يحتوي المقال حرقًا لبعض أحداث سلسلة الروايات والمسلسل.
انتظر قرّاء سلسلة ما وراء الطبيعة هذه اللحظة طويلًا، ربما قبل أن تخرج شركة نتفليكس نفسها إلى النور؛ إذ كان تحويل سلسلة الروايات إلى مسلسل حلمًا من أحلام كاتبها الراحل أحمد خالد توفيق. وهكذا صاحب إصدار المسلسل حالة استنفار عاطفيّ، اختلطت فيها الحماسة لتحقيق الحلم بالتحفّز، بل وإعلان خيبة الأمل مسبقًا، من المسلسل الذي لا بد وأنه لن يرقى إلى مستوى الحلم.
وفي المقابل بدا الكثيرون ممن لم يقرؤوا الروايات حائرين، ليس فقط أمام الحالة العاطفية ذات الشجون التي يمر بها قراء الروايات، وإنما أمام المسلسل نفسه. ملاحظتي الأولى هي أن المسلسل، على محاسنه ومساوئه، لم يستطع أن يقدم نفسه كعمل مستقل بذاته بمعزل عن الروايات. لذا لن يكون ممكنًا أن نقدم قراءة في هذا المسلسل لا تأخذ في الحسبان سلسلة الروايات، ولا أن نقدم قراءة بمعزل عن الانحيازات والعواطف المصاحبة للسلسلة وله، خاصةً أن كاتب هذه السطور من الذين قرؤوا لأحمد خالد توفيق وأعادوا قراءته في مراحل عمرية وفكرية مختلفة، ومن الذين يحملون له تقديرًا كبيرًا ونقدًا عميقًا وعنيفًا في الوقت ذاته.
وكأحد قرّاء الروايات أقول إننا شعرنا ونحن نشاهد الممثل أحمد أمين في المسلسل وكأننا بالفعل نشاهد رفعت إسماعيل الذي عرفناه في طفولتنا. من حيث المظهر الخارجي، أحسن عمرو سلامة وأحمد أمين وفنانو الماكياج والأزياء الذين جعلونا نشاهد بطل المسلسل كأنه رفعت إسماعيل الذي وصفه أحمد خالد توفيق ورسمه إسماعيل دياب (الرسام المبدع الذي كانت صوره تزين السلسلة وتساهم في تخيلنا لرفعت إسماعيل وعالمه). هذا التماهي شمل أيضًا الكثير من الصفات الخارجية الأخرى: التدخين «كقاطرة»، النحافة «كدودة الإسكارس»، وغير ذلك من المفردات التي عهدها قرّاء السلسلة، والتململ والسخط الواضحين.
ومن الواضح أن الممثل والمخرج قد «أديا واجبهما» جيدًا للإمساك بمفاتيح الشخصية، بالذات في خلق حالة من الحوار الداخلي الساخر والسوداوي الذي يناسب شخصية رفعت إسماعيل، بل إن بعض الجمل التي أضافوها تبدو كأن رفعت إسماعيل الذي عرفناه من الروايات هو الذي قالها.
صحيح أنهم أحدثوا تغييرات جذرية في الشخصية؛ فأسقطوا، على سبيل المثال، ولع رفعت إسماعيل (ومن ورائه كاتب الروايات) باللغة العربية وتراثها، ومحوا تمامًا الجانب الإيماني الذي كان أحمد خالد توفيق حريصًا على إظهاره؛ فتحول سخط رفعت إسماعيل إلى حالة عدمية كارهة تمامًا للحياة (في الروايات مثلًا كان رفعت إسماعيل يخشى الموت لأنه يخشى الحساب، وكان يكرر أن عمر بن الخطاب نفسه كان يخشى الموت لذات السبب، في حين أن رفعت في المسلسل يعتبر «صفحة الوفيات» صفحته المفضلة في الجرائد لأنها الصفحة التي تطمئنه إلى تناقص أعداد البشر)،[1] وامتدت هذه الحالة العدمية الكارهة لِتُحَوِّل سخط رفعت إسماعيل ومزاجه السوداوي إلى حالة من العجرفة على من حوله. هذه التغيرات، وإن صنعت لرفعت إسماعيل في المسلسل عالمًا نفسيًا يختلف عن الروايات، إلا أنها كانت في معظمها متسقة مع بعضها، وقدمت لنا على الشاشة شخصيةً متكاملة.
وحتى حينما لم يبرر المسلسل بشكل كافٍ عدمية رفعت إسماعيل وكرهه لذاته وللعالم المحيط به، فإن ذلك لم يحل دون الاستمتاع بالمسلسل، بل على العكس، إذ كان بالنسبة لي على الأقل، حافزًا للمشاهدة لاكتشاف دخائل نفسية رفعت والوقوف على أسباب سوداويته. بل إنني أزعم أنّ كلّ هذه التغييرات، حتى وإن أزعجت في بعض الأحيان عشّاق الروايات، لم تحل دون الألفة التي تشكلت بيننا وبين أحمد أمين.
إلا أن المعضلة الأولى جاءت عندما قابلنا ماجي.
ماجي من؟
منذ أن ظهرت على الشاشة –حتى في إعلانات المسلسل قبل عرضه– اشتكى قرّاء الروايات من أن ماجي التي يرونها لا تشبه ماجي التي وصفها أحمد خالد توفيق، لا في جمالها ولا رقتها ولا شخصيتها الجذابة، ولا الهالة المثالية التي أضفاها رفعت إسماعيل عليها، بينما تساءل الذين لم يقرؤوا الروايات عن ماجي ودورها في الأحداث، وسبب وجودها في المسلسل من الأساس، ولماذا هي أجنبية.
طبعًا كل هذا يشي بخلل معين في كتابة المسلسل، نزع ماجي من مركزيتها الروائية والرمزية، وأبقى عليها دون أن يمنحها دورًا بديلًا أو يمنح وجودها مبررًا، لتصبح وزنًا زائدًا، أو ربما أرادوها وجهًا جميلًا فحسب؛ وإن كان المسلسل لم يحتج إلى ماجي (رزان الجمال)، إذ كفتهم آية سماحة ذلك وهي تلعب باقتدار دور هويدا، خطيبة رفعت لوقت قصير، التي لا يجد توافقًا معها ربما لأنها طبيعية أكثر من اللازم، والتي أحسنوا عملًا بجذبها من أطراف الرواية إلى مركز الأحداث. إلا أنني أرى صنّاع المسلسل قد أحسنوا كذلك إذ انتزعوا ماجي من مركز الأحداث ومن الهالة التي أضفاها أحمد خالد توفيق -رفعت إسماعيل- عليها.
ماجي هي حب حياة رفعت إسماعيل منذ كانا يدرسان الطب معًا في بريطانيا، وإذ تدور أحداث الروايات بين عالمين، أحدهما مصري صرف والآخر غربي وأوروبي، فإن ماجي تلعب دورًا مهمًا في ربط رفعت بهذا العالم الغربي، ومن خلالها يدخل رفعت إلى عالم الأساطير الأسكتلندية.
المسألة ليست حالةً خاصةً برفعت إسماعيل، ولا مجرّد اعتراف بسيادة الجماليات الأوروبية وانجذاب غير الأوروبيين لها، وإنما هي نمط عاطفي ومعرفي يخون قناعات البطل (والكاتب) المعادية للاستعمار.
إلا أن دورها الأكبر هو بالتأكيد رمزيّ ونفسيّ. فهي الحبّ المستحيل الذي يظلّ جميلًا ومثاليًا وأسطوريًا لأنه لم يلوّث بالواقع، وهي الحلم بعيد المنال الذي يحاول رفعت دائمًا الوصول إليه، وتصيبه سعادةٌ غامرةٌ كلّما اقترب منه، ليكتشف بعد ذلك أن الحلم ما زال بعيد المنال فيظلّ حلمًا. أو كما تقول ماجي نفسها «أجمل ما في علاقتنا هو أننا متباعدان، ومن عالمين مختلفين. ومهما امتدّ الزمن، يعرف كلّ منّا أن الآخر يحبه حقًا. يحترمه حقًا. يقبل الموت من أجله حقًا. إن زواجنا يعني المخاطرة بهذه الصلة الروحية الرائعة، التي قد تتحول إلى لعنات متبادلة».[2] بُعدُ ماجي عنه، إذن، وانتماؤها إلى عالم مختلف، هو السبب في هذه الصلة الروحية الفريدة.
هذه الصورة المثالية التي يجب أن تظل بشكل ما بعيدة، والتي تقدم للمتطلع إليها وعدًا بالسعادة والكمال، يظلّ بالضرورة وعدًا مؤجلًا أبدًا، تذكّرنا بنظريات التحليل النفسي التي تجعل هوية الإنسان قائمة على صورة مثالية، تبدأ، بحسب جاك لاكان، عندما يتعرف الطفل، عادةً في شهره الثالث، على صورته الكاملة لأول مرة في المرآة ووعيه لأول مرة بالكمال، فيظل بقية حياته يبحث عن صورة تشعره بالكمال الذي منحته إياه صورة المرآة الأولى تلك.
وكأن رفعت يصف هذه الصورة الذهنية المثالية، التي تملك حياته وكيانه، والتي ينهار كيانه دونها، حين يقول «لقد أفسدت ماجي حياتي تمامًا. صورتها تطاردني كلّما بدأت مشروع زواج أو خطبة. وكنت أحاول أن أتحرر من أسرها، لكنّها كانت تملك كلّ حواسي وأفكاري. عندها كان كل شيء يتحطم».[3] ماجي هنا هي صورة مثالية تحلّ محلّ صورة المرآة المثالية المفقودة وتنظم كيان رفعت وسعيه نحو الكمال.
ولكي تكتمل الاستعارة النفسية، فإن ماجي لا تحلّ فقط محل الصورة الذهنية المثالية ولكنها تحلّ، بشكل ما، محل الأم. يقول رفعت عن ماجي في نفس السياق «كان علماء النفس يقولون دومًا إن ارتباط الطفل الزائد بأمه يسبب فشله في أي علاقة مع الجنس الآخر حين يكبر.[4] وقد كانت ماجي أمًا لي، أمًا وأختًا وصديقةً وحبيبة. وغدا من المستحيل أن أجد سواها. لأنه لا توجد سوى واحدة فقط».[5]
إلا أن ثمة مشكلة كبيرة حين يغدو هذا الوجه المثالي والمحبوب الذي «يزداد وضوحًا كلما ابتعدا» (إن جاز لنا أن نقتبس من بردة تميم في هذا المقام) امرأة أجنبية، وأن تربطه بهذه المرأة الأجنبية صلة روحية وحضارية وعاطفية لا يجدها مع بنات وطنه، (يقول حرفيًا «لا أجد ذكاءها وتجددها في الكون من حولي»، وإن كان يقصد هنا الكون كافةً فإننا لا نملك إلا أن نعقد المقارنة ما بين «ذكائها وتجدّدها»، وما بين المجتمع المصري المباشر حوله الذي لا يجد فيه ما تمنحه المرأة البريطانية البعيدة).
المشكلة هنا لا تقتصر على تغليب المعايير الجمالية والثقافية الأوروبية على ما عداها؛ المشكلة الأكبر هي دور المرأة البيضاء في منح الكمال للرجل الأسمر، أي أن تصبح الصورة التي تنظم هوية الرجل الأسمر وتعده بالكمال هي صورة المرأة البيضاء أو فكرة الارتباط بها.
هذه الإشكالية تظهر بشكل أكبر في سلسلة روايات سافاري التي كتبها أحمد خالد توفيق كذلك. ففي هذه السلسلة يذهب الطبيب المصري علاء عبد العظيم إلى الكاميرون، ضمن فريق إغاثة طبيّ معظمه من الأوروبيين، لتنشأ علاقة حب –على نفس المستوى الروحي والحضاري الذي يميز علاقة رفعت بماجي- بينه وبين امرأة أجنبية شقراء أخرى، هي برنادت الكندية، التي تقدم المثالية والكمال هي الأخرى لبطل الروايات المصري. يذهب المصري، إذن، إلى وسط إفريقيا فلا يحب إلا امرأة من أقصى الشمال، ولا يجد هذا التواصل الروحي والثقافي إلا مع الأجنبية الشقراء. وإذ لا يظهر الأفارقة السود في الأغلب سوى كمساعدين للأطباء والعلماء الأجانب (والعرب)، أو مساكين يتلقون المساعدة من هؤلاء، أو عصابات ومجرمين (وإن كان، للأمانة، قد أكد على دور أوروبا في خلق هذه الحالة الإجرامية والفقيرة المهترئة)، فإن علاقة برنادت بعلاء تطمئنه على تحضره وسط هذا التوحش الإفريقي، وتؤكد على انفصاله عن إفريقيا السوداء، وعضويته في مجتمع المنقذين البيض الذين جاء معهم لتقديم المساعدات الطبية.
ورغم أن أحمد خالد توفيق وعلاء عبد العظيم لا يتوانيان عن معاداة الاستعمار ونقده وتحميله مسؤولية حال إفريقيا وحالنا نحن العرب، فإن علاقة علاء عبد العظيم بوحدته الطبية وزوجته الأجنبية، تجعل المصري في الكاميرون لا إفريقيًا شماليًا في وسط إفريقيا، ولكن مستوطنًا أبيض ضمن مجتمع الأجانب–المُنقِذين في إفريقيا السوداء.
المسألة إذن ليست حالةً خاصةً برفعت إسماعيل، ولا مجرّد اعتراف بسيادة الجماليات الأوروبية وانجذاب غير الأوروبيين لها، وإنما هي نمط عاطفي ومعرفي يخون قناعات البطل (والكاتب) المعادية للاستعمار. ولو تكرر هذا النمط في المسلسل لكان الوضع أفظع، إذ تلعب الصورة السينمائية دورًا أساسيًا في تشكل الصور المثالية في أذهان المشاهدين، وتلعب شبكة نتفليكس دورًا أساسيًا في فرض المعايير القيمية والجمالية الأوروبية-الأمريكية.
ومن هنا، فقد أحسن معدو المسلسل، ربما دون أن يدروا، إذ نزعوا هالة الكمال والمثالية عن ماجي (وبالوساطة من برنادت في عقول من قرؤوا السلسلتين)، وقدموها زائفة بشعرها الأحمر المستعار ولهجتها المضحكة، (التي ظهرت اسكتلندية صرفة في الحلقة الأولى ثم بقدرة قادر فقدت أسكتلنديتها في الحلقة الثانية، كأن البقاء لبضعة أيام في مصر قد أنساها لهجتها الأم). وكانت مصادفة جيدة أن رزان الجمال فشلت في تقمص الشخصية أو في فرض حضورها على الشاشة، وبدت في معظم المشاهد كفتاة سعيدة بظهورها على الشاشة لا كشخصية حقيقية، بالذات في مقابل هويدا، التي أعطوها دورًا وحيزًا وفعالية أكبر مما كان لها في السلسلة (إذ تظهر في الروايات حالمة وسلبية وقليلة الحيلة)، ومنحوا دورها لممثلة ذات جاذبية وحضور أقوى على الشاشة، وذات قدرة أكبر على دراسة شخصيتها وتقمصها.
استغراب رفعت واستشراق المسلسل
ربما كان رفعت، في بعض جوانب شخصيته في الروايات، مغتربًا عن مجتمعه المصري. إلا أنه كان في مقابل هذا الاغتراب، وفي مقابل شخصيته المنطوية والساخطة، حريصًا على مد أواصر الألفة مع أهله ومجتمعه. وكنّا في مقابل ذلك الاغتراب نرى إغراقًا ثريًا وممتعًا في الجماليات المحلية والبنية السردية القائمة على البنى الاجتماعية المصرية، وفي كثير من الأحيان على الحكايات والأساطير الشعبية المصرية أو الأدب العربي. وقد نجحت الروايات في كثير من الأحيان في تصوير هذه الجماليات والسرديات المحلية بعيدًا عن أي ولع أو انحياز استشراقي. أما في المسلسل، فقد حلّت الخيالات والصور النمطية الاستشراقية محل البحث الجاد، وحالت دون تقديم تخيّل مبدع لا ينطلق من أرضية غربية-هوليوودية.
ظهر هذا الاستشراق بشكل فجّ في الحلقة الثالثة من المسلسل، ففي حين حرص أحمد خالد توفيق في «أسطورة حارس الكهف» على تقديم صورة ثرية، مبنية على بحث دقيق، لقبائل التبو (مميزًا بدقة بينهم وبين الطوارق)، ولعاداتهم وتقاليدهم (التي حرص أن يضعها في مواجهة مع الاستعمار الغربي ومع ميراث الاحتلال الإيطالي)، يقدم لنا المسلسل الطوارق بدوًا من خارج التاريخ، كأنهم جاؤوا من مسلسل عن أيام العرب في الجاهلية. ويصبح من السهل التضحية بالبدو جميعًا، على طريقة الأفلام الأمريكية، التي ترى في غير الأوروبيين جماعات مبهمة لا حداد عليها ولا ضير في التخلص منها، لينجو أبطال القصة الثلاثة (الذين تصادف أن يكون اثنان منهم أجانب أوروبيين والثالث مغتربًا ملتحقًا بالفرنجة). يبدو أن صناع المسلسل مهووسون بهذه الفكرة الاستشراقية عن «الشرف» في المجتمعات العربية والريفية بالذات، إذ يقيمون الحبكة في ثُلث حلقات المسلسل الستّ عليها، بينما تغيب هذه الفكرة تمامًا عن الروايات نفسها.
وفي حين تقدّم الروايات «عساس الكهف» وحشًا مجهولًا تتوارث القبائل حكاياته فتخشاه دون أن تراه، يقدّم لنا المسلسل علاقة «دينية» غريبة بين البدو وذلك الوحش، ويصبح هذا الاستشراق ممجوجًا ومضحكًا حين يركع أحد هؤلاء البدو ويتمتم في ما يشبه صلاة وثنيةً للعساس، لكي يوحي إليه العساس بالإذن في الدخول أو بحجب ذلك الإذن (ربما في خيال صنّاع المسلسل لم يذهب أحد من قبل إلى صحراء ليبيا ليعرف إن كان بدوها وثنيين أم لا أو ليدعوهم إلى الإسلام).
هذا التصور الذي يتفق مع الاستشراق الإنجليزي في القرن التاسع عشر، الذي تخيّل سكان الصحراء وثنيين (heathens)، يتعارض مع الدور الذي لعبته الثقافة المشتركة، بما فيها أداء صلاة الفجر جماعة، في خلق رابط بين رفعت إسماعيل والتبو في الروايات، ما جعله أقرب إليهم من المستكشف الأوروبي الذي يسافر رفعت في رحاله. وفي المسلسل يقابل «استشراق» القبائل الليبية اغتراب رفعت عنها، فيصبح واحدًا من المستكشفين الأجانب، ويصبح المستكشف الأجنبي لوي هو الأقدر على النفاذ إلى عالم البدو، ومن خلاله ينفذ رفعت المغترب إليهم.
يتكرر اغتراب رفعت في الحلقة الرابعة، إذ يبدو جاهلًا تمامًا بعادات قريته وحكاياتها وأساطيرها، (وهو أمر غير مبرر، فالمفترض أن رفعت قد نشأ هناك قبل أن ينتقل إلى القاهرة و حتى بعد انتقاله فإن المسافة ما بين المنصورة والقاهرة، والتي لا تتعدى 130 كيلومترًا، لا تبرر هذه القطيعة). ومرةً أخرى، في مقابل وصف أحمد خالد توفيق الثري للريف المصري ومجتمعه وأساطيره، يلجأ المسلسل إلى قوالب نمطية استشراقية، فبدلًا من حكاية النداهة التي استلهمها توفيق من التراث الشعبي المصري، يقدّم لنا المسلسل شبحًا لامرأة قتلها والدها، بعد أن تعرضت للاغتصاب. وتأتي «جريمة الشرف» في هذا السياق كأمر طبيعي ومفروغ منه، وبشكل يتفق مع استسهال الكتابة وكليشيهات الغرب عن «الشرقيين»، وانحيازات أهل القاهرة، ممن لم يزوروا قرى مصر، ضد أهل الريف.
ويبدو أن صناع المسلسل مهووسون بهذه الفكرة الاستشراقية عن «الشرف» في المجتمعات العربية والريفية بالذات، إذ يقيمون الحبكة في ثُلث حلقات المسلسل الستّ عليها، بينما تغيب هذه الفكرة تمامًا عن الروايات نفسها، فتظهر الفكرة مرة أخرى، وبشكل أقل منطقيةً، في الحلقة السادسة، إذ تبدأ قصة شيراز، التي تدور أحداثها هي الأخرى في المنصورة، بحبسها في غرفة تحت الأرض لأنها أُنجِبت سفاحًا (ونرى الخدم يتعجبون من أن جدّ شيراز لم يقتلها وأمها درءًا للفضيحة). وتظنّ شيراز أنها ستضطر أهلها لإخراجها من محبسها إن أحدثت حريقًا في البيت، فتقنع صديقها ابن الخادمة أن يبدأ الحريق، ولكنها تُفاجأ بتركهم إياها تموت حرقًا، وتبدأ قصتها كشبح؛ ولا أدري ما المنطق في هذا، فلو كانوا يريدون موتها، ولو كانوا قساة قادرين على تركها وسط النيران درءًا للفضيحة، لقتلوها وهي رضيعة بدل تحمل مشقة حبسها وتركها تموت بعد ذلك في حريق. بقية الحلقة على كل حال متقنة وجميلة وتكاد تغفر للمعدّين هذه البداية الاستشراقية.
ما وراء الاستشراق والاستغراب
لا أبتغي من هذا النقد تقديم إدانة دامغة للمسلسل. على العكس، أراه تجربة جديرة بالاحتفاء، فيها الكثير من الجوانب المتقنة. وحتى من باب نقد الاستشراق والاستعمار، يظلّ المسلسل تجربة مهمة، إذ يقدم على منصة نتفليكس العالمية أول عمل مصري كتابةً وإخراجًا، بممثلين معظمهم مصريون وعرب، وموضوعات تدور في إطار اجتماعي مصري، وشخصيات مصرية تخرج بوضوح عن إطار البطولة الهوليوودية واحتكار الأمريكيين لمعايير البطولة وسلطة السرد.
لم ينفصل مشروع أحمد خالد توفيق عن هذا المشروع النقدي المناهض للهيمنة الثقافية الاستعمارية، فسلاسل «روايات مصرية للجيب» (التي قدّمت أحمد خالد توفيق وما وراء الطبيعة وسافاري، كما قدمت من قبله نبيل فاروق ورجل المستحيل وملف المستقبل)، قامت بالأساس على فكرة تقديم حكايات في مجتمع عربي وأبطال عرب، كي لا تترك خيال الأطفال للحكايات الأجنبية ونماذج البطولة الغربية.
يحكي نبيل فاروق عن أن الذي دفعه إلى التفكير في سلسلة رجل المستحيل كان قراءته لأرسين لوبين، وامتعاضه مما تقدمه من نماذج وأنماط رآها غريبة على مجتمعاتنا ودخيلة عليها. وبينما حاول نبيل فاروق أن يجعل البطل (شبه) الخارق عربيًا ومصريًا، التجأ أحمد خالد توفيق إلى صورة البطل المضاد: رفعت إسماعيل، النحيل العصبي ضعيف البنية، المصاب بالسعال وأمراض القلب، الذي يدخن بشراهة ويتمتع بحسّ فكاهة سوداوي وساخط. وكان عندما يُسأل لماذا لا يقدم بطلًا على شاكلة الأبطال الأقوياء والخارقين يتساءل «ومن سيكتب عن من هم مثل رفعت إسماعيل؟».
لقد كان أحمد خالد توفيق في كتاباته الروائية والصحفية عروبيًا معاديًا للاستعمار دون مواربة، وكان يحاول في رواياته، أحيانًا بوعي وأحيانًا دون وعي، نزع الصورة الهوليوودية من عرشها، ووضع صورة تشبهنا أو تشبه أشخاصًا نعرفهم لنا نحن العرب، لنرى أنفسنا والعالم بعيونها المتآلفة مع عيوننا. وقد نجح في ذلك في بعض الأحيان وفشل في أحيان أخرى، تمامًا كما حاول المسلسل، فنجح وفشل. المفارقة في رأيي هي أن المسلسل نجح حيث فشل أحمد خالد توفيق، وفشل حيث نجح.
-
الهوامش
[1] بالإضافة إلى عدم اتساقها مع شخصية رفعت إسماعيل في الروايات، فإن هذه العبارة تذكرنا بالمزاح العدمي المعاصر والذي يميز جيل الألفية الجديدة، وتبدو دخيلة على عالم 1969؛ وليس من المنطقي في مرحلة ما بعد النكسة وحرب الاستنزاف، وبداية دخول فصائل المقاومة الفلسطينية في صدامات داخلية في الأردن ولبنان، وفي خضم الحرب الأمريكية على فيتنام، أن تكون صفحة الوفيات هي «الوحيدة» التي تطمئن رفعت إسماعيل إلى تناقص أعداد البشر.
[2] أسطورتها، العدد 31 من ما وراء الطبيعة، 141.
[3] أسطورتها، 90.
[4] طبعا لم يقل علماء النفس هذا الكلام وإنما قالوا إن ارتباط الطفل الأول يكون مع أمه، ومع جسم أمه الذي يقدم له الغذاء والحنان، وأن أي ارتباط بعد ذلك هو ناشئ عن هذا الارتباط الأولي مع الأم وهو نتاج نقل هذا الارتباط إلى آخرين. أيضًا في التحليل اللاكاني يشعر الطفل بحالة من الكمال -تذكره ربما بحالته وهو ما زال في رحم أمه لا يحتاج شيئا يكمله- عندما يتماهى لأول مرة مع صورته في المرآة، إلا أن حالة الكمال هذه تزول تمامًا بعد هذا التماهي الأول، ويظل طوال حياته يبحث عمّا يجعله كاملًا، ويفسر لاكان كل رغبات الإنسان، بما فيها رغباته الجنسية، وكل علاقاته العاطفية، بهذا البحث عن بديل لهذه الصورة الكاملة، أو بالبحث عما يجعله كاملًا مرة أخرى.
[5] أسطورتها، 91.