خرج مسلسل «أعلى نسبة مشاهدة»، الذي عُرض خلال شهر رمضان الفائت، من دائرة الدراما التي تدور في فلك «الكمباوندات»، ولكنه كان خروجًا ظاهريًا. فرغم هذا الخروج البادي كتمرد على نمطية المكان في الأعمال المصرية مؤخرًا، إلا أن المسلسل الذي يتناول قصة ثلاث فتيات من أحد الأحياء الشعبية في مصر، بدا وكأنه يصور المكان وناسه وهو على مسافة شديدة البعد عنهم. وكأن صنّاع العمل قرروا خلق مكان خيالي سمعوا عنه، بدلًا من استدعاء واقعية المكان وأشخاصه بالفعل.
حاول المسلسل أن يطرح القضية التي اشتهرت باسم «فتيات التيك توك» عام 2020، وهما حنين حسام ومودة الأدهم، وأن يعالجها دراميًا. ولكن بداية من تتر المسلسل وأغانيه، نهاية بالحلقة الأخيرة، لا يليق بالعمل إلا تذكر ما قاله أهل مصر ردًا على القصيدة التي كتبها «ابن هانئ الأندلسي» عند دخول «المعز لدين الله»، وهو أن «أول القصيدة كفر». فالموقع الذي ينطلق منه العمل عكس هوة بين صناعه وموضوعه، بشكل يحث على التفكير فيما يريد هؤلاء الصناع إيصاله عن فتيات «التيك توك»، وفي علاقة الفن بالسلطة، وبالتبعيّة التفكير فيما تعنيه مفردات «العدل» و«الحرية» و«الرقابة» و«الأخلاق» و«الفضيحة» بالنسبة للدولة.
واقعية الحادثة والخيال المصنوع
بدأت شهرة حنين ومودة عام 2018 كمؤثرات في عالم السوشال ميديا، وتحديدًا على تطبيق «التيك توك»، الذي يتيح إنتاج فيديوهات «تحريك الشفاه» (lip syncing)، أي فيديوهات عبرها يستطيع المؤثرون عبرها تحريك شفاههم بالتزامن مع أي أغنية يختارونها، أو فيديوهات طريفة يشاركونها من حيواتهم. بقيت حنين ومودة هكذا حتى انتقلتا من حيز تطبيق «التيك توك» إلى بقية تطبيقات السوشال ميديا الرائجة بداية عام 2020، تزامنًا مع انتشار فيروس كورونا، لتخرجا إلى الحيز العام وتصبحا مادة تحفز على السخرية واستخدام الطبقية تجاه مثيلاتهما من الفتيات، أي مشاهير «التيك توك» الذين أصبحوا فجأة معروفين على نطاق أوسع، عبر تطبيق كان يستخدم لتمرير الوقت وللترفيه من الطبقات العليا في مصر.
بُعيد هذا الانتشار، دعت حنين حسام الشباب ما فوق الـ18 عامًا لاستخدام تطبيق يُسمى «لايكي» قائلةً أن هذا التطبيق هو «وكالتها»، وقد يكون مخرجًا لها من ضيق الأوضاع المادية بسبب انتشار الفيروس. وفي صباح الثاني من نيسان من نفس العام، قرر رئيس جامعة القاهرة آنذاك تحويل حنين للتحقيق قائلًا إن الفيديو «لا يليق بأخلاق طالبة بجامعة القاهرة»، ليعزز بعدها كلامه عميد كلية الآثار التي كانت تدرس بها حنين قائلًا: «الجامعة لا تقدم التعليم فقط، ولكن تقدم العلم والأدب»، ليشير إلى أنها تجاوزت الأخلاق، دون أن نعرف أخلاق من بالضبط.
يفتح المسلسل مجالًا لممارسة الطبقية تجاه هؤلاء الفتيات بافتراض ضمني بأن كونهن فقيرات يعني أن أجسادهن متاحة للجميع، سواء كان ذلك برغبتهن أم لا.
في صباح يوم الـ21 من الشهر نفسه، ألقي القبض على حنين. وبعدها بأيام أعلنت النيابة العامة رغبتها في إحضار مودة الأدهم أيضًا، بتهمة «الانتماء لجماعة إجرامية للاتجار في البشر». تصاعدت التهمة وتغيرت مع صدور حكم ضدهما يوم 21 تموز 2021، حيث جاء في حيثيات الحكم اتهامهما بـ«استخدام أدوات تحوي في طياتها بطريقة مستترة دعوة للتحريض على الفسق والإغراء بالدعارة»، في إشارة للفيديوهات التي نشرنها، والتي كانت إما عبارة عن استخدام تحريك الشفاه، أو الرقص مع الأطفال، والتي خلت من أي دعوة للدعارة أو الجنس كما ثبت في حيثيات الحكم. لتعلن الدولة بذلك بداية تطبيق «كود أخلاقي» على النساء وحدهن، أعنف من الكود الأخلاقي الذي يفرضه المجتمع على النساء من الأساس.
كان هذا واقع الحادثة التي تأرجحت بين متعاطفين مع الفتيات ضد هذا الكود وآخرين يدعمونه. ليظهر بعدها بثلاث سنوات مسلسل باسم «أعلى نسبة مشاهدة» فاتحًا بابًا للتفكير في هذه القضية، ولكن من منطلق تبني فكرة أن هؤلاء الفتيات فاقدات للأهلية، وأنهن غير مستحقات للتعاطف والبراءة انطلاقًا من كونهم أحرارًا في أجسادهن، بل لأنهن «غلبانين» و«طيبين» و«اتضحك عليهم»، وأنهن فعلن ذلك من أجل المال، فبعن أجسادهن من أجل مساعدة عائلاتهن. بذلك، أعلن المسلسل اتحادًا بين الرمز، الذي يعبر عنه من خلال تأكيد رؤية النسبة الأكبر من المجتمع لهؤلاء الفتيات، والسُلطة التي تظهر في الحلقة الأخيرة.
اتحاد ضد جسد هش
«حكم الآخرين هو حكم يوم القيامة، والنفي الاجتماعي هو الشكل العيني لجهنم وعذابها».
– بيير بورديو[1]
يقدم «أعلى نسبة مشاهدة» تأكيدًا لسردية «أخلاق الأسرة المصرية»، ويتيح فرصة للدولة لصنع مجال لإصدار قوانين منبعها الأساسي هو «مجتمع» لا يؤمن بحرية النساء في تحديد مصيرهن واستخدام أجسادهن. تظهر هذه السردية منذ بداية المسلسل عبر رسم صورة متخيلة لدوافع استخدام الفقراء لتطبيق «التيك توك». فالظن بأن الفقر وحده كافٍ لاستخدام هذا التطبيق يشير إلى أن القادم هو بيع الأجساد من أجل الحصول على المال، وهو ما لم يحدث إطلاقًا في حالة حنين ومودة في الواقع.
يفتح المسلسل مجالًا لممارسة الطبقية تجاه هؤلاء الفتيات بافتراض ضمني بأن كونهن فقيرات يعني أن أجسادهن متاحة للجميع، سواء كان ذلك برغبتهن أم لا. ويعزز ذلك عبر تقديمه سردية تظهر فيها «كاميليا»، بنت الطبقة العليا التي تستخدم التطبيق في الدعاية والإعلانات فقط، أي تعي حدود حركة جسدها، كنقيض لـ«شيماء» ابنة الطبقة الفقيرة التي لا تعي ولا تستطيع تحديد الحدود التي يتحرك بها جسدها. بذلك يؤكد المسلسل الانفصال العام بين طبقات المجتمع، ويفتح فرصة لاتحاد الدولة مع المجتمع ضد أجساد هشة تتعرض لانتهاكات مستمرة عبر استخدام مفردات «الفضيحة/ الأخلاق» لتمرير رقابة على النساء. فعبر تمريره ألفاظًا مثل «إنت بنت شمال»، يضع المسلسل الدولة في محل الفاعل التاريخي ليس لحماية القانون، بل لحماية الأخلاق.
يقدم «أعلى نسبة مشاهدة» تأكيدًا لسردية «أخلاق الأسرة المصرية»، ويتيح فرصة للدولة لصنع مجال لإصدار قوانين منبعها الأساسي هو «مجتمع» لا يؤمن بحرية النساء في تحديد مصيرهن واستخدام أجسادهن.
يبدأ تتر المسلسل بأغنية تقول: «كله بايعها، كله كاشات، الدنيا خلاص ماشية تريندات، فضايحنا تجيب أعلى مشاهدات». وإذا أحسن المشاهد الظن بهذه الكلمات، فسيجد في نهاية المسلسل ما يجعله يتأكد بأن الإحسان لم يكن في محله. ففي الحلقة الأخيرة تعرض أغنية يأتي فيها: «لما حلمت بدنيا جديدة، خدني الحلم لسكة بعيدة، وبعت الكل عشان أحلامي، فكرت إن أنا هبقى سعيدة، معرفتش أحسب على مهلي، لما لاقيت حلمي بيندهلي، بعت أخواتي وأبويا وأهلي».
ربما تبدو هذه نقاط ضعف وارد حدوثها في سياق الدراما المصرية دون قصد مسبق، لكن ما يعزز الشعور بأن المسلسل عمل إيديولوجي هو مرافعة محامية «شيماء» التي تظهرها كمن ارتبكت جريمة رغم مطالبتها بالعفو عنها، نظرًا لأنها لم تكن تعرف ما يجري حولها، ولعدم سيطرة الدولة على تطبيق «التيك توك»، فتطالب القاضي بإتاحة هذا التطبيق ولكن تحت أعين الدولة. وكما أول القصيدة، جاءت نهايتها أيضًا كفرًا، حيث يتعاطف القاضي مع شيماء ولكنه يحكم عليها بغرامة مالية مع السجن عامًا، ويبرر ذلك قائلًا «بأنه يحكم بالعدل»، ليؤكد إن هناك عدلًا آخر لا يعتمد على قوانين أو أدلة بل فقط، على حماية كود أخلاقي صنعه المجتمع وعززته الدولة، ويعززه الآن عمل درامي، يرسم حدود الحرية داخل أقفاص اتحاد الرمز مع السلطة.
ربما كان الأمر سيبدو عاديًا في إطار عمل فني قابل للانتقاد، لو لم تكن هناك فتيات يقضين فترة عقوبة داخل تلك الأقفاص بالفعل. لكن بالنظر إلى ما صرحت به بطلة العمل الثانية ليلى أحمد زاهر: «رسالتنا مش أنهم يخرجوا زي اللي شيماء من السجن، اللي غلط لازم يتعاقب»، ليس هناك أي غرابة في أن يكون العمل فاتحًا لتطبيق مقصلة الأخلاق الحميدة.
-
الهوامش[1] بيير بورديو، «الرمز والسلطة»، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال، الدار البيضاء، 2007. ص 28.