مؤنس الرزاز

«أحياء في البحر الميّت» لمؤنس الرزّاز: البحر من أمامكم، والسرد من ورائكم

«أحياء في البحر الميّت» لمؤنس الرزّاز: البحر من أمامكم، والسرد من ورائكم

الخميس 24 شباط 2022

( هذا المقال جزء من ملف أنتجته حبر في الذكرى العشرين لرحيل الكاتب الأردني مؤنس الرزاز، لقراءة باقي مواد الملف اضغط/ي هنا)

ما بَرِحَ مؤنس الرزّاز منذ تجاربه القصصيّة والروائيّة الأولى يتمرّد في أساليب الكتابة، مادًّا لسانه في وجه العالم، وهو يُجرّب ويُخرّب ويبدّل في تقنياته وحبكاته السرديّة. بعد كتابة ثلاث مجموعات قصصيّة،[1] نشر الرزّاز روايته الأولى «أحياء في البحر الميّت» عام 1982، حيث كان مُقيمًا في بيروت منذ عام 1978 وشاهدًا على وقائع الحرب الأهليّة والاجتياح الإسرائيلي للبنان آنذاك.[2]

«أحياء في البحر الميّت» روايةٌ لم تُكتَب للقراءة التقليدية، فهي «نصٌّ للكتابة» لا للقراءة.[3] ما يُميّز هذا النوع من النصوص أنّه يُحصّن نفسه من صنميّة السرد وجاهزيّة المعنى، ويُغوينا بالتورّط في كتابة الأجزاء ذاتها التي لم يُقدّمها جاهزةً للقراءة الاستهلاكيّة. إنّه عملٌ روائيّ دون رواية واحدة، كتابةٌ دون أسلوب مُحدّد، إنتاجٌ دون مُنتَج مُتماسك، وبناءٌ دون مَبنى واضح.[4]

ما يحتاجه هذا النوع من النصوص حسبما يرى الفيلسوف والناقد الفرنسي رولان بارت هو «التفسير»، ولا يعني بالتفسير هنا إعطاء المعنى بقدر ما هو «تقديرٌ» وإبرازٌ لما ينطوي عليه النصّ من عناصر تعدّديّة ساهمت في تشكيله.[5]

فما هي تلك العناصر التي جعلت من رواية الرزّاز الأولى مُتشعّبة المسالك، ليس لها بداية أو نهاية واضحة، لا أزمنة ولا أمكنة مُحدّدة، وذات دلالات مُتعدّدة؟

عالم ما وراء السرد

يتجلّى عنصر السرد الماورائي -أو ما يُسمّى «الميتاسرد» Metafiction- واضحًا منذ العتبات الأولى لرواية «أحياء في البحر الميت». إنّه نوع من أنواع السرد ما بعد الحداثي الذي يتّخذ من نفسه موضوعًا،[6] بمعنى آخر هو رواية عن رواية، ترصد حالة الكاتبة أو الكاتب ما وراء عالم الكتابة، وتكشف للجمهور المُتلقّي أسرار عمليّة الكتابة وصعوباتها أو إحباطاتها، على نحو يخرق الميثاق التخييلي[7] بين الكاتبة أو الكاتب والجمهور المُتلقيّ، مؤكّدًا منذ البداية على وعي الشخصيّات وإدراكها بأنّها جزء من وقائع مُتخيّلة، وإن كان ذلك أمرًا مُسلّمًا به لدى قراءتنا لعمل تخييليّ.[8]

بدءًا من الغلاف الخلفيّ للرواية، يستعرض مؤنس الرزّاز عناصر السرد الماورائيّة، إذ تُطالعنا إحدى شخصيّات الرواية؛ الكاتب «عناد الشاهد» وقد كتب مُراجعةً لرواية الرزّاز، مُعترضًا على الصّفات التي منحها له: «كنتُ أُفضّل لو أنّ مؤنس الرزّاز صوّرني شخصًا سويًا أليفًا. لكنّه أصرّ على أن يجعلني نتاج هذا الزمن المجيد وهذا الوطن السعيد. لا بل جعلني أكتب روايةً مفتوحةً تتداخل مع روايته وتختلط بها شأنها شأن كوكتيل الأزمنة والأمكنة التي صوّرها».[9]

نحن أمام روايتيْن مُتداخلتيْن إذن؛ رواية مؤنس الرزّاز ورواية الشخصيّة «عناد الشاهد» -التي يُسمّيها «عرب» تارة و«أعراب» تارة أخرى- وليس من الواضح إن كان ثمّة حدود تفصل بينهما. تُتيح تقنية السرد الماورائي الاشتغال على عدّة قضايا، إحداها مساءلة الشخصيّات لسلطة المؤلّفة أو المؤلّف،[10] ويتّضح هنا اعتراض «عناد الشاهد» من خلال الكتابة على سلطة الكاتب والتحكّم بمصائر شخصيّاته.

ما يُميّز هذا النوع من النصوص أنّه يُحصّن نفسه من صنميّة السرد وجاهزيّة المعنى، ويُغوينا بالتورّط في كتابة الأجزاء ذاتها التي لم يُقدّمها جاهزةً للقراءة الاستهلاكيّة.

ما يُبرز إلى الواجهة كذلك قضيّة أخرى وهي العلاقة الجدليّة بين الواقع والتخييل؛ لاسيّما أنّ الواقع العربي السياسيّ الذي تتحرّك الشخصيّات في حيّزه عبثيّ وغير مفهوم بالنسبة لها، ممّا يُبرّر اللجوء إلى عوالم الخيال والحلم والوهم في محاولات يائسة للسيطرة عليه أو التحكّم به نوعًا ما. هكذا، يترك الرزّاز شخصياته تتخبّط في «عوالم مُتباينة مُتداخلة: عالم الوهم وعالم الواقع وعالم الحلم»، حيث يُعقّب «عناد الشاهد» قائلًا: «ونحن -أي أبطال الرواية- نضطرب أيضًا في مدن مختلفة ذات أزمنة ذاتيّة».[11]

يُقدّم الرزّاز شخصيّة أخرى وهي البدويّ الماركسيّ «مثقال الزعل»؛ صديق «عناد الشاهد». يكتبُ «مثقال» مقدّمة لرواية «عرب» التي تركها له «الشاهد» قبل أن يختفي. يصف «مثقال» الرواية قائلًا: «في هذا «العمل» تختلط الرواية بالسيرة الواقعيّة بالهذيان بنقل كلمات الآخرين. بانفجار عاصف لكل ممكن يتأبّى التحوّل إلى فعل. هي في أسوأ الأحوال عمل أدبي، قد يراه المرء روايةً مفتوحة، وقد يراه آخر ضدّ-رواية، وقد يراه ثالث هلوسةً وتجديدًا، ويراه رابع مجرد أوراق لا تصلح إلا لتُستعمل في المرحاض (..)».[12]

يُطلَق على الرواية التي تتضمّن تعليقًا على سردها وهويّتها اللغويّة مُسمّى السرد النرجسي (Narcissistic Narrative)،[13] بحيث يتجلّى وعي الشخصيّات في النصّ على نحوٍ يبدو أنّها تُطالع نفسها في المرآة وتنتقد ذاتها والنصّ السرديّ في آن. يوظّف مؤنس الرزّاز شخصيّاته لتنتقد الرواية من الداخل قبل أن يأتي مَن ينتقدها من الخارج، وكأنّه بذلك يؤكّد أنَّ التشظّي والتشتّتَ الغالبيْن على السرد حاضران عن سبق إصرار وترصّد. نرى لاحقًا «عناد الشاهد» يتذمّر من النقد السلبيّ الذي يوجّهه «مثقال» للرواية: «تقول مُجزّأة؟ طبعًا مُجزّأة أليس الوطن، أليس الإنسان، ألستُ أنا، ألستَ أنت، مُجزّأين؟ ألسنا (..)».[14]

تتّسعُ الفراغات بين الكلمات، تتلاشى أدوات الربط في السرد المُتشظّي، فيما يمثّل الكلام الفائض عن الحاجة مفارقةً أمام العجز عن الإتيان بفعل؛ إذ تظهر شخصيّة «عناد الشاهد» القوميّة بعيدةً عن تحقيق الرؤى الحالمة للوحدة العربية، فنراها مُشتّتةً كالرواية التي تكتبها، هائمةً على وجهها بين مدن مختلفة وأمكنة مُتعدّدة، رغم أنّ كلّ مدينة لها إيقاعها الزمنيّ الخاص، وأوضاعها السياسيّة المُعقّدة :«كان أشبه بالبدو الرحّل، لا يكاد يلمّ بعاصمةٍ إلا ويغادرها (..) فكان يكتبُ في عمّان وبيروت والقاهرة ودمشق وبغداد وأريحا واليمن السعيد. وفي الصحراء وعلى البحر وفي السماء».[15]

يشير «مثقال» في المُقدّمة إلى ما تُمثّله رواية «الشاهد» من أصناف أدبيّة مُتعدّدة تتداخل فيها كلماته مع كلمات كُتّاب آخرين، وقد يكون في ذلك إشارة إلى مؤنس الرزّاز نفسه حسبما ذكر «عناد الشاهد» على غلاف الرواية. يُغالي السرد في توظيف التطبيقات التناصّية، سواء أكان ذلك من خلال ذكر أسماء الكُتّاب الذين تأثّر «الشاهد» بأسلوبهم مثل المنفلوطيّ، وطه حسين، والجاحظ، وحنّا مينه، ومحمود درويش، وسليم بركات، وماياكوفسكي، وكافكا، وإدغار آلن بو، ومارسيل بروست، أم عبر استحضار أعمالهم الأدبيّة وتضمينها داخل الرواية، مثل رواية «الصخب والعنف» لوليم فوكنر، واقتباسه لكلام الشخصيّة «كونتن» حول الوقت والحدّ الفاصل بين عالم الحلم وعالم الصحو.

ينتحلُ[16] الرزّاز كذلك إحدى قصائد الشاعر معين بسيسو وينسبها لعناد الشاهد لتكون القصيدة التي يُلقيها على «الرّائد» بعد أن يطلب الأخير منه أن يُسمعه من قصائده «أيام كان شاعر ثورة الوحدة». يظهر كذلك الكاتب تيسير السبول كشخصيّة في الرواية، فيتحدّث عن انتحاره ويقتبس من قصائده، ثم يُدخله في حوار حول هزيمة حزيران: « وقال لي تيسير الذي بُعثَ فجأةً من بين أسطر أنتَ منذ اليوم أن قرص (ل.س. دي) الذي تناولته يأخذني إلى عوالم لا تشبه العوالم التي مضى إليها وتشبهها (..) وقال تيسير قال الأديب: أخي الأزمة أزمة ديموقراطيّة. إسرائيل والاستعمار قضية ثانويّة. الأزمة هنا. في الداخل، الديموقراطيّة».[17]

يُضاعف الرزّاز، عبر توظيف التناص، من إحساس «الشاهد» بالهزيمة العربية، مُوحّدًا في حالة الكآبة ودوافع الانتحار بينه وبين الكاتب تيسير السبول. 

من جهة أخرى، قد توحي المغالاة في ذكر أسماء الكُتّاب الآخرين بأنّها محض مُباهاة واستعراض لسعة اطّلاع الكاتب، فهل يسخر الرزّاز من زيف شخصيّة «عناد الشاهد» المُثقّفة كما يسخر من فذلكة المُثقّفين الثورييّن الآخرين في الرواية؟ وهل يسخر مؤنس الرزّاز من نفسه كذلك؟ ربّما، إلا أنَّ توظيف التناص يؤّكد على أنّ النصّ الأدبي ليس بمعزلٍ عن النصوص الأخرى، «ولا نصّ موجود بوصفه كُلًّا مُستقلًا ومُنعزلًا عن النصوص الأخرى»،[18] لأنّ خبرة الكاتبة أو الكاتب واطّلاع القارئة أو القارىء على النصوص الأخرى تُساهم في تفسير النصّ الأدبي وتحديد تصنيفاته، وإلا ما الذي يدفع الرزّاز إلى المُآخاة بين النصوص الأدبيّة العربيّة والغربيّة والجمع بين هؤلاء الكُتّاب على اختلافهم في روايته؟

يُطلّ الرزّاز علينا بكوكتيل من النصوص و«كوكتيل من الأزمنة والأمكنة» ويصنع عملًا روائيًا مُسبّبًا للصداع ومُثيرًا للغثيان لدى القراءة، وكأنّ الدلالات المُتعدّدة التي تشير الرواية إليها والمبالغة في توظيف التطبيقات التناصّية إحالةٌ إلى التشتّت و«فُقدان أي سبيل للحقيقة»[19] في خضم الواقع السياسي الذي يختلف اختلافًا جذريًا من مدينة لأخرى، من «مسقط رأس» «الشاهد» أو مؤنس الرزّاز إلى مدينة بيروت حيث المقاومة والحرب الأهليّة والاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982.

كذلك، تعكس التُخمة التناصّية في رواية الرزّاز سخريته من فوضى النصّ وتعدّد الأجناس الأدبيّة ومظاهرها وتداخل النصوص والشخصيّات والمعلومات حدّ الإشباع في السياق ما بعد الحداثي.[20] وفيما انهارت السرديّات التاريخيّة والفلسفيّة الكبرى، لم يعد التاريخ أكثر من مجرّد رواية،[21] وأضحت «الحقيقة» مُتعدّدة الأوجه. ولذا يتلاعب الرزّاز باللغة السرديّة والشخصيّات، فيدمج ويستطرد من جهة ويُجزِّىء ويُشظّي من جهة أخرى، ما يلبث أن يبني عوالم الشخصيّات، ثمّ يقوّضها أو يجعلها تتحرّك ضدّ مصالحها ورغباتها في جو مشحون بالاغتراب عن الذات، وفقدان البوصلة الشخصيّة.

الماء من لون الإناء

يفيضُ العنصرُ المائيّ في الرواية، ينهمرُ ويهدرُ ويتدفّق بين الشخصيات مثل البحر المتوسّط في بيروت، أو يركدُ آسِنًا مُتبخّرًا مثل البحر الميّت. يعلق «مثقال» على رواية «الشاهد» قائلًا: ««الماء من لون الإناء». وقلتُ «الإناء مكان، الماء زمان». أين زمن بيروت الهادر الدافق المُقاتل من زمن مسقط رأسك الهامد القتيل هذا؟».[22] 

تظلّ دالّة المُتصوّف «الماء من لون الإناء» تتكرّر في رواية «الشاهد»، إحالةً إلى فلسفة التصوّف حول «وحدة الوجود»؛ أي عندما يكون المُتصوّف في تماهٍ مع المكان حدّ اكتساب صفاته. كأنّ «الشاهد» متصوّفٌ يحلمُ بالتماهي مع المدن العربية، يتوهّم سبيلًا إلى الوحدة بينها رغم أنّ كلّ مدينة لها ماؤها/ زمنها السياسيّ الخاصّ، ما يجعله مدعاةً للسخرية والتندّر في نظر «مثقال» الشيوعيّ.

كما نرى «الشاهد» يصارع رغبته في فهم الواقع السياسي العربي، إذ يحاول جاهدًا تفسيره باستخدام فلسفة «هرقليطس» حول تغيّر الوجود «لا يخطو المرء في النهر نفسه مرتّين»، لكنّه يرى أنّ الماء/ الزمن يتغيّر في بيروت باستمرار ويصير بلون الدم، فيما يظلّ الماء الآسن الراكد نفسه في البحر الميّت. الماء هنا ليس محض دالّة تتكرّر في إشارة إلى إيقاع الزمن المُتغيّر بين المدن المُتداخلة في الرواية، بل يعكس كذلك الوضع السياسي في تلك المدينة، والاعتقاد الفكري والانتماء الحزبي للشخصيّات. لذلك، يذكر «الشاهد» أنّ «الغزّاوي»، إحدى الشخصيّات المُقاومة في بيروت، يلعب بالماء أو «يلعب بدمه».

من جهة أخرى، ثمّة ما يحاول أن يفعله «عناد الشاهد» و«مثقال» إزاء البحر الميّت طوال الوقت: «مثقال يحرث البحر وأنا أُبلّطه. وأفكّر أنّ حرث البحر فعل اختيار حرّ، أمّا تبليطه فردّة فعل يائسة إذ قال لي الرائد إن أعجبتك الأمور هنا، فأهلًا وسهلًا، وإلا فاذهب وبلّط البحر. ورحتُ أبلّط وأبلّط وأشرب وأشرب حتى بتّ أنا البحر قال مثقال متضاحكًا: أنت البحر الميّت. وراح يحرثني».

يظلّ الرزّاز يُراوح بين فعلين؛ يحرث[23] البحر ويُبلّطه، حركة في اتجاهين مُضاديْن. فعلان عبثيّان يعكسان الشرخ بين طموح النظريّتيْن، تضارب الأهداف والعجز عن تطبيقها. حراثة البحر وإن كانت تمثّل اختيارًا وعملًا ثوريًّا حُرًّا فإن «مثقال» البدويّ الشيوعيّ يعجز عن تحقيق مشروعه، فنرى «الشاهد» و«النقيب»، الذي يعمل في المباحث ويستجوب المُناضلين ويسعى إلى تصفيتهم وإقصائهم، يسخران من حلمه في «إقامة نقابة لعمّال المصنع المُجاور للبلدة (..) نقابة لإنصاف البدو، إنصاف الفلّاحين الذين يعملون في مصنع؟ والمصنع مقفل بسبب الثأر. قتل عامل بدويّ عاملًا آخر وقامت الدنيا وأُقفِل المصنع. المصنع تحوّل ساحة حروب للثأر. لماذا لا تُنشىء مجلسًا عشائريًا؟».[24]

يظلّ الرزّاز يُراوح بين فعلين؛ يحرث البحر ويُبلّطه، حركة في اتجاهين مُضاديْن. فعلان عبثيّان يعكسان الشرخ بين طموح النظريّتيْن، تضارب الأهداف والعجز عن تطبيقها.

هكذا، تتكرّر دالة البحر الميّت بشكل عبثيّ وبصوتٍ لا يخلو من الخيبة إلى أن تفقد معناها. ورغم أنّ فعلي الحراثة والتبيلط فيهما نوع من الحركة، والحركة فعل حياة، لكنها حياةٌ في بحر ميّت كما يُبشّرنا الرزّاز.

تنطوي الشخصيّات الثوريّة والمُثقّفة في الرواية على كثير من التناقضات، ويزيدها الواقع العبثيّ شرخًا. إذ يتّخذ العجز منحى آخر في السرد ليطال القدرة الجنسيّة. بشكلٍ نمطيّ، تحاول الشخصيّات الذكوريّة تفريغ عجزها الفعليّ في أجساد الشخصيّات النسائيّة في الرواية، وكلّما ساء الوضع السياسي تردّت القدرة الجنسيّة، فيما تتعارض المصالح الشخصيّة والسياسيّة، وتتحوّل الخيانة الجسديّة إلى فعل انتقام بين الشخصيّات.

نرى شخصيّة «مريم» الفلسطينيّة الثائرة وهي تنتقد منظور «الشاهد» المادّي إلى العلاقة الجنسية بين الرجل المرأة، وتهجو قصور الثوريّين المُثقّفين في إدراك أبعاد الثورة والحريّة في موضع آخر، قائلةً: « لا يا شيخ! أنا أبقى في البيت كالمُدجّنات، ثمّ لماذا تفترض من الآن أنّني سأُرزَق بصبيّ، لماذا لم تقل إذا أنجبتُ عادلة، أنتَ مُتحيّز للذكور، مُتخلّف، تدّعي الثوريّة ادّعاءً».[25]

تدّعي الشخصيّات المُثقّفة والثوريّة العمقَ والأصالة، فيما يفضح السرد السطحيّ ضآلتها وزيفها. وعليه، تعيدنا التطبيقات التناصّية وتداخل الروايات مع بعضها إلى خصائص السرد ما بعد الحداثي الذي يجتثُّ الأفكار من العمق، و«يستبدل العمق بالسطح أو بسطوح مُتعدّدة».[26] 

من هنا، يظهر البحر الميّت في الرواية كسطح راكدٍ يفتقر إلى العمق والحياة، مُفاقمًا من الشعور باللاانتماء عند الشخصيّات، وتبعثر أحلامها الثوريّة دون جدوى: «وكان البحر الميّت يُحاول أن يمدّ شواطئه بين المحيط والخليج (..) لكنّ السطح ميّت، السطح، السطح فقط، وأنا لستُ غريقًا».[27] 

خاتمة

تضجّ رواية «أحياء في البحر الميّت» بأصوات متعدّدة مهزومة من الداخل، تتخبّطُ يمنةً ويسرةً في طريقها الثوريّ، فيتخبّط السرد ويتشظّى مثلها. الأمر الذي يستدعي أن نسأل: إذا كان الماء من لون الإناء، فهل السرد من لون الواقع؟

لا غرو أنّ مؤنس الرزّاز رائدٌ في التجربة الروائيّة والقصصيّة الأردنيّة، إلا أنّ إصراره على كسر النمط السرديّ والتفنّن في أساليب التجريب والتخريب يجعل من قراءته عمليّةً مُنهكةً وعقيمة أحيانًا، لا تؤتي أُكلها إلا بعد جهد. الأمر عينه الذي يجعل من أعماله الأدبيّة نصوصًا للكتابة وإنتاج الأفكار لا استهلاكها.

  • الهوامش

    [1] وهي «مدّ اللسان الصغير في وجه العالم الكبير»، و «البحر من ورائكم» الصادرتان عام 1975، و« النمرود» الصادرة عام 1980.

    [3] يُفرّق الفيلسوف والناقد الفرنسي رولان بارت في كتابه «S/Z»، الصادر عام 1973 بين نوعين من النصوص الأدبية: نصوص القراءة «Readerly Text»و نصوص الكتابة « Wrtierly Text»، إذ يشمل الأول قراءة المُتعة بطريقة تقليديّة وخطّية للنصوص، فيما يقتضي النوع الآخر تورّط الجمهور المُتلقّي بإنتاج أفكار النص ومشاركة الكاتب/ة في عمليّة الكتابة بطريقة عكسيّة.

    [4] المصدر السابق.

    [5] المصدر السابق.

    [6] أماني أبو رحمة، «التناص وما بعد الحداثة»، (PDF) التناص وما بعد الحداثة أماني أبو رحمة – Academia.edu

    [7] يُعرّف الكاتب والناقد الإيطالي أمبرتو إيكو في كتابه «6 نزهات في غابة السرد»، «الميثاق التخييلي» على أنّه ذلك الميثاق بين الكاتب/ة والمُتلقّي/ة الذي يمكّننا من القراءة على أساس أنّ ما يُروى قد وقع فعلًا، وإن كُنّا نعلم أنّه مجرّد وقائع تخييليّة.

    [8] انظر/ي أيضًا مقدّمة «الكتابة والتناسخ»، عبد الفتّاح كيليطو، دار توبقال، 2008.

    [9] أحياء في البحر الميّت، مؤنس الرزّاز، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، 1982.

    [10] أماني أبو رحمة.

    [11] الرزّاز، 1982.

    [12] المصدر السابق، ص6-7.

    [13] أطلقت الناقدة الكنديّة ليندا هتشيون على السرد الماورائي مُصطلح «السرد النرجسيّ» Narcissistic Narrative؛ ترى هتشيون أنّ نرجسيّة السرد لا تتعلّق بشخصيّة الكاتبة أو الكاتب بل هو مجرّد وصف مُحايد للنصّ المكتوب؛ بحيث يبدو أنّ النصّ واعٍ بكينونته وعناصره، فيعكس نفسه كما لو أنّه نرجس ينظر في المرآة، وحتى تتحقّق انعكاسيّة النص فإن ذلك يتطلّب ثلاث خطوات: أولًا أن يُكتَب النص، ثانيًا أن يكشف النص عن عناصره التخييليّة، وأخيرًا أن ينتقد دوافعه وأساليبه. للمزيد انظر/ي: Hutcheon, Linda. Narcissistic Narrative: The Metafictional Paradox.Wilfrid Laurier University Press, 2013

    [14] الرزّاز، ص 150.

    [15] المصدر السابق، ص6.

    [16] انظر/ي أماني أبو رحمة، « مُتعة الانتحال الأدبي».

    [17] الرزّاز، ص115.

    [18] أماني أبو رحمة.

    [19] المرجع السابق.

    [20] المرجع السابق.

    [21] المرجع السابق.

    [22] الرزّاز، ص7.

    [23] يرد الفعل «يحرث البحر» في الرواية أكثر من مرة، ويجدر بالذكر هنا أنّ «مَن يحرث البحر» هي مجموعة قصصيّة للكاتب إلياس فركوح، صدرت عام 1986. من المعروف أنّ مؤنس الرزّاز كان صديقًا لإلياس فركوح، لذا من الوارد أن يكون فركوح قد كتب هذه القصّة مُتأثّرًا بما قرأ في رواية الرزّاز. (الكاتبة).

    [24] الرزّاز، ص 15.

    [25] المصدر السابق، ص 136.

    [26] أماني أبو رحمة.

    [27] الرزاز ص137.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية