«أراضٍ للتنزّه» لعوز شيلاح: نقد ذاتي ساخر من واقع المجتمع الإسرائيلي

الأربعاء 14 نيسان 2021
خريطة القدس بأسماء عبرية وإنجليزية، كما تظهر في النسخة الإنجليزية من كتاب عوز شيلاح.

في صيف عام 2000، قبل بدء الانتفاضة الفلسطينية الثانية بقليل، كان الكاتب الإسرائيلي عوز شيلاح يتنقّل أسبوعيًا بين القدس ومخيم «الدهيشة» الواقع جنوب شرقي بيت لحم، بسيارة تكسي ذات لوحة إسرائيلية صفراء.[1] وقد استطاع خلال زياراته إلى المخيم، أن ينجز الجزء الأكبر من روايته التي صدرت لأول مرة في الولايات المتحدة عام 2003، باللغة الإنجليزية، بعنوان «Picnic Grounds: Novel in Fragments». ترجمها لاحقًا عبد الرحيم الشيخ إلى العربية، عام 2010، وصدرت عن «مدار» المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية بعنوان «أراضٍ للتنزّه: رواية في شذرات».

رغم أنّ شذرات الرواية لا علاقة لها بمخيم «الدهيشة» واللاجئين الفلسطينيين بشكل مباشر، إلا أنّ زيارات شيلاح إلى المخيم قد فتحت عينيه على «فضاء غير مرئي»، وعلّمته أن يكون حذرًا -على حدّ قوله- عند استخدامه اللغة العبرية، لأن صوتها يذكّر الناس والأطفال في المخيم «بوحشية جيش الاحتلال»،[2] فأدرك من خلال اطّلاعه على واقع اللجوء الفلسطيني سياسة التضليل والإنكار التي قام عليها المجتمع الإسرائيلي.

وُلد عوز شيلاح عام 1968 قرب مدينة القدس، وعمل محرّرًا للأخبار في إذاعة جيش الاحتلال الإسرائيلي كجزء من خدمته العسكرية، كما كان مراسلًا لصحيفة «كول هعير» الأسبوعية. درس شيلاح التاريخ والكلاسيكيات في الجامعة العبرية في القدس، وغادر «الأرض»[3] -على حدّ تعبيره- عام 1998، وأنجز رواية «أراضٍ للتنزه» خلال دراسته للكتابة الإبداعية في نيويورك.

تتكوّن الرواية من مجموعة شذرات مكثّفة ذات رمزية عالية، ومشحونة بالسخرية من الذات الإسرائيلية، والموروث التاريخي والثقافي القائم على الكثير من التناقضات والأكاذيب. يعكس التركيب الشذري تجربة شيلاح كفرد في المجتمع الإسرائيلي، حاول أن يسردها من خلال حبكة واحدة، فألفى نفسه أمام مجموعة من القصص المتشظّية.[4] ولأنّ الأدب الشذري ينبذ النسق الواحد، ولا يحافظ على النسيج السردي متماسكًا دائمًا، تبدو الشذرات بعناوينها الرمزية وكأنها نقاط متفرّقة على خريطة وهمية، يصل شيلاح بينها بالاتّكاء على ذاكرته وأسلوبه الفكاهي الساخر، دون أن يجتهد في إقناعنا بما وصفه «بالحقيقة الأدبية»[5] في هذه الشذرات. يراوح شيلاح في السرد بين ضمير المتكلّم الجمعي «نحن» وكأنه يتحدّث بلسان شعبه، وبين ضمير الغائب في حديثه عن فئات متفرّقة من المجتمع الإسرائيلي، لا تحمل أسماء أو علامات فارقة، حاضرة ولكنها مُغيَّبة عن واقعها وهويتها.

أدلجة اللغة العبرية، وسؤال «الأدب الإسرائيلي»

تجنّب شيلاح استخدام اللغة العبرية في روايته لسببين؛ أولهما إدراكه أنّ اللغة العبرية الحديثة لغة مؤدلجة خُلقت لتخدم مشروعًا قوميًا،[6] والسبب الآخر رغبته في الوصول إلى جمهور أوسع من القرّاء الذين لا يتقنون اللغة العبرية. وعليه، يصف شيلاح روايته قائلًا إنّها «أدب عبري، مكتوب بالإنجليزية»، الوصف الذي يحمل في طيّاته أسئلة جذرية عن ماهيّة الأدب العبري، وما الذي يميّزه عمّا يُسمّى «بالأدب الإسرائيلي».

انشغل الوسط الأكاديمي والثقافي في المجتمع الإسرائيلي خلال تسعينات القرن الماضي بأسئلة جدلية حول هوية «الأدب الإسرائيلي»، الأمر الذي استدعى عددًا من النّقاد والباحثين الأكاديميين إلى البحث في تاريخ الأدب العبري الذي سبق تأسيس الكيان الإسرائيلي، في محاولة لتأطير مفهوم «الأدب الإسرائيلي» وإدراك أبعاده المتشظية. تاريخيًا؛ ارتبط مشروع إعادة إحياء اللغة العبرية بحركة التنوير والاندماج اليهودي «الهاسكالاه»[7] في القرنين الثامن والتاسع عشر في أوروبا، حيث عمد بعض الكُتّاب والمثقّفين اليهود حينها إلى استبعاد اليديشية،[8] وشرعوا في توظيف اللغة العبرية في الأدب والصحافة، ممّا نزع عنها الهالة الدينية المقدّسة، وأسبغ عليها وظيفتها العلمانية الحديثة التي مهّدت فيما بعد إلى تأسيس حركتي الإصلاح[9] والصهيونية.

لا يمكن الحديث عن اللغة العبرية في سياق «الأدب الإسرائيلي» دون النظر إلى الإطار الأيديولوجي الذي لا يعتبرها محض أداة تعبيرية فحسب، بل يعوّل عليها كأداة فاعلة، تساهم في تحقيق الهوية القومية للدولة.

أضحت اللغة العبرية بذلك رمزًا من رموز «الدولة اليهودية» في سعيها إلى توحيد هوية يهود العالم، حيث فُرض على شعوب اليهود المهاجرة إلى فلسطين التخلّي عن اللغات الدارجة التي يتحدّثونها في سبيل تعلّم العبرية وإتقانها.[10] وقد خلّف هذا المشروع الصهيوني بأدلجته اللغة تساؤلات عدّة حول مفهوم الذات والوطن والهوية بالنسبة لليهود، وسبّب إشكالًا في التعامل مع الأدب اليهودي الذي كُتب بلغات مختلفة، مثل الألمانية والروسية والإنجليزية والفرنسية والعربية.

يفترض بعض النقّاد الإسرائيليون،[11] مثل دان ميرون، أن قيام «دولة إسرائيل» قد أعاد المشهد الأدبي اليهودي الحديث إلى «طبيعته»، واستبعد جزءًا كبيرًا من الإشكال الثقافي القائم حوله. يعلّل دان ميرون ذلك بأنّ الكُتّاب في «إسرائيل» سواء أكانوا معادين للصهيونية أم عرب، فهم يكتبون «الأدب الإسرائيلي» «دون التزام أيديولوجي مسبق، سوى أنهم يعيشون في «إسرائيل» ويكتبون بالعبرية، وهذا ما يشكّل الفرق الحاسم بين الأدب الإسرائيلي وكل الآداب اليهودية الأخرى في الماضي والحاضر».[12] إلّا أنّه يستدرك قائلًا إنّ حضور «الأدب الإسرائيلي» في المشهد الثقافي أنجب إشكاليات أخرى، مثل «الأدب العبري الحديث»، الذي عكس بدوره «المحنة الإسرائيلية» وقدّم نقدًا لاذعًا «للعقلية الإسرائيلية».

لكنّ افتراض ميرون أنّ الكُتّاب الذين يساهمون في كتابة «الأدب الإسرائيلي» بعيدون عن أي أيديولوجيا مسبقة لا يبدو منطقيًا، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنّ اللغة العبرية الحديثة التي يستخدمونها هي في الأساس جزء من المشروع الصهيوني الأكبر ذي الأيديولوجيات المسبقة. ولذلك، لا يمكن الحديث عن اللغة العبرية في سياق «الأدب الإسرائيلي» دون النظر إلى الإطار الأيديولوجي الذي لا يعتبرها محض أداة تعبيرية فحسب، بل يعوّل عليها كأداة فاعلة، تساهم في تحقيق الهوية القومية للدولة.

يأتي اعتراض شيلاح على استخدام اللغة العبرية الحديثة في روايته قلبًا وقالبًا، إذ لم يكتف باستبعادها كلغة للكتابة، بل وظّف موضوعها بأسلوب ساخر في أجزاء مختلفة من الرواية. مثلًا؛ في إحدى الشذرات بعنوان «عدوى»، يسخر شيلاح من «صحفي متوسّط الموهبة» يستخدم الكتابة لإغواء النساء، ثمّ يقرّر فجأة أن يتوقّف عن الكتابة بالعبرية لأنّها كما يدّعي «لغة غير أخلاقية مصممة لخدمة قوى إمبريالية وتشجيع القتل»،[13] لكنّ الصحفي يدرك أنّ كل اللغات الأخرى التي يتكلّمها أًصيبت بالعدوى الإمبريالية ذاتها، ولذلك يقرّر اعتزال الكتابة!

ينتقد شيلاح كذلك البعد العنيف الذي اكتسبته اللغة العبرية جرّاء ارتباطها بممارسات القتل والترهيب الإسرائيلي. في شذرة بعنوان «فراغ»، يدرك أحد الشعراء عندما طُلب منه في السنوات الأولى للاحتلال أن يترجم كرّاسة تخصّ «بندقية إنجليزية»، أن هناك فراغ في «مفردات الأسلحة في العبرية، اللغة التي سبقت ظهور البنادق، إن لم يكن (ظهور العنف) وأنه كان عليه اختراع كلمات للزناد ونابض السبطانة والمدى، وما شابهها. إن موهبته في هذه المخترعات، المفردات المألوفة الآن في الجيش والصحافة والنظام القضائي، لا تزال ماثلة اليوم».[14] ومع أنّ تطوّر أي لغة واتّساع حقل مفرداتها مع مرور الزمن أمر طبيعي وضروري لاستمرارها، يركز شيلاح على دخول مفردات الأسلحة إلى اللغة العبرية، داعيًا إلى التفكّر في كيفية تشكّل البناء اللغوي بما يلائم سياسة القتل وثقافة العنف السائدة.

الأكاديميا في المجتمع الإسرائيلي: من الأيديولوجيا الصهيونية إلى خطاب ما بعد الصهيونية

ينتقد شيلاح المؤسسات الأكاديمية والإعلامية في المجتمع الإسرائيلي في عدّة شذرات من الرواية، ويبيّن كيف تُسخّرها دولة الاحتلال الإسرائيلي كأدوات تخدم نظامها الداخلي وسياستها الخارجية. وقد سبق أن اتّخذ هذا النقد أبعادًا مختلفة في الوسط الأكاديمي منذ سبعينات القرن الماضي في جامعة حيفا، عندما قاد «علماء الاجتماع الجدد»[15] التيار المعادي للأيديولوجيا الصهيونية، واتّهموا علم الاجتماع الإسرائيلي السائد باستخدام النظام التربوي والإعلام لترسيخ ادّعاءات الصهيونية حول الرواية الرسمية الإسرائيلية.

يُرجع إيلان بابيه، المؤرّخ الإسرائيلي اليساري المناهض للصهيونية، التصدّعات الأولى في صورة الذات لدى الإسرائيليين إلى حرب أكتوبر عام 1973، وتحديدًا بعد ظهور حركات الاحتجاج السفاردي[16] المعارضة للتمييز بين اليهود، خاصة التمييز ضد جماعات اليهود من أصول شمال أفريقية. أما الصدع الأكبر فنتج عن رغبة الأكاديميين الإسرائيليين خلال الثمانينات، لا سيما خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى، في بحث وتفكيك رواية عام 1948 التي محت «نكبة الفلسطينيين تمامًا من المشهد الأكاديمي».[17]

يبدو أنّ شيلاح كان مُثقلًا بما اختبر من تناقضات وأكاذيب حول المجتمع الإسرائيلي، وحينما قرّر أن يتخلّص من ذلك العبء أخذت الشذرات تسقط منه متفرّقة، كاشفةً عن الكثير من المفارقات والإشكاليات المتعلّقة بماهية الذات والهوية الإسرائيلية.

يعتقد بابيه أن المؤرّخين الجدد الذين أطلقت عليهم وسائل الإعلام مسمّى مؤرّخي «ما بعد الصهيونية» أعادوا البحث في الرواية التاريخية لتفكيك حقيقة ما حدث عام 1948، لكنهم لم يُسائلوا تلك الحقيقة المزعومة فحسب، بل كان يُهمّهم -من ناحية أكاديمية- أن يكشفوا كيف أُنتجت هذه الحقيقة.

أثارت أفكار المؤرخين الجدد في البداية بلبلة في الوسط الأكاديمي والإعلامي، خاصةً أنّ بعضهم شكّل دعمًا للأكاديميين الفلسطينيين داخل الكيان الإسرائيلي. ولكن، مع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية، أثبتت حركة «ما بعد الصهيونية»، على حد تعبير بابيه، أنّها مجرد «موضة عابرة»[18] ابتدعها أكاديميون نخبويون، لم يكترث بعضهم لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين الحقيقية، بقدر ما أقلقتهم القضايا الداخلية، مثل تحقيق الديمقراطية والمساواة بين الأفراد في المجتمع الإسرائيلي. وعليه، لم يلبث أن استغلّ الإعلام خطابهم الأكاديمي المحايد ليخلق صورة ديمقراطية ليبرالية للمجتمع الإسرائيلي، ويستعرض مساعيه في تحقيق السلام.

أمّا عن كيفية إنتاج تلك «الحقائق التاريخية» المتناقضة، فمن المؤكد أنّها قد وجدت مرتعًا خصبًا لها في الذاكرة الجماعية الإسرائيلية من خلال النظام التعليمي والتربوي، ثمّ جرى صقلها وتلميعها بعناية بمساعدة الصحافة والإعلام؛ وذلك ما يسعى شيلاح إلى إبرازه في الرواية.

في شذرة «تأمل» على سبيل المثال، يصف شيلاح المؤسسة الأكاديمية الجامعية وكأنها سجن، صُمّمت أبعادها الهندسية خصيصًا ليظلّ الطلاب محتجزين في نطاق فكري محدود. يصوّر شيلاح إحدى الطالبات وهي تغفو بينما ينغمس البروفيسور في شرح «نظرية المعرفة»: «تختلف حروف الجر بين لغة وأخرى باعتباط جلي، ولكنها توضّح مسلّمات اللغة (..)»، تشعر الطالبة أن ردهات القاعة قد صُممّت كلها كما الجامعة العبرية «لحجب أي مشهد للخارج، ولتضييق الأفق، ولإبقاء الجميع مركزين في تأملاتهم الخاصة وجاهلين بأي شيء مهم». وعندما تستيقظ الطالبة من نومها تلاحظ جسمًا غريبًا خارج النافذة التي لا ينظر أحد من خلالها: «يتناهى صوت طلقات إلى الصف عبر النافذة (..) كان جنودنا يحصدون المتظاهرين، عندها اختفى الهلال اللامع مع الظل الطويل المنبعث من برج الجامعة».[19]

تعكس الشذرة الجامعة العبرية وهي منكفئة على ذاتها، ينغمس من هم في داخلها في إنتاج نظريات معرفية واستهلاكها في فضاءات منعزلة، دون أن تمت للواقع الخارجي بصلة مباشرة. ومن خلال الأسلوب المكثَّف، المُقتصد، والمُدجَّج بالرمزية، يحفر شيلاح عميقًا في واقع المجتمع الإسرائيلي، ويسلط الضوء على الخطاب الأكاديمي الإسرائيلي.

أعتقد أن الحديث عن «نظرية المعرفة» في هذه الشذرة لم يأت عبثًا، وقد يكون في ذلك إشارة إلى ميشيل فوكو ونظريته التي يقدّمها في كتابه «حفريات المعرفة»، حول البنية الأساسية للخطاب. يحلّل فوكو بنية «العبارة» (énoncé) التي تجعل المفردات وحروف الجر ذات معنى نظرًا لوجود قواعد وشروط ونظم مسبقة تحدّد هذا المعنى. وعليه، ينطلق فوكو من مفهوم الخطاب في السياق اللغوي، إلى سياقات أعمّ وأعمق مدلولًا، ويذهب إلى أن الخطاب يشمل الممارسات التي تُشكّل منظورنا وفهمنا للأشياء، وأنّ بمقدور الخطاب أن يجعل حقل الرؤية لدى الأشخاص محدودًا، ويمنعهم بذلك من «إدراك أن الظواهر والأحداث حقيقية أو جديرة بالاهتمام، بل وقد ينفي وجودها من الأساس»،[20] تمامًا مثل ما نفت الرواية الرسمية الإسرائيلية نكبة اللاجئين الفلسطينيين.

وخلافًا للأيديولوجيا التي يرى فوكو أنّها تدّعي معرفة الحقيقة بشكل اعتباطي، فإن الخطاب يفتقر «إلى أجندة سياسية واضحة»، وله القدرة على تشكيل المعرفة بطريقة تبدو حيادية. ولا يمكن فهم قدرة الخطاب على تشكيل المعرفة في نظر فوكو إلا من خلال ربطه بالقوة التي بمقدورها أن تسيطر على جوانب المعرفة. تعقيبًا على ذلك، يرى فوكو أن كل مجتمع له «نظام حقيقة»،[21] تُنتج الحقيقة بموجبه في إطار المؤسسات والخطاب العلمي، ثم تُنقل تحت سيطرة ورقابة أجهزة الدولة، مثل الجامعة والجيش والإعلام، إلخ، وتعيد تلك الأجهزة بعد ذلك تداولها وترسيخها في ثقافة المجتمع.

في ضوء ما سبق، تصير محاولات الخروج على «نظام الحقيقة» من خلال إنتاج حقيقة مغايرة خيانة تستحق العقاب. في شذرة «خائن»، يخبرنا شيلاح عن مصير أحد علماء النبات في حيفا بعد أن «وثّق بأمانة، وفقًا لوظيفته، تصويرًا وقياسًا، أطيافًا متعددة للحنّون في سهل يهودا»[22] قرب بيت شيمش، ثم نشر البحث في «مجلة مستقلة»، وعقابًا له فُصل بالإجماع من جمعية علماء النبات. بيت شيمش[23] أي بيت شمس هي مستوطنة بُنيت على آثار قرية دير أبان غربي القدس، دمّرها الإسرائيليون وطهّروها عرقيًا عام 1948، ويحضر زهر الحنّون متعدّد الأطياف في هذه الشذرة كرمز للوجود الفلسطيني، فيما يذكّر إنكار لجنة علماء النبات لحقيقة التعدد بممارسات التطهير العرقي القائمة حتى الآن.

«الدعاية والحرب»: التضليل الإعلامي الإسرائيلي

يرتكز شيلاح على خبراته السابقة في العمل كمراسل في الصحافة ومحرّر في إذاعة جيش الاحتلال الإسرائيلي، ليفضح أساليب تواطؤ المؤسسة الإعلامية مع المؤسسة العسكرية، ويهجو عملية التضليل الإعلامي والتلاعب بالتراكيب والألفاظ كآلية من آليات صناعة الأخبار، لغايات خداع الجمهور محليًا وعالميًا. في شذرة «مشتبه بهم»، يكشف شيلاح عن التوجيهات التي كانوا يتلقّونها لتغطية أخبار الانتفاضة الفلسطينية الأولى، والتكتيك التدريجي في تحوير المصطلحات الإعلامية استجابة للأوامر العسكرية:

في بداية الانتفاضة الأولى كانت تقاريرنا في أخبار إذاعة الجيش تعلن عن مقتل «سكان محليين». وعندما بدأت فرق الموت السرية بالعمل كنا نفيد بمقتل «محليين مطلوبين». وعندما أصبح من الواضح أن ثمة بعض حالات الخطأ في التشخيص التي تقع بانتظام تقريبًا، حدّثنا المصطلح إلى «سكان محليين مشتبه بكونهم مطلوبين» (..) جاءت التوجيهات من الدائرة القانونية مرشدة إيّانا بالإحالة إلى كافة المشتبه بهم في تحقيقات الشرطة بوصفهم «مشتبه بهم على ما يبدو»، وكافة الاتهامات الموجه إليهم على أنها «اشتباهات على ما يبدو». وعليه فقد حدّثنا نحن أيضًا مصطلحاتنا وبدأنا الإخبار عن مقتل رجال «مشتبه بكونهم، على ما يبدو، محليين».[24]

تتداخل مستويات الاشتباه الذي تعبّر عنه المصطلحات المركّبة في هذه الشذرة تداخلًا مُربكًا، يذكّر بسياسة عمل «المستعربين» أو «فرق الموت السرية»[25] التي تتنكّر وحداتها العسكرية بملابس مدنية، وتتسلّل بين أوساط الفلسطينيين وتثبط هجماتهم. وقد جرى توظيف هذه الفرق لتغطية الصورة الوحشية التي ظهر بها الجيش الإسرائيلي في الإعلام في تعامله مع الفلسطينيين المدنيين خلال التغطية العالمية للانتفاضة الفلسطينية الأولى.

يلتقط شيلاح بمهارة وقائع الاشتباه والتشويش التي تُسبّب فوضى حتى للإسرائيليين أنفسهم، والإمعان في الكذب حدًا تصير بعده معرفة الحقيقة بالنسبة لهم مهمة مستحيلة. في العبارة الأخيرة، يصير الاشتباه بالأشخاص الذين يبدون محليين بحدّ ذاته مفارقة ساخرة، ويذكّر بحادثة اشتباه وقعت أثناء الانتفاضة الأولى، عندما اختلط الأمر على أحد المستوطنين فأطلق النار على اثنين من الجنود الإسرائيليين المتنكّرين، بعد أن اشتبه عليه الأمر وظنّ أنهما من الفلسطينيين.[26]

اتّخذت أساليب التضليل والدعاية الإعلامية منحى متقدمًا خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية (انتفاضة الأقصى)، والتي يعتقد إدوارد سعيد أنها لعبت دورًا حاسمًا فيما اعتبره «معركة الصور والأفكار»، المتمثّلة فيما يُبثّ للجمهور الغربي، وما تنفقه «إسرائيل» من ملايين الدولارات على الدعاية، مثل عقد الندوات الصحفية وتدريب الصحفيين والطلبة، وقيادة الحملات الانتخابية، وإصدار المطبوعات والمنشورات، وغيرها من الأساليب التي تُسمّى بالعبرية «هاسبارا» أي «المعلومات الموجّهة إلى العالم الخارجي».[27] وهكذا، تصنع «إسرائيل» نوعين من الإعلام المُضلّل؛ أحدهما تتوجّه به إلى جمهور العالم الخارجي، والآخر مصاغ خصّيصًا للجمهور الإسرائيلي.

في شذرة «إدراك»، يسخر شيلاح من أحد المحرّرين العاملين في الإذاعة الوطنية، بعد أن أمضى المساء وهو يذيع للمستمعين خبر انهيار جسر برعام الواصل بين القطمون وتل بيوت، ليقود سيارته بعد انتهاء مناوبته عبر القطمون، ويعبر جسر برعام فيتعرّض لحادث سير! يصف شيلاح استهجان هذا المحرر «لما وصفه الآن بإدراكه المفاجئ أنه نفسه كان متورطًا في الأحداث التي كان ينقلها للجمهور».[28] والظاهر أنّ المحرّر هنا يستهجن إدراكه للحقيقة، نظرًا لأن عملية صناعة الأخبار تبعًا للأوامر العسكرية التي يتلقّاها مجرد مهمة اعتاد تأديتها، والفصل بينها وبين الواقع، ولو كان فعلًا يُصدّق الخبر الذي أذاعه، لما تورّط بنفسه في حادث السير.

التنزُّه: ممارسة صهيونية استعمارية

يستحضر توظيف مفردتي «الأرض» و«التنزّه» في عنوان الرواية علاقة الإسرائيلي المُستحدثَة المتذبذبة مع الأرض؛ وهي دالّة[29] ظاهرة في شذرات الرواية. والمعروف أنّ الـ«تيوليم»؛ أي رحلات التنزّه بالعبرية، بالنسبة للمجتمع الإسرائيلي «ممارسة جماعية بالأساس»، أمّا من منظور المؤسسة، فإن للتنزّه «حضور قوي في مناهج المدرسة وأنشطة حركة الشباب، إضافة إلى الجيش»، كما يقول مارسيلو سيفرسكي، إذ لا يعتبره نشاطًا صحيًّا وطبيعيًا هدفه الاسترخاء، بل على العكس من ذلك، فهو ممارسة مخططة ذات أيديولوجية مسبقة، تتضمّن الخرائط والحقائب والأغاني الفلوكلورية التي يردّدها المتديّنون، والتي تؤكّد ما كان البعض يدعون إليه: «الأرض يُمكن أن تُحتلّ، ليس من خلال الاستيطان فحسب، بل بالدوس عليها مرارًا وتكرارًا».[30] ويُرجع سفيرسكي أهمية التنزّه إلى دراسات في بدايات القرن العشرين، كانت تبحث في جغرافية الأرض، ومهّدت «للتعليم المذهبي والأيديولوجي» الصهيوني الذي ساعد اليهود المهاجرين إلى فلسطين، خاصة يهود الأشكناز، على التآلف مع الأرض والاعتقاد بأنهم تعرّفوا عليها جيدًا، وتمكّنوا من امتلاكها.

يراوح شيلاح في السرد بين ضمير المتكلّم الجمعي «نحن» وكأنه يتحدّث بلسان شعبه، وبين ضمير الغائب في حديثه عن فئات متفرّقة من المجتمع الإسرائيلي، لا تحمل أسماء أو علامات فارقة، حاضرة ولكنها مُغيَّبة عن واقعها وهويتها.

في الشذرة الافتتاحية للرواية «ذات عصر»، يفضّل أستاذ تاريخ أن يتجاهل قواعد التنزّه وتاريخ السكان الأصليين ريثما يستمتع في «نزهة إلى غابة هادئة للصنوبر قرب غفعات شاؤول، المعروفة سابقًا بدير ياسين». يكتفي الأستاذ بتعليم ابنه مهارات التخييم التي «اكتسبها في الجيش»، ولا يتحدّث عن تاريخ المكان الذي يتنزّهون فوقه: «لم يتحدّث الأستاذ عن القرية، ولا عن أصل الحجارة (..) لقد تخيّل أنه وعائلته كانوا في نزهة، ولا علاقة لها بالقرية، يستمتعون بأراضيها خارج التاريخ».[31]

ليس التجاهل وإنكار تاريخ المكان ما يحاول شيلاح أن يركّز عليه فحسب، بل يفضح كذلك ممارسات العنف البيئي في التعامل مع الطبيعة والأشجار كأدوات تخدم المخطّط الاستيطاني الاستعماري، واستغلال عملية استصلاح الأراضي غير الصالحة للزراعة[32] وتشجيرها كوسيلة لتغطية أنقاض القرى المُدمَّرة والمُطهَّرة عرقيًا. في شذرة «الطريق إلى القدس»، يبيّن شيلاح عواقب هذا العنف البيئي قائلًا: «على امتداد الطريق نحو القدس زرعنا في الماضي، وغطّينا حواكير السفوح بالصنوبر (..) ولكنّ أشجارنا نمت مريضة، ووقفت رمادية عارية، تتهاوى الواحدة منها على الأخرى، يابسة وقد حرقت على امتداد ثلاثة أيام صيفية داخنة»، فيعلّق أحد ضباط الجيش الذي شارك في تهجير بعض القرى من سكانها الأصليين قائلًا: «إن هذه الأشجار قد أتمت مهمتها، وقد حان الآن أوان مستثمري الأملاك».[33]

تبرز هنا الصيغة الوحشية في التعامل مع الطبيعة والأشجار من خلال علاقة أحادية نفعية بحتة، لا ترقى للعلاقة التبادلية الطبيعية القائمة بين الفلّاح الفلسطيني وأرضه. في شذرة «نهاية»، يخبرنا شيلاح عن أحد التجّار المهاجرين إلى فلسطين من وارسو، والذي أُعطي حقلًا في «قضاء يهودا» ليحافظ عليه، «وخلال ثلاثين عامًا من الزراعة، صار يقدّر الحياة الرعوية حدّ أنّه قال إنه طور إحساسًا بأن الأرض تتملّكه، قاصدًا في حقيقة الأمر نوعًا من الإحساس بأن يمتلك الأرض»،[34] إلا أنّه يبيع الحقل في النهاية متذرّعًا بأن الكل «ينحني أمام الجشع».

يوظّف شيلاح تقنية دائرية ساخرة في هذه الشذرة، تذكّر بأن جشع الإسرائيلي مستمر ليس له نهاية. الجشع الذي دفع هذا المهاجر لتملّك أرض لم تكن له منذ البداية، هو ذاته الجشع الذي دفعه لبيعها في النهاية. تخلص معظم الشذرات إلى أن علاقة الإسرائيلي بالأرض لا يمكن تعزيزها من خلال رحلات التنزّه ولا حتى محاولات امتلاك الأرض، لأن الطريقة الوحيدة للإحساس بها هو أن تكون العلاقة طبيعية وأصيلة منذ الأساس، قائمة على التبادل، فيها عطاء وأخذ، تعب وكدح بشكل مستمر، أما عملية سرقتها وتقليدها فمجرد محاولات بائسة ومُصطنعة.

خاتمة

تتلخّص قيمة رواية شيلاح الشذرية في تقديم نقد ذاتي ساخر من قلب المجتمع الإسرائيلي، ويمكن اعتبارها شهادة شاهد لنفسه، بينما يشير توظيف ضمير المتكلّم الجمعي «نحن» في الرواية إلى محاولة جادّة لاستنطاق ما حاول الإسرائيليون السكوت عنه وإنكاره.

على ما يبدو أنّ شيلاح كان مُثقلًا بما اختبر من تناقضات وأكاذيب حول المجتمع الإسرائيلي، وحينما قرّر أن يتخلّص من ذلك العبء أخذت الشذرات تسقط منه متفرّقة، كاشفةً عن الكثير من المفارقات والإشكاليات المتعلّقة بماهية الذات والهوية الإسرائيلية. أعتقد أنّ عملية التقاط هذه الشذرات، وإعادة تركيبها، والبحث في مدلولاتها عملية تستغرق وقتًا أطول بكثير من قراءة سطورها القصيرة.

  • الهوامش

    [1] انظر/ي تعقيب المترجم عبد الرحمن الشيخ على الرواية، ص 115

    [2] انظر/ي Interview with Oz Shelach

    [3] انظر/ي تعقيب المترجم عبد الرحيم الشيخ على الرواية، ص 73.

    [4] انظر/ي Oz Shelach – Israel 

    [5]عندما سُئل شيلاح عمّا إذا كانت هذه الشذرات حقيقية، أجاب أنها «حقيقة أدبية» Fictional Truth، بعضها حقيقي وبعضها الآخر مماثل للكثير من الأحداث «الحقيقية». انظر/ي المصادر السابقة.

    [6] انظر/ي المصادر السابقة.

    [7] انظر/ي موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية، عبد الوهاب المسيري، عام 1956، و Modern Jewish History: The Haskalah

    [8] انظر/ي اليديشية

    [10] انظر/ي «الدخيل العبري في اللسان الفلسطيني: أسبابه وأبعاده»، كتاب دراسات، العدد (6 ،(الناصرة: المركز العربي للحقوق والسياسات، عام 2013، ص 40-54.

    [11] انظر/ي أيضًا كتاب حنان حيفر/ «أدب يكتب من هنا»، عام 1999.

    [12] Miron, Dan. Modern Hebrew Literature: Zionist Perspectives and Israeli Realities. In H. Wirth-Nesher (Ed.) What is Jewish Identity 1994 (pp. 95-115).

    [13] أراضٍ للتنزّه: رواية في شذرات/ عوز شيلاح، ترجمة عبد الرحيم الشيخ، ص 26.

    [14] المصدر السابق، ص21.

    [15] انظر/ي «ما بعد الصهيونية: توجّهات جديدة في الخطاب الأكاديمي الإسرائيلي حول الفلسطينيين والعرب»، مجلة الدراسات الفلسطينية، المجلد 8، العدد 31، عام 1997، ص 71.

    [16] السفارد مصطلح يُطلق على اليهود الذين لا ينتمون إلى أصول اشكنازية غربية، مثل يهود المشرق العربي وشمال أفريقية. انظر/ي موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، المجلد الرابع/ عبد الوهاب المسيري.

    [17] انظر/ي المصدر السابق.

    [18] Pappe, Ilan. «Zionizing the Palestinian Space: Historical and Historiographical Perspectives». 2010.

    [19] أراضٍ للتنزّه: رواية في شذرات/ عوز شيلاح، ترجمة عبد الرحيم الشيخ، ص 25.

    [20] Mills, Sare. Discourse. 2004 

    [21] Foucault, Michel. «The Political Function of the Intellectual». 1976

    [22] أراضٍ للتنزّه: رواية في شذرات/ عوز شيلاح، ترجمة عبد الرحيم الشيخ، ص 12.

    [23] انظر/ي كتاب كي لا ننسى: قرى فلسطين التي دمرتها «إسرائيل» سنة 1948 وأسماء شهدائها/ وليد الخالدي، 1997، ص 1997.

    [24] أراضٍ للتنزّه: رواية في شذرات/ عوز شيلاح، ترجمة عبد الرحيم الشيخ، ص47.

    [26] «أطلق مستوطن يدعى غداليا بيكر، من معاليه عاموس في منطقة بيت لحم، النار مصادفة على جنديين متنكرين في 31 آب 1988. نشر خبر إطلاق النار في الصحف، لكن لم يذكر أن الجنديين لم يكونا يرتديان ملابس عسكرية. وقد ادعى بيكر أن عربًا حاولوا مهاجمة سيارته بزجاجة حارقة وأنه أطلق النار على المهاجمين. أما الجيش، فقد ادعى أن بيكر أطلق النار على جنديين عادت الصحف فوصفتهما بأنهما عميلان سريان من وحدة «تشيري» كانا كامنين لفلسطينيين». انظر/ي المصدر السابق.

    [27] انظر/ي «إسرائيل، العراق، الولايات المتحدة»، « الدعاية والحرب»/ إدوارد سعيد، 2004، ص 83.

    [28] أراضٍ للتنزّه: رواية في شذرات/ عوز شيلاح، ترجمة عبد الرحيم الشيخ، ص54.

    [29] الدّالة أو الموتيف «Motif» هي حدث أو موقف أو فكرة أو عبارة لغوية متكّررة، يخلق تكرارها ثيمة رئيسية للعمل الأدبي.

    [30] انظر/ي «ما بعد إسرائيل»/ مارسيليو سفيرسكي، ترجمة سمير عزت نصار، عام 2016.

    [31] أراضٍ للتنزّه: رواية في شذرات/ عوز شيلاح، ترجمة عبد الرحيم الشيخ، ص7.

    [32] انظر/ي Kadman, Noga. Erased from Space and Consciousness: Israel and the Depopulated Palestinian Villages of 1948, 2015, p.112

    [33] أراضٍ للتنزّه: رواية في شذرات/ عوز شيلاح، ترجمة عبد الرحيم الشيخ، ص37.

    [34] المصدر السابق، ص 53.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية