أعاد مسلسل ممالك النار فتح جدل متجدد حول ما إذا كان الوجود العثماني في مصر احتلالًا. انحاز المسلسل إلى فرضية الاحتلال فلم يظهر العثمانيين غزاة فحسب (ولو فعل لكفانا نقده فالغزو العسكري حقيقة تاريخية واقعة سواء سمّيناه فتحًا أو احتلالًا) ولكنه ذهب إلى أبعد من ذلك فصوّر المصريين مناهضين للغزو العثماني على أساس وطني وجعل هذه اللحمة الوطنية تجمع ما بين المصريين والمماليك، على الأقل بعضهم.
ينضم المسلسل إلى جوقة طويلة تعتبر الدولة العثمانية دولة احتلال، وتعتبر معاداةَ المصريين للعثمانيين على أساس وطني أمرًا بديهيًا، وهي جوقة طويلة تضم سياسيين وكتاب ومؤرخين ومزيِّفين للتاريخ، حتى عنون أحد «المؤرخين» كتابه استسهالا «الاحتلال العثماني لمصر»، كأن طومان باي وقنصوة الغوري كانوا قوميين مصريين أو كأن معارك مرج دابق والريدانية (أو معارك على بك الكبير ومحمد علي باشا ضد العثمانيين في الشام) كانت دفاعًا عن الحدود النهائية للدولة المصرية وعن سيادتها واستقلالها.
لا جدال في أن أي عملٍ فني من حقه أن ينظر للتاريخ بانحياز، ولهذا أترك لغيري تقييم المسلسل فنيًا، أو التعليق على محتواه. أمّا في هذا المقال فما يهمني هو الجدال التاريخي-الأيديولوجي الذي أثاره، وكيف انضم المسلسل إلى جوقة تُزّيف التاريخ، عن عمد أو عن غير عمد، لتلائم الهويات والانحيازات المعاصرة، لا لتنقل بأمانة آراء الذين عاشوا في زمن مضى.
لا جدال كذلك في أن كل التأريخ منحاز، ولكن إصرار بعض الكتاب والمشاهير على ترسيخ عداءٍ وطني مصري للاحتلال العثماني المزعوم يصطدم بتاريخ طويل من إعلان سابقيهم من الوطنيين المصريين ولاءَهم للدولة العثمانية واحتماءهم بها في وجه الاستعمار الأجنبي. بل ويصر بعضهم (مثل رفعت السعيد، أو حتى جمال عبد الناصر في ملاحظة سريعة في «فلسفة الثورة») على أن الشعور الوطني المصري الأصيل، الممتد منذ «الاحتلال العثماني» وحتى سقوط الخلافة، كان على عكس ما قال به المصريون في كتاباتهم وما ورد من آثارهم، وأنهم حين كانوا يلهجون بالولاء للدولة العثمانية كان ضميرهم الوطني، أحيانا من حيث لا يدرون هم، مناهضًا لمحتليه الترك.
يقرأ هذا التأريخ الأيديولوجي أحداث الماضي في سياق الحاضر، وكأن مصر وقتها هي نفسها جمهورية مصر المعاصرة ذات الحدود والسيادة، وكأن مشاعر أهل مصر وقتها تجاه الأرض التي تقلهم والناس من حولهم هي نفسها مشاعر الوطنية والقومية المعاصرة.
ويدخل طرفا النقاش إلى هذه الساحة اللا-تاريخية فيدافع مشجعو أردوغان عن الدولة العلية وكأن تركيا الحديثة، التي لم تقم سوى على أنقاض دولة الخلافة، هي نفسها الدولة العثمانية، وكأن مغامراته العسكرية في العراق وسوريا وليبيا هي استعادة للمجد العثماني، بينما يجعل خصومه عداءهم مع تركيا عداءً تاريخيًا بدأ عندما احتلت دولة بني عثمان القومية التركية الاستعمارية دولهم الحرة المستقلة ذات السيادة (وهي كلها، بالطبع، مفاهيم لم توجد في ذلك الوقت).
ويقع التاريخ ضحية لأولئك وهؤلاء.
ولكي لا يقع التاريخ ضحية لهذا المقال أو لتحيزاته، سنبدأ عرضنا من نهاية علاقة المصريين بالدولة العثمانية لا من بدايتها، قبل أن نعود إلى نقطة البداية لنرى ما يمكن أن يكون قد تغير من عواطف الناس وانحيازاتهم، وما تغفله السرديات اللا-تاريخية التي تجعل العاطفة الوطنية أمرًا ثابتًا ومتجاوزًا للتاريخ.
عن الوطنية المصرية والدولة العلية
نبدأ عرضنا من سنة 1914 وهي السنة التي أنهت فيها بريطانيا علاقة مصر الرسمية بالدولة العثمانية، وعزلت خديوي مصر عباس حلمي الثاني، الذي كان يحكم باسم العثمانيين، ونفته إلى إسطنبول بينما كان في زيارة لها، ونصبت عمّه حسين كامل «سلطانا» على مصر (ومنحته لقب سلطان كأن رأسه برأس السلطان العثماني). وفور عزل عباس حلمي تمنى المصريون عودته إلى الحكم، صراحةً: فكان الناس يهتفون في الشوارع «الله حي، عباس جاي»، وتوريةً: فكتب يونس القاضي (وهو الشاعر الذي كتب نشيد «بلادي بلادي») ولحّن سيد درويش دورًا موسيقيًا بعنوان «عواطفك ديه أشهر من نار»، ظاهره الغرام، وباطنه تأييد عودة عباس حلمي إلى الحكم إذ تشكل الحروف الأولى من كل بيت جملة «عباس حلمي خديوي مصر»، والأغلب أن هذه التورية كانت من أجل مراوغة الرقابة الإنجليزية.
كان عباس حلمي مقرّبًا من الباب العالي (على العكس من سلفه، عميل الإنجليز، محمد توفيق الذي كان السلطان عبد الحميد الثاني ينظر إليه بريبة ويتعامل معه بحذر) وكان عباس حلمي كذلك من رعاة الحركة الوطنية، التي كانت بدورها تجاهر بعثمانيتها: ولاء حزب مصظفى كامل الوطني للعثمانيين ومدائح جريدته اللواء للدولة العلية وجيشها وأسطولها وخليفتها مشهور، وكتابه «في المسألة الشرقية» مخصص للدفاع عن الدولة العثمانية في وجه أعدائها الخارجيين والداخليين (الذين أسماهم مصطفى كامل بالدخلاء)[1] وفي وجه وصمها بـ«المرض» من قبل قوى أوروبا،[2] وبين الفينة والفينة يخرج علينا من يعيد اكتشاف عثمانية مصطفى كامل ويخلص منها إلى التشكيك في وطنيته وكأن إحداهما تنتفي بالأخرى.
إصرار بعض المشاهير على ترسيخ عداءٍ وطني مصري للاحتلال العثماني المزعوم يصطدم بتاريخ طويل من إعلان سابقيهم من الوطنيين المصريين ولاءَهم للدولة العثمانية.
لم يقتصر هذا الولاء العثماني على مصطفى كامل وجريدة اللواء، التي كانت، في آخر المطاف، تعبر عن تيار سياسي إسلامي الهوى (وكانت التقارير البريطانية، على سبيل المثال، تصف اللواء وغيرها من مطبوعات الحزب الوطني بأنها «جرائد إسلامية»). بل امتد ذلك الولاء إلى جريدة المقطم ذاتها، التي أنشأها حفنة من عملاء الإنجليز لتكون ناطقة باسم الاحتلال البريطاني. وعندما بدأت بوادر المواجهة ما بين السلطنة العثمانية التي انضمت إلى محور ألمانيا، وما بين بريطانيا التي كانت تعد للحرب العظمى (أو الحرب العالمية الأولى كما عرفت لاحقًا)، وبدأت الأخيرة تعد لقطع صلة مصر بالخلافة العثمانية، لم تجرؤ المقطم على أن تقف بوضوح ضد الدولة العثمانية واكتفت بأن تعارضها بمواراة وحذر، أو أن تظهر في نقدها لدخول العثمانيين الحرب إلى جانب الألمان بمظهر الحريص على مصلحة الدولة العلية.[3] وحتى بعد قطع البريطانيين لهذه الصلة في 5 نوفمبر تشرين الثاني 1914، ظلت المقطم تتوارى وراء مديح الدولة العثمانية وتَصَنُّعِ الحرص على مصلحتها لتمرير رسالتها البريطانية المعادية للسلطنة،[4] ولم تجاهر بعدائها للعثمانيين سوى بعد أن أعلنت بريطانيا قطع علاقات مصر مع الباب العالي وحتى حين جاهرت المقطم بعدائها للعثمانيين، اختبأت أول الأمر وراء ادعاء الصداقة مع الترك،[5] أو وراء ترجمة ما جاء في الصحافة البريطانية من هجاء لتركيا.[6]
من المهم أن نتذكر أن كل ذلك تم في زمن كانت الرقابة على الصحف فيه بريطانية لا عثمانية ولا خديوية، وأن مقاليد الأمور في مصر كانت في يد الإنجليز، أي أن المقطم لو أرادت مداهنة السلطة القائمة لصدعت بولائها للإنجليز لا للعثمانيين. ولكن عثمانية المقطم كانت بالتأكيد مداهنة لمزاج شعبي مصري يدين بالولاء للعثمانيين، وبالحب لعباس حلمي.
هذه العاطفة الشعبية الوطنية امتدت أيضا إلى القادة العثمانيين العسكريين وتغنت بانتصاراتهم. مصطفى كمال الغازي، قبل أن يصبح أتاتورك، مدحه المصريون عندما كان قائدًا لجيوش العثمانيين وعندما حقق الانتصارات على اليونانيين وعلى الإنجليز وحلفائهم (بالذات وقد كانت المعارك تدور على مضارب الباب العالي فزاد الخوف من أن الاستعمار كاد أن يحيق بالخلافة)، ثم هجوه أقذع هجاء عندما حلَّ هذه الخلافة.
فلم تكن قصيدة أحمد شوقي الشهيرة التي يقول مطلعها «الله أكبر كم للفتح من عجبِ/يا خالد الترك جدد خالد العرب» سوى قصيدة فخر بالانتصارات العثمانية ومدح لمصطفى الغازي (وهي كذلك تدل على رؤية الشاعر للمجد التركي العثماني على أنه امتداد للمجد العربي الإسلامي، إذ ينسب إليهما الخلود ويحيلهما إلى خالد بن الوليد). ثم سرعان ما انقلب مصطفى كمال على الخلافة فانقلب عليه شوقي، وتحدث عن الذين «أست» (أي داوت) حربُهم جراحَ الخلافة ثم قتلها سِلْمُهُم «بغير جراحِ»، وعن الذين «هتكوا بأيديهم ملاءة فخرهم» والذين «نزعوا من الأعناق خير قلادةٍ\ونضوا عن الأعناقِ خيروشاحِ»، ثم يلتفت إلى مصطفى كمال أتاتورك تحديدًا فيصفه بأنه «عابثٌ، بالشرع عربيد القضاءِ وقاحِ/ أفتى خزعبلةً وقال ضلالةً (..) وأتى بكفرٍ في البلادِ بواحِ»، قبل أن يتمنى أن يثوب «الغازي» إلى رشده ويُعيدَ الخلافة «إن الجواد يثوب بعد جماحِ».[7]
ومن المهم، مرة أخرى، أن نتذكر أن السلطة القائمة في مصر كانت للبريطانيين ولأحمد فؤاد الأول، لا للعثمانيين، وأن كلا السلطتين في مصر كانت تتطلع إلى سقوط الخلافة في إسطنبول، وكان الملك فؤاد بالذات ينتظر هذا السقوط ليعلن نفسه خليفة للمسلمين، إلا أن شوقي، وهو شاعر البلاط، قرر أن ينحاز إلى العثمانيين لا إلى المحتلين الإنجليز ولا إلى أولياء نعمته في أسرة محمد علي.
وكما انحاز شاعر البلاط إلى العثمانيين، انحاز شاعر الشعب وكاتب الأغاني العامية والقصائد الاحتجاجية، بيرم التونسي. وإن كان شوقي قد خلع على مصطفى الغازي ثوب الفاتحين المسلمين الأوائل، شبه التونسي مصطفى الغازي بأبطال الملاحم الشعبية المصرية، فقال مستوحيًا السيرة الهلالية، يصف معركة الدردنيل التي انتصر فيها الجيش العثماني بقيادة مصطفى الغازي على بريطانيا وحلفائها:
سحب كمال السيف صلوا عالنبي… الجيش مدغدغ والملك معزول
سبعة وتسعين ألف واخد زيادة…في ساعة يشفطهم كمال الغول
إيه كنت تعمل يا كمال يا بن غانم… لو كان كمان الدردنيل مقفول
سايق كدة على فين يابو درش قول لي… وانت كدا عايق حلنج[8] مهول
يخلق بيرم جوًّا من الألفة ما بين قرائه المصريين وما بين مصطفى كمال، الذي يصبح تارة كمال بن غانم، في إشارة لدياب بن غانم، أحد أبطال السيرة الهلالية (وهو الوصف الذي يكرره التونسي في قصائد أخرى) وتارة «درش» وهي كلمة التدليل المصرية لاسم مصطفى. وفي قصيدة «حرب الترك والروم» يصفه بـ«المصطفى الغازي حبيبي» (وعدا عمّا في هذه المفردات من ود وحميمية، فإن عبارة «المصطفى … حبيبي» تحيل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وإلى المدائح النبوية).
ثم ما لبث بيرم أن انهال على مصطفى كمال أتاتورك بالتقريع عندما حل الخلافة، فيتهمه بالخروج على الدين وعلى جماعة المسلمين (صبحت حالًا يا مجاهد… للدين جاحد/ والمسلمين واحد واحد… عندك أغنام) ويسخر من فعلته التي أضعفت الأمة وشمتت فيها أعداءها (شكل الخلافة في الآية… للدين راية/ فكيتها يابن الكباية… فرحت أقوام) ثم يبلغ التقريع أوجه حينما يخاطبه بيرم كأنما يخاطب طفلًا صغيرًا ويقول له «ديه عملتك عملة سخيفة… طرد خليفة».
هذا التعاطف العثماني لم يقتصر على شعراء يمكن ربطهم بما سيعرف فيما بعد بالحركة الإسلامية، مثل شوقي وبيرم، ولكنه امتد إلى فنانين مسرحيين وغنائيين من خارج هذا الإطار تمامًا. الشاعر الغنائي بديع خيري الذي كان مؤلف الأوبريتات لفرقة نجيب الريحاني، كتب ثلاث قصائد في هذا المجال، تزهو إحداها بـ«جيش غازي كمال… عثمانلي جوزال [أي جميل]» وتسخر إحداها من جيش اليونان ومن هرب اليونانيين الذين تصورهم بالصورة الكوميدية التي ظهر بها اليونانيون في المسرح المصري في هذا الوقت، وتخلط ما بين العربية الفصحى، المكسرة، وما بين بعض العبارات اليونانية، يقول مطلعها «بني قومي هروبكمو تهيا… فهيا استعجلوا في الجري هيا» وأخيرًا، في قصيدته «مصطفاكي بزياداكي» التي لحنها وغناها سيد درويش، يزهو بمصطفى كمال في حروبه ضد اليونانيين، وبحلفاء تركيا (الفرنسيين والطليان والـ«بلشفيك»).
هذا التغني بانتصارات العثمانيين على اليونان امتد كذلك إلى ملحني مصر اليهود، ففي الأرشيف الغنائي المصري أغنية بعنوان «يا أدرنة يا حلوة» تتغنى باستعادة الأتراك لأدرنة التي احتلها اليونانيون، وتُنسَب هذه الأغنية إلى الملحن المصري داود حسني (الذي كان من يهود مصر الأصليين من طائفة القرائين) وتنسب كذلك إلى الملحن الشهير إبراهيم زكي موردخاي، أو زكي مراد (والد ليلى مراد، وكان من يهود مصر المهاجرين إليها من أوروبا).[9]
لا شك أن المصريين الذين أحبوا العثمانيين في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين ليسوا هم نفس المصريين الذين جاءهم الجيش العثماني غازيًا سنة 1517
أما سيد درويش فقد كان من بين آخر المسرحيات الغنائية التي لحنها مسرحية بعنوان «رواية الهلال»،[10] تجعل من الجيش (المصري؟) مصدرًا للفخر وتجعل من أداء الواجبات الجندية مرادفًا لأداء الواجب الوطني. إلّا أن هذه الوطنية هي كذلك رديف للعثمانية (بعد تسعة أعوام من قطع علاقة مصر الرسمية بالدولة العثمانية، وبعد أن أُجبر المصريون على تقديم خدمات للجيش البريطاني في حربه ضد تركيا، وقبل عام واحد من سقوط الخلافة)، فبينما يعلن الجنود في بداية المسرحية بأنهم لا يبيعون الوطن وأنهم يحفظون كرامة شعبهم، لكي «نعيش طول عمرنا… في أرضنا أحرار ورافعين العلم» تنادي عليهم جوقة الممرضات قائلة «يا جنود الخليفة … أنتو أبطال الشريعة/ التاريخ شاهد عليكم… حاسبوا لتضيع الوديعة»). وبينما تصبح الخدمة العسكرية الوطنية منوطة بالخلافة والشرع، يظهر الأعداء يونانيين بوضوح، فيتحدثون العربية باللهجة الكوميدية التي يعزوها المسرح المصري لسكان مصر اليونانيين، ويظهرون محبين للقمار والسكر بحسب الصورة النمطية السائدة وقتها ما بين أهل مصر عن يونانييها، ونراهم يحلمون بغزو القسطنطينية، وكأن المسرحية صدى لحروب الترك واليونانيين، وصدى كذلك لما حدث في الحرب العالمية الأولى حيث كادت دول الغرب تستولي على القسطنطينية/إسطنبول لولا جيش مصطفى الغازي.[11] ثم يعيد الجنود التأكيد على وطنيتهم المصرية، وعلى أن جنديتهم مرتبطة بمصريتهم، فينشدون في الختام:
إحنا جنود مصر الأحرار… لازم نكون دايما صاحيين
بقلوبنا دايما متحدين… بقلوبنا دايما متحدين
وهكذا، وبخلاف الأسطورة القومية المصرية المعاصرة والتي ستدعي دورًا للجيش المصري الوليد، ومن ورائه الوطنية المصرية الوليدة، في مقارعة الجيش التركي في الحرب العظمى/ العالمية الأولى، [12] نرى أن الحلم الوطني-العسكري في هذه اللحظة كان جيشًا مصريًا يحارب ضمن جيوش الخلافة لا ضدها. وبنفس المنطلق فإن أحمد شوقي حين أراد أن يتغنى بتاريخ الجيش المصري في معرض هجائه لعرابي في قصيدة «صوت العظام»، أتى على ذكر مختلف المعارك التي خاضها جيش محمد علي بتوكيل من العثمانيين وأسهب في المعارك التي حارب فيها جيش مصر إلى جانب الجيش العثماني، وأسقط تمامًا حملة الشام التي خرج فيها الجيش المصري على طوع العثمانيين. أي أن الأسطورة الوطنية المصرية في أوائل القرن العشرين، مسرحًا وشعرًا، تخيّلت جيشًا وطنيًا مصريًا يحمل لواء العثمانية ولا ينابزها.
دخل القرن العشرين، إذن، والمصريون عثمانيون، وسقطت الخلافة العثمانية في الثالث من مارس آذار لسنة 1924 ميلاديًا، الموافق للسابع والعشرين من رجب لسنة 1342 هجريًا، والوطنيون المصريون يدينون بالولاء لها ويحلمون بوطنية مصرية تعضد الخلافة، وبجيش مصري يذود عنها ويحارب عنها حروبها. لا يعني هذا الكلام بأية حال من الأحوال أن المصريين قد رحبوا بجيش سليم الأول حين أتاهم غازيًا قبل ذلك بحوالي أربعة قرون.
رجع الحديث إلى «الغزو العثماني»
لا شك أنه عندما جاء العثمانيون إلى مصر، كان ثمة نوع من التعاطف، من باب الألفة ومن باب درء الخطر، قد نشأ بين عموم المصريين وبين حكامهم المماليك.
في كتاب بدائع الزهور ووقائع الدهور لابن إياس نرى بالتأكيد تعاطفًا مع طومان باي الذي رفض الرضوخ للعثمانيين حتى شنقوه على باب زويلة، وعاش هذا التعاطف في الوجدان الشعبي المصري، خاصة إذ يُقَارَن شرف طومان باي بخيانة خاير بك (الذي أصبح اسمه في الوجدان الشعبي المصري خاين بك) وجان بردي الغزالي اللذين باعا ولاءهما وواليهما للعثمانيين. فهل كان طومان باي بالفعل حاكمًا عادلًا كما يصفه ابن إياس،[13] أم رأف بالناس ليصطفوا حوله في حربه الأخيرة ضد العثمانيين؟ أم أشفق الناس عليه حين عُلِّقَ على أحد أبواب المدينة فاختلقوا له، واختلق له ابن إياس، تاريخًا من العدل والرحمة؟ لن تكون هذه الشفقة من بعد الموت غريبة لا على وجدان الشعب المصري ولا على ابن إياس الذي تتغير لهجته في التعامل مع قنصوة الغوري فور نقله خبر وفاته.
وفي المقابل لا يمكن أن نخلط بين هذا التعاطف مع طومان باي، أو حتى مع سلفه السلطان الغوري أو مع سائر المماليك، ولو من باب الألفة، وبين الشعور القومي الذي تحاول سردية «الاحتلال العثماني» فرضه.
ولا شك كذلك أن المصريين الذين أحبوا العثمانيين في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين ليسوا هم نفس المصريين الذين جاءهم الجيش العثماني غازيًا (أقول غازيًا ولا أقول محتلًا) سنة 1517 الميلادية. لا بد وأن المصريين قد وجلوا من الدمار الذي جلبه الجيش الغازي (لا الجيوش تدّعي الرحمة ولا الجيش العثماني كان معروفًا بها). وكتب التاريخ تمتلئ بروايات (قد تكون حقيقية أو مبالغًا فيها أو موضوعة) عن استباحة العثمانيين للمدن المصرية وعن الجثث المرمية في الطرقات وعن الذين كان العثمانيون يخطفونهم ثم يجبرونهم على شراء أنفسهم بالمال. لا شك أن المصريين لم يرحبوا بكل هذا وأن علاقتهم بالجنود العثمانية كانت في هذا العام علاقة خوف وكره.
ولكننا نعلم كذلك أن قسوة العثمانيين كان يتبعها في كثير من الأحيان استتباب للأمر تُعصم فيه الدماء، ونعلم كذلك أن العثمانيين تركوا مصر وشأنها بعد أن استقامت لهم، فمنذ ذلك الحين وحتى الحملة الفرنسية ظل المماليك يحكمون مصر بالنيابة عن العثمانيين، من بعدها أتى الفرنسيس فأصبح المصريون ينتظرون الجيش العثماني الذي سيخلصهم منهم، بعدها جاء محمد علي وقضى على المماليك وحكم هو وأسرته مصر بالوكالة عن العثمانيين إلى أن قطعت بريطانيا صلة مصر بالدولة العثمانية. أي أن العثمانيين عمليًا لم يحكموا مصر منذ أن دخلوها، وربما أصبح العثماني في المخيلة المصرية هو الحاكم البعيد، الذي يمكن أن يجأر الناس إليه من مظالم المماليك والولاة، وهو السلطان الذي يمكن أن ينادوا عليه بالخلافة من دون أن يرتبط اسمه بالمظالم اليومية.
مسألة الخلافة
في مقابل فرضية الولاء القومي، أرى أن فرضية شرط الخلافة هي الأوقع. فحين تعاطف المصريون مع المماليك في وجه الجيش الغازي، وبالإضافة إلى ما خافوه من قسوة الجنود العثمانيين ومن الدمار الذي تجلبه الجيوش الغازية، كان الخليفة العباسي رهينة عند المماليك وكانوا يدّعون من خلاله شرعية الخلافة. ثم أُسِرَ آخرُ خلفاء العباسيين في معركة مرج دابق وأُخذ إلى إسطنبول بعد الحرب حيث بايع (أو أُجبر على أن يبايع) العثمانيين بالخلافة. ومنذ ذلك الحين ولقب الخلافة في حوزة العثمانيين ينسونه تارة ويستخدمونه لحشد الناس تارة.
إلا أن شرط الخلافة لا يفسر وحده تغير مشاعر الناس من الوجل من العثمانيين والتعاطف مع عدوهم، إلى محبتهم والولاء لهم. وليس عندي تفسير شاف لهذا التغيير، فليس الهدف من هذا المقال بيان ما تغير على مدى 400 عام، وإنما الهدف من هذا المقال هو بيان تهافت أسطورة العداء الوطني المصري الـ(لا)تاريخي للعثمانيين، وإقامة الحجة على أن هذا العداء حين وجد لم يكن قوميًا أو وطنيًا، أمّا في عصر ميلاد القوميات فكان الوطنيون المصريون يرون ارتباطًا ما بين وطنيتهم المصرية وبين انتمائهم العثماني وكانوا يلوذون بالعثمانية في وجه الاستعمار.
-
الهوامش
[1] صاغ مصطفى كامل مصطلح الدخلاء ليصف به المتآمرين على السلطنة العثمانية والذين تربطهم صلة بالاستعمار، واستخدمه في السياق المصري لوصف أذناب الإنجليز الذين وظفهم الإنجليز في إدارات الدولة، وظل المصطلح يستخدم في الأدبيات الوطنية المصرية بعد الاستقلال حتى أن عبد الحليم حافظ يقول وهو يرثي حال مصر تحت الاحتلال في أغنية ذكريات «ولكل دخيل فيها إدارة، وجيوش محتلة ومخمورة».
[2] لن نستطيع في هذا المقال أن نفصل فيما إذا كانت الدولة العثمانية بالفعل «رجل أوروبا المريض» أم أن الاستعمار هو الذي قطع أوصالها ثم تكفل الاستشراق الذي يرى الشرق مريضًا ومنحلًا والغرب مفعمًا بالحيوية بأن يعزو مشاكل الدولة العثمانية إلى مرض متأصل فيها لا إلى تدخلات الغرب ومؤامراته
[3] ينظر على سبيل المثال مقال «أنور باشا والجيش العثماني ومذكرات جمال باشا» في 18/7/1913، و«واجب العثمانيين في الحال الحاضرة»، 7/9/1914، «الدولة العلية والحرب»، 8/9/1914، «نصيحة السلطان عبد الحميد» 26/9/1914، «ويلات الحرب ولا محارب: غيري جنى وأنا المعذب»، 17/10/1914، «إلى الجندي العثماني» (والتي تخفي نقدها للدولة العثمانية وقرارها دخول الحرب إلى جانب ألمانيا، وراء مديح الجندي العثماني) 28/9/1914،
[4] على سبيل المثال في «ماذا يصيب الأستانة بجناية الحكومة المنتحرة» 10/11/1914، وفي هذا المقال بالذات تظهر المقطم بمظهر الحريص على مصير الدولة العثمانية، والمعارض لسياسات الحكومة القائمة من باب الحرص على الدولة لا العداء لها.
[5] «من العرب إلى الترك: بيان وإيضاح» 20/11/1914
[6] «تركيا والإسلام»، 21/11/1914
[7] في هذه القصيدة يصور شوقي كذلك حزن الأمة وعدم تصديقها لخبر زوال الخلافة فيقول:
الهند والهة ومصر حزينة… تبكي عليك بمدمع سحاحِ
والشام تسأل والعراق وفارس… أمحا من الأرض الخلافةَ ماحِ
[8] أي بارع واسع الحيلة.
[9] لا تتوفر تسجيلات هذه الأغنية بسهولة، ربما بسبب محاولات كبح ومحو روايات الولاء العثماني عند المصريين، وبالذات روايات الولاء اليهودي، في مصر وخارجها، للدولة العثمانية . وتسجيل الأغنية متوفر في أرشيف مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية في قرنة الحمرا في لبنان، حيث تُصَنَّف ضمن أغاني زكي مراد. وقد أطلعني مديرها الملحن مصطفى سعيد على هذه الأغنية كما أطلعني أول مرة على أغنية مصطفاكي بزياداكي وحدثني عن ولاء الموسيقيين الوطنيين في هذه الفترة للدولة العثمانية، وذلك أثناء إعدادي لبحث رسالة الدكتوراة في عام 2014.
[10] موسوعة أعلام الموسيقى العربية: سيد درويش، الجزء الثاني، إعداد إيزيس فتح الله وحسن درويش ومحمود كامل.
[11] لو صدق هذا الصدى فإن هذا يعني أن المصريين وقتها تمنوا لو شارك جيشهم في الحرب العالمية الأولى في صف العثمانيين لا في صف عدوهم، على العكس من الأسطورة الوطنية المصرية المعاصرة التي تجعل من العمال الذين أرغموا على العمل بالسخرة لدى الجيش البريطاني جيشًا وطنيًا حارب ضد العثمانيين وتجعل هذه المشاركة العسكرية المزعومة مصدرًا للفخر.
[12] السابق.
[13] هذا الكلام، إن صح، يجعل من طومان باي استثناء في تاريخ المماليك الذين كانوا في الأعم طبقة عسكرية حاكمة تنهش في لحم الناس، وحين يتحدث ابن إياس عن أن العثمانيين «طفشوا في الناس» فهو يستعير من مصطلحات الحكم المملوكي حيث كان من عادة المماليك، أثناء تصفية حساباتهم مع بعضهم البعض أو حين يستبد بهم الضيق، أن «يطفشوا» في المصريين فيقتلوا منهم من يقتلون وينهبوا منهم ما ينهبون.