في مقدمة سيرته الذاتية «الشّاهد والمشهود» عام 2016، يقول الشاعر والأديب والمؤلّف المسرحي والدّرامي الدّكتور وليد سيف إنّ «رواية الماضي ليست استدعاءً بريئًا من ذاكرة ثابتة المخزون، وإنّما هي تتلوّن ويعاد إنتاجها وتلقى عليها معانٍ ودلالات جديدة (..) وليس هذا من قبيل التّحريف والتّزييف المتعمّديْن، وإنما هو جزء من الشرط الإنساني الذي يجعل الذات جزءًا من الموضوع».[1] بشهادته هذه، لا يرى وليد سيف نفسه منفصلًا عن روايته، ولا خطابه متجزّءًا عن زمنه؛ بل هو كما يوحي من خلال مسيرته الأدبية والعملية عين الرائي التي لا تتغيّر دون أن تطال صورة المرئيّ أثرًا من التغيير.
يتميّز وليد سيف بغزارة وتنوّع الإنتاج الفكري والإبداعي، تعدّدت إصداراته الأدبية شعرًا ونثرًا، فصدرت له ثلاثة دواوين شعرية، أولها «قصائد في زمن الفتح» عام 1969 وهو ما يزال طالبًا جامعيًا في السنة الثالثة في الجامعة الأردنية، وديوان «وشم على ذراع خضرة» عام 1971، و«تغريبة بني فلسطين» عام 1979، كما صدر له عن دار الأهلية رواية «ملتقى البحرين» عام 2019، ورواية «مواعيد قرطبة» عام 2021 التي كتبها استنادًا إلى مسلسله التلفزيوني «ربيع قرطبة» عام 2003، وقد صدرت حديثًا ضمن مشروع جديد يسعى وليد سيف من خلاله إلى تحويل بعض مسلسلاته التلفزيونية إلى أعمال روائية.[2]
حصل وليد سيف على العديد من الجوائز؛ منها جائزة عرار عام 1981 وجائزة غالب هلسا للإبداع الثقافي عام 1985، وجائزة أفضل كاتب دراما في مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون لأربع سنوات متتالية عن أعماله: «صلاح الدين الأيوبي» عام 2001، «صقر قريش» عام 2002، «ربيع قرطبة» عام 2003، و«التغريبة الفلسطينية» عام 2004، كما حصل على جائزة تايكي عن مسلسل «عمر» عام 2012.
هكذا، خلقَ وليد سيف من خلفيته الأكاديمية والفكرية وأبرز محطّات حياته وتجاربه الشخصية حيزًا إبداعيًا شاسعًا يمتدّ «من الخاص الذاتي إلى العام الإنساني، ثم [يعود] بالعام إلى الذّاتي»؛[3] ونهجًا شيّقًا سلكه خصّيصًا عند كتابة سيناريوهات أعماله الدرامية، حفّز من خلاله نفوس المشاهدين وأبرع في كثير من الأحيان في جعلهم جزءًا من مآزق التاريخ الغابر كما لو أنّها الواقع الحاضر. إلا أنّ رؤيته تلك لم تسلم من مجابهة الإشكاليات الفكرية والتاريخية الكبرى، نظرًا لأن التاريخ الإنساني مادة شائكة وماكرة[4] بطبعها، يلزمها أساليب حاذقة من أجل معالجتها وتقديمها.
في حضرة البطل الجمعيّ
في عام 1948 وُلِد وليد سيف، فكان شاهدًا على مخيّم اللاجئين بالقرب من البيت الذي نشأ فيه، وترسّخت بذلك مشاهد البؤس والمعاناة في وعيه صغيرًا. وما فتئت جولاته في المخيم صبيًا ومغامراته في سهول المدينة وفوق تلّتها تصطدم بتلك الحدود الفاصلة بينه وبين الأرض المحتلة، مخلّفةً مشاهد محزنة لن تبرح وعيه ومخيّلته، ليعود بعد أعوام طويلة فيصوّرها في اثنين من أعماله التلفزيونية: «الدرب الطويل» عام 2000 من إخراج صلاح أبو هنّود، والنسخة الأخرى المطوّرة منه وهي «التغريبة الفلسطينية» عام 2004، من إخراج المبدع الرّاحل حاتم علي.
«حين لم يكن في وسعنا أن نذهب إلى دار السينما لنشاهد واحدًا من تلك الأفلام، كنّا نصنعه»
نال وليد سيف نصيبه من إرث جدّته، فأثرت مخيّلته بالحكايات الشفوية التي لم تغنه -كما قال- عما اكتسبه من قراءات في مجالات الأدب والتاريخ والفلسفة خلال نشأته في طولكرم، بل ظلّت هالة سحرية تضيء مخيّلته بالحكايا والخرافات الشعبية. أمّا عن أولى محاولاته البريئة في صناعة الأفلام صبيًا، فيقول: «حين لم يكن في وسعنا أن نذهب إلى دار السينما لنشاهد واحدًا من تلك الأفلام، كنّا نصنعه! فكنت أخرج مع بعض رفاقي إلى سهل طولكرم، وهناك ننخرط في تمثيل قصة مرتجلة نحشد فيها من المعارك ما نتمنى أن يحشده أي فيلم حقيقي نشاهده».[5]
كما كان لروابط وليد سيف العائلية، وصداقاته في أرجاء المخيم دور واضح في كتابة مسلسل «التغريبة الفلسطينية»؛ إذ لم تكن مشاهد المخيم لتكتمل دون العنصر الإنساني الذي برع في تصويره انطلاقًا من تركيزه على حياته الخاصة، فكان في اتّكائه على تلك التفاصيل الشخصية، وفي دقّة ملاحظته لطبائع الناس وعاداتهم في المخيم ما أضفى على شخصياته الدرامية في المسلسل بعدًا واقعيًا مؤثّرًا يعكس مهارة بديعة في التخيّل والتبصّر.
وقد ذكر وليد سيف في سيرته الذاتية عددًا من أفراد عائلته الذين جسّدهم في المسلسل؛ حيث استوحى شخصية «أبو أحمد» من شخصيّة جدّه، أمّا جدّته فجسّدها في شخصية «أم أحمد» لتكون رمزًا للأم الفلسطينية القوية الصابرة والمُدبّرة. والأخ الأكبر في العائلة «أحمد/ أبو صالح»، يصفه وليد سيف قائلًا إنّه «يلتقي مع أبي «إبراهيم» الذي كان أكبر إخوته أيضًا، في الهيبة والصرامة، والتّصدي للمظالم دون وجل من صاحب سلطة أو ثروة أو زعامة»،[6] وتشابهت «أم صالح» مع شخصية أمّ وليد سيف حدًا كبيرًا حسب قوله. وتقاطعت شخصية «علي» مع عمّه محمود «بمزاجه وأخلاقه وحكمته واتّزانه»، أما «حسن» فاستلهمه من عمّه محمد الذي توفّي شابًا، فخلّف رحيله حزنًا عميقًا في نفوس العائلة. كما أضفى وليد سيف جزءًا من طباعه على شخصية «صلاح» خاصةً «قلق (صباه) المتمرد وشغف المطالعة وهاجس الشعر وتقمّص الأزمات الوجودية التي تثيرها الكتب الغربية المترجمة».
من قلب العائلة وقصصها المُضحكة المُبكية، وبؤس التهجير وحسرة الفقدان، وقيم الثورة والمقاومة، ومن وحي المخيّم؛ ذلك البطل الجمعيّ، صنع وليد سيف عملًا دارميًا هائلًا، ما زالت سطوره ومَشاهِده تحفر عميقًا في وعي مُشاهديه، موثّقًا بذلك العديد من الأحداث المفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية.
«زمن المقاومة والإيديولوجيا»
في أيلول عام 1966 غادر وليد سيف طولكرم إلى عمّان للدراسة في الجامعة الأردنية، فألفى الجامعة بيئة خصبة، أتاحت له الانخراط في الأجواء السياسية والثقافية والنضوج فكريًا واجتماعيًا. وسرعان ما أنهى عامه الأول في الجامعة، حتى كان صباح الخامس من حزيران عام 1967 صدمة أنسته فرحة نجاحاته، فما كان منه إلا أن مضى وجماعة من زملائه في الجامعة ليتطوّعوا في الجيش الأردني رغبةً في القتال على الجبهة، لكن المهمّة انتهت قبل أن تبدأ، إذ أُعلن وقف إطلاق النار، وانسحب الجيش الأردني إلى الضفة الشرقية لنهر الأردن.
«رواية الماضي ليست استدعاءً بريئًا من ذاكرة ثابتة المخزون، وإنّما هي تتلوّن ويعاد إنتاجها وتلقى عليها معانٍ ودلالات جديدة (..) وليس هذا من قبيل التّحريف والتّزييف المتعمّديْن، وإنما هو جزء من الشرط الإنساني الذي يجعل الذات جزءًا من الموضوع»
ولمّا ظلّت القضية تؤرّق مضجعه عقب الهزيمة، سعى إلى الانضمام إلى معسكر «الهامة» خارج دمشق، الذي كان من أوائل معسكرات التدريب التابعة لحركة فتح.[7] ورغم حماسته الظاهرة، لم تكن معسكرات الفدائيين كما تصوّرها، فصحيح أنها كانت مسرحًا حربيًا يجسّد معاني البطولة والرجولة والمقاومة، إلا أنها لم تخل من صراع الأيديولوجيات وصدام المعتقدات وعصبيّة العشائر والفصائل.
في عام 1970 تخرّج وليد سيف من كلية الآداب في الجامعة الأردنية، ثم انتقل إلى بيروت في صيف العام ذاته بعد تعيينه معيدًا في قسم اللغة العربية في الجامعة الأمريكية في بيروت، لكنه لم يكمل مشواره فيها، وآثر العودة إلى الجامعة الأردنية ليخوض منافسة قوية من أجل تعيينه معيدًا هناك. وفي أيلول عام 1972 ابتُعث إلى لندن للحصول على الدكتوراه في علوم الصّوتيات واللّسانيات في «معهد الدراسات الشرقية والإفريقية SOAS»، كما أتيح له العمل في إعداد البرامج الثقافية والأدبية في القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية في لندن أثناء دراسته.
عاد وليد سيف بعد ذلك إلى الجامعة الأردنية ليدرّس فيها، وفي صيف 1979 فُصل منها إثر قرار سياسي أمني على خلفية احتجاجات طلابية سياسية حدثت في الجامعة[8] آنذاك. عمل بعدها في جامعة الإمارات في مدينة العين، ثم عُيّن مديرًا لدائرة تطوير المواد التعليمية في جامعة القدس المفتوحة عام 1987 حتى عام 1990. وفي تلك الأثناء، كان لتغير الظروف السياسية ورفع الأحكام العرفية في الأردن دور في عودته إلى التدريس في الجامعة الأردنية مرة أخرى، فمكث فيها إلى أن استقال أخيرًا عام 2007. ورغم السنوات الطويلة التي قضاها مقيدًا بالحياة الأكاديمية وقوانينها الصارمة، إلا أن معتقداته الفكرية ومواقفه السياسية، باعتقادي، ظلت تعكس جزءًا من المقاومة التي عهدها شابًا، وإن اختلفت طرقها واتّسعت أهدافها.
الدراما التاريخية
في عام 1978 عُرض على وليد سيف أن يدخل حقل الدراما، فكانت فسحة انعتاق له، على حد تعبيره،[9] كلما ضاقت عليه الحياة الأكاديمية في الجامعة، فأنجز أولى مسلسلاته التاريخية؛ «الخنساء» من إخراج صلاح أبو هنود، وعقب ذلك توالت كتابته لعدد من الأعمال التاريخية مثل «شجرة الدر» عام 1979 و«طرفة بن العبد» عام 1982 و«بيوت في مكة» عام 1984، وغيرها. والواقع أن وليد سيف لم يلجأ إلى كتابة التاريخ تمجيدًا للماضي ولا تباكيًا على أمجاده كما يعتقد البعض، بل بحثًا عن «المعاني الفكرية، فضلًا عن الفنية، للمادة التاريخية، بما يفضي إلى مخاطبة الذائقة، وشحذ الوعي بالشرط الإنساني عامة، وأسئلة الواقع خاصة».[10]
لم يلجأ وليد سيف إلى كتابة التاريخ تمجيدًا للماضي ولا تباكيًا على أمجاده، بل بحثًا عن «المعاني الفكرية، فضلًا عن الفنية، للمادة التاريخية، بما يفضي إلى مخاطبة الذائقة، وشحذ الوعي بالشرط الإنساني عامة، وأسئلة الواقع خاصة»
تجتمع الجوانب الفكرية والفنية والتوثيقية في رواية وليد سيف للتاريخ عبر توظيفه للعنصر التخييلي، ولا يقتصر ذلك على ما ظهر من أحداث خارجية، مثل حبك تفاصيل المعارك والفتوحات وما خفي من أسرار خلف تشييد الممالك والإطاحة بها، بل يتعدّاها إلى عملية التخييل الاستبطاني؛ أي ما يسبر دواخل الشخصيات ذهنيًا، ويكشف تفاصيل حياتهم الصغيرة، هواجسهم وطموحاتهم، بما يتوازى مع توثيق وقائع التاريخ الكبرى. وهكذا نعاين الجانب الإنساني لأبطال التاريخ الإسلامي، مثل صلاح الدين الأيوبي وعبد الرحمن الداخل والمنصور وغيرهم، وهم ينازعون أنفسهم على سطوة السلطان، ويصارعون الطمع وعصبيّة القبيلة عند العرب، ممّا يذكّر بأنّ مآزق الإنسان هي ذاتها، بصرف النّظر عن المكان والزمان.
لكن تمحور معظم الأعمال الدرامية حول مسار حياة البطل التاريخي وأهم محطّات حياته، لم يمنع وليد سيف من تقويض ذلك التنميط السائد في السرديات التاريخية؛ حيث القوي وصاحب السلطة من يتصدّر الحكاية ويرويها من وجهة نظره. من هنا، لا تخلو أعماله الدرامية من السرديات اللامركزية البديلة التي تشمل أصواتًا لم نعتد سماعها في روايات التاريخ، كأصوات النساء، الحرائر منهنّ والجواري على حدّ سواء، والخدم المماليك، وغيرهم من المغلوبين المقموعين. ولا تظهر أدوارهم هامشية ليكتمل ديكور المشاهد من خلالها، بل يعتني وليد سيف بصقل شخصياتهم حدًا يضاهي به لمعان شخصية البطل الرئيسي في الحكاية.
في مسلسل «صقر قريش» على سبيل المثال، نرى أبطالًا آخرين كانوا إلى جانب عبد الرحمن الداخل الذي أحيا الدولة الأموية في الأندلس، وهم لا يقلّون عنه قدرًا ولا أهميّة، لم يفرّق بينهم سوى المال والنّسب؛ كخادمه بدر، الذي كان له دور فعّال في تسيير الرحلة الطويلة من الشّام حتى المغرب، ثم في توطئة نزوله في الأندلس بعد ذلك آمنًا من الغدر، فلم يصبه من شرف الذّكر في التاريخ سوى جملة: «واصطحب معه خادمه بدر!».
ولأنّ معظم سرديات التاريخ يهيمن عليها الرجال، يسعى وليد سيف إلى نقضها قدر المستطاع، فتبرز شخصيات النساء في العمل الدرامي من خلال رجاحة العقل والحكمة وحسن التدبير، كما أنّ مروءتهنّ في بعض المواقف تغلب دناءة الرجال. وكذلك تظهر براعة تخيله للشخصيات التاريخية استنادًا إلى دراسته للشرائح الاجتماعية في تلك الأزمان، ثم اختيار ما يناسب من صفاتها الإنسانية بما لا يؤثر على الحقائق التاريخية قدر المستطاع، ولكن بما يبعث المشاهدين على التفكير والتساؤل.
في مسلسل «ربيع قرطبة» على سبيل المثال، خلق وليد سيف من شخصية الجارية البشكنجية[11] «صبح» نظيرًا لشخصية المنصور بن أبي عامر بعد أن جمعت بينهما علاقة حب مستحيلة، أمّا التكافؤ الظاهر في حسن الصفات من جمال الخلقة والنباهة والفطنة فيسهّل لنا أن نركز على السبب الحقيقي الذي منع «صبح» من نيل السلطان فعلًا، وإن علت مراتبها عند زوجها الخليفة الحكم المستنصر بالله، ووصايتها على عرش ولدهما بعد وفاته.
وإن كانت تلك المواقف الإنسانية التي تخوضها الشخصيات في الدراما التاريخية محض تخيّل واجتهاد، فإنها تحفز عنصر الصدمة عند المشاهد، وتحرّك تلك الانطباعات التاريخية الجامدة، فتهيِّء فرصًا لإعادة التفكير في التاريخ العربي الإسلامي. كذلك يعالج وليد سيف في معظم أعماله التاريخية إشكالية الدولة والقبيلة، ويسلّط الضوء على العصبيّة القبليّة التي تسبّبت في زعزعة كيان الدولة الإسلامية في الأندلس. يقول وليد سيف على لسان عبد الرحمن الداخل في حوار مع خادمه بدر، الذي أصبح قائدًا لجيشه فيما بعد: «الآن تدرك يا بدر أن الدولة والقبيلة لا تجتمعان، الدولة عصبة كلّ رعاياها، أمّا القبيلة فإنها عصبة أبنائها فقط، الدولة ينبغي لها أن تجمع أمّا القبيلة فتفرّق (..)»، ليردّ عليه بدر بحكمة قائلًا: «(..) إن السلطان إذا استبدّ بالأمر وبطش بالرعية، لم يجد الرجل حاميًا إلا قبيلته، ولكن إذا اعتقد أن الدولة له لا عليه (..) لم يجد حاجة في أن يرتدّ إلى قبيلته ليعتصم بها».
في رمضان عام 2012 كان مسلسل «عمر» آخر الأعمال التي جمعت وليد سيف بالمخرج الراحل حاتم علي، بعد تعاون مثمر دام أكثر من عقد، وقد سعيا خلال تلك الفترة إلى تقديم العديد من أعمال الدراما التاريخية. يتتبّع «عمر» سيرة الخليفة الراشد عمر بن الخطّاب وازدهار فترة خلافته، ويسلّط الضوء على الجانب الإنساني من شخصيته، قبل الإسلام وبعده، وفلسفة خلافته التي اتّصفت بالأمن والعدل. وكان العمل قد استغرق وقتًا طويلًا في الكتابة والإعداد والتصوير. ويقول وليد سيف إنه قد حرص على الاستعانة بمراجع تاريخية موثوقة، رغم ندرتها، وحاول الالتزام بالمقادير الشرعية، مستندًا بذلك إلى مشورة لجنة من كبار علماء المسلمين.[12]
من الأعمال الدرامية إلى الروائية
في مطلع الشهر الجاري، صدرت رواية وليد سيف «مواعيد قرطبة»، لتكون أولى أعماله الدرامية في صيغة رواية. ولعلّها مفارقة محزنة أن يتزامن صدورها مع وفاة المخرج المبدع حاتم علي، الذي نعاه وليد سيف على طريقته في مقال نشره مؤخرًا،[13] مُصرّحًا أن أبلغ طريقة لنعي المبدع هي استذكار ما تبقّى من آثاره. وانطلاقًا من تلك الآثار التي جمعتهما معًا، يؤكّد وليد سيف أنّ علاقته مع حاتم علي كانت قائمة على التكامل والتفاهم والنزاهة في العمل، لأن «النص الضعيف لا يستطيع إنقاذه مخرج حاذق مهما تكن موهبته. وفي المقابل، فإن الإخراج الهزيل يمكن أن يهبط بالنص الممتاز مهما يكن مستوى تميزه. فإذا اجتمع النص القوي مع الإخراج الفائق بلغ العمل غايته».
«النص الضعيف لا يستطيع إنقاذه مخرج حاذق مهما تكن موهبته. وفي المقابل، فإن الإخراج الهزيل يمكن أن يهبط بالنص الممتاز مهما يكن مستوى تميزه. فإذا اجتمع النص القوي مع الإخراج الفائق بلغ العمل غايته»
لا غرو أنّ براعة اللغة وقوة الحوارات وعمقها عنصران تشويقيّان في أعمال وليد سيف الدرامية، ممّا قد يصرف النظر أحيانًا عن القصور في تنفيذ بعض المشاهد القتالية وركاكتها، أو يزيح الملل عن بعض المشاهد المكررة، لا سيما تلك التي تُقحم لردم الفراغات وتطويل المشهد، على شاكلة رقص الجواري ومغالاة بعض الأمراء في السّهر وشرب الخمر، ناهيك عن رداءة أداء بعض الممثلين لأدوارهم. والسؤال هنا: ما الذي يدفع وليد سيف إلى تحويل العمل الدرامي إلى رواية؟ وهل يدعونا بذلك إلى معاينة النص بمعزل عن المؤثرات الخارجية، والارتكان إلى المخيّلة الفردية بعيدًا عن الصورة الجاهزة؟
تحكم كتابة الدراما التاريخية ضرورات عدّة، ولكن بعيدًا عن سطوة الإخراج والإنتاج والتمثيل، تظلّ هناك أسئلة قائمة حول المادة التاريخية وكيفية التعامل معها وتسريدها. في النظر إلى رواية «مواعيد قرطبة»، نرى أن صوت الراوي العليم قد تصدّر السرد، بأسلوبه التوثيقي المباشر في معظم الأحيان،
وهذا ما لا نراه في العمل الدرامي. أما الأحداث في الرواية فتتوالى على شكل لقطات وكأنها مشاهد تلفزيونية، يكثر فيها توظيف الحوار الذي يكاد يطابق حوار الشخصيات في مسلسل «ربيع قرطبة»، باستثناء إضافة بعض السطور أو حذفها، يسبقها وصف قصير يمهّد المشهد أحيانًا، ويعقبها تعليق يتعمّق في تفاصيله أحيانًا أخرى.
وإذا ما صرفنا النظر عن الشكل السردي التقليدي الذي قُدّم المحتوى التاريخي من خلاله في الرواية، واستبعدنا دور التقنيات الفنية والتنفيذية والإخراجية في العمل الدرامي، وركّزنا على فكرة العمل الرئيسية، قد يبدو للوهلة الأولى أن توظيف التاريخ في أعمال وليد سيف غاية بحدّ ذاتها، يتحرّى فيها المصداقية التاريخية، ولا يعدو توظيفه للعنصر التخييلي أبعد من تحقيقه للجانب التوثيقي، تمامًا كالدور الذي تؤدّيه الرواية التاريخية والواقعية. إلّا أنّ الاشتغال على الشخصيات التاريخية، ومعالجة بعدها الإنساني بدقّة، وبراعة إنشاء ما تقوله وتفعله بما يقتضي لإبراز صفاتها الإنسانية المتخيّلة، يجعل من توظيف وليد سيف للتاريخ وسيلة كذلك، يمسي الماضي من خلالها حاضرًا، ويستحضر بها الأسئلة الراهنة، وبذلك لا يستسلم العنصر التخييلي عنده دائمًا للمنطق التاريخي للأحداث، بل يعمد أحيانًا إلى رواية التاريخ عن طريق إبراز أو نقد أو تقويض بعض السرديات، بمنأى عمّا ظهر وإظهارًا لما اندثر.
انطلاقًا من تلك الرؤية، يمكن لتمثيل التاريخ[14] أن يحمل وجوهًا متعدّدة التأويل، ممّا يعلّل القيمة الفكرية والفنيّة التي بوسعنا أن نستمدّها من أعمال وليد سيف التاريخية في وقتنا الحاضر، وكأنها بذلك تذكّرنا أنّ التاريخ يشرع أبوابه لنا ما دمنا قادرين على تخيّل حقيقته.
-
الهوامش
[1] «الشاهد والمشهود»، وليد سيف، ص 7.
[3] «الشاهد والمشهود»، وليد سيف، ص 14.
[4] «مكر التاريخ» هو مصطلح أطلقه الفيلسوف الفرنسي بول ريكور استنادًا إلى فلسفة هيغل، ويرمي به إلى أن التاريخ يمكر بنا حين يدفعنا إلى الانصراف عن تاريخ المصالح الفردية والتأمل في آثارها وجوانبها غير المقصودة، ثم تأويلها على أنها جزء من مصلحة الدولة أو الشعب. انظر/ي «الزمان والسرد»، الجزء الثالث، ص 297.
[5] الشاهد والمشهود، وليد سيف، ص 37.
[6] المصدر السابق، ص 478.
[7] المصدر السابق، ص 223
[8] المصدر السابق، ص 414
[9] المصدر السابق، ص 449
[10] المصدر السابق، ص 465.
[11] من بلاد الباسك أو البشكنش، وهو إقليم ضخم يمتد عبر جبال البيرينييه الغربية على الحدود ما بين فرنسا وإسبانيا
[12] انظر/ي لقاء مع د. وليد سيف / كاتب مسلسل عمر بن الخطاب.
[13] انظر/ي قلم على الهواء | حاتم علي … في ظل المراثي | وليد سيف
[14] ترى الناقدة العراقية نادية هنّاوي في كتابها «السرد القابض على التاريخ/ مباصرة في (رواية التاريخ)» عام 2018 أن تمثيل التاريخ إما أن يتخذ مسارًا تقليديًا في التوظيف التقليدي السردي وهو مسار الرواية التاريخية، وإما أن يركّز على الكيفيات التقانية التي تشهر المُهمّش والمسكوت عنه في التاريخ وهو ما أطلقت عليه مسمّى «رواية التاريخ».