية ومسؤوليته العلمية والأخلاقية، فيصبح في النهاية مُوَّتَرًا مثل تلميذته.
يقبل الإعلام، في الفيلم والحقيقة، بالمثقف إذا انضوى ضمن أحد الصور النمطية الجذابة، كما يحدث أول الأمر مع راندل، فيميل إليه الإعلام ويسلط عليه الضوء ويقدم له المنابر، وتطلب المؤسسة الرسمية خدماته، إلى أن يحمل همًا حقيقيًا ويبدأ في التشكيك فيما تبثه المؤسسة الرسمية من معلومات مغلوطة وناقصة أو يذكر الناس بما يحدق بهم من خطر، فيطرده الإعلام من جنته.
تفهم المذيعة بري إيفانتيه (التي تلعب دورها كيت بلانشيت) هذا الدرس جيدًا، وتفهم أنه مطلوب من المثقفة بالذات أن تواري ثقافتها وراء مظهر سطحي وجذاب، ربما ينخدع فيه مشاهد الفيلم إلى أن يكتشف أن لديها ثلاث شهادات ماجستير وأنها تتحدث أربع لغات وتحفظ الشعر بالفرنسية.
عوارض إمبراطورية
الغرض من الفيلم، في المقام الأول، التسلية؛ ويلعب اللعبة التي يسخر منها ذاتها إذ يقدم سخريته اللاذعة بطريقة خفيفة ومن خلال نجوم سينما كبار (من بينهم جينفر لورنس وليوناردو ديكابريو المشهورَيْن بحسن مظهرهما) وإن كان لا يفوته في بعض المشاهد أن يسخر من نفسه ومن هذه النوعية من الأفلام (كما في المشهد الذي يظهر فيه طاقم التصوير، والذي لا أظنه خطئًا وإنما إشارة إلى أن الفيلم لا يأخذ ذاته بجدية زائدة). فعلى سبيل المثال، وبينما تتصاعد التطورات المتعلقة بالنيزك، يتحدث المذيعان اللذان يستضيفان راندل عن فيلم قيد الإنتاج عن هذه الكارثة، بعنوان «الدمار الشامل» ويسخران من «تلك الأفلام» التي تضم نجومًا كبارًا وتتكلف ملايين الدولارات، ثم في مشهد لاحق يتحدث بطل هذا الفيلم الافتراضي قائلًا إنه فيلم خفيف من أجل التسلية؛ في إشارة يمكن أن يفهم منها أن منتجي فيلم «لا تنظروا للأعلى» يقولون لمشاهديهم الشيء نفسه عن فيلمهم، أو قد يفهم منها أنهم يدّعون تمايزًا عن تلك الأفلام التي لا تهدف لشيء أبعد من التسلية.
لنأخذِ الفيلم، للحظات سريعة، إلى ما هو أبعد من التسلية، لنرى فيه صورة إمبراطورية (سياسية ومالية) لا تريد من يذكرها بواقعها؛ وتعجز، بالتالي، عن مواجهة الواقع بفعالية ولا تنظر إلا إلى نفسها أو تحت قدميها.
أو، إن بالغنا قليلًا في أخذ الأمور بجدية، نجد عوارض مثل تلك التي تُلاحَظ في كتاب «أوراق أفغانستان». إذ تعاني الإمبراطورية الأمريكية من شكل من أشكال النرجسية يجعلها تظن أن الواقع سيستجيب لخيالاتها ومعاييرها لا العكس. وكما حدث في خطط الأمريكيين الفاشلة تجاه أفغانستان، فإن صناع القرار في الفيلم يظنون أن تمسكهم بتخيّلاتهم سيغير الواقع، حين يتمسكون بالخطة التي رسمتها الشركة المملوكة للمليونير بيتر إشرويل بشكل أحادي ويرفضون الاستماع إلى مخاوف العلماء أو الالتزام بمعايير المراجعة العلمية؛ أو عندما يختلقون «نموذج محاكاة» ينجحون فيه في تنفيذ خطتهم؛ فإن ذلك يعني بالضرورة أن الواقع عليه أن يستجيب لنموذج المحاكاة الذي اخترعوه؛ أو يظنون أن الواقع سيتغير لو أضفوا عليه أسماء جديدة واختلقوا له عبارات رنانة يختزلونها في كلمات تضم الأحرف الأولى فيما يشبه الكلمات الرنانة (وإن كانوا في الفيلم أكثر ذكاءً من الواقع في اختلاق الأسماء من الأحرف الأولى؛ في حين يذكر كتاب أوراق أفغانستان حالات حاولوا فيها تغيير الواقع باختلاق مسميات واختصارات جديدة، ولكنها فشلت لأن الاختصارات نفسها كانت ثقيلة على اللفظ!)؛ هذه كلها عوارض إمبراطورية نرجسية لا ترى إلا ذاتها ولا تقبل بالواقع أو الرأي النقدي المحايد، وإن جاء من باب الحرص على المركز الإمبراطوري.
لا أريد، في الوقت ذاته، المبالغة في قراءة عوارض اضمحلال الإمبراطورية؛ فالإمبراطورية الأمريكية قد استوعبت، في كثير من الأحيان، نقد الذات، وجعلت منه سلعة فكرية وترفيهية رائجة (بما في ذلك هذا الفيلم نفسه الذي يأتي من قلب الإعلام السائد وبإنتاج وتوزيع نتفليكس وبطولة طاقم متكامل من النجوم)؛ وهذا من عوارض قوتها. ولكنها تعجز في بعض الأحيان أن تستمع إلى هذا النقد أو أن تنظر إلى الواقع وتتعامل معه بجدية، وهذا عامل ضعف قد يصبح من أسباب أفولها.