لم يروا. اختاروا عدم الرؤية. امرأةٌ تُلفُّ نفسها بالحرير تُعنى بجنَّتها -منزلٌ مثاليٌّ بحديقةٍ بديعةٍ تشربُ ورودها من ترابٍ مُلوَّثٍ برماد الموتى- بينما زوجها الصارم والمُتكبِّر يُدبِّرُ آليةَ الموتِ خلفَ جدرانِ ذلك المنزل.
في الليل كانت الأشباح تضغط على النوافذ وتهمس في الشقوق، أما النهر المجاور فيحمل أصداء أسماء مسروقة، والجدران تتنفس بثقل ما لا يُوصف. ومع ذلك في الداخل، كانت الموسيقى تُعزف، وظل عالم المنزل البديع آمنًا. لكن الصمت لم يكن حقيقيًا أبدًا، والحدائق المبنية على القبور لا تُزهر للأبد. هذه خلاصة فيلم «منطقة الاهتمام» لجوناثان جليزر -ذي العمق الفلسفي المُذهل- الذي يجبرنا على مواجهة حقائق مُزعجة حول علاقة الإنسان بالسلطة والشعور بالذنب والإنكار. إنه تأملٌ مُؤرقٌ ومُقلقٌ للغاية في بساطة الشر والتواطؤ والقدرة البشرية على التنافر الأخلاقي.
الفيلم، المُقتبس من رواية مارتن أميس التي تحمل الاسم نفسه والصادرة عام 2014، يستكشف المحرقة اليهودية ليس من خلال ضحاياها أو حتى أبرز مُرتكبيها، بل عبر إعادة تصوير حياة من عاشوا على مقربة منها؛ أولئك الذين تداخلت حياتهم اليومية مع آليات الإبادة الجماعية، لكنهم تمكنوا بطريقةٍ ما من تطبيع وجودهم في هذا الإطار. ومع ذلك فهو لا يلتزم بالنص الروائي على نحو دقيق. لا يصوّر جليزر أهوال معسكر أوشفيتز مباشرةً؛ بل يُركّز على رودولف هوس (يؤدي دوره كريستيان فريدل)، قائد المعسكر (من الرابع من أيار 1940 إلى تشرين الثاني 1943، ومرة أخرى من الثامن من أيار 1944 إلى 18 كانون الثاني 1945)، وزوجته هيدفيغ (تؤدي دورها ساندرا هولر). يعيشان حياةً تبدو مثالية في منزلٍ مُجاور للمُعسكر، لا تقطعها سوى أصواتٍ خافتةٍ من وراء جدار الحديقة: طلقات نارية بعيدة، ونباح كلاب، وصراخٌ يحمله الريح أو بعض أطرافٍ بشرية يجرفها تيار النهر بين الحين والآخر.
لكن الفيلم ليس فيلمًا عن الماضي -وإن كانت أحداثه تنتمي للماضي- بقدر ما هو فيلم عن وباء مستمرّ اسمه التجاور بين الفظيع والعادي وتطبيع البشر لهذا التجاور، ونموذجه الأقسى ما نعيشه اليوم في غزة. حيث تستمر الحياة في نسقها العادي في جوار قطعة أرض محشورة في زاوية التصويب، وقد ألقت فيها آلة الحرب الإسرائيلية-الغربية جحيمًا لو وُزع على سكان العالم لأحرقهم. وقد تحلى مخرج الفيلم جوناثان جليزر بالشجاعة عندما قال في الخطاب الذي ألقاه في حفل توزيع جوائز الأوسكار العام الماضي: «نحن نقف هنا كرجال يرفضون اختطاف يهوديتهم والهولوكوست من قبل احتلال تسبب في صراع راح ضحيته كثير من الأبرياء».
آفة التعّود
في مكان ما من رواية «ذكريات من منزل الأموات»، يقول دوستويفسكي على لسان أحد سجناء معسكر اعتقالٍ في سيبيريا: «الإنسان كائن قادرٌ على أن يتعود على كل شيء، وأعتقد أن هذه أفضل طريقة لتعريفه». ربما تلخص هذه الجملة ما يريد جوناثان جليزر قوله من خلال فيلمه. هذه القدرة البشرية على المضي قدمًا والانفصال عما يجري في الجوار يقف المرء مشدوهًا أمامها.
تبدو حياة رودولف وهيدفيغ المرئية شبه عادية. يعتنيان بحديقتهما، ويقيمان حفلات عشاء، ويدللان أطفالهما. لكن في خيال المشاهد يبدو الرعب حاضرًا في كل مكان، لكنه غير مرئي. ينبعث دخان محرقة الجثث فوق حديقتهم بينما تقطف هيدفيغ الزهور. تقضي أيامها في لقاء أصدقائها والتنزه في حديقة المنزل الجميلة، وتستمتع بمعطف فرو نزع غصبًا من فوق سجينةٍ تحولت إلى رماد. يتداخل صراخٌ بعيدٌ وطلقات نارية مع المشهد الهادئ للطيور والأطفال الذين يلعبون. يستخدم المخرج تصميم الصوت ببراعة ليُطمس الخط الفاصل بين الداخل والخارج، مُولِدًا شعورًا دائمًا بالقلق. يتسلل ضجيج المعسكر المُحيط إلى منزل هوس، فقد كان مُستحيلًا حجبه تمامًا مهما حاولوا. فضلًا عن ذلك، لا تظهر موسيقى ميكا ليفي، الطيفية والرنّانة، إلا بشكل متقطع، وغالبًا عند دخول الفيلم في أكثر لحظاته تجريديةً أو إزعاجًا. يعكس هذا التداخل السمعي استحالة الهروب من التواطؤ. حتى الصمت، في هذا السياق، يبدو مُدانًا. إنه صمت الرضوخ، وصمت الإعراض عند مواجهة حقائق لا تُطاق. وعلى عكس الشخصيات، يدرك المشاهد تمامًا ما يكمن وراء جدران حياتهم المثالية، مما يجعل الفيلم تمرينًا قاسيًا في التنافر.
يظهر هذا التنافر بشكل أقوى في تصميم المكان والمساحة. يُجسّد الحاجز المادي بين منزل هوس وأوشفيتز الحواجز النفسية التي يبنيها الناس لحماية أنفسهم من الحقائق المزعجة. بالنسبة للزوجين النازيين، يُمثّل جدار الحديقة أكثر من مجرد تقسيم للمكان، بل هو حدّ يفصل مجالهم الخاص عن الرعب العام الذي يتكشف على بُعد أمتار قليلة. ومع ذلك فإن هذه الحدود مُخترقة. يتصاعد الدخان فوق السياج، ويستقر الرماد على ملابسهم، وتتسرب صرخات السجناء إلى وعيهم. تشير هذه الاختراقات إلى أنه مهما كانت المسافة -جسدية كانت أم عاطفية- فلا يمكن أن تفصل المرء عن عواقب أفعاله. تُبرز هذه الديناميكية المكانية أيضًا عبثية محاولة الحفاظ على حياة طبيعية في ظل هذه الظروف وعبثية محاولة تجزئة الأخلاق. مهما بدت ورود عائلة هوس جميلة، وحدائقها غنّاء، فإنها لا تستطيع إخفاء رائحة الموت النتنة المنبعثة من الجانب الآخر من الجدار.
من خلال توظيف بارعٍ للصوت والمشاهد الطويلة ينجح جوناثان جليزر في صنع فيلمٍ عما هو غير مرئي ومُتجاهل ومُغفَل عمدًا. بتركيزه على الحياة الأسرية للجناة بدل أفعالهم العنيفة، يُجبرنا جليزر على مواجهة بساطة الشر المُرعبة. وغير المرئي هنا يبدو مركزيًا أكثر من المرئي نفسه. عندما تتأمل في المشاهد الطويلة تنسى بلا وعي بهجة المنزل وألوانه الزاهية، وتسرح للتفكير في الضحايا خلف الجدار. أصواتهم الهاربة ورمادهم في أحواض الورد وزهور دوار الشمس الباسقة.
هذا الفيلم ليس سهل المشاهدة، ولا يُقدّم أي عزاءٍ بالخواتيم السعيدة التي يعاقب فيها الجناة. فهو لا يسعى إلى الخلاص أو إلى خاتمة للأحزان، بل يتركنا مع رعب التعرّف على الرعب. لكن الأكثر رعبًا هو الشكل الذي تظهر به الشخصيات في الفيلم. يبدو سلوك هوس وزوجته عاديًا جدًا؛ فهما ليسا وحشين بشكل واضح كما يظهر النازيون في الأفلام السائدة. هما طبيعيان بشكلٍ مُرعب.
فيلم عن الحاضر
ربما كان السابع من أكتوبر إجابةً تأخرت ستة عقودٍ عن سؤال غسان كنفاني الذي طرحه في «رجالٍ في الشمس» عن أبو قيس ومروان وأسعد: «لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟». في ذلك الفجر غير المسبوق من خريف 2023، دقَ أهل غزة جدران الخزان وانتهكوا حدوده. وعندما وصلتنا الصور الأولى، شاهدنا الجنة والجحيم متجاوريْن. جموع من الناس تخرج من جحيم الحصار نحو فسحةٍ من الأرض ذات منازل ريفية جميلة وحدائق خضراء. يتساءل المرء: كيف عاش هؤلاء سبعة عشر عامًا في حصارٍ لا يطاق، فيما كان «جيرانهم» في المقلب الآخر من السياج يعيشون في شروطٍ تشبه حياة سكان أوروبا وأمريكا؟ وتبدو الحيرة أكثر الحاحًا بعد انطلاق حفلة الموت والإبادة.
ذلك السياج الذي يذكرنا بجدار الحديقة في الفيلم، الذي تنتشر نظائره في كامل فلسطين المحتلة، والتي صُممت ظاهريًا لأغراض أمنية، لكنها في الواقع تُستخدم كأدوات للفصل والسيطرة. هذه الجدران لا تفصل السكان فحسب، بل تُرسّخ هرمية السلطة الاستعمارية، مُشرّعةً تهميش فئة مُعينة ومُفضّلةً أخرى، كما تُذكّرنا باستحالة الانفصال التام، فكما لا تستطيع عائلة هوس الهروب من عواقب قربها من أوشفيتز، لا يستطيع المجتمع الإسرائيلي التحرر تمامًا من العبء الأخلاقي للسياسات التي تُديم الاحتلال والتهجير.
في مقالةٍ كتبتها عن فيلم «منطقة الاهتمام» في الغارديان، تقول نعومي كلاين، «إن كل من أعرفهم ممن شاهدوا الفيلم لا يفكرون إلا في غزة»، وهذا لا يحتاج جهدًا لإدراكه. تهجم صورة أطفال غزة وأشلاء الضحايا على المشاهد كالمخرز. فكما تستفيد عائلة هوس ماديًا واجتماعيًا من قربها من معسكر أوشفيتز، يستفيد المستوطنون الإسرائيليون من سياسات تحرم الفلسطينيين من حقوقهم، سواءً بوعي أو بغير وعي. وقد أكد جوناثان جليزر مرارًا أن موضوع فيلمه ليس المحرقة، مع أهوالها المعروفة وخصوصياتها التاريخية، بل شيء أكثر ديمومة وانتشارًا، وهو القدرة البشرية على التعايش مع الإبادة والفظائع الأخرى، والتصالح معها، والاستفادة منها. يُؤطّر جليزر السرد بطريقة تكاد تكون خالدة، متجنبًا التواريخ أو العلامات التاريخية المحددة. هذا النهجّ يُجرّد القصة من خصوصيتها الزمنية، مما يسمح لها بأن تُصبح مساءلةً للطبيعة البشرية بدل أن تكون عملًا تاريخيًا يقتصر على الحرب العالمية الثانية.
إن انعكاس الفيلم على غزة ليس مباشرًا، ولكنه لا يُنكر. فهو يُجبرنا على مواجهة سهولة تطبيع الرعب، وكيف تُصوَّر المعاناة كضوضاء خلفية، وكيف يُبرر أصحاب السلطة تواطؤهم، وكيف يخاطر البشر بخسارتهم أنفسهم عندما يتجاهلون تلك الأصوات التي تأتي من خلف الجدران، وذلك الدخان الذي يتصاعد من بعيد ولا يُحركون ساكنًا. يتحدانا جليزر لمواجهة أدوارنا في إدامة الظلم، ليس كمراقبين بعيدين، بل كمشاركين فاعلين في تشكيل العالم الذي نعيش فيه، مذكرًا بقوة بأن الخطر الأكبر لا يكمن في الوحوش التي بيننا، بل في خياراتنا اليومية الهادئة بالتغاضي عن الواقع.
لكن أكثر اللحظات إثارةً في «منطقة الاهتمام» هي القفزة المفاجئة نحو الحاضر، عندما يظهر العمال البولنديون فجأةً وهم بصدد ترميم أنقاض أوشفيتز بعد عقودٍ من المحرقة. تُزعزع هذه اللحظة السرد التاريخي، وتُذكّرنا بأن الماضي ليس ماضيًا منتهيًا كما نعتقد، وأن أماكن المعاناة هذه لا تختفي برحيل الجناة أو باندثار الضحايا، وهنا يتردد صدى الفيلم في غزة. فالتاريخ ليس ثابتًا، بل يقبع في الأنقاض وفي الذاكرة، وفي الهياكل التي خلّفتها قوى الهيمنة. وكما أن معسكر أوشفيتز لا يزال موقعًا للتشهير والعقاب والمحاسبة، فإن أنقاض غزة ستظل شاهدًا ومكانًا للعقاب التاريخي، لذلك تسعى هذه القوى إلى محو المكان وإعادة بنائه على نحو جديد لطمس آثار الجريمة، حتى تبقى الإبادة بلا قبرٍ يُزار.