عاد متحف الفن المعاصر «ماكفال»، الواقع على مشارف باريس، ليفتح أبوابه بعد أشهر من الحجر بمعرض جديد خصصه للفنان الفلسطيني تيسير بطنيجي. جاء الحدث مهمًا لأكثر من سبب، فالفنان لم يحظ حتى الآن بأي معرض «استعادي»، أي مخصص حصرًا لأعماله، لا في العالم العربي ولا خارجه، خصوصًا في مؤسسة على مستوى «ماكفال»، أحد أهم مراكز الفن المعاصر في فرنسا. إضافة إلى ذلك، وبعكس متاحف فرنسية أخرى مثل مركز بومبيدو للفن الحديث والمعاصر، يتخصص «ماكفال» بالفن المعاصر الفرنسي، ونادرًا ما يخصص معارض فردية لفنانين أجانب، مما يجعل عرضه لبطنيجي بمثابة منحه «جنسية فنية» أو على الأقل اعترافًا رسميًا ترافق باحتفاء من قبل صحف لوموند وآرتفوروم، إحدى أهم مجلات الفن المعاصر في العالم.
جانب من معرض الفنان تيسير بطنيجي في متحف «ماكفال». تصوير يزن اللجمي.
جاء رد بطنيجي على حفل تجنيسه الرمزي هذا ردًا ممتنًا وساخرًا معًا. فأحد أول الأعمال التي تستقبل الزائر لدى دخوله المعرض هو «مشروع هوية» (1993-2020)، حيث يعرض الفنان أوراقه الثبوتية بالترتيب الزمني: جواز سفر إسرائيلي، ثم فلسطيني، ثم بطاقة إقامة في فرنسا ومجموعة أوراق حكومية تقود به إلى الجواز الفرنسي. لكن خاتمة القصة ليست بهذه السعادة، فالمشاهد يراقب صورة الفنان الشخصية تشيخ تدريجيًا من وثيقة إلى أخرى، مؤرخة لحياة وعرة قضاها عبر بيروقراطيات الهجرة والجوازات، منذ ولادته في غزة عام 1966، وحتى حصوله على الجنسية الفرنسية عام 2012، أي عندما بلغ عامه الـ46.
من بين الوثائق المعروضة رسالة رسمية تلقاها بطنيجي من دائرة الأحوال المدنية الفرنسية إبان تجنيسه، يبتدئها الموظف قائلًا: «من غير الممكن أن أشير إلى فلسطين كبلد المنشأ كون تلك التسمية لم تعد مستخدمة منذ الأحداث التي وقعت في 13 أيار 1948». يعيد الفنان نقش العبارة على حجر رخامي أسود أسفل العمل لتصبح تلك الهوية، «غير القابلة للتعريف» حسب قوله، وصمةً أكثر ديمومة من كل الأوراق المهترئة.
«مشروع هوية» (ID Project). 16 مطبوعة رقمية على ورق A4، رخام أسود منقوش، 28*36.7 سم. 1993- 2020.
درس بطنيجي الفنون في جامعة النجاح في نابلس قبل أن يحصل على منحة للدراسة في فرنسا عام 1994، استمر على إثرها بالتنقل بين البلدين، حتى أُغلقت المعابر المؤدية إلى غزة نهائيًا عام 2006 نتيجة الحصار، فاختار الفنان البقاء في منفاه. ترافقت هجرة بطنيجي هذه بنوع من هجرة فنية أو تحولٍ جوهري في أسلوبه، تزامن مع تحولات مشابهة لدى بعض أبناء جيله من الفنانين الفلسطينيين في المنفى، مثل إيميلي جاسر ومنى حاطوم. أخذ البطنيجي مثلهن بالتخلي جزئيًا عن الوسائط الفنية التقليدية التي درسها في شبابه، خصوصًا الرسم والتصوير الضوئي، متبنيًا ممارسات هجينة تمزج الفيديو والتصوير والفن الرقمي، وخصوصًا «التجهيز»، ذلك الفن الذي كان مجهولًا في الوطن العربي آنذاك ولا يزال إلى حد كبير. ينتمي بطنيجي بذلك إلى جيل انتقالي مهم في الفن العربي المعاصر، جيل طوّر لذاته أسلوبًا هجينًا و«مزدوج الجنسية» يستحق التوقف عنده.
«آثار 2» (Traces #2)، ألوان مائية على ورق، أبعاد مختلفة، 2016.
فلنأخذ مثلًا عمل بطنيجي المسمى «إلى أخي» (2012-2020). عن بُعد، يبدو العمل كمجموعة من عشرات اللوحات المؤطرة والمعلقة، إلا أنها بيضاء بالكامل، فارغة. لا شيء مستغرب حتى الآن، فقد أُطلق على هذا النوع من اللوحات في سياق الفن الحديث اسم «مونوكروم»، أي «ذو لون واحد»، وهي ممارسة شاعت في القرن العشرين واكتسبت معانٍ مختلفة، ابتداءً من مونوكرومات الفنان السوفييتي ألكسندر رودشينكو، وهي ثلاث لوحات كل منها بلون واحد، عرضها الفنان عام 1921 كطريقة لإعلان موت الرسم ؛ مرورًا بـ«اللوحة البيضاء» للأميركي روبيرت راوشنبرج، التي طلاها عام 1951 بطلاء أبيض لامع كي تعكس الألوان والظلال في قاعة العرض، بحيث يتغير محتواها بتغير موقع المشاهد وما يحدث حوله؛ ووصولًا إلى مونوكرومات الفرنسي إيف كلان في الستينات، والتي طلاها الفنان بأزرق لازوردي رأى فيه مدخلًا إلى عالم سماوي روحي. عن بعد، تبدو لوحات بطنيجي مساهمةً إضافية في تقليد المونوكروم الغربي، يتسائل المشاهد عن جدواها، وعما إذا كان لا يزال لديها شيء جديد لتقوله. يقترب من اللوحات تدريجيًا ليتأكد ظنه، فالورق متروك فعلًا بكامل بياضه، لا أثر عليه لأي لون كان.
لكن النص المرافق للعمل يحكي قصة مختلفة، مؤكدًا بأن العمل هو مجموعة رسومات يدوية منسوخة عن صور التُقطت في غزة يوم عرس أخ الفنان، الذي راح ضحية قناص إسرائيلي بعدها بسنتين أثناء الانتفاضة الأولى. يقترب المشاهد من إحدى اللوحات الفارغة حتى يكاد يلصق وجهه بها، وفجأة، يلمح شيئًا على السطح، خطوطًا غير مفهومة في البداية. يدير رأسه بشكل طفيف ليكسب الضوء إلى جانبه فتبدأ أجساد ووجوه بالارتسام، ومعها شعور عارم بأن الجدار ليس فارغًا، بل يعج بأجساد ووجوه مرئية بالكاد، تبتسم له وتتبعه بنظراتها. في الحقيقة، حفر الفنان الورق باستخدام قلم لا لون له، ناسخًا ستين صورة من عرس أخيه، ومعها جعبة ذكريات سعيدة صارت ممحية، يتأرجح أثرها «بين حضور عابر وغياب دائم» بحسب تعبيره.
«إلى أخي» (To my Brother). 60 أحفورة يدوية على الورق نقلًا عن صور ضوئية، 30.5*40.5 سم. 2012.
يقدم «إلى أخي» ذاته كعمل مكرر، لا فرق بينه وبين مونوكرومات الخمسينات والستينات، لكن ما إن نتعرف إليه عن قرب حتى يكشف عن هوية جريحة، تَحول ندباتها دون صفاء ونقاء مونوكروم عادي لفنان غربي عادي. نصادف استراتيجية مشابهة في عمل بطنيجي المسمى «أبراج مراقبة» (2008). عن بعد، يبدو العمل كمجموعة صور فوتوجرافية للزوجين هيلا وبيرند بيشير، فنانان ألمانيان اشتهرا منذ الخمسينات بتصويرهما لخرائب العمارة الصناعية في ألمانيا، خصوصًا لأبراج المياه والصوامع وغيرها من البنى الخرسانية والحديدية المتزمتة. يقلد بطنيجي طريقة تصوير وتأطير الزوجان للعمارة، كما يقلدهما باستخدام الأبيض والأسود، حتى يظن المشاهد بأنه في حضرة عمل للفنانين الألمان. لكن بالاقتراب من العمل، يتبين أن العمارة المصورة أبعد ما تكون عن أطلال صناعية من القرن السابق، فقد قام الفنان باستخدام صور لأبراج الرصد الإسرائيلية التي تراقب تحركات الفلسطينيين في الضفة الغربية.
«أبراج مراقبة» (Watchtowers). صور ضوئية مطبوعة رقميًا، كل منها 40*50 سم. 2008.
يمكن وصف الاستراتيجية هذه كنوع من «التصاور»، أي التلميح إلى صورة ما (غربية في حالة بطنيجي) باستخدام صورة أخرى (عربية)، وهي ممارسة، كما ذكرت، يتشاركها بطنيجي مع غيره من الفنانين العرب الذين لجؤوا إلى الغرب إثر كوارث سياسية في بلادهم. قد تكون الفنانة الفلسطينية-البريطانية منى حاطوم من أوائل من عملوا ضمن أسلوب مماثل، حيث مزجت ببراعة التطريز الفلسطيني بالتكوينات التجريدية الغربية و عمارة بيروت المدمرة بالمنحوتات الاختزالية التي اشتهرت بها أميركا في الستينات. استمرت استراتيجية التهجين هذه حتى أجيال أحدث من الفنانين، مثل السوري خالد بركة الذي لجأ إلى ألمانيا مؤخرًا، والذي يبدو عمله «دمشق 15/02/2012 19:47:31» كلوحة تجريدية عادية مرسومة بضربة فراشة سوداء، حتى يكتشف المشاهد لدى قراءته للنص المرفق بأنها صورة رقمية قام من خلالها بعزل ومعالجة علامات تعذيب حملها أحد المتظاهرين السوريين على ظهره.
قد يجوز اعتبار تلك الاستراتيجية نوعًا من التلاعب الذي يضمن للفنان العربي مدخلًا سريعًا إلى قلب المشاهد الغربي، وذلك باستدراجه بأشكال مألوفة ليجد نفسه قبل أن يدري أمام درس في السياسة العربية. لكن يجوز أيضًا النظر إليها بوصفها تعبيرًا عن رغبة حوار بين العالمين، أو حتى كمحاولة من الفنان لشرعنة فنه بالتأكيد على انتماءه إلى الفن الحديث «العالمي»، بقدر انتماءه إلى العالم العربي وقضاياه. لكن الحق، هو أن لتلك الاستراتيجية حدودها، خصوصًا عندما يفرط في استخدامها. في البعض من أعماله مثلًا، يكاد بطنيجي يقلد أعمالًا نفذتها حاطوم قبله بسنوات، كانت هي بدورها قد استوحتها عن فنانين غربيين من القرن العشرين. في «وقت معلّق» (2006) مثلًا، يقدم بطنيجي فكرة مشابهة لفكرة حاطوم في T42 (1993-1998)، المنقولة أصلًا عن تجارب للألمانية ميريت أوبنهايم، كما في «الجوز» (1973). أما في عمله «دوام الحال من المحال» (2014)، يستمد بطنيجي فكرة النقش على الصابون والربط بين ذوبانه وتغير الأحوال السياسية من منحوتة حاطوم «فعل مضارع» (1996)، حيث نقشت الفنانة خريطة التقسيم الناتجة عن اتفاقية أوسلو على صابون نابلسي كاستبشار بذوبان تلك الحدود يومًا ما، مستمدةً شكل عملها من منحوتات الأميركي كارل أندريه.
مقابل تلك المتاهات من الاستعارات المعلنة وغير المعلنة، والتي تثير حفيظة مؤرخ الفن وعدم اهتمام الزائر العادي، قدم بطنيجي في المعرض أعمالًا أثرها أكثر مباشرةً وبساطة مثل «حنّون» (1972-1992)، وهو تجهيز مكون من مساحة صغيرة بجدران بيضاء غطيت أرضها بآلاف اللفائف الخشبية الناتجة عن بري أقلام رصاص حمراء اللون. على الجدار المقابل عُلقت صورة لغرفة فارغة. «حنون»، وهي التسمية الشعبية لشقائق النعمان، تلمح إذًا إلى مشهد ربيعي مشرقي ترتبط فيه هبّات شقائق النعمان بأساطير الخصب ودماء الشهداء. لكن للعمل جانب أكثر حميمية، فالغرفة التي تظهر في الصورة هي مرسم الفنان في غزة، والذي بناه ليكون مكان عمله الدائم، قبل أن يضطر لهجره تدريجيًا مع تردي الوضع في غزة ومن ثم ينتقل إلى فرنسا، ليصير المكان ذكرى بعيدة تفصلنا عنها حقول من التعب والوقت الضائع في بري مئات الأقلام الخشبية، من «الإنتاج غير المنتج»، بحسب وصف الفنان.
«حنّون» (Hannoun). صورة ضوئية (100*100 سم) وبري أقلام بأبعاد مختلفة. 1972- 2009.
من بين تلك الأعمال، تمتلك صور البطنيجي الضوئية سحرًا خاصًا، خصوصًا تلك التي التقطها في غزة. في مجموعته «آباء» (2006)، يصور الفنان زوايا مختلفة من متاجر ومشاغل في غزة حيث يعلق صاحب المحل صورة والده، أحيانًا بجوار صور عرفات وعبد الناصر. المشاهد مؤثرة ومضحكة ومقلقة في آن واحد، وكأن رموز السلطة الأبوية تلك لا سلطة لها إلى على ممالك غرائبية من حليب الأطفال وأكياس النايلون وعلب الكبريت. أما في عمله التصويري الآخر، «يوميات غزاوية» (1999-2006)، فيوثق الفنان مشاهد من حياته السابقة في البلاد، مستحضرًا «كآبة غزة فترة العصر بحرارتها وجنونها ورطوبتها»، بحسب تعبيره. قد تكون أجمل الصور تلك التي تجلس فيها بضعة من نساء العائلة في صف أفقي على كراسٍ بلاستيكية، وكأنهن بانتظار شيء ما، يضحكن للفنان بملابس زهرية وصفراء فرحة تتناقض مع الغرفة الكبيرة الفارغة بجدران كانت يومًا بيضاء، يتسائل المشاهد عن الهدف منها وعن سبب فراغها.
تكفي رؤية تلك الصور ليبدو المعرض بأكمله خارجًا من رحم ذاك العالم الغزاوي الموازي، فأعمال بطنيجي يغلب عليها الأبيض والرمادي، الأوراق وقشور الجدران والخرسانة ورمل البحر، وخصوصًا إحساس عارم بالفراغ والانتظار. لهذا اختار الفنان لمعرضه عنوانًا مقتبسًا عن نص للكاتب الفرنسي جورج بيريك: «ما أمكن انتزاعه من الفراغ الذي يتوغل»، فأعماله تستمد قوتها من التناقض بين هشاشة المواد الرخيصة والمساحات المهدورة والصور الممحية من جهة، وبين قوة وحيوية الأحداث التي ترويها من جهة أخرى، أو بالأصح، من قدرتها على بعث الحياة في أكثر الأشياء عدميةً كورقة بيضاء أو حقل من الأقلام المبرية.
صورة من «مذكرات غزة رقم 3» (Gaza Diary #3). طباعة رقمية على ورق، 70*46.67 سم. 1999-2006.