منذ بدأ اسم رامي يوسف بالتردد في صفحات الثقافة بوسائل الإعلام الأمريكية صار من السهل تتبع مسيرته التي بالكاد كانت معروفة لدينا قبل صدور عمله التلفزيوني الأول «رامي». فبالإضافة إلى الاحتفاء بأفكار المسلسل الأصلية والممتدة على طول عشر حلقات بمعدّل ثلاثين دقيقة للواحدة منها، والتي صاغ غالبيتها المخرج والكاتب الأمريكي من أصلٍ مصري بنفسه، فإن فرصةّ لفتح نقاش حول مصداقية تمثيل العرب المسلمين في هوليوود تاريخيًا، والتغيير الذي يصنعه يوسف اليوم قد لاحت في الأُفق.
بمجرّد بثه، قبل شهر تقريبًا عبر خدمة «هولو»، واحدة من شركات البث الأمريكية الشهيرة، تسابق الصحفيون والنقاد على مراجعة المسلسل وتقديمه للجمهور باعتباره عملًا ثوريًا يتسق مع الأجواء العامة في هوليوود وحربها المستمرة على سياسات وآراء الرئيس ترامب. وسرعان ما طفت على السطح كلمات مثل «الشباب المسلم» و«المسلمون المُمارسون» الحاضرة في سياق الحديث عن المسلسل الناجح في اختراق مساحة إبداعية جديدة.
لكنّ «رامي» لم يكن العمل الوحيد الذي نجح في إثارة حماس الجميع للحديث عنه كونه يعرض صورةً مغايرة للمسلمين على التلفزيون الأمريكي، فهناك مسلسلات أُخرى عملت على «أنسنة» المسلمين الأمريكيين (حسب تعبير صحيفة أمريكية) مثل مسلسل (The Night of) الصادر عام 2016، والذي يقتبس قصة حقيقية لشاب أمريكي مسلم اُتهم بقتل صديقته، ولكن عندما وصلت الأمور لمرحلة التحقيق والمُحاسبة غطّى لون بشرته وخلفيته الثقافية على أيّ أدلّة ملموسة للإدانة.
في نفس المجال، كان الأمريكي الهندي عزيز أنصاري يسجل نجاحًا مبهرًا خلال العامين الماضيين، ولقي حفاوة نقدية كبيرة عن مسلسله (Master of None) ضمنت له العودة بموسم ثالث تنوي نتفلكس إنتاجه. أنصاري هنا مسلم في عامه الثلاثين ويعمل في مجال التمثيل في بلد يموج بالجدل حول المسلمين منذ بدأ ترامب حملته الرئاسية في 2015.
رغم هذه المسلسلات، إلّا أنه لا زالت هناك مساحات غير مستكشفة تحرّك فيها «رامي»، فهو إضافة إلى كونه عملًا عن مسلمين عرب هذه المرة، يتقاطع في الوقت نفسه مع عدد من الثيمات التي تُغري شركات الإنتاج الكبيرة للاستثمار فيه، مثل ثيمة تعامله مع شباب جيل الألفيّة، وثيمة مرحلة البلوغ أو (Coming-of-Age) إلى جوار اهتمامه بالقضايا الجنسية والسياسية المرتبطة بالإرث الذي يحمله المهاجرون العرب والجيل الأول من أبنائهم. مواضيع جعلت منه محط اهتمام نقدي واسع ظهر وكأنه يكتشف العرب والمسلمين للمرة الأولى.
رامي عن «رامي»
الأمريكي يخاف من الآخر، والآخر يخاف من الأمريكي، والخوف من الشريعة أساس، والمجتمع يحكم بوصاية الخوف. هذه بعض العناوين التي يمكن التقاطها من الحلقات الأولى للمسلسل، والتي يتم فيها تقديمنا لرامي، الشاب المسلم من مدينة جيرسي ذو 28 عامًا، وأخته دينا التي تبدو حظوظها داخل العائلة أقل بكثير فقط لأنها أُنثى، ووالديهما فاروق وميساء القادمين من مصر بحثًا عن فرص أفضل.
رامي شاب هادئ للغاية يبذل كل ما بوسعه كي يكون مُسلمًا جيدًا مع ربه ومع المجتمع على حد سواء، على العكس من مجمل أقربائه الذين يشغلهم البحث عن زوجة لرامي أكثر من بحثهم عن ذاتهم. يتمسك رامي بإيمانه وبمنظومة أخلاقية يُسير بها حياته، وكي يُلبي متطلبات التزامه الديني نراه يخسر بعض مزايا العيش في أمريكا كمظاهر الحياة الجذابة للشباب مثل شرب الكحول والاحتفال والجنس والمخدرات وغيرها. ولكنها ليست خسارة كبيرة بالنسبة لرامي لأنه على عكس الآخرين يُفضل أن يكون على صلة بجذوره وتعاليم دينه، بل أنه يجد راحته في تلبيتها.
عند هذا الحد يمكن القول أن رامي يوسف لم يصنع مسلسلًا عن جماعة المسلمين الأمريكيين العرب، ولكنه يحكي حكايته هو دون غيره، حيث يبدو رامي وكأنه يسبح عكس التيار طيلة الوقت حتى وسط مجتمعه المسلم، أي أنّ الشخصية الرئيسية في «رامي» واعية جدًا بإسلامها وينعكس هذا على كل حرف تقوله، ما قد يعتبره البعض تصويرًا نمطيًا للمسلمين على شاشة التلفاز.
بتوسّعه في تجارب رامي الخاصة بمراحله العمرية المختلفة وبمواقف ليست مترابطة بالضرورة، يتشابه المسلسل في نمطه السردي مع الموسم الثاني من مسلسل أتلانتا لدونالد غلوفر في اعتماده على الحلقات المنفصلة، وهي طريقة تضمن له طرق أبواب عدة في وقت قصير، ولكنها تتركه بمساحة ضيقة لنقاش أي موضوع بتعمق كافٍ؛ ما يجعل «رامي» مسلسلًا يأمل بالتحدث باسم المسلمين الأمريكيين جميعهم ولكن ينتهي به المطاف متحدثًا باسم رامي يوسف أكثر من غيره.
هل يجب الخوف من المسلمين؟
إذا كان «الخوف» هو ما يُحرك الكثير من الكوميديين الأمريكيين المسلمين لتقديم عروضهم فهذا فقط لأنه خوفٌ مدمّر بالفعل. فموجة الكراهية ضد المسلمين التي نشأت منذ بَدأ ترامب سباقه الرئاسي أسفرت عن أعداد كبيرة من الجرائم والتعديات ضدّ مسلمين أمريكيين تجاوزت بحسب إحصائيات رسمية تلك التي تلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001. أثناء ذلك وجد «رامي» طريقته الخاصة لمخاطبة هذا الأمريكي الغاضب عبر مسلسل مليء بالشخصيات المسلمة التي يحب الأمريكيون مشاهدتها.
العم «نسيم» العنصري الذكوري الكاره للنساء واليهود والفاقد لأي وازع أخلاقي أو ديني. ثم الأب فاروق (يلعب دوره عمرو واكد) الذي لا يمل من إلقاء المحاضرات التربوية على أبنائه حتى دون الحاجة إليها. والأُم ميساء التي لا تُلبي حياتها الزوجية الإسلامية متطلباتها ولكنها تحاول الزج بابنتها بمصير مشابه. وأخيرًا الأُخت دينا (تلعب دورها مي القلماوي) والتي، بالطبع، سيكون حقها مهضومًا لمجرد أنها فتاة في بيت للمسلمين.
قد تكون هذه هي التوليفة المتكاملة لكل ما يؤمن به «الآخرون» عن المسلمين وتفكيرهم وطريقة عيشهم وتفاعلاتهم مع بعضهم البعض؛ عنصريين وجهلة ومُحبطين في مُقابل جيلٍ شاب منهم، الجيل الأول من أبناء المهاجرين العرب والمسلمين أولئك الذين باتوا مرتبطين بالثقافة الأمريكية أكثر من ثقافة آبائهم، وبين هاتين الحالتين يقف رامي محاولًا عدم فقدان هويته كما يحاول الحفاظ على أمريكيته.
ومع غياب الشخصيات القوية بالفعل في المسلسل، إذ لا توجد شخصية واحدة يمكن تسميتها بالشخصية «البطل»، أي الفرد القادر على إحداث تغيير إيجابي ما مدفوع بشيء من العقلانية وسلطة الصواب أو «الحق»، فإن الكوميديا كانت موجهة نحو «الأفعال» الإسلامية في «رامي» كالضحك على طريقة تفكير الأب، وعلى تعليقات العم، وعلى دوافع الأقرباء وعلى المواقف التي قد لا تحدث إلا مع المسلم الأمريكي، مجموعة من السكيتشات التي تدور حول الإسلام بالضرورة. لا يعوّض حضور رامي أيًا من ذلك لأنه يظهر طيلة الوقت ضعيفًا يحاول فهم ذاته وتحليل مجريات الأمور من حوله دون فقدانه صلته بالمجتمع الأمريكي كذلك.
كما يتحول رامي نفسه في بعض الحلقات لأداة تعريفية بالآخرين، أي شخصية ثانوية تفقد بطولتها المدعاة دراميًا على الأقل، فهناك عدة حلقات مهداة تمامًا للشخصيات المُساعدة كالعم أو الأخت أو الأُم، والتركيز على أزماتها الخاصة في ظل تفاعلاتها مع شخصية رامي. تتلخص كل تلك القصص باختصار بأنه لا داعي للخوف من المسلمين لأنهم خائفون أصلًا ولأنهم مُحبطون جنسيًا ومقموعون في بيوتهم من أقرب الناس إليهم، ولأنهم في أحسن الأحوال عنصريون بالفعل ولكنها عنصرية ضحلة، صوتهم عال ولكنهم يريدون الاستمتاع فحسب فلا داعي للقلق منهم.
إذن، يمد رامي يده نحو الإعلام الأمريكي عبر مسلسل لا يخلو من نقد المجتمع الإسلامي وهو أمر غير مستهجن بالعموم ولكن في خصوصية الموقف الأمريكي لربما لم يكن هذا ما يحتاجه المسلمون الأمريكيون بالضبط، ليس بقدر شيء من النقد لعنصرية الرجل الأبيض تجاههم على الأقل.
يحاول «رامي» كسب ود الآخرين عبر رسالة واضحة: «نحن لا نستحق كل هذا الخوف، نحن أقل من هذا بكثير». فالمسلمون في أمريكا قد ينجحون في أعمالهم مثلًا فقط لأنهم أمريكيون، بينما يرتبط الفشل غالبًا بالجانب الإسلامي فيهم وتوقعاتهم وقراراتهم الخاطئة الناجمة عن هذا الحضور الديني الشامل في حياة كل منهم كما نرى في أكثر من موضع في المسلسل.
هوليوود الخضراء
من المفترض لمشاهدة «رامي» أن تكون فرصة للضحك على كوميديا «مختلفة» ومتصلة بواقع قريب علينا، لكنه يبقى مُنتجًا أمريكيًا بوسائل ترويجٍ أمريكية يُقدم للمرة الأولى عائلة عربية على التلفاز الأمريكي لا علاقة لها بالإرهاب ولا تحبه ولكنها لا تستطيع الإمساك بزمام أمورها، الأمر الذي يجعلنا نتساءل، هل علينا أن نكون فرحين بأول مسلسل يقدم العرب والمسلمين بصورة «مغايرة» أم مساءلة أنفسنا: متى صرنا نرى ذلك إنجازًا؟
بالنظر لتاريخ علاقة هوليوود بالعرب فإننا لسنا أمام موقف مشرف حقيقةً، وتحديدًا في العقدين الماضيين حيث شهدت مرحلة ما بعد انهيار أبراج مركز التجارة العالمي في نيويورك ولادة لثنائية المسلم الجيد والمسلم السيء داخل الولايات المتحدة مدعومة من الماكنة الإنتاجية الهوليوودية التي لا تكلّ من تنميط الآخرين، وهو ما تشرحه ميثاء الحسين في دراستها «هوليوود والحقّ» والمعنية بتسليط الضوء على المحددات المفروضة لوصف طبيعة الشخصية المسلمة في الأعمال الهوليوودية.
تقول ميثاء أن ثنائية المسلم الجيد والمسلم السيء انعكست داخل استديوهات هوليوود عندما صار على المسلمين إما أن يكونوا داعمين للإمبريالية الأمريكية أو خونة، إما علمانيين أو جواسيس لجهة معادية، وهو ما طبقته حرفيًا أعمال تلفزيونية مثل مسلسل (24) الشهير أو مسلسل (Homeland) الذي يوظف في مواسمه الأولى صورة للمسلم السيء قبل أن يعززها بصورة للمسلم الجيد المتعاون مع رجال بيض يعملون في أجهزة الدولة العسكرية والمخابراتية.
«عادة ما يتم تصويرنا على شكل ضحايا لجرائم الكراهية أو إرهابيين أو متشددين» يقول رامي يوسف مُحاولًا تفسير الصدفة التي جعلت من وجوده وأفكاره في موضع لقاء مع اهتمام هوليوود المفاجئ بحكايات المسلمين العرب واستعدادها لتقديم صورة «مغايرة» لتلك التي روجت لها مرارًا. مسلمون بعيدون عن الإرهاب قريبون أكثر من أمريكا كنقيض ربما لمفهوم الإرهاب، فالدين في المسلسل لا يقابله دين بل تقابله الوطنية الأمريكية والتي عبّر عنها رامي يوسف في أحد المشاهد التي يضطر فيها لتحية العلم الأمريكي بكل حماسة فقط ليثبت أنه طبيعي.
لذا سيكون من المبكر اعتبار «رامي» إعلانًا عن تغيير ما في نظرة هوليوود للمسلمين والعرب بعد، ولكنه بالتأكيد مؤشر حيوي على وجود قابلية لرفع مستوى التوقعات من بعده. فالتأخّر الكبير في معالجة هذه النظرة عبر سنين طويلة مضت لا يترك أي أمل بحدوث التغيير الآن في ليلة وضحاها، ولكنه قد يشكل مجرد بداية لذلك.