بعد أفلام «هليوبوليس» (2009)، و«ميكروفون» (2011)، و«فرش وغطا» (2013)، و«ديكور» (2014)، تأتي مشاهدة «ليل/خارجي» (2018)، الفيلم الأول لأحمد عبد الله السيد بعد تجربة «ديكور» المنفَّذة بمنظومة انتاجية سائدة (إنتاج شركة نيوسنتشري)، لتؤكِّد مسارًا من التجريب التقني والتقشف المادي والارتجال المضموني.
المخرج الذي درس الموسيقى واشتغل مولِّفًا لأفلام مصرية تجارية، يملك مزاجًا خاصًا في صنع أفلامه عارفًا مغبَّة الثبات عند مضامين وأشكال لا يمكن تنفيذها في سياقات الانتاج المصري السائد حاليًا.
العودة لأفلام عبد الله تكشف تفاصيل لافتة في انتقاء الشخصيات ومزاجاتها، أو الأمكنة، أو المواضيع، أو اللغة المستخدمة، يبني عليها من فيلم لآخر حتى يبدو الأمر عبارة عن فيلم واحد عن العيش المصري اليومي.
«هليوبوليس»
نحن في 2009/2008، حيث الرائي هو مخرج يعاني من فراق حبيبته مهتم بالمساحة التي خلقها داخل القاهرة عبر مبانيها: «هليوبوليس»، وهي مجاز عن الباقي من القاهرة والمعرَّض للانهيار بناءً وعيشًا.
مع المخرج، نرى الشخصيات الأخرى تهيم، كل باتجاه حلم اختارته أو فرض عليها قسرًا. هناك عاملة الفندق التي تعيش كبتًا عاطفيًا وتنهمك في مراقبة نزيلات الفندق، ثمَّ تتحول خيالاتها حول مفارقة القاهرة إلى صور متحركة ورسائل كاذبة لأهلها. وهناك القبطي المكتئب الذي يعمل على معاملة الهجرة، ويود أن يرحل ولا يرحل، ومعهما العسكري الصامت الذي يصادق كلبًا شريدًا ويسمع عبد الوهاب (وهو خيار لافت يجمع بين الجمال والسلطة، ليبدو معبّرًا عن نهاية بطيئة لدولة يوليو)، وخطيبان عالقان في الزحمة سياراتٍ وأسعار ثلاجات.
يبدو الفيلم مهمومًا بانتظار لا ينتهي، لكنه لا يبارح مكانه، هليوبوليس، ولا يدفع باتجاه أن تلتقي الشخصيات ببعضها. الكل كامن في مساحته، مترفع عما حوله من عيش (حادثة السيارة)، أو منغمس في أوهامه (عاملة الفندق)، أو منشغل في خططه للهرب (المهاجر)، أو في محاولة دخول حياة جديدة (الخطيبان)، لذا نحتاج معلقًا من الخارج، هو صوت حبيبة المخرج، التي تختم هذه الرحلات المجاورة لشخصيات لا تلتقي، بمونولوغ صوتي يوقف هذا الكمون الانتظاري، من دون أن ينهيه.
«ميكروفون»
نترك انتظار القاهرة لنذهب للإسكندرية، حيث الرائي هو خالد العائد من الخارج ليشتغل في التنشيط الثقافي والفني، فيتورط في دعم محاولات موسيقية لشباب يكرِّر محاولة الصعود إلى السطح. هذه المرّة، لا تكتفي الحبيبة بالصوت، بل تظهر بالصورة لتشرح، لكنه شرح مقلوب ومكرَّر، يبدأ من النهاية وينتهي في البداية ويكرِّر لحظات بعينها من مشهد إلى آخر.
إنه ارتجاع الماضي، لكن الموازي لمحاولات موضعية في الخروج عبر الموسيقى. وهكذا، ينشغل الفيلم في محاولة دعم الموسيقى تحت الأرضية، فيستبدل عبد الوهاب البادي في هليوبوليبس بموسيقيين شباب بعضهم لا يُظهر وجهه، وبعلاقة غريبة بين العائد وأبيه لا تلبث أن تتضح في النهاية تمثلًا لأزمة بين جيلين، وبين سلطتين، وبين تزاحم لزمن «جميل» في دولة بائدة، وزمن صاعد لشباب يحاولون أن يجدوا مكانًا لهم داخل المنظومة أو على تخومها.
لكنَّ المحاولة فاشلة لأنَّ المنظومة مهمومة برعب بقائها وترى في القادمين تهديدًا. حتى خارج الفيلم، وفي أثناء إحدى ندوات عرضه، اعترض بعض الحضور على إحدى اللقطات حيث تظهر بقايا صورة لأم كلثوم من تحت ملصقات لفرق موسيقية جديدة. وفي مشهد آخر من الفيلم، يرفض اشتراك شخصيات شابة في إحدى الحفلات، لصالح موهبة «جديدة» ستغني أم كلثوم، ما يدعوهم للتأفف بالقول: «أم كلثوم تاني!»، فاعتبر بعض من حضر الندوة أن في المشهدين إساءة لتاريخ وإهانة لقدسيَّة أم كلثوم.
الفيلم، في مصادفة غريبة، ابتلعته الثورة، إذ كان مقررًا عرضه في الصالات في 25 يناير 2011، وهي الثورة نفسها التي دفعت موسيقيين ظهروا في الفيلم إلى صدارة أحداثها لاحقًا. على الرغم من كل محاولات الشخصيات للاندماج، ننتهي مع الوطأة نفسها التي صدَّرها هليوبوليس. لقد اختلف المكان فقط، لكنَّه بقي «قاهرًا» لسكانه وللعابرين فيه. الهرب عبر الموسيقى لم ينفع، والكمون بعدما تحول محاولات للصعود إلى السطح، عاد لينتهي عند كورنيش مملوء بمكعبات اسمنتية تستقبل بحرًا هو منفذ المدينة، التي تموت ببطء، إلى العالم الخارجي.
«فرش وغطا»
نحن في الثورة، حيث الرائي هو الكاميرا مع صمت يغلب على كل مشاهد الفيلم، إذ ما الذي يمكن قوله عبر التصريح في حدث بالغ الآنية وما زال في طور التشكل؟ خيار الشخصية الرئيسية لافت لفيلم تدور أحداثه عن الثورة: مسجون فَرض عليه الحدث الطارئ هروبه، فانساق منضمًا للجموع أو هاربًا منها، من دون أن يسأل. الفيلم مهموم، عبر اختياره هذه الشخصية، بمنظومة عدالة تُهشّمها الصورة الوردية التي غلب تصديرها عن الثورة المصرية عبر اختيار شخصيات من الطبقة المتعلمة، ونبذ تهمة الترييف أو محاولة تهذيبه بالنظر إليه عبر ثنائية ضحية/بلطجي.
الفيلم أيضًا، لا يتجنب مقاربة العنف في ثورة تأطّرت في الإعلام كثورة «سلمية»، ولا يجزع من التدليل على السلطة المجتمعية الأخلاقية في تحالفها مع أمن السلطة بإظهار المواطنين الشرفاء الذين يحمون أحياءهم فيتحولون إلى بلطجية. لكنَّه يقوم بكل ذلك من دون أن يقول باللغة الصوتية شيئًا، فيتيح المجال لكافة السرديات، ولنوازعها.
تنحسر موسيقى الشباب هنا، ويخلو المكان لموسيقى وأغانٍ صوفية تعطي الفيلم اسمه «فرش وغطا»، الذي يركز على التغيرات التنقلية السريعة المدفوعة بانحسار حس الأمان. المسجون هو في صلب تفجر الثورة كنتيجة للكمون في العيش. ومع المسجون (الذي سنفترض أنه مسلم)، تظهر الشخصية القبطية مجددًا عبر رفيقه الذي يحاول الهرب فينتهي مقتولًا مع رسالة وأموال قليلة.
يصير الفيلم أشبه برحلة تنفيذ لوصية. وفجأة، تتبدى معادلات أكثر. الهارب سُجِن على الأرجح لذنب لم يرتكبه، أو ربما زايد نظام العدالة في سنوات سجنه، وهو في رحلته لتنفيذ وصية رفيقه المسيحي، يسير ضد الخطاب السائد، ويعرف امتيازاته من دون أن يتكلَّم حتى، فيزور أحياء تملأها القمامة، وينام في أمكنة على الأطراف، يستطيع منها مشاهدة دخان الثورة الهارب في السماء.
لقد عرض الفيلم، بلا صوت، كل ما لا يودّ أن يراه أحد في فيلم عن الثورة معروضًا خارج حدود البلد، ما استتبع نزقًا في الخطاب العام عند بعض متلقي مهرجان أبو ظبي السينمائي، أبدوا امتعاضهم من اختيار شخصية السجين وأكوام القمامة والغبار في المشاهد، واللقطات الوثائقية للعنف الطائفي الذي راح ضحيته أقباط.
«ديكور»
الزمن في «ديكور» غير واضح، ولا يبدو ذا دلالة. الافتراق عن السائد لوني، حيث مشاهد الفيلم هي بالأبيض والأسود تتضمن تحية لأفلام فاتن حمامة (وخاصةً فيلم «الليلة الأخيرة»). الكتّاب شيرين ومحمد وخالد دياب هم ممن كتبوا تكرارًا أفلام تنتمي للمنظومة الإنتاجية السائدة، لكنها متموضعة على طرفها.
استقبِل الفيلم بالترحيب في مهرجان القاهرة، لتركيزه على الشخصية النسائية كمحور، موجهًا تحية لسينما القرن الماضي المصرية، وطرحه فكرة الخيار النسائي بين العائلة والمهنة، معطوفًا على أسئلة وجودية تزاوج بين الرمنسة وحقوق المرأة. وعلى إيقاع هذه المزاوجة بين موضوعين يجنحان نحو التضاد في الخطاب النسوي الغالب، يجتاز الفيلم حقل ألغام كان يمكن أن ينتهي نهاية سيئة هو الإحالة لموضوع المرض النفسي والتوهمات في الهرب بين عالمين، وهمي وحقيقي.
رغم الترحيب، لم يتجاوز «ديكور» الافتراق اللوني الذي اختاره. بقي الافتراق شكليًا، وكمن المستقل فيه في التقنية التصويرية، بينما ظل المضمون، حوارًا وديناميات بين الشخصيات، شبيهًا بما يحويه أي فيلم مصري تجاري جيد الصناعة.
«ليل/خارجي»
في فيلمه الأخير، «ليل/خارجي»، يعود الرائي (كما الفيلم الأول «هليوبوليس») مخرجًا، لكنه لا يراقب من الخارج فقط، بل يحكم على الآخرين، مثل أصحابه العاملين في صناعة الإعلانات، والتي يبدو واضحًا أنَّ المخرج يراها ضربًا من ضروب التفاهة، مع أنه ملزم بها لأتها تدفع له مصاريف عيشه. الأحكام المسبقة، حتى وإن لم يصرَّح بها، تبدو عبر نظرات المخرج وتأففاته من الآخرين وآرائهم وطريقة كلامهم، المتواصلة طيلة الفيلم. إنه يعيش داخل فقاعة طبقية، يضيف عليها ما يلزم من خطابه الأخلاقي والعدالاتي ليبررها، فرفيقه مسجون لأنه كتب رواية (في إحالة لقضية الروائي أحمد ناجي الذي يمر في الفيلم مرورًا عبثيًا في دور سائق تاكسي).
الفيلم يبدو ثلاثة أفلام في فيلم واحد: توطئة العمل في الإعلانات، والرحلة الأساسية مع السائق مصطفى وعاملة الجنس توتو، ومع التوازي، وفيلم المخرج الذي لم ينفّذه إلا في خياله عن مهاجر جنوبي يحاول الهرب من مصر فيكاد يغرق. من جديد، كما كل أفلامه، تظهر ثيمة الهرب في فيلم عبد الله، هذه المرة في مسارين: الهرب عبر الخيال، والهرب الذي فرض عليه من الفقاعة التي تفجرها زحمة القاهرة، مبررةً أحداثًا متداعية بلا سيطرة من أحد.
خارج الفقاعة هنا ليلي. الشخصيات الثلاثة، ممثلةً طبقاتها الاجتماعية، تخرج من وسط القاهرة، لنرى معها العيش المصري يسوء اضطرادًا من محطة مترو لأخرى، في إحالة إلى تدهور مستوى العيش عند الانتقال من المركز إلى الأطراف. يتخذ الفيلم خيارًا راديكاليًا في التعبير عن أحكام الشخصيات على بعضها البعض، لغةً وتصرفات (تأليف: شريف الألفي)، من دون محاولة تجميلها، على إيقاع موسيقى وأغانٍ سائدة في شوارع القاهرة لأبو الليف وشيرين ومحمد حماقي وآمال ماهر، مع عودة لعبد الحليم وعبد الوهاب وأم كلثوم.
تبدو عاملة الجنس توتو، الشخصية المحورية في فيلم «ليل / خارجي»، ردًا على شخصية مهى في فيلم «ديكور». على عكس مهى المحاصرة بأسئلة وجودية، لا تضيِّع توتو وقتًا في مساءلة كونها ضحية، أو في كونها مسيَّرة أو مخيرة. تمضي في عيشها متعاملةً مع كل طارئ بما يلزم، فتعرف كيف تتعاطى مع الشرطي، والبلطجي، وحتى السائق بالهجوم أو بالاستيعاب. وبعد تعرّضها للتعنيف من قبل سائق التاكسي مصطفى، تتاح لها فرصة الهرب، تقف خلف باب الحمام، وتفكِّر بالهرب. لكنها لا تفعل، بل تعود لممارسة عيشها اليومي والذي من الممكن فيه أن تضحك لنكتة جنسية تستهدفها من دون اعتراض.
بعد أن يقبَض على الشخصيات الثلاثة إثر شجار في الشارع يحفزه استهلاك المخدرات وتنافس الرجلين (المخرج والسائق) على استمالة توتو، يضطرّ المخرج للتعامل مع الشرطة التي عادت لمراكزها كما قبل الثورة. يتلقى معاملة سيئة، ويعرَّف عنه طبقيًا، وهو خريج الجامعة الأمريكية في القاهرة (AUC)، في تدليل على الطابع الطبقي لعلاقات الشخصيات. على الرغم من ذلك، يعود لنجدة مصطفى وتوتو الذين لم تسعفهما علاقاتهما الاجتماعية في الخروج من القسم، فيضطرّ للاعتذار من الشرطي، في إشارة للهزيمة الجيلية التي نتجت عن الثورة المصرية.
تنتهي الرحلة بافتراق محتوم بين الطبقات. لم تغيِّر الليلة العابرة مفهوم الشخصيات عن بعضها، ولكنها خدشت أحكامًا مسبقة. وفي لعبة مونتاجية ارتجاعية، يعيد المخرج استخدام لقطة المهاجر الجنوبي التي ظهرت في بداية الفيلم. يقف المهاجر أمام البحر كأنَّه يتحضَّر لمعاودة الهرب، كأنَّه يسمع المقتطف الذي استعان به الفيلم من رواية أحمد ناجي «استخدام الحياة»: «أجد أنَّ الآخرين يشعرون بالسعادة، فأنظر لحالي، لِمَ أنا؟ ولِمَ لا؟»، أو ينصت لمقطع آخر من الرواية لم يرد في الفيلم: «(..) كنت قد درَّبتُ نفسي على مستوى من الحزن يمكِّنني من إكمال الحياة».