ما الذي كان غابرييل غارسيا ماركيز ليقوله عن مسلسل مئة عام من العزلة؟

الإثنين 17 شباط 2025
مقطع من المسلسل. المصدر: نتفلكس.

نشر المقال بالإنجليزية في موقع ليت هب منتصف كانون الثاني 2025.

كان ذلك في مطعم تراتوريا في ساحة نافونا في أوائل نيسان من العام 1974 حين سمعت لأول مرة، لكنها لم تكن الأخيرة، غابرييل غارسيا ماركيز يرفض مجرد التفكير في تحويل رائعته مئة عام من العزلة لفيلم.

كان غابو -كما يناديه أصدقاؤه- في روما بوصفه أحد نواب رئيس محكمة راسل الثانية المنعقدة تنديدًا بانتهاكات حقوق الإنسان في أمريكا اللاتينية، لذا فإن الحديث في تلك الأمسية غلب عليه الطابع السياسي. ولكن في ختامها، جاء سؤال المخرج البرازيلي الشهير غلاوبر روتشا. خيّم إثر السؤال صمت على جميع الملتفين حول الطاولة. كانت الجلسة تعجّ بالنجوم؛ الكاتب الأرجنتيني خوليو كورتاثر، والفنان التشيلي الأسطوري روبرتو ماتا، والشاعر الإسباني المنفي رافائيل ألبرتي، وزوجته ذات الشعر الأبيض ماريا تيريزا ليون، التي أقسمت في لحظة ما من تلك الأمسية بأن تدخل مدريد عارية تمامًا ممتطيةً حصانًا أبيض ما أن يموت [الجنرال] فرانكو.

لم يتوقع أيٌ منا ذلك الرد العنيف للروائي الكولومبي، المعروف بلطفه. صاح غابو «أبدًا! يستحيل تجميع قصة سبعة أجيال من عائلة بوينديا، وعرض تاريخ بلدي وتاريخ أمريكا اللاتينية بأكملها. فقط الغرينغو[1] مَن يمتلكون الموارد اللازمة لإنتاج هذا النوع من الأفلام، كما أنني تلقيت عروضًا بالفعل: يقترحون ملحمةً تتراوح ما بين ساعتين إلى ثلاث ساعات. وباللغة الإنجليزية! تخيل شارلتون هيستون متظاهرًا بأنه كولومبي أُسطوري مجهول في غابة مزيّفة». وأضاف حاسمًا الأمر (Ni muerto!) التي يمكن ترجمتها «على جثتي» غير أنه من الأفضل ترجمتها إلى «ولا حتى بعد موتي!».

أمعنت التفكير في الأمر أكثر أثناء سيرنا نحو الفندق محل إقامتنا حينئذ. وقلت ألا يستطيع هو أن يتحكم بالإنتاج، بوصفه كاتب سيناريو بارع، بحيث يطالب الشخصيات بأن تتحدث الإسبانية. هزّ رأسه وقال «ستكون مهزلة. إن أشد ما يسلب الألباب في الكتاب يتعذر الإعراب عنه عبر وسيلة أخرى. الناس تنسى دائمًا بأنه عملٌ أدبي للغاية». وكرر جملته: «على جثتي».

للأسف مات صديقي غابو، لقد فقدته إلى الأبد، وها هو مسلسل مئة عام من العزلة يُبَث على نتفليكس حاصدًا تقييمات تطنب في مديحه. لقد عولجت كثيرٌ من مخاوفه المبدئية ببراعة؛ حيث صور العمل بالكامل باللغة الإسبانية وموقع التصوير كان في كولومبيا، وغالبية الممثلين فيه من الهواة غير المعروفين إضافة إلى التزام بالنص يستحق الإشادة. يُوجَه المشاهِدون من خلال تشابكات معقدة لشجرة العائلة، وتتكشف تقاطعات الزمن والتاريخ ببراعة. التصوير السينمائي البارع وطاقم التمثيل الرائع والسيناريو المحترم، كل هذه العناصر خلقت مشاهد خلابةً لا تُنسى، كما لو أنها انبثقت من أعماق مخيلة غابو الجامحة الرقيقة.  

لكن رغم كل ذلك، وبالنسبة لأي شخصٍ قرأ الرواية مثلما فعلت أنا، إذ قرأتها ست أو سبع مرات منذ أن سحرتني عام 1967، إذ كنت من أول قرأها بفضل عملي كناقد أدبي في Ercilla، المجلة الإخبارية الرئيسية في تشيلي، ثمة أمرٌ جوهري ما مفقود.

لو كانت رواية غابو محض حبكة مترامية الأطراف وأحداث شيقة، لكان بالإمكان اعتبار المسلسل الذي أنتجته نتفليكس انتصارًا كبيرًا. بيد أن الرواية ابتداءً وقبل كل شيء إنجاز لغوي. شأنها شأن كل الأعمال الفنية الثورية الحقة. احتوت الرواية منذ سطرها الأيقوني الأول[2] استراتيجيةً فذة لإيصال العالم الذي شكلته، استراتيجية من شأنها أن تغير مسار الأدب العالمي.

هذه النظرة الفريدة هي الجزء المفقود في العمل.

لنركز على أحد أكثر الأحداث المثيرة للاهتمام في الرواية، ونذهب إلى قرية ماكوندو النائية، التي أسستها عائلة بوينديا وأصدقاؤها لتكون جنة لا موت فيها. هنا يأتي طاعون الأرق المُنبئ بالخراب الذي سيحل بالمدينة وأهلها، الأمر الذي يدركه المرء لاحقًا. فبحرمانه جفون ضحاياه من النوم وتركهم في حالة استيقاظ دائمة فإنه يحرمهم من ذكرياتهم وفردانيتهم. ومن بين الأوصاف المتعددة لأعراض الوباء، نجد هذه الدرّة: «وفي حالة الهذيان تلك، لم يكونوا يرون صور أحلامهم فقط، وإنما كان كل منهم يرى الصور التي يحلم بها الآخرون أيضًا». إنها رؤية خيالية عجيبة لم تُضمّن في ملحمة نتفليكس، بل كيف يمكن حقًا تصوير أمرٍ كهذا بإيجاز دون الإخلال بتدفق السرد؟

لكن عوضًا عن ذلك، يُقدم لنا [في المسلسل] حدث الطاعون كمشهد مسرحي، يتصاعد في ذروته حتى يصل إلى الخراب والعنف ليلًا، ليلٌ تنيره غابة رائعة من المشاعل التي تبدو كأطياف. كل شيء شبحي ومُبهم، بدءًا من أول الوباء، حين تظهر على ريبيكا ابنته بالتبني أول أعراض الإصابة بالمرض. لحظة وصفت بصورة مميزة في الرواية: «أضاءت عيناها مثل عيني قطة في الظلام». إلا أن صُناع العمل حولوا عينيّ القطة إلى لون أزرقٍ حليبي مُروع، كما لو أنها صورةٌ أُخذت من فيلم رعب عادي، وهو اختزالٌ بصريٌ للمسّ الشيطاني.

ما كنت لأثير هذه المسألة التي قد ترى تافهة لو لم تكن مؤشرًا لمعالجة ما هو غامض وما يُطلق عليه غالبًا على أنه «سحري»، وهو توصيف خاطئ من وجهة نظري. فتلك ليست مسألةً ثانوية، إذ إن أحد أهم الإنجازات الجمالية في هذه الرواية تتمثل في أن العادي والخارق للطبيعة يسيران على الدوام جنبًا إلى جنب بكل سلاسة، فطاعون الأرق يُسرَد كأمرٍ واقعي كما يُسرَد حدث زراعة شجرة أو مصّ طفل لإبهامه. ولا يرتبك آل بوينديا حين تزورهم الأشباح، أو حين يكون بمقدور أورليانو التنبؤ بالمستقبل ولا حين تأخذ عانس تحتضر الرسائل من أهل القرية إلى أقاربهم المتوفين. إن الغريب وما لا يُصدق بالنسبة لأولئك الذين يعيشون في ماكوندو هي تلك الاختراعات العلمية، مثل الثلج والتصويرالفوتوغرافي والبوصلة وتدخلات الحداثة، التي حولت عالمهم الذي كان يعيش حتى تلك اللحظة في حالة سرمدية من البراءة الطفولية.

تمكن غابو من نقل هذه الرؤية لأنه تبنى منظور المجتمع الذي غرسَنا فيه. لقد روى الحكاية من نظام معتقداتهم هم، تلك الحكاية الحقيقية في نظرهم بقدر أجسادهم. أما الإشارة، كما جرى في نسخة نتفليكس، إلى أن أمرًا غير طبيعي يحدث من خلال عزف موسيقي مشؤومة ووضع معظم الأحداث الخارقة للطبيعة في جوٍ كئيب ومُظلم، فمن شأنها أن تخلق تأثيرًا مُعاكسًا تمامًا لما تحققه الرواية ببراعة شديدة. وبالتالي فإن المسلسل يحوّلنا إلى متلصصين على الغريب والخارق للطبيعة، مُستأنسين بالمجاز المألوف، عوضًا عن أن يتحدانا كما تفعل الرواية، لنتساءل ما هو الواقع بالضبط؟

يقع شيء مشابه للجنس. كان غارسيا ماركيز شغوفًا بالعلاقات الجنسية الممتعة بوصفها وسيلةً للخروج من الوحدة، ولندرك في النهاية مدى الوحدة التي يعيشها كلٌ منا، وحتى كيف أن تلك الدهشة اللحظية لجسدين مُلتحمين عاجزةٌ عن هزيمة الموت الذي نواجهه، كلٌ على حدة. ليس هناك ما هو أبعد عن هذا النموذج الغامض والمنغلق على الذات للجنس من مشاهد المُضاجعة المثيرة على الشاشة، بتأوهاتها المطابقة للمعايير والأجساد المُرتجفة والنشوات المُرهَقة المملة بهدف رفع نسب المشاهدة عوضًا عن مرافقة الشخصيات في سعيها لتحدي الفناء.

لا يمكن للمرء أن يستشف، من مسلسل نتفليكس، بأن مئة عام من العزلة هي عملٌ أدبي للغاية، مدينٌ بالفضل لكافكا وبورخيس وفولكنر ورابليه وللديكاميرون وألف ليلة وليلة، ولأي مدى تمثل امتدادًا لسرفانتس. كما يتعذر على مشاهدي العمل أن يستشفوا أن الرواية الأصلية رغم سفاح القربى والقتل والحرب الأهلية والمجازر والإمبريالية التي تنهش آل بوينديا والقارة المستعمرة التي يمثلونها مجازيًا، ظريفة ومليئة بالسخرية. فشخصيات غابو مُتمادية في هواجسها وحماقاتها، تترنح -بطريقة غالبًا ما تبعث على الضحك- نحو حتفها وحتف التاريخ، وهي رؤية غابت عن هذه النسخة السينمائية الكئيبة. ربما تكمن المسألة الأهم، في عدم إدراكنا لأن ما نراه هو عملٌ تخريبي، يطعن في رواية القصة نفسها، وفي المعنى الحقيقي لأن تولد بعيدًا عن مراكز السلطة.

مؤخرًا، دافعت في مجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس عن قرار أبناء وورثة غارسيا ماركيز بنشر روايته «موعدنا في شهر آب»، بعد وفاته، رغم أن هذا ضد رغبته الصريحة. إلا أنني أقل تسامُحًا هذه المرة. هل سيجد والدهم ما قد يعجبه في هذه النسخة؟ بلا شك نعم، فهي ليست مهزلة بالتأكيد. سيُسعده أن يرى أن آل بوينديا الذين يحبهم على عيوبهم قد نالوا هذا القدر من الكرامة. كما سينجذب ملايين آخرون لهذه الهدية الاستثنائية النابعة من الأجزاء القلقة والجريئة لإنسانيتنا. عليَّ فقط أن أثق بأن الرؤية الإبداعية الموجودة في ذلك الكتاب سوف تتلألأ ولن تظل إلى الأبد محاصرة بتلك النسخة المُبهِرة والمحدودة بالمقابل، التي تغزو الشاشات في جميع أنحاء العالم الآن

  • الهوامش

    أريل دورفمان كاتب من تشيلي، ولد في الأرجنتين عام 1942، وعاش طفولته في الولايات المتحدة قبل ان تضطر عائلته لمغادرتها بسبب طغيان المكارثية. انتقل إلى تشيلي وعاش فيها قبل أن ينفى منها بعد انقلاب بينوشيه عام 1973، وجاب العالم قبل أن يعود للإقامة في الولايات المتحدة.

    [1] تعبير يستخدم للإشارة إلى سكان الولايات المتحدة من البيض، وعادة ما يستعمل بغرض الإهانة، وإن لم يكن بالضرورة.

    [2] السطر المقصود هنا هو: «بعد سنوات طويلة، وأمام فصيلة الإعدام، سيتذكّر الكولونيل أوريليانو بوينديا ذلك المساء البعيد الذي أخذه فيه أبوه للتعرّف على الجليد». ترجمة صالح علماني، دار المدى. 

Comments are closed.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية