أغنيات عطيات الأبنودي الحزينة

السبت 26 تشرين الثاني 2022
عطيات الأبنودي
تصميم محمد شحادة.

ما إن انتهيت من مشاهدة فيلم «أغنية توحة الحزينة» للمخرجة عطيات الأبنودي حتى أعدت المؤشر لبداية الفيلم وكررت المشاهدة مرة أخرى ثم أعدت الكرة في اليوم التالي، وفي كل مرة تجذبني نظرة عين أو التفاتة أو تعبير وجه أحد الشخصيات أو ربما أحد المارة، نظرة لم ألحظها في المرات السابقة، فالفيلم رغم قصر زمنه الذي لا يتعدى الـ12 دقيقة ممتلئ بالتفاصيل وتعبيرات الوجوه ونظرات العيون الماسة والتلقائية. 

يدور الفيلم حول فرقة من فرق التسلية التي تجوب شوارع القاهرة لتمارس ألعابها ورقصاتها في الطرق والحارات مقابل قروش يدفعها المارة والمتفرجون. نرى في بداية الفيلم صيوانًا منصوبًا في أحد الشوارع، يضم أراجيح وأراجوزات وعروضًا لخيال الظل، مكتوب على بوابة الصيوان بخط غير منتظم «شياطين الرياضة، ولاد الحاج سلام، الدخول بخمسة مليم»، كان هذا في عام 1971، في وقت كان المصريون يشتاقون فيه لأي شكل من أشكال البهجة ويقبلون عليها متلهفين، فشبح الهزيمة ما زال مخيمًا على الأجواء، والنفوس ما زالت منكسرة، خوف وحزن وقلق، كل بيت فيه شاب إما في الجيش أو سيطلب للتجنيد خلال شهور، مات عبد الناصر وتوجس الناس وارتابوا من السلطة الجديدة، ولهذا كله فلا مانع من ساعات للترفيه، لا مانع من التردد على عروض الفرق العابرة مقابل ملاليم.

ينتقل الفيلم بعدها إلى فرقة أخرى، نعرف من كتاب «أيام السفر» لعطيات الأبنودي الأسماء الحقيقية لأفراد الفرقة، تتقدمهم الراقصة توحة، ووصف «الراقصة» لا يبدو مناسبًا للصورة الذهنية الراسخة لدينا، فتوحة في الـ16 من عمرها، دون أي ملامح جسدية أنثوية، وبملابس مهلهلة تغطي كل جسدها، وبالكاد تهز خصرها على أنغام الموسيقى التي يعزفها أعضاء الفرقة، وبلبل مغني الفرقة، وفيرو لاعب الأكروبات، وسبرتو طبال الفرقة، والذي اكتسب هذا الاسم لكثرة شربه للسبرتو الذي لا يفيق من سكراته، وأخيرًا الجمل صاحب الفرقة ومدربها. 

يستعرض الفيلم تدريبات الفرقة وعروضها، الألعاب أكروباتية، الدق على الطبول، العزف على آلات بدائية، الرقص واللعب بالنار، كما تتنقل الكاميرا لترصد ردود أفعال المتفرجين المحتشدين حولهم، الصفوف الأولى للأطفال ومن خلفهم الشباب، أما النساء فيقفن في نوافذهن ويتكدسن جنبًا إلى جنب متابعات للعرض، وكذلك تلتقط الكاميرا لقطة لكلب يقف منتبهًا فوق أحد الأسطح، ينظر بيقظة واهتمام إلى الشارع وكأنه يشارك الجموع في متابعة العرض. 

يرتدي اللاعبون ملابس رثة وممزقة، يرقصون ويقفزون ويؤدون حركات مبهرة وصعبة بوجوه جادة متجهمة، يندر تسلل الابتسامات إليها، نرى توحة في إحدى اللقطات غاضبة من شيء ما، تصرخ ولكننا لا نسمع صوتها، فالموسيقى تغمر المشهد، لا أحد يسمع صوت توحه، بدا وكأنها ضاقت في لحظة ما من التصوير مشيرة إلى حامل الكاميرا بالتوقف أو الابتعاد. ينتهي الفيلم بمشهد لاجتماع أعضاء الفرقة حول طبلة كبيرة من التي استخدموها في عرضهم، وقد حولوها إلى مائدة وضعوها بينهم وصفوا فوقها أطباق الطعام البسيط، ثم أكواب الشاي، وهنا -هنا فقط- تعرف الضحكات طريقها لوجوه الجميع، تلك الوجوه التي بدت حزينة ومرهقة ومحملة بأعباء جسام منذ لحظات.

يمتاز الفيلم بقدر عالٍ من التكثيف، حتى إنه استطاع أن ينقل لنا شحنات متدفقة من المشاعر، البهجة الممتزجة بالبؤس، الابتسامات الشحيحة المغمورة في العرق، دون الاحتياج إلى كلمات أو وصف، فالفيلم لا يضم أي حوارات مع شخصياته المتعددة، ولا تعليقًا صوتيًا من المخرجة أو أي صوت آخر، فقط قصيدة قصيرة يلقيها الشاعر عبد الرحمن الأبنودي في مقطعين مختلفين.

البدايات 

بدأ حلم السينما يراود مخرجة الفيلم في مطلع الخمسينيات عندما اصطحبتها جارتها زينب لمشاهدة فيلم «شاطئ الغرام» في سينما عدن بالمنصورة، تلك السينما التي هُدمت في بداية الألفينيات وتم تحويلها إلى موقف خاص للسيارات. علق بذاكرة عطيات صورة ليلى مراد بجوار حسين صدقي على شاطئ البحر في مرسى مطروح، بينما تغني ليلى «بحب اتنين سوا، يا هنايا بحبهم، الميه والهوا، طول عمري جنبهم».

في الوقت ذاته امتلأت صفحات المجلات والجرائد بالأخبار عن اكتشاف أنور وجدي، هذا الرجل الذي بدا كمؤسسة سينمائية متحركة، للطفلة المعجزة فيروز وبطولتها لفيلم «ياسمين»، كانت هذه القصة تداعب خيال عطيات وتتخيل أن أنور سيأتي في يوم ما إلى بلدتها ليكتشفها وتصير نجمة ملء السمع والأبصار كما حدث مع فيروز، إلا أن الأعوام مرت وبات الحلم يخفت يومًا بعد آخر، ثم مات أنور وجدي وتوارى معه الحلم إلى حين.

درست عطيات في المدرسة الثانوية للبنات في السنبلاوين، كانت طالبة في الدفعة الأولى للمدرسة الوليدة، والتحقت بعدها بكلية الحقوق، كما عملت كلاعبة في مسرح العرائس، ومساعدة مخرج، وممثلة مسرحية، وسافرت مع فريق مسرح التليفزيون إلى الجزائر حيث عرضوا مسرحية «شيء في صدري» عن رواية إحسان عبد القدوس، وصافحت كلًا من أحمد بن بلة، أول رئيس للجزائر بعد الاستقلال، وتشي جيفارا، الثائر الأشهر الذي كان في زيارة إلى البلد العربي. غير أنها قبل كل ذلك حاولت أن تعمل كصحفية وكتبت مقالًا وحيدًا نشر في جريدة «الشعب» التي ترأس تحريرها أحمد بهاء الدين آنذاك، كان التحقيق الصحفي عن أول فتاة مصرية تعمل كمسارية أو قاطعة تذاكر في المواصلات، وهو ما يبدو مادة مناسبة لفيلم تسجيلي من الأفلام التي ستحترف عطيات صنعها في قادم السنين.

استطاعت عبر إنتاجها الطويل رسم صورة للحياة في قرى مصر ونجوعها، من الصعيد إلى الدلتا إلى مدن القناة، تاركة مشروعًا سينمائيًا وكتابيًا يكمل بعضه البعض.

حلّت النكسة على مصر، سادت مشاعر مرتبكة ومتداخلة، انكسار وإنكار وتمسك بالأمل والحياة، الجميع لا يصدق أن العالم انقلب رأسًا على عقب في ساعات، لا بد أنه كابوس، عطيات أيضًا لا تصدق ما حدث ولكن الكل يعمل الآن من أجل تجاوز الهزيمة، الأهالي في السويس وخط القناة قبيل التهجير، الجنود في خطوط المواجهة، قادتهم في مواقعهم، والطلبة المتمردون في الجامعة، وعطيات تبحث عن دور يناسبها ويناسب طموحها، فهي لا ترضى بدور زوجة الشاعر الشهير فقط، لا يكفيها هذا رغم أنها غيرت اسمها من عطيات عوض إلى عطيات الأبنودي في أثناء اعتقاله كي يبقى اسمه الذي غيبه السجن حاضرًا طليقًا، نسبت اسمها إلى زوجها في مخالفة للعادات المصرية، وظلت متمسكة بالاسم الجديد حتى بعد الانفصال وإلى آخر الأيام. أدركت عطيات أنها لن تصبح ممثلة مهمة كما كانت تحلم، فهي تفتقد لمواصفات نجمات السينما التقليدية، كما أن زوجها كان يرفض عملها بالتمثيل ويقلل منه، وباتت في حالة من الحيرة والتردد، لا تعلم ماذا تفعل لتعبر عن نفسها وأفكارها في ظل الغليان الذي أعقب الهزيمة، إلى أن تقدمت في عام 1968 إلى المعهد العالي للسينما، قسم الإخراج. 

أثناء دراستها في معهد السينما، أخرجت عطيات فيلمها التسجيلي الأول «حصان الطين»، وهو فيلم قصير يقع في حوالي 11 دقيقة، من تصوير الأستاذ أحمد الحضري، الذي كان عميدًا للمعهد وقتها وتطوع لمساعدتها بنفسه. تم تصوير الفيلم بقرية محلة أبو علي في كفر الشيخ، ورصدت عطيات من خلاله عملية صناعة الطوب في هذه القرية مع نظرة لحياة العمال المطحونين في تلك المهنة الموسمية. عندما شرعت عطيات في التصوير طلبت من العمال أن يتوقفوا للحظة كي تضبط الكادر كما تتخيله، إلا أن أحدا لم يستجب لها، وأشاروا بأيديهم رافضين، لم يبد أي منهم اهتمامًا بالتصوير أو بالكاميرا المصوبة نحوهم، علمت عطيات في هذه اللحظة أن الواقع مختلف عن تخيلها وأن تصوير فيلم تسجيلي يتطلب الاستجابة لنمط حياة أبطاله والتأقلم معها.

يبدأ الفيلم بصوت أغنية ظننتها في أول الأمر أغنية تراثية، إلا أنني اكتشفت أنه صوت بعض العاملات اللاتي يغنين في أثناء العمل «يا ليلة بيضا، يا قمر يا عالي». تتبعت الكاميرا عملية تجميع الطمي من النيل على مراكب صغيرة ونقله وتكديسه في ورش العمل، إلى أن يدفع أحد العمال بحصان هزيل بائس، لا يكاد يمت لبني جنسه بشيء، ليمر في دوائر على الطمي في شكل مماثل لبقرة مربوطة إلى ساقية، وبعدها يأتي العمال ويصبون الطمي داخل قوالب على شكل الطوب المطلوب صنعه، يرصونها في صفوف لا نهائية، مئاتًا أو ألوفًا، ثم يعود العمال ليحملوا الطوب المكتمل صناعته فوق رؤوسهم إلى المخازن. نسمع صوت بعض العمال مصاحبًا لشريط الصورة وهم يشرحون طبيعة عملهم، وما يتقاضونه من قروش قليلة كما يعبرون عن آمالهم البسيطة في الحياة.

ظهر الفيلم في شكل مخالف لكل ما كان سائدًا في مصر من أفلام تسجيلية حينها، حيث اقتصرت فيما سبق على استعراض الأماكن السياحية والأثرية مع تعليق صوتي يشرح ما تعرضه الصورة، إضافةً إلى «جريدة مصر السينمائية» التي اعتادت السينمات عرضها قبيل الأفلام الروائية. ولذا كانت ردود الفعل على الفيلم مختلفة ومتباينة، حيث نجد الناقد مصطفى درويش يقول متحمسًا «سوف تخرج السينما التسجيلية من معطف هذا الفيلم القصير كما خرجت القصة القصيرة من معطف جوجول»، أما حُسن شاه وخيرية البشلاوي فهاجمتا الفيلم ووصفتاه بأنه مرغ الكاميرا في الطين، تعبيرًا عن نفورهما من مظاهر الفقر البينة فيه.

حقق الفيلم نجاحًا عالميًا لم يتوقعه أحد، وحصد عددًا هائلًا من الجوائز، وبات علامة يشار إليها في تاريخ السينما التسجيلية المصرية. تبعته عطيات بفيلمها الثاني «أغنية توحة الحزينة» والذي قدمته كمشروع لتخرجها من المعهد في سابقة هي الأولى في تاريخه، حيث يشترط المعهد أن يقدم الطالب فيلما روائيًا كمشروع للتخرج، إلا أن عطيات كانت قد حددت وجهتها واختيارها، ورغم أن صدى الفيلم الأول كان أعلى وأقوى إلا أنني أرى أن «أغنية توحة» يعد من أفضل ما قدمته عطيات فنيًا عبر مشوارها.

في «وصف مصر»

بات الاهتمام برصد حياة الفقراء والمطحونين هو الشغل الشاغل لعطيات الأبنودي، حتى عندما سافرت لتكمل دراستها للسينما في إنجلترا صنعت فيلم «سوق الكانتو» عن فقراء الإنجليز، وعند عودتها إلى مصر صورت فيلم «الساندوتش» في قرية أبنود في قنا، والساندوتش هناك يختلف كثيرًا عما نعرفه هنا في المدينة، خلا ذلك الفيلم من أي جملة تعليقية، مكتفيًا بالصورة وحدها لنقل تفاصيل حياة أم وابنها الذاهب إلى المدرسة بينما يعاملهما الفقر بقسوة، وقد وفقت عطيات في تقديم صورة مكثفة لتفصيلة حياتية بسيطة وغريبة. 

وفي عام 1981، قدمت فيلم «الأحلام الممكنة» الذي أثار الكثير من اللغط وتعرضت عطيات بسببه لهجوم شرس، حيث اتُّهمت بتشويه سمعة مصر لعرضها حياة الفقراء المعدمين في فيلم بتمويل أجنبي، تلك التهمة التي شهدت رواجا في الثمانينيات ثم عادت للظهور مرة أخرى في السنوات الأخيرة. طاردت التهمة نفسها زملاءها في السينما الروائية في السنين اللاحقة، تحديدًا محمد خان وخيري بشارة، رغم أن إنتاج أفلامهما كان مصريًا خالصًا.

ظلت تهمة التمويل الأجنبي تطارد عطيات الأبنودي وبات سؤالًا ثابتًا في كل حوار يُجرى معها عبر السنين وفى كل مرة تجيب الإجابة ذاتها، أن ما من أحد في مصر يهتم بتمويل الأفلام التسجيلية، حتى التليفزيون المصري يشتري الأفلام الأجنبية ولا ينفق جنيهًا لشراء فيلم تسجيلي مصري، ولذا فلا مفر من التمويل الأجنبي، مؤكدة أنها لا تقدم إلا ما يناسبها من أفكار عبر تلك الأفلام. 

يدور فيلم «الأحلام الممكنة» عن حياة أسرة تعيش في قرية جبلاية السيد هاشم إلى الشمال من السويس، وكعادة عطيات تبدأ الفيلم بأغنية تنتمي للبيئة التي تتناولها، فاختارت لهذا الفيلم واحدة من أغاني السمسمية، وفي هذه المرة تفسح المخرجة مساحة أكبر لصوت الشخصية الأساسية في الفيلم، أم محمد، للتعبير عن نفسها، وتمزج تلك المشاهد الكلامية مع أخرى مصورة لحياة الأسرة اليومية، صناعة الطعام، العجن والخبز، مذاكرة الأبناء، الغسيل، التسوق، وجلسات الرجال للبيع والشراء. تتكلم أم محمد بعفوية واسترسال عن تفاصيل حياتها منذ الطفولة وحتى بلغت منتصف الأربعينيات، تحكي عن التهجير من السويس في أعقاب النكسة ثم العودة مجددًا، تقول: «كان نفسي أشوف الإسرائيلي ده شكله إيه لأنه غاظني خالص، غاظني وهدمنا وهدم بيوتنا، لو كنت شفته وجهًا لوجه كنت قطمت رقبته اتنين، لأن الغيظ ماليني من شيء اسمه «إسرائيل»».

لم تتراجع عطيات عن الشكل السينمائي الذي اختارته لنفسها رغم الهجوم الذي طالها، وصنعت في النصف الثاني من الثمانينيات فيلما مشابهًا في موضوعه ولكن بنظرة أوسع ورؤية أكثر اكتمالًا هو «إيقاع الحياة» الذي عادت فيه إلى الصعيد مرة أخرى، مستعرضة مفردات الحياة اليومية لهذا المجتمع ومولية النظر إلى أكثر من عائلة ممن يشتغلون في مهن مختلفة. يعتبر الناقد الراحل أحمد يوسف أن «إيقاع الحياة» هو ذروة أعمال عطيات الأبنودي، قائلًا إنها تسعى من خلال سينماها للكشف عن الجمال الحقيقي في وجوه البشر وفي حياتهم اليومية، وإنها جمعت في هذا الفيلم كل عشقها للحياة الحقيقية التي يعيشها المنسيون. 

آمنت عطيات بفكرة «السينما الثالثة» طبقًا للمصطلح الذي صكه المخرجان الأرجنتينيان فرناندو سولاناس وأوكتافيو غيتينو ضمن حركة سينمائية نشأت في نهاية الستينيات داعية إلى سينما تلتزم بأفكار ثورية تناهض الإمبريالية العالمية، في مقابل السينما الأولى المتمثلة في هوليوود وكذلك السينما الثانية المتمثلة في أفلام الموجات الجديدة في أوروبا. ويبدو أن تلك الفكرة عن دور الفن التحريضي والثوري سيطرت بشكل متزايد على عطيات، فبعدما خلت أفلامها الأولى من التعليق الصوتي إلا قليلًا، بدأ الكلام في التسلل إلى أفلامها في الثمانينيات ثم طغى عليها في التسعينيات، حيث بدت أفلامها أكثر مباشرة وأقل اهتمامًا بفنيتها، وأقرب إلى تحقيقات صحفية مصورة، فأفردت مساحات واسعة لأصوات شخصياتها من الطبقات الفقيرة وتحت المتوسطة كما في فيلم «اللي باع واللي اشترى» عن تدمير شواطئ البحيرات المُرة لصالح رجال الأعمال ومشاريعهم الاستثمارية، كما ظهرت في أفلام تلك المرحلة الأخيرة نبرة نسوية أكثر وضوحًا من ذي قبل، نرى ذلك في فيلم «بطلات مصريات» عن نساء مهتمات بمحو أميتهن والتعلم، وهو أحد الهموم الأساسية والمتكررة في أغلب أفلام عطيات، وكذلك نرى أفلام «نساء مسؤولات» و«أحلام البنات» و«أيام الديمقراطية» الذي يعد توثيقًا للمشاركة النسائية في انتخابات مجلس الشعب عام 1995.

كتبت عطيات الأبنودي عددًا من الكتب التي سردت فيها فصولًا من سيرتها الذاتية إضافة إلى رؤاها السينمائية والفنية، منها «السينما الثالثة» و«أيام الديمقراطية» وكذلك «أيام السفر» الذي تكشف فيه عن تفاصيل فترة شبابها وتكوينها الفني، مولية الاهتمام لذكر أسماء الشخصيات الهامشية بالتفصيل وعارضة أجزاء من محادثاتهم معها، فنجد أسماء عيد أبو زعزوع وعيد حنيدق والحاج أبو سلمى وعم إبراهيم وأخته فتحية رأسا برأس مع بريخت وتاركوفسكي وإنغمار بيرغمان، كما أهدت عطيات الكتاب إلى أبيها عوض محمود خليل الذي عاش ومات دون أن يعرفه أحد، وكأن الكتاب امتداد آخر لأفلامها وعوالمها المهتمة بالتوثيق لأسماء ووجوه لا يحفظها التاريخ.

أما كتابها الذي أثار ضجة كبيرة عند نشره في نهاية التسعينيات فهو «أيام لم تكن معه»، القائم على نشر يومياتها في فترة اعتقال زوجها السابق عبد الرحمن الأبنودي لمدة ستة أشهر بين عامي 1966 و1967، إضافة إلى نص الخطابات المتبادلة بينهما في تلك الفترة، وهو ما أثار غضب الأبنودي واعتبره تعديًا على خصوصيته. انتقل الصراع إلى صفحات الجرائد، وسعى الأبنودي بكل ما أوتي من نفوذ وقوة إلى منع نشر الكتاب، ونجح بالفعل في منع صدور طبعة ثانية منه بعدما نفدت الأولى من الأسواق. تناول المثقفون الواقعة في مقالاتهم، انحاز البعض إلى عطيات وآخرون إلى زوجها السابق، وممن وقفوا في صف عطيات الأستاذة فريدة النقاش، التي كتبت مدافعة عنها في جريدة الأهالي: «نستطيع أن نفهم جيدًا سر الغضب الذي صبه الشاعر الأبنودي على كتاب زوجته السابقة، إنه غضب على نفسه قبل أن يكون موجهًا لها، فقد كان أحد الأسباب التي قيلت لتبرير اعتقاله في ذلك الحين رفضه لكتابة أغنية احتفالات يوليو لعبد الناصر، فانظروا ماذا يكتب الآن لتعرفوا ما أغضبه بالضبط».

رغم إنجاز عطيات الأبنودي في السينما التسجيلية إلا أنها لم تحقق كل أحلامها فيها، كحلمها بتقديم فيلم عن عبد الناصر وعهده، قائلة إنها لم تكن تحب عبد الناصر عندما كان حاكمًا، ولكنها أدركت بعد ذلك أنه هو الذي فتح أمامها باب الحلم، فهي ابنة مناخ الثورة الذي وفر لها فرص التعليم والتثقف والحياة الكريمة التي مهدت طريقها نحو ما ستكونه. أما ثاني أحلامها غير المتحققة فهو سلسلة أفلام بعنوان «وصف مصر»، تجوب فيها كل أنحاء الجمهورية، مستعرضةً أنماط الحياة فيها، ربما لم يتحقق المشروع بالشكل الذي تخيلته إلا أنها استطاعت عبر إنتاجها الطويل رسم صورة للحياة في قرى مصر ونجوعها، من الصعيد إلى الدلتا إلى مدن القناة، تاركة مشروعًا سينمائيًا وكتابيًا يكمل بعضه البعض. تتفاوت الأعمال في جودتها بطبيعة الحال ولكن خيطًا وثيقًا يربط السلسلة لترسم لوحة واسعة مكتملة، محملة بأفكار جلية وانحيازات واضحة، وعارضة تفاصيل حياتية دقيقة وغريبة ومؤلمة، لوحة تستحق أن تلقب بـ«سينما وصف مصر».

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية