«هناك أوقات يكون فيها غياب والدي ثقيلًا كطفل يجلس على صدري»
– هشام مطر، تشريح الاختفاء
هزت هذه الجملة الأولى من رواية هشام مطر «تشريح الاختفاء»[1] مكانًا في داخلي لا يزال هشًا. أحسست عندما قرأتها، ولم يكن رحيل والدي بعيدًا، أن بيني وبين مطر خيطًا رفيعًا من مشترك الأحزان. بمثل هذا التخاطر بين كاتبٍ بعيد وقارئٍ أبعد، تتجلى براعة هشام في كتابة «الغياب». لكن عندما أتذكر ملمس وجه والدي بين يدي وهو يغادر، وقبره الذي ما زال شاهدًا على وجودٍ ما لكيانه المجرّد، أُشفق على هشام مطر، وهو الذي «يحسد النهايات المتوّجة بالجنازات»، ذلك أنه ومنذ أكثر من ثلاثة عقودٍ يبحث عن جسدٍ لوالده ليشكل منه قبرًا ومستقرًا، وليكتب فوق رخامة الشاهد المستطيلة «هنا يرقد جاب الله مطر»، وهنا تنتهي رحلة اشتياقه لليقين.
يكتب هشام مطر بالإنجليزية، ولذلك هو كاتب عالمي اليوم. فهو الموزع بين لندن ونيويورك، حيث يُدرِّس في جامعة كولومبيا ويكتب روايات ومذكرات ومقالات سياسية تلقى صدى واسعًا. لكن موضوعه الأساسي هي خلفيته العربية الليبية، بقصصها المترعة بالحزن والملاحقة والاختفاء والغموض والصراع مع السلطة، كأي قصة عربيةٍ في هذا الزمن.
كان يمكن لمطر، شأنه شأن كثير من الشباب العربي، المنحدر من طبقات عليا، أن يمرّ من التعليم في الجامعات النخبوية نحو ميادين العمل والأعمال، مستمتعًا بالرفاه والحياة، لكن غياب والده، على نحو لا يشبه أي غيابٍ، أوقف مجرى الحياة العادية. لقد دُفِع الشاب الذي كانه قبل ثلاثين عامًا نحو البحث عن الماضي، وفي غياب آلة للسفر عبر الزمن، وجد في القصص قوةً يحاول من خلالها السفر عبر الزمن ومشاركة جوانب سابقة من أنفسنا، على الأقل في مخيلتنا. والأهم من ذلك كله، تعلّم منها كيف يتحمل المعاناة الشديدة والبقاء على قيد الحياة.
يحوّل مطر هذه القصة العربية الحزينة إلى قطعة فنية جميلةٍ. أطياف الموسيقى والرسم والهندسة المعمارية، تتجلى ببهاء في سرده المختصر والواضح والمقتصِد. في الجمل القصيرة توجد هشاشة تضفي على قسوة الأحداث لِينًا مُحببًا، فهو المفتون دائمًا بأن يكون الزمن خطيًا ودائريًا، وبكيفية احتواء أي لحظة معينة في كثير من الأحيان على بقايا الماضي وتطلعاتنا للمستقبل.
في البَدْءِ كان الغياب
في أحد مساءات آذار 1990 خرج المعارض الليبي، جاب الله مطر، من بيته في القاهرة ولم يعد، ولن يعود أبدًا. كان مطر عقيدًا في الجيش الليبي، لكنه عُزِل بعد وصول معمر القذافي إلى السلطة عام 1969، واعتقل واحتجز لمدة ستة أشهر عام 1970، ثم عمل في الحكومة بضع سنوات، قبل أن يستقيل بسبب الخلاف السياسي ويغادر البلاد نحو القاهرة. في الليلة الفاصلة بين الرابع والخامس من آذار، دخل ضباط مصريون من جهاز المخابرات إلى منزله في حي المهندسين بالقاهرة واقتادوه، كما فعلوا مع رفيقه عزت يوسف المقريف، وتم نقلهما إلى مقر الجهاز. ولدى وصولهما، استجوب الرجلين بشكل مطول، وأطلق سراحهما لاحقًا، لكن صودرت جوازات سفرهما. وفي 12 آذار 1990، فُقِدت آثارهما.
خلال العامين الأولين، أوهمت السلطات المصرية عائلة مطر بأنه محتجز في مصر، وطلبوا منهم التزام الصمت وإلا فلن يتمكنوا من ضمان سلامته. حتى تمكن مطر في عام 1993 من تهريب رسالة، كشف فيها عن أنه معتقل في سجن أبو سليم في طرابلس بليبيا، مخبرًا عائلته الصغيرة أن «جبهته لا تعرف كيف تنحني». ثم انقطعت أخباره منذ منتصف التسعينيات بلا جوابٍ أو خبر. وقد كتب نجله هشام عن تلك الرسائل نصًا بديعًا بعد عقودٍ بعنوان «رسالة من حافة الهاوية».
كان هشام مطر في ذلك الوقت طالبًا في قسم الهندسة المعمارية بلندن، وبحلول الاختفاء النهائي لأخبار والده كان قد أنهى الماجستير في التصميم من جامعة لندن، لكن كيانه الداخلي كان مفككًا. وقد راوح بين منتصف التسعينيات ومطلع القرن، مشتتًا ينتظر غائبًا لن يعود. فحاول أن يجد ضالته في الشعر، إلا أن كثافة القصيدة وحدودها الكمية، مهما طالت، لم تكن كافيةً للتعبير عما يعيشه الثلاثيني المفكك الذي كانه في ذلك الوقت.
حدث ذلك بطريق الصدفة؛ في الحيّز الزمني القصير بين نزول زوجته ديانا لإعداد القهوة وعودتها إلى العلية، تناول مطر علبة المناديل من على يمينه في غرفة النوم، وشرع في كتابة مقطع شعري يصف طفلًا يتذوق التوت لأول مرةٍ في حياته. مستغرقًا في وصف ذلك الوعي البدائي لدى الطفل بسكر الغلال، تمادى الشاعر في الكتابة حتى أدرك أن القصيدة تحولت إلى نص نثري طويل. ثم تكررت الحكاية يومًا بعد يوم، حتى أدرك أن ما بين يديه هو أكثر من قصيدة وأعمق من قصة؛ إنها رواية. ستظهر هذه الرواية إلى العلن من الظلام بعد خمس سنوات تحت عنوان «في بلد الرجال».
حكاية الفتى سليمان، المطوق بالخوف والملل في طرابلس الغرب، ستفتح الباب أمام هشام مطر ليفتكّ موقعًا في المشهد الأدبي العالمي. بعد أن تم ترشيح الرواية لجائزة مان بوكر لعام 2006 وجائزة الغارديان للكتاب الأول . لتترجم الرواية بعدها إلى 22 لغة وتحصل على جائزة الجمعية الملكية للأدب لعام 2007.
لا تحكي «في بلد الرجال» قصة الغياب على نحو مباشر، لكن أطياف الأب المناهض للسلطة والأم الوحيدة، لا تفارق المشهد. كما هي جميع روايات هشام مطر، لا تغيب عنها شذرات السيرة الذاتية والفاجعة العائلية، ولاسيما طيف الوالد الغائب من خلال صور الآباء الآخرين. فهي كما يقول مطر نفسه : «أعتقد أنني أكتب عن الآباء الآخرين لكي لا أكتب عن والدي». وهي النزعة التي ستظهر بوضوح أكبر في روايته الثانية ،«تشريح الاختفاء» (2011)، التي تدور حول الفتى نوري، الذي يعيش في المنفى مع عائلته في القاهرة. وبعد وفاة والدته المفاجئة، يفقد والده، الألفي الذي يختفي في ظروف غامضة في سويسرا، ويكتشف أنه اختطف من قبل نظام بلاده، الذي لا يذكر اسمه مطلقًا.
«هناك أوقات يكون فيها غياب والدي ثقيلاً كطفل يجلس على صدري. وفي أوقات أخرى لا أستطيع أن أتذكر ملامح وجهه بالضبط، فيتعين علي أن أخرج الصور التي أحتفظ بها في مظروف قديم في درج طاولة السرير. لم يمر يوم منذ اختفائه المفاجئ والغامض دون أن أبحث عنه في أكثر الأماكن غير المتوقعة. لقد أصبح كل شيء وكل شخص، بل الوجود نفسه، استحضارًا، وإمكانية للتشابه. ولعل هذا هو المقصود بتلك الكلمة القصيرة التي أصبحت الآن باليةً: الرثاء».
– تشريح الاختفاء
«الآباء والأبناء والأرض بينهما»
تزامن ظهور «تشريح الاختفاء» مع الثورات العربية. شهورًا قليلةً بعد سقوط نظام العقيد القذافي، وصل هشام مطر إلى بنغازي باحثًا عن اليقين. كان يعتقد أنه سيضع برحلته تلك نقطة النهاية في قصة طويلةٍ بدأت أحداثها ليلة 12 أذار 1990. مع والدته وزوجته ديانا ودفتره الصغير تجول مطر في مدن كثيرةٍ، والتقى أقاربه وأصدقاء والده وكثير من المعتقلين السابقين في سجون «الأخ قائد الثورة».
كان الواقع طاغيًا إلى درجةٍ لم يكن هشام قادرًا على كتابة الرواية، مفضلًا السرد عن الذات. ومن خلال جمع شتات ملاحظاته ويومياته في ذلك الدفتر الصغير، شكل سيرة السفر والبحث في كتابه «العودة: الآباء والأبناء والأرض بينهما» (2016)، الذي فاز بجائزة بوليتزر عن فئة السيرة الذاتية لعام 2017. يوثق الكتاب بأسلوب روائي جميل رحلة عائدٍ يبحث عن والده، لذلك بدا هشام مطر وكأنه يعاني من دوار المسافة، وهي حالة حيث لم تكن الأرض وحدها غير مستقرة، بل الزمان والمكان كذلك. ثم لا يظفر حتى بجثة أو قبرٍ لذلك الوالد، الذي يصر على أن يحتفظ بأسطورة الغائب. فيغضب، ويبدو الغضبُ أحيانًا كالسراب بين الكلمات: «نحن بحاجة إلى أب نغضب عليه. عندما لا يكون الأب ميتًا ولا حيًا، عندما يكون شبحًا، تكون الإرادة عاجزة».
يوجد إجماع بين قراء هشام مطر على فرادة كتابه «العودة». والمفارقة أن هذه الفرادة لا تتعلق برواية. أجمل ما كتب هذا الروائي العالمي، الذي يبحث عن الخيال ليحوله إلى واقعٍ، كتاب واقعي تمامًا، تبدو أحداثه فوق الخيال. وهنا لا يبدو هشام مطر مهتمًا بالتمييز بين الأنواع الأدبية. فهي تبدو له «أكثر فائدة لأمناء المكتبات منها للكاتب»، كما يقول. فكلُّ كتابٍ كتبه يتسم بموقف وحساسية مختلفين، وبالتالي فقد تطلب منه، من الناحية الفنية والفكرية والعاطفية، أشياء مختلفة.
من بين الصفات المميزة لهذا الكتاب، قدرته على التعامل مع أشياء مختلفة في وقت واحد. وهي مفارقة تؤكد دائمًا الترابط شبه العضوي بين إبداع مطر وغياب والده، فهو المدين للغياب. كم يبدو ذلك قاسيًا. هل كان يجب أن يفقد المرء عزيزًا كي يكون مبدعًا؟ غير أن كتاب العودة كان محاولةً -تبدو يائسةً- للتسليم بمصير الوالد الغائب، رغم أن هذا الغياب لم يجسد في جنازةٍ أو قبر أو حتى في ورقة تخبر بموته:
«كنت أعتقد في الماضي أنه من المستحيل أن أفقد شخصًا أحبّه دون أن أشعر بذلك بطريقة ما، دون أن أشعر بتغير ما. لكن هذا غير صحيح. فقد يموت الناس، وأحيانًا أقرب الناس إلينا، دون أن نلاحظ أي شيء. وفي حالتي، ولأن الأدلة لا تزال غير قاطعة، فقد تسلل إليّ قبولي لوفاة والدي بخبث شديد، كخط يتلاشى ببطء، ثم يختفي فجأة. وبعد سقوط القذافي، عندما أُطلق سراح جميع السجناء السياسيين، ولم يكن والدي بينهم، أصبح قبولي لوفاة والدي أمرًا لا مفر منه».
– مقابلة مع «نيويورك تايمز»، الخامس تموز 2016
«الكتابة محكوم عليها بالفشل»
يحتفظ هشام مطر بروح عرفانية تطغى على كتابته وإدراكه للكتابة. ولأنه عايش المنفى طويلًا، والتمزق بين أماكن وثقافات مختلفة، لا يخفي الكاتب الليبي، تأثره بالأدب الغائم، الذي يكون فيه المرء خارج المكان. عن ذلك الاغتراب الساحر والتعقيدات التي تنطوي عليها العودة إلى الجذور، كما تصورها «يوم القيامة» لسلفاتوري ساتا، حيث يزور رجل في سن الشيخوخة الجزيرة التي نشأ فيها؛ أو «موسم الهجرة إلى الشمال»، للطيب صالح، حيث يعود المرء، بعد أن عاش بعيدًا في لندن لسنوات عديدة، إلى قريته في السودان؛ و«صباح الخير، منتصف الليل» لجين رايس.
هذا الهوس بثنائية المنفى والعودة يظهر على نحو وضاح في رواية مطر الأخيرة «أصدقائي» (2024)، التي تحكي قصة ثلاثة أصدقاء: خالد وحسام ومصطفى. ثلاثة مصائر لمنفيين، والطريقة التي يشكل بها المنفى الكائنات، ويبعدها عن الآخرين، ولكن بقدر ما يستطيع، يعيد توحيدهم فجأة، بفرح وعمق. قصة الصداقة والود الدائم والبطيء، الذي يجمع هؤلاء الليبيين الثلاثة المحتجزين في لندن لأكثر من عشرين عامًا، لأسباب سياسية. لا يغيب طيف الأب الغائب ولا أطياف جلاديه عن الرواية. فعلى مدار عشرين عامًا، يعاني هؤلاء الرجال الثلاثة من الخسارة والوحدة واليأس وانكسارات الحب وأوهام الانتصار. ملحمة ممتدة في الزمن يلخصها قول أحد أبطالها في إحدى رسائله الأخيرة: «إن الغرض من الوجود هو إعطاء الحياة للكلمات التي تعلمناها، فالناس يموتون أو ينهون حياتهم عندما تخونهم الكلمات».
تبدو الكتابة بالنسبة لهشام مطر هاجسًا وجوديًا. ليس مطر من المكثرين. لا ينشر روايةً كل عام، رغم ما يمكن أن يعود به عليه ذلك من مالٍ وفير، في سوق نشر غربيةٍ حوّلت الكُتّاب إلى آلاتٍ كاتبة. لكن الكاتب الذي دُفِع ولدًا إلى المدارس الأجنبية في القاهرة ثم لندن، وجد نفسه يكتب عن ليبيا بإنجليزية بديعةٍ. لا يجد مطر في ذلك حرجًا لأنه يعتقد أن الكتابة بأي لغة لا تعني سوى ترجمة ما يحس به المرء ذهنيًا وشعوريًا إلى كلمات:
«لا أشعر أن اللغة الإنجليزية لغة مستعارة. على أية حال، هناك شيء واحد أصبح واضحًا منذ أن بدأت الكتابة، وهو أنه حتى عندما تكتب باللغة الخاصة بعائلتك، والتي نشأت معها، فإنك تترجم. أنت تبحث عن كلمات لتقول كل ما لا ينشأ على شكل كلمات بداخلك، كل ما لا يقدم نفسه أولًا على شكل لغة. إن ما تشعر به تجاه الأشخاص الأقرب إليك لا يأتي من خلال اللغة، بل هو شيء آخر. ثم عليك أن تجد الكلمة الصحيحة، ولكن الكلمة ليست صحيحة أبدًا. إنها دائمًا تقريبية. إنه جانب من جوانب اللغة الذي يثير اهتمامي، حقيقة أنها تفشل باستمرار، في توفير الكلمة الصحيحة والدقيقة لما نشعر به».
هذا الشعور بعجز اللغة عن ترجمة ما نريد قوله يمتد إلى إدراك بعبثية فعل الكتابة نفسه عند هشام مطر. تبدو رحلته في الكتابة والأدب، جريًا وراء السراب. لكنه جري ممتع، لا يريد صاحبه إدراك خط النهاية، لأنه لا نهاية لذلك الركض المستمر، وهو ما يعبر عنه بقوله:
«إذا كان علي أن أشير إلى السبب الرئيسي، أو على نحو أدقّ السبب الفكري المثير للاهتمام الذي يجعلني أحب الكتابة أو الذي يجعل اللغة حرفتي، فإن هذا يتعلق على وجه التحديد بحقيقة مفادها أن الكتابة محكوم عليها بالفشل دائمًا».
– مقابلة مع «نيويورك تايمز»، 10 كانون الثاني 2024
-
الهوامش
[1] ترجم الرواية إلى العربية محمد عبد النبي، وصدرت عن دار الشروق عام 2012، وحملت عنوان: اختفاء.