ليس ثمة حرق للأحداث في هذا المقال، لأن هذا المسلسل لا أحداث فيه؛ فقط سلسلة من الكليشيهات المكررة.
يُقدم مسلسل «إيميلي في باريس» جولةً بصرية مبهرة ومواقف كوميدية خفيفة، مدحها متابعوها قائلين إنه يمكن مشاهدتها بحلقاتها الـ10، في يوم أو يومين. اعتمد المسلسل، الذي أنتجته نتفلكس وألّفه دارين ستار (الذي قدم من قبل المسلسل الشهير «الجنس والمدينة») على سلسلة لا تنتهي من الكليشيهات البصرية والروائية، والصور النمطية، السلبية غالبًا، عن الأمريكيين في بعض الأحيان وعن الفرنسيين في معظم الأحيان.
ربما لا يعنينا ذلك الصراع في التنميط بين إمبراطورية حديثة مهيمنة وأخرى آفلة ما زال لها نفوذها الاستعماري، وربما اعترتنا السخرية ونحن نرى الأوروبيين البيض يشكون من تنميط الإعلام لهم وكأنه حدث غير مسبوق (والسينما الفرنسية لم تكن بريئة من تنميط غير الأوروبيين والعرب عمومًا، بما في ذلك الموجة الحديثة التي يفترض أن تكون راديكالية، وحتى جان لوك جودارد، الذي انحاز فيما بعد للقضايا التحررية وأصبح معاديًا للصهيونية بعنف، قدّم في بداياته رؤية رجعية للصراع في الجزائر، تدين الاحتلال الفرنسي والإرهاب اليميني بمقدار انحدارهم لمستوى وحشية الجزائريين، في فيلمه «الجندي الصغير»). وربما رأينا في تنميط الغربيين لبعضهم البعض بدل تنميطنا نحن نوعًا من الهدنة لنا. إلا أن المشكلة هي عندما تقتحم الصور النمطية الأمريكية عقولنا ومخيّلتنا وتفرض علينا منظورًا نرى العالم من خلاله.
لا يعتذر دارين ستار عن هذا التنميط، الذي يراه مقدمة لـ«رسالة حب» إلى مدينة باريس؛ ويقول إن الجزء الأول لا بدّ وأن يمتلئ بكليشيهات الأمريكيين عن الفرنسيين، لأننا نرى المدينة والأشخاص والأحداث من وجهة نظر بطلتها إيميلي، أما الجزء الثاني، فسيكون أكثر حيادًا في تصوير جماليات باريس، لأن إيميلي ستكون قد تعرفت على المدينة وتجاوزت صورتها النمطية.
المشكلة أن هذه الرؤية تجعلنا دون أن ندري متواطئين مع إيميلي في انحيازاتها الأمريكية، وفي فوقيتها التي تفترض صوابية ما هو أمريكي وترى ما ينحرف عن المعيار الأمريكي عدوانًا عليها وعلى ثوابتها. وإن كان ستار يريد لنا أن نرى باريس جميلة بعيون أمريكية، فإن المشكلة هي أن شبكة الإنتاج والتوزيع التليفزيوني والسينمائي تريد لنا أن نرى باريس والعالم بأسره بعيون أمريكية ولا نراه إلا من خلال هذه العيون.
استحواذ باريس
يقتحم المسلسل باريس بإيميلي القادمة من شيكاغو، والتي تمثل نموذجًا من الانغلاق الأمريكي لا يعرف أي لغات سوى الإنجليزية، ولا يعرف أي شيء عن ثقافات العالم حوله أو يبدي استعدادًا للتعرف عليها. وتغدو خصوصيات المدينة، إن شذت عن الخصوصية المعيارية الأمريكية، عدوانًا على الفتاة الأمريكية التي لا تبدي مرونة، في المقابل، لتتأقلم مع هذه المدينة.
فتنزعج الأمريكية، على سبيل المثال من أنهم لا يتكلمون الإنجليزية (رغم أن من حولها يبذلون مرونة غير واقعية للحديث أمامها بالإنجليزية، ولكن يبدو أن إيميلي تظن أن العالم كله يجب أن يستعد للأمريكية قبل مجيئها، وينظم حياته حول احتمال مجيئها)، وتنزعج من اللغة الفرنسية نفسها (التي لا تبذل جهدًا يذكر في تعلمها). بل إنها حين كانت في ضيافة صديقتها انفجرت في مضيفيها صارخة بأن لغتهم محيرة؛ بعد أن تكتشف أن شقيق صديقتها الذي ضاجعته قد أنهى لتوه المدرسة لا الجامعة (لأن لفظة college قد تعني المدرسة أو الجامعة بالفرنسية). لا تنم عصبية إيميلي هنا عن عنجهية أمريكية تطالب اللغة الفرنسية بأن تنساق لقواعد اللغة الإنجليزية وتوقعات المتحدثين بها فحسب، ولكن تنم كذلك عن جهل باللغة الإنجليزية نفسها، إذ تستخدم كلمة college في بريطانيا في سياقات معينة لتعني المدرسة. وبدلًا من أن تعترف بأنها قد ضاجعت شابًا قاصرًا في عرفها الأمريكي، تجعل من نفسها ضحيةً اللغة الفرنسية التي لا تحترم قواعد اللغة الإنجليزية ولا تراعي عدم فهم الأمريكيين لها.
هذا النسق الاستحواذي يختزل جماليات باريس فيما يمكن أن تستهلكه الزائرة الأمريكية؛ ويُفقِد العالمَ أي قيمة خارج استحواذ الأمريكيين عليه أو استهلاكهم له.
تنبهر إيميلي بباريس وشوارعها التي تلتقط لها الصور، ولكن بعد أن تضع نفسها في مركز معظم هذه الصور. كما تنبهر ببعض أنواع الطعام الفرنسي، الذي تلتهمه في نهم وتلتقط له الصور كذلك. وفي إحدى هذه الصور، التي أخذتها إيميلي بتقنية الصورة المتحركة التي تظل تكرر نفسها، نراها تنهش قطعة من المعجنات، فنشعر أن باريس كلها تركزت فيما يمكن للأمريكية أن تنهشه، وأن الزمن كله تكّثف في هذه اللحظة التي تعيد نفسها إلى المالانهاية، وأن الزمان والمكان خارج استهلاك الأمريكية له قد أصبح هامشيًا. هذه الصورة تمثل علاقة إيميلي بباريس خير تمثيل.
لا يخلو انبهار إيميلي بباريس من الاستحواذ: الاستحواذ عن طريق المجال البصري الذي يمتد إلى المناظر النمطية لباريس ويهمش ما عداها، وعن طريق الكاميرا التي تلتقط الصور (أحيانًا لغرباء دون أخذ إذنهم رغم أن هذا ينافي القوانين الفرنسية، خاصةً أن بعض هذه الصور تتضمن أطفالًا)، وعن طريق وسائل التواصل الاجتماعي التي تبث عليها إيميلي هذه الصور مع وسوم تضفي أحكامها الخاصة، إيجابية أو سلبية، على المدينة. ومن اللحظة الأولى التي تنبهر فيها بالمنظر من شقتها تقول إنه يذكرها بفيلم مولان روج؛ كأن باريس لا يمكن أن تُرى إلا من خلال العدسة الأمريكية، ولا تُفهم إلا بمفردات أمريكية، وكأن باريس التي اختلقتها السينما الأمريكية هي الأصل، وباريس المادية التي يزورها الناس أو يعيشون فيها هي النسخة، وكأن المدينة مطالبة بأن تلتزم بصورتها الأمريكية وأن تقدم نفسها بذوق وسلاسة للمشاهدين/الزوار الأمريكيين.
وبالفعل تشكو إيميلي من أن المدينة ليست منسقة على طريقة المدن الأمريكية الكبرى بشكل متسلسل وتقول: «إن هذه المدينة قد أعدت حرفيًا لتحيّرنا»، كأن الأمريكي يجب أن يكون في مركز إنشاء المدن الأخرى.[1] وكأن باريس، واللغة الفرنسية، والعالم بأسره، مطالبون بإعاد تشكيل أنفسهم لملائمة الأمريكيين.
وبالفعل يعيد العالم تشكيل نفسه ليلائم إيميلي (التي لا تتأقلم ولا تتغير طوال المسلسل)،[2] لتغدو هي مركز الكون. فما إن تصل إيميلي إلى باريس حتى تجذب انتباه كل الرجال، من أول سمسار العقارات إلى رب العمل إلى زبائنها في العمل، ويحاولون جميعًا مغازلتها ومواعدتها، بمن فيهم المتزوجون والمرتبطون بعلاقات مع نساء أخريات.
تبلغ المركزية الأمريكية مداها في الحلقتين الأخيرتين، حينما تزعزع تصرفات إيميلي ثقة مصمم أزياء فرنسي بنفسه (يفترض أن يكون مصممًا شهيرًا)، إلى درجة يكفّ فيها عن العمل ويفكر في الاعتزال قائلًا بأن عمله لم يعد له معنى. ثم تلهمه إيميلي لا ليقوم من عثرته فحسب، بل ليقوم منها برؤية جديدة قائمة على تثوير رؤيته القديمة والسخرية منها (ويقدم هذا التثوير كما لو كان بدعة أمريكية لم يعرفها الفرنسيون حتى جاءتهم الشابة الأمريكية بها)، كأن شابة أمريكية ساذجة قادرة وحدها على دفن المشروع الفني لمصمم أزياء فرنسي ثم بعثه من جديد.
وفي الحلقة الأخيرة أيضًا، وبعد أن تظن إيميلي أنها طُردت من عملها وأنها عائدة إلى أمريكا، يقول جارها غابرييل (الذي يفترض أنه كان مقيمًا في باريس لفترة طويلة، وأن لديه أحلامًا بامتلاك مطعم في باريس ولديه حبيبة باريسية تركها طبعًا لأجل إيميلي) إنه سيعود إلى مسقط رأسه في نورماندي، ويقول وهو يختلس النظر إلى إيميلي «لم يعد لدي ما أبقى في باريس لأجله» فكأن باريس تفقد أي معنى خارج وجود الأمريكية فيها.
هذا النسق الاستحواذي يختزل جماليات باريس فيما يمكن أن تستهلكه الزائرة الأمريكية؛ ويُفقِد العالمَ أي قيمة خارج استحواذ الأمريكيين عليه أو استهلاكهم له، ولا يقدم باريس -والعالم من ورائها- كبيئة تنمو فيها الأمريكية وتتعلم منها وتتفاعل معها، ولكن كمجموعة من الملذات التي تنهشها نهشًا، أو «كمحارة تفتحها بسيفها».
محارة الأمريكي
يقال «العالم محارة فلان»، أي أن العالم مليء أمامه بالفرص التي يستطيع الاستحواذ عليها كما شاء؛ وإذ يُكثِر الأمريكيون من استخدام هذا المثل، فإنه يشي بشعورهم بالاستحقاق وبأن العالم ساحة مفتوحة لهم، حقهم الطبيعي والمباشر الاستحواذ عليها. إلا أن الجملة تشي كذلك بالعنف الذي يستحوذون به على العالم، إذ لا تُفتح المحارة إلا عنوةً. (وأصل العبارة قاطع طريق أرعن -من حثالة القوم- يقول مهددًا بنهب الركبان: «إذن، فالعالم محارتي، أفتحها بسيفي!»، في مسرحية «الزوجات الهانئات في وندسور» لوليم شكسبير).
يسخر المسلسل بعض الشيء من هذا النمط الأمريكي، ولكنه يستحثّنا أن نتعاطف معه، وأن نشعر بالشفقة نحو إيميلي حين يعاقبها العالم حولها على هذا الغرور الأمريكي.
وكما يظن الأمريكيون أن العالم بأسره محارتهم، تظن إيميلي أن العالم محارتها المستحقة بسبب أمريكيتها، وأن من حقها المجيء إلى باريس دون مؤهلات أو مجهود، ودون حتى أن تتعلم الفرنسية، ثم تفرض نفسها ووجهة نظرها على شركتها هناك بحجة أنها بذلك تقدم لهم وجهة النظر الأمريكية، وأنها «العيون والآذان الأمريكية» (أي أن ما يؤهلها لهذا المنصب ليس دراستها أو خبرتها أو حتى مهارتها؛ كل ما يؤهلها هو أمريكيتها).
تفتح إيميلي باريس وتستحوذ عليها مسلحة بالفوقية الأمريكية، فلا تكتفي بالتذمر من كل ما يشذّ عن الطريقة الأمريكية، وإنما تذهب أبعد من ذلك، فتلقّن من حولها دروسًا في أخلاقيات العمل وفي خدمة العملاء وفي النسوية والصوابية السياسية، ولا تستحي من استخدام مصطلحات متعالية مثل «آن الأوان لأن ألقنهم درسًا في خدمة العملاء» أو «وددت لو بقيت وأعطيتكم درسًا عن التحرش الجنسي في مكان العمل» (لا تخجل من استخدام كلمة (educate)، كأن المعرفة بهذه الأشياء هي ميزة أمريكية حصرية).
يسخر المسلسل بعض الشيء من هذا النمط الأمريكي، ولكنه يستحثّنا أن نتعاطف معه، وأن نشعر بالشفقة نحو إيميلي حين يعاقبها العالم حولها على هذا الغرور الأمريكي، ثم تعرض أحداث المسلسل انتصار هذا الصلف الأمريكي، ونجاحات إيميلي في هذه المدينة الغريبة ووسط هذه الثقافة المعادية، دون أن يكون لديها أي مؤهلات سوى «وجهة النظر الأمريكية» التي تشهرها في وجه كل من يسألها عما تفعله في باريس.
إيميلي والفرنسيون ونحن
وفي مقابل ثرثرة إيميلي التي لا تتوقف، يمنح المسلسل الفرنسيين هامشًا لتقديم وجهة نظر مغايرة، وإن ظل هذا الهامش مختزلًا وكاريكاتوريًا، ولا يرقى لتحدّي المعايير الأمريكية السائدة.
لكن المشكلة التي تعنيني هنا، مرة أخرى، ليس التهميش الذي يطال ثقافة إمبراطورية أوروبية آفلة (وإن كان يعنيني طبعًا أن هذا التهميش يمارس لصالح إمبراطورية أمريكية مهيمنة)، ما يعنيني أساسًا هو أن الحوار حول القيم والمعايير والجماليات، الذي يُقَدَّمُ لنا بـ«عيون وآذان أمريكية»، يجعل كل القيم والمعايير والجماليات، بمهيمنها ومضادها، غربيةً حصرًا، بما لا يدع مجالًا، ولا حتى على الهامش، لمجموعة قيم، أو معايير، أو جماليات، ليست أورو-أمريكية أو بيضاء. ولنا أن نتخيل لو كانت وجهة النظر المغايرة لوجهة النظر الأمريكية عربيةً أو أفريقيةً، إذن لظهرت أكثر همجية وتخلفًا، ولأُعطِيت الأمريكية السلطةَ لقمع وجهة النظر المغايرة بكل وسائل العنف المعنوي والمادي إذا لزم الأمر.
لنا أن نتخيل لو كانت وجهة النظر المغايرة لوجهة النظر الأمريكية عربيةً أو أفريقيةً، إذن لظهرت أكثر همجية وتخلفًا، ولأُعطِيت الأمريكية السلطةَ لقمع وجهة النظر المغايرة.
هذا المسلسل يسقط من جماليات باريس ومجتمعها وطعامها الذي تلتهمه إيميلي كل محتوى ليس أوروبيًا أبيض. في وسط هذا التنافس الإمبراطوري على الجماليات والذائقة، وهذا الحوار، الذي يفترض أن يكون مضحكًا، ما بين الصور النمطية عن هذا الطرف أو ذاك، نجد آخري الإمبراطورية غائبين بشكل غريب، ونرى ذوي الأصول غير الأوروبية وغير البيضاء منفيين من السياق الباريسي. فأين مرقاز المغاربة وأين شاورما الشوام وأين الفلافل والكُسْكسي، التي أصبحت كلها من معالم جغرافيا الطعام في باريس؟ أين الألفاظ العربية-المغاربية التي أصبحت تزين لغة الفرنسيين الدارجة فلا يخلو منها أي حديث؟
المسألة هنا طبقية بقدر ما هي عرقية وثقافية؛ ما نلاحظه هنا هو أن مؤلف هذا المسلسل يعمد إلى المجتمعات المتنوعة فينزع منها «الآخرين» الذين ينتمون إليها ويجعل منها مجتمعات ثرية بيضاء منغلقة على طبقيّتها وعنصريتها. ففي مسلسل «الجنس والمدينة»، ورغم أن المسلسل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمدينة نيويورك التي تدور أحداثه فيها وترتبط بإيقاعها (وهي «المدينة» التي يشير إليها عنوان المسلسل)، ينزع هارليم من مدينة نيويورك سودها ولاتينييها وأسواقها الصاخبة وفقرها وتراثها الاحتجاجي، ولا يقدم نيويورك في معظم الأحيان إلا بيضاء ثرية.
وبنفس الطريقة فإن مسلسل «إيميلي في باريس» يعمد إلى باريس متعددة الطبقات والثقافات والأعراق، فينزع منها ضواحيها بعربها، وأفارقتها، وآسيوييها، ما خلا شخصًا أسود واحدًا، يبدو مستعارًا من المسلسلات الأمريكية أكثر مما يبدو فرنسيًا، ويظهر أشبه بالصور النمطية الكوميدية للسود، وللسود المثليين تحديدًا، في محاولة ربما لترويض الخيالات الأمريكية عن ذكورة السود وخوفهم منها، وباستثناء آسيوية واحدة تتحدث الإنجليزية بلهجة كاليفورنيا وتردد الدعاية الأمريكية ضد الصين، فتقول لإيميلي «لا يمكنك أن تعاقبي الناس على أفكارهم، لقد حاولنا في الصين وفشلنا»، والمفارقة أنها تقول ذلك وسط مسلسل يملي على الناس ما يجب أن يفكروا فيه، وعلى شبكة نتفلكس التي اشتهرت بإصرارها إملاء مفردات الصوابية السياسية الأمريكية على الناس، ولكن الصين، لا أمريكا، هي من تحاول أن تتحكم في أفكار الناس.
هذا الإلغاء لآخري الإمبراطورية من السياقات التي يوجدون فيها في الحياة الطبيعية، والذي يتطلب من مشاهدي المسلسل من غير الأوروبيين أن يلغوا أنفسهم من مخيلتهم التي يعاد تشكيلها من وجهة نظر أمريكية، يستوجب منا نحن مشاهدةً نقديةً. لا أطالب هنا، طبعًا، بتمثيل عادل للأقليات، فتجربتنا مع الإعلام الأمريكي تقول بأن «تمثيل الأقليات» من شأنه أن يؤدي إلى المزيد من التنميط لهم بحجة تمثيلهم، أو في أفضل الأحوال، إلى تجميل الإمبراطورية الأمريكية بتصويرها إمبراطورية متعددة الأعراق والثقافات. ولا أدعو أيضًا إلى مقاطعة نتفلكس أو عدم مشاهدة هذا المسلسل. وإنما أدعو إلى مشاهدة نقدية وواعية، تفطن إلى ما تحمله أكثر أعمال التسلية سطحيةً من رسائل إمبريالية، وأن يصبح هذا النقد جزءًا من تسليتنا ونحن نشاهد مثل هذه الأعمال.
-
الهوامش
[1] طبعًا لا يفوتنا هنا أن الذي سمح للأمريكيين بأن ينسقوا مدنهم الكبرى كنيويورك وشيكاغو بشكل سلس ومتسلسل هو أنهم ذبحوا وطردوا سكان هذه المدن، واستلموا أراضٍ خاويةً تمكنوا من تخطيطها قبل ملئها، ولم تنمُ مدنهم بنمو سكانها كما حدث في باريس، وإن كان لا يفوتنا كذلك العنف الذي مارسه جورج- يوجين أوسمان في إنشائه لباريس الحديثة، إذ مارس العنف المادي ودكّ باريس القديمة بالمدافع أثناء ثورة 1848، ثم العنف الرمزي والبنيوي حين أعاد تخطيط شوارع المدينة في طرقات عريضة كي لا يستطيع الثوار بعد ذلك أن يتمترسوا فيها.
[2] بالإضافة إلى الرمزية السياسية لهذا الجمود في الشخصية، فثمة عيب كبير في كتابة إيميلي كشخصية مسمطة لا تتفاعل مع العالم حولها، ولا تتأثر بما يحدث لها. وحتى حين يتركها صاحبها، الذي كانت تصفه بأنه يكاد يكون خطيبها، لا نراها تتأثر ولو في مشهد واحد. هذه الكتابة الرديئة نستطيع أن نقرأها كذلك كمجاز عن الشخصية الأنانية التي تصنعها الفردانية الحديثة، فتظن أنها قادرة أن تعزل نفسها عن محيطها، وكذلك كمجاز عن الانغلاق الأمريكي الذي لا يريد أن يتأثر بالعالم بينما يؤثر فيه.