أفلام 2022

أفضل ما شاهدنا في 2022: قصص وذكريات

تصميم محمد شحادة.

أفضل ما شاهدنا في 2022: قصص وذكريات

الخميس 22 كانون الأول 2022

مع اقتراب نهاية العام، تكثر جردات الحساب، وفيما يستعرض البعض قائمة الإنجازات التي تحقّقت، أو تلك التي لم تنجز، طلبنا من عدد من كتاب وكاتبات حبر أن يقترحوا علينا أفلامًا حديثة، صدرت بعد العام 2020، ينصحون بمشاهدتها، يمكن لنا أن نختم بها العام، ونبدأ عامًا جديدًا، بأمنيات جديدة، وأخرى مؤجّلة من أعوام سابقة.

ربما يكون في العروض التالية للأفلام ما يوضح ما تقوله هذه الأفلام، وربما يعتبرها البعض حرقًا، إلّا أن هذه الأفلام ستظلّ تستحق المشاهدة حتى لو تعرّفنا على تفاصيل القصص التي ترويها.

ثلاثة آلاف عامٍ من الشوق (Three Thousand Years of Longing)، جورج ميلر، 2022

أحمد نظيف

يبدو لي دائمًا أن الجذور اليونانية لجورج ميلر ما زالت تلقي بحملها على صانع الأفلام الأسترالي، فقد أخذ من هذه الجينات المتوسطية حبًا للألوان لم يكف يومًا عن إظهاره في أغلب أفلامه. الرجل الذي بدأ مساره مع سلسلة أفلام الحركة «ماد ماكس» نهاية سبعينيات القرن الماضي، ما زال محبًا للحركة المفعمة بالألوان، حتى وإن تعلق الأمر بقصص الحب الرومانسية والدراما. وهو ما صنعه في فيلمه الأخير: ثلاثة آلاف عامٍ من الشوق. حيث يختلط الخيال بالواقع على نحو سحري. لا أحب أفلام الخيال، لكن قول بطلة الفيلم تيلدا سوينتون في المقطع الدعائي إن «قصتها حقيقية» دفعني إلى استكشاف أي نوع من الحقيقة تقصد.

أليثيا بيني (تيلدا سوينتون) أكاديمية بريطانية متخصصة في السرد. تعيش وحيدة، في شبه عزلة عاطفية واجتماعية، تقودها الأقدار إلى بازار اسطنبول، وفي إحدى محلات المصنوعات التقليدية تشتري زجاجة خزفية قديمة. وبينما كانت تحاول تنظيفها بفرشة الأسنان الإلكترونية يفزع من داخلها جني (إدريس إلبا)، يعرض عليها أن يمنحها تحقيق ثلاث أمنيات، كي يتحرر من سجنه الطويل. لكن أليثيا، الباحثة القادمة من مملكة العقلانية لا تقبل بسهولة مزاعم الجني. وهنا تبدأ حكاية الفيلم، أو بالأحرى حكاياته. فيشرع الجني في سرد قصته الطويلة داخل الزجاجة العتيقة. قصة تتفرع إلى ثلاث حكايات عن ماضية ومحاولات تحرره التي انتهت جميعها إلى الفشل.

بدت لي هذه المزاوجة بين الخيال القديم والواقع الجديد دليلًا من المخرج على أنه لا يزال هناك جزء من لغز الروح البشرية ما زلنا عاجزين أمامه. وفي وقوف أليثيا بانتباه شديد أمام قصة الجني، يبدو سعي ميلر، واضحًا نحو تجاوز العلم والعقلانية، بإلقاء الضوء على المناطق الرمادية للروح البشرية. فالبطلة أليثيا، المشتق اسمها من كلمة يونانية قديمة تعني الحقيقة أو الكشف، كانت تحتاج إلى شيء أكثر عمقًا من العقل للوصول إلى حقيقة مشاعرها. وفي هذا القالب الرومانسي تجعل قصص الجني العاطفية أليثيا تفهم القطعة المفقودة من أحجيتها: الحاجة إلى الحب.

بعد يانغ (After Yang)، كوجوندا، 2022

صفاء الزرقان

فيلم خيالٍ علمي يقدم صورةً متخيلةً لنمط العائلات المستقبلي في ظل تغوّل التقنيات الحديثة، التي لم يقتصر أثرها على تقديم العون للبشر مع بقاء مسافة بينهما، لكنها هنا تقتحم حيزًا أشد حميمية وقربًا يتمثل في العائلة. الفيلم يسير بوتيرة هادئة ما تلبث -مع تقدمها دون أي صخب- أن تثير الأسئلة عن مستقبلنا وعلاقاتنا وسيطرة التقنيات عليها.

نرى عائلةً من أب أبيض وأم سمراء لديهم ابنة آسيوية وأخٌ يكبرها يشاركها نفس الملامح. لكن خللًا ما يحدث للأخ، لقد عُطب! إنه روبوت أُحضر لمساعدة العائلة على تربية ابنتهم المتبناة. جاء يانج ليحافظ على صلة الفتاة بثقافتها الصينية.

حين عُرض فيلم Her قبل عدة سنوات كانت فكرة التعلق أو الوقوع في الحب مع تطبيق فكرة تثير الذعر، تشعرك بكمّ الوحدة الذي يعيشه الإنسان المعاصر في ظل التقنية، التي أوجدت له بدائل تؤنسه. كلا الفيلمين يعرض الحزن الذي يُلمّ بالبشري حين يفقد أُنس التقنية ويكتشف وحدته.

في هذا الفيلم نرى ذاكرة الروبوت التي سجلت الكثير من اللحظات الحميمة لتلك «العائلة» إن صح القول، لكنها ذاكرة توثيقية فقط، إنها ذاكرة وليست ذكريات. للروبوت ذاكرة تحولت الى ذكريات عندما شاهدها إنسان، فتحولت من تسجيل توثيقي إلى شيء وجداني بتلك المشاهدة. هي مجرد ميموري (memory) لجهاز يمتلكونه، لا معنى لها وجدانيًا سوى ما أضفاه الإنسان عليها عند مشاهدتها. ذاكرة يُشترط فيها إلغاء البعد الاجتماعي وتفكيكه.

يتبادل البشري والتقني هنا التساؤلات؛ فنرى الروبوت في إحدى الذكريات يخبر الأم بأنه يتمنى لو امتلك مشاعر لا أن يكون كل ما لديه حقائق فقط، لقد تمنى أن يمتلك شعورًا حقيقيًا بالزمان والمكان، تمنّى ذاكرة ووجدانًا.

بينما تساءل الأب بعد أن رأى بعضًا مما سجلته الذاكرة عما إذا كان الروبوت تمنى يومًا أن يكون إنسانًا. لكن «ما العظيم في أن تكون بشريًا؟» أن تعاني؟ أن تقاسيَ مرارة الفقد؟ لقد اعترت الأب دهشة من ماضي الروبوت «الخاص» المسجل على ذاكرته اللازمنية.

إن الغوص في تلك الذاكرة أشبه بالحلم، بتعبير باشلار «التفكير بأصل الأشياء؟ أليس حلمًا؟». غاص الأب في الذاكرة باحثًا فيها عما هو أبعد من حكايته، عن البشري في هذا التقني الذي بفقده انتابته مشاعر الحزن والفقد.

ماذا لو فقدت ذاكرتك؟ أو انمحى كل ما فيها فلا أسماء ولا ذكريات ولا أشخاص، تخيل أن يكون النسيان أكبر بأن يصل إلى الجزء العاطفي والوجداني من ذاكرتك، كيف يمكنك أن تتعامل مع ما سبق وألفته وألفك. ربما هكذا يبدو حالنا مع الذاكرة التي نبنيها ونؤسسها بكل ما فيها في عالم تقني تديره وتتولى أموره تكنولوجيا لا تنبهك قبل أن تعطب أو تمحو ذاكرتك. قد يتعطل هاتفك الذكي ويتكفل بمحو كل ما لك من ذاكرة ووجدان داخله، أو قد يحذف الفيسبوك حسابك هكذا دون إنذار، لا توجد ذاكرة احتياطية لما ضاع يمكنك الاستعانة بها في هذه الحالة، كيف تشعر عندما تُسلب منك ذاكرتك؟ ربما كانت هذه الأسئلة الدافع وراء احتفاظ الأب بذاكرة الروبوت.

بلفاست (Belfast)، كينيث براناه، 2021

محمد استانبولي

«إلى من بقوا، وإلى من رحلوا، وإلى من فُقِدوا»، بهذا الإهداء يختتم «بلفاست» لمخرجه كينيث براناه، والذي تجري أحداثه في المدينة التي تحمل اسم الفيلم، عام 1969 مع ما سمي حينها بفترة «الاضطرابات» التي شهدتها إيرلندا الشمالية، ويتتبع خلالها الحدث من منظور بادي، بطل الفيلم وشخصيته الرئيسية، وهو طفل في التاسعة من عمره. 

يجد الفيلم نفسه أمام مهمة كبيرة في التعاطي مع حدثٍ بهذا الحجم عبر الشخصية التي اختارها لأداء هذه المهمة والمنظور الذي يمكن توقعه منها، فضلًا عن التحديات الأخرى المتعلقة بالحدث نفسه والجراح التي تركها ولم تندمل حتى اليوم. وفي الواقع، ينجح الفيلم -كما تصفه الناقدة كلاريس لفوري في الإندبندنت- بأن يكون، في الوقت ذاته، فيلمًا عن «الاضطرابات» دون أن يكون عنها في الوقت نفسه. 

ولا ينحصر بلفاست بنقطة واحدة أو يجرب الاتكاء عليها، بل يثير الأسئلة حول الطفولة والذاكرة، ومعاني الانتماء والصلات والجذور التي تربط أحدنا بمكانه وصعوبة اتخاذ قرارات بقسوة الرحيل عنها. وقد تكون أهم أدوات الفيلم لطرح هذه الأسئلة وروي حكايته متمثلة بالأداء الذي يقدمه الطاقم، ابتداءً بالطفل جود هيل، الذي يؤدي دور بادي، وانتهاءً بالجدة، جودي دينش، التي نالت عن دورها ترشيحًا لجائزة أفضل ممثلة مساعدة. 

يجد الفيلم أيضًا طريقته في عرض هذه الحكاية، التي يمتزج فيها الذاتي بالعام، مقدمًا إياها بالأبيض والأسود، والاكتفاء بترك المشاهد الملونة لتلك التي تتعلق بالسينما، والتقصد بإضفاء الطابع السحري واللامع لبعض مشاهده، كتأكيد على استحضارها من ذاكرة غير محايدة أو موضوعية، والتلاعب باللقطات لنقل المشاعر والمعاني في مشاهد كثيفة، قد يكون أبرزها مشهد الوداع نهاية الفيلم.

لم يسلم بلفاست من بعض الانتقادات التي طالت أسلوبه في قص الحكاية، أو موازنته بين عناصرها، لكنه بالمجمل فيلم يستحق الإشادات التي نالها. وإذا بدا الفيلم، في الظاهر، مرتبطًا بخصوصية الأحداث في إيرلندا الشمالية، فإنه في اللحظة ذاتها عمل يستطيع المشاهد في منطقتنا أن يتآلف مع حكايته في مواضع عديدة وأن يجد أثناء تلقيه نقاط تشابهٍ قد يصعب العثور على مثلها في أفلام أخرى.

يد الله (The Hand of God)، باولو سورينتينو، 2021

كريم محمد

لربّما يكون الفيلم الأخير للمخرج الإيطاليّ الكبير باولو سورينتينو المعنون «يدُ الله» (The hand of god) بمثابة قصيدة طويلة لا يمكن تحديد بدايتها ولا نهايتها؛ قصيدة كالحياة، تجد نفسك «فيها»، بلا مخرج أو مدخل. ولا تملك إزاءها إلّا أن ترويها. سورينتينو هنا يعودُ بنا لا نقول إلى «الأصول»، فليس هناك كما تعلمنا من جيل دولوز أصول، وإنّما إلى «الجذور»، حيث التشكّلات، والمراهقة والصّبا الجميل، والعائلة المكوّنة من أب وأمّ وولدين، والشّهوات المبكّرة بالحلم ومارادونا وزوجة العم (باتريزيا) شديدة الجمال وشديدة الاكتئاب أيضًا. يعودُ سورينتينو دون أيّ أسطرة، إلى المدينة، نابولي، حيث عاش في هذا المكان الذي صوّر فيه الفيلم سبعةً وثلاثين عامًا من حياته. هذا المخرج الجريء على الحياة، الشّاعر حيث لا مكان للشّعر، يستعرض لنا دون كلام كثير ما عبّر عنه أمل دنقل قبل عقود؛ «أدخلته يدُ الله في التجربة».

يعلمُ كلّ من يتابع أعمال سورينتينو الجميلة جدًا ولَعه بالحكاية، بالحياة، بالكنيسة ورجالها وعوالمها الداخليّة، وبالمدينة المشعة، وبالجدّات، العجائز اللواتي قضين حياة مترفةً بالحياة ثمّ شخنَ دون أن يخسرن ولعهنّ وصباهن. إذًا، يلعبُ المخرجُ، وهو الكاتبُ أيضًا، على فكرة خفيّة نلمسها في أفلامه السابقة مثل «الجمال العظيم» و«الشباب»؛ ألا وهي فترة التكوين. تكوين سورينتينو كمخرجٍ، حيث يرجع إلى نابولي في الثمانينيات، شابًا يحلمُ بأن يلتحق الأسطورة الكرويّة مارادونا بفريق نابولي، ويعشقُ زوجة عمّه الفاتنة. الاشتهاءات الأولى لشابّ في الثانويّة، يرغبُ في دراسة الفلسفة، بلا أصدقاء تمامًا، وحيد كالماء حتّى في عيد مولده حينما يخبره أباه أن يذهب ليحتفل مع أصحابه، فيردّ عليه قائلًا بكلّ عاديّة يلمؤها أسى خفيّ: «ليس لديّ أصدقاء يا بابا».

إنّ رمزيّة «يد الله» التي تتقاطع بالطّبع مع هدف مارادونا الشّهير تروح وتجيء على مارادونا أيضًا. فالشّاب «فابيتو» -وهو الاسم الذي اختاره سورينتينو لنفسه شابًا متخيّلًا- أنقذ مارادونا حياته. إذ ذهب لحضور مباراة له، وحينما عاد كان والداه قد ماتا بتسرّب ثاني أوكسيد الكربون في البيت، ولو تخلّف عن المباراة، لربّما لم يكن ثمّ باولو سورينتينو على الإطلاق. إذن، اليد التي صفعته هي التي أنقذته.

يجوب «فابيتو» نابولي، بصمتٍ، وبكثيرٍ نظر. «فالنّظر هو كلّ ما أملك»، يقول فابيتو الذي يأمل أن يصير مخرجَ أفلام رغم أنّه لم يشاهد في حياته سوى ثلاثة أفلام على الأكثر. يعرض لنا سورينتينو بكثير نباهة وشاعريّة رؤية فيليني عن السينما بوصفها «إلهاءً»؛ أي كإلهاء عن الواقع. فالواقع، كما يقول، مقيت.

كيف يمكن أن تسردَ سيرة حياة صبيّ لم يكن لينجو سوى بيدِ الله وبوحدة لا نهائيّة خلّفها له موتُ والديه اللذين لم يُسمح له بالنّظر إليهما ميتين. هنا تتولّد قصّة يمكن تأسيس أعمال سورينتينو عليها، وهو ما يجليه لنا هذا الفيلم الطويل والذي لا يُمل. بيد أنّ عودته إلى صباه، إلى صورته في صباه، ليست بعودة مغلقة، بل هي بمثابة ترحال أبديّ: استكشاف للرّوح التي مسّته منذ الطفولةِ لأن ينشغل وينهمك بمشتهيات وموضوعات هي في النهاية ما كوّنت سينماه الخاصّة.

لا يقدّم لنا سورينتينو -كالعادة- أي مخطّط للرجوع إلى الجذور، إلى الصّبا. فهو ليس بمخرج وصيّ على الإطلاق؛ إنّه وحيد، حرّ، يتعلّم التدرّب على التطلع إلى المستقبل من خلال الألم. وهذا ما يتجسّد في المشهد العظيم حين يلتقي فابيتو بكابوانو: حيث يخبره الأخير أنّه لا إمكانيّة لأن تكون مخرجًا دون ألم. دعونا نقل إنّ هذا الفيلم هو درس عميق في أنّ السينما هي فنّ أن تملك شيئًا تقوله. وأن تملك شيئًا تقوله يعني أن لديك ألمًا. وألم فابيتو/سورينتينو هو أنّه لم يُسمح له بأن يرى والديه في المستشفى ميتين.

أسوأ شخص في العالم (The Worst Person in the World)، واكيم تريير، 2021

تمارا نصّار

يؤدي الزمن خدعته الكبرى حين ننظر للوراء إلى خرائب شبابنا عند أواخر العشرينيات لندرك ما الذي سُلب منّا. الجاني، الذي يسيء جيل الألفية دومًا تحديده، لا يمكن أن يكون السذاجة فحسب. بل أيضًا الجبن، والتوق، والدفاع عن النفس في مواجهة عالم قاسٍ لا يرحم، يجعل من المستحيل أن نتخيل مستقبلًا كالذي تجرأ آباؤنا وأجدادنا على أن يروه في متناول اليد؛ مستقبلٌ يمكن أن تصعد فيه طبقيًا، أو على الأقل ألا تهبط.

هذا ما يذهب إليه الفيلم النرويجي المرشح لجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان للأفلام العام الماضي، لينظر إلى الخلف أحيانًا، ويغريك بالاعتقاد بأنه يدور حولك. إنها قصة جولي، طالبة الطب العشرينية التي تغير رأيها بسرعة لا تسمح لها بأن تنظر للوراء لتشعر بأي ندم ذي معنى. فهي ليست من جيل الطفرة [مواليد الأربعينيات حتى الستينيات] الراسخين في أوهامهم المتواطئة، ولا من جيل Z، الذين ولدوا في خيبة عدمية منحتهم الحصانة النادرة التي تسمح لهم بصناعة فن لا تسيطر عليه النوستالجيا. هذا الفيلم هو دراسة متعمقة في الجيل الذي حوصر بين الاثنين؛ جيل الألفية.

ما يميز حالة جيل الألفية اليوم هو الإحساس العميق بالذنب تجاه كوكب يغرق في فائضه، والأسئلة المعاصرة التي لا يمكن الإجابة عليها بالحكم القديمة، وإساءة فهم البلدان بوصفها وسيلة لا غاية. والتعبير الظاهري الصريح عن هذا الإحساس بالذنب هو النرجسية، التي باتت جائحة بين جيل الألفية.

تمثل النرجسية في أنقى صورها شكلًا مكثفًا من كراهية الذات، التي تدفعك إلى مطالبة المؤسسات التي تدعي احتقارها بأن تقدرك، وإلى تجاهل آلام الآخرين، وإلى ألا تكمل أي شيء حتى النهاية، وإلى ترك الأشخاص الذين كان عليك أن تتمسك بهم بقوة. فيما تعميك كراهيتك لذاتك إلى درجة أنك حتى حين تكون في حالة يرثى لها، تنتشي بأن تمتاز عن غيرك بكونك «أسوأ شخص في العالم»؛ لقب لا يمكنك أن تستحقه حتى ولو عملت من أجل ذلك طوال حياتك.

جولي جبانة لدرجة تمنعها من مواجهة واقع مخيف أكثر من أن تكون أسوأ شخص في العالم: أن تكون الأشد وحدة، التي يسيطر عليها رفض الكتمان، تحت أضواء مسرح العالم. إنها معركة سيزيفية تدعوها للشعور بأن هناك دومًا طريقة أجمل للنظر في عيني شخص ما، وأن هناك دومًا شخصًا أشد إغراء ليكون هدف رغبتها. إنه فيلم فاتن يعمق الكآبة، ويُختتم بنهاية مؤلمة ومثيرة للشفقة، تسرق دمعة حارقة. جعلتني النهاية أفكر بمقولة الشاعرة ماري روفل: «أعتقد أن الحوريات في الأوديسة كن يغنين الأوديسة، فليس هناك ما هو مغرٍ أو مريع أكثر من قصة حياتنا، التي لا نريد سماعها والتي سنفعل كل شيء من أجل أن نصغي لها». هذا الفيلم هو تلك الحورية.

مثلث الحزن (Triangle of Sadness)، روبن أوستلاند، (2022)

ديما سقف الحيط

«أنا آمرك بأن تستمتعي باللحظة!»

يتخذ فيلم المخرج السويدي روبن أوستلاند الجديد مثلث الحزن (2022) الحائز على السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عنوانه من عالم الموضة، فـ«مثلث الحزن» هو المصطلح المستخدم لوصف «عقد الحاجبين» عند «العبوس». و«عبوس» عارض/ة الأزياء هو ما يميز إعلانات الملابس الباهظة عن تلك الرخيصة، ليرينا أن معنى السعادة (والاستمتاع) في عالمنا هذا قد بات مختلفًا.

يتم دعوة زوجين شابين، كارل ويايا، وهما عارضا أزياء يمتهنان «التأثير» في عالم الإنستغرام، إلى رحلة بحرية فاخرة (ومجانية) مخصصة للأثرياء. يقود الرحلة قبطان أمريكي ماركسي مختل، بينما يشكل تاجر روسي يؤمن بالرأسمالية أحد أبرز ركاب السفينة. يُؤمَر الطاقم في بداية الرحلة بأن يقوموا تلبية جميع أوامر وطلبات الركاب الأثرياء، حتى وإن كانت مستحيلة، طمعًا بالبخشيش. فهل سينصاع الطاقم لطلب إحدى راكبات السفينة حين تأمرهم جميعًا بغطرسة بـ«الاستمتاع في اللحظة» والنزول للسباحة؟ وكيف سيؤثر هذا على مسار الرحلة؟

في مثلث الحزن، نجد سخرية (مبطنة أحيانًا وفجّة أحيانًا أخرى) من ازدواجية المعايير في العالم الغربي، فمصدر ثروة زوجين مسنين غاية في اللطف واللباقة هو «صناعة القنابل التي تساعد على نشر الديمقراطية حول العالم»، بينما ترفض عارضة الأزياء الجميلة «يايا» تقاسم فاتورة العشاء مع حبيبها فور انتهائها من السير في عرض أزياء يتخذ من مساواة الحقوق بين الجنسين ثيمة له. كما يقدم الفيلم نقدًا لاذعًا للعديد من عناصر «مجتمع الفرجة» في القرن الواحد والعشرين، مثل عالم الموضة والاستهلاك، و«المؤثرين»، والصراع الطبقي والرأسمالية والأدوار الجندرية وغيرها من الأمور. ويكمن طموح الفيلم في سعيه نحو قول الكثير في فيلم واحد، مما يذهل المشاهد أحيانًا (ويشوّشه أحيانًا أخرى).

طالما نجح أوستلاند بأسلوبه المميز من الكوميديا السوداء، في تقديم نظرة ثاقبة للمجتمع من خلال وضع قصص وأشخاص عاديين في سياقات عبثية (إلا أنها ليست مستحيلة)، مما يدفع المشاهد بشكل مستمر لمساءلة مسلّمات بات معتادًا عليها ورؤيتها بأعين جديدة. ففي فيلم «قوة خارقة» (2013) ينشأ توتر بين زوجين نتيجة هروب الزوج للنجاة بنفسه (بدلًا من حماية زوجته وأولاده) عندما ظن أن هناك انهيارًا جليديًا على وشك الحدوث، مما جعل من غريزته البدائية موضع مساءلة وتشكيك واتهام من قبل الزوجة مما يطرح أسئلة حول دور الزوج ومسؤولياته.

قليلة هي الأفلام التي تتسم بهذا المستوى من الجدية في معالجة القضايا، وهذا المستوى من الجمال البصري، وهذا المستوى من الإمتاع للمشاهد. ولا شك من أن أوستلاند من رواد هذه الأفلام. قد لا يكون مثلث الحزن أفضل أفلامه، إلا أنه بالفعل يستحق المشاهدة.

أرجنتينا 1985 (Argentina 1985)، سانتياغو ميتري، 2022

لينا الرواس

عبر فيلمه الجديد أرجنتينا 1985، يعيد المخرج الأرجنتيني سانتياغو ميتري تذكّر أحداث أول محاكمة مدنية لقادة عسكريين ارتكبوا جرائم عديدة خلال حكم الأركان العامة للقوات المسلحة في الأرجنتين بين عامي عام 1976 و1983 بعد الإطاحة بحكومة الرئيس إيزابيل بيرون.

ليس فيلم ميتري هو الأول الذي يتطرق إلى تلك المرحلة القاتمة من تاريخ الأرجنتين، وذلك حين استولى خورخي رافائيل فيديلا على الحكم، وبات رئيسًا لواحدة من أكثر الديكتاتوريات العسكرية طغيانًا في التاريخ المعاصر. لكنه خلافًا للأعمال السابقة، يقدم بحثًا جادًا حول مفهوم «العدالة الانتقالية»، ويصور عملية التعافي التي يخوضها كل من النظام القضائي والسياسي رغم بروز العديد من الانقسامات وسط القادة ممن يخشون أن تصل العدالة إليهم، فيجدون أنفسهم على كرسي الاتهام أيضًا، فضلًا عن الشكوك التي تراود الجميع، وخاصة موالي النظام السابق من الشعب، حول تحدي سلطة الجيش وإدانتها من قبل النظام الجديد. 

تطال تلك الشكوك فريق الادعاء نفسه، وتحديدًا المدعي العام خوليو ستراسيرا (ريكاردو دارين)، الذي يقع عليه خبر اختياره لقيادة فريق الادعاء ثقيلًا، خاصة بعد رفض العديد من المحامين مشاركته في حمل المسؤولية. يتعامل ستراسيرا برفقة فريقه اليافع مع سخط الموالين وتهديدات القتل المستمرة، والتي يصدر أحدها عن القوات البحرية الأرجنتينية، وكذلك مع امتعاض المعارضين للحكم الدموي السابق، ومن بينهم مساعد المدعي العام لويس مورينو أوكامبو (بيتر لانزاني)، الذي يرى في ستراسيرا مواليًا للنظام السابق وصامتًا عن جرائمه، وصولًا إلى تعنت الضباط العسكريين أنفسهم ومحاولاتهم الحصول على محاكمة عسكرية، حيث لا زالوا نافذين. لكن العبء الأكبر، يتمثل في جلب العدالة إلى الضحايا وجمع الشهادات وإثبات الجرائم وسط سيطرة الخوف على الجميع.

يستعين ميتري بشهادات حقيقية، استمدها من نصوص المحكمة، ويضع شهوده على المنصة ليرووا كيف عُذّبوا وانتهكت حقوقهم لمعارضتهم النظام السابق، دون أن يغرق في الاتكاء على الأحداث المؤلمة لاستجرار عواطف المشاهد. 

ومع أن معظم أحداثه تجري في قاعة القضاء، إلا أن الفيلم ينجح في تخطي شكليات المحاكمة والرتابة البيروقراطية ليصل دون مماطلات إلى جوهر الحدث، جاعلًا سؤاله الرئيسي: لم تحققت العدالة؟ بدلًا من «كيف تحققت؟» فيتجاوز بتصنيفه الدراما القانونية ليغدو وثيقة تاريخية وتوثيقية، تبحث في أسباب نجاح التجربة السابقة وتفند مصاعبها. الشجاعة وحدها لا تكفي، كما يقترح الفيلم، ولا تكريس الأبطال الفرديين بوصفهم منقذي الموقف، بل اتخاذ القرارات الصحيحة في الوقت المناسب، والاستعانة بالروح الشبابية المجبولة بحكمة سترسيرا وخبرته هما السببين الرئيسيين في اتخاذ العدالة لمجراها، فضلًا عن دعم الرئيس الجديد للمحاكمة واستمالة الجماهير بكل الأدوات الممكنة، ومنها بث المحاكمة عبر الراديو، وصولًا إلى طلب المساعدة من مخرج مسرحي لصياغة مرافعة ستراسيرا الأخيرة وكشط اللغة المتخشبة عنها، واختتامها بعبارة لا تزال ترن في الآذان حتى اليوم: «لن تتكرر أبدًا».

بابيشا (Papicha)، منيّة مدور، 2019

منى يسري

نجمة ووسيلة شابتان جزائريتان تعيشان في المدينة الجامعية في الجزائر العاصمة خلال سنوات الحرب الأهلية في التسعينيات. تَحلم نجمة أن تصبح مصممة أزياء شهيرة، وتساعدها وسيلة في العثور على زبائن من النساء. وفي الوقت الذي يخطط فيه الشباب لمغادرة البلاد هربًا من الحرب، ترفض نجمة ذلك، فيما العنف المتصاعد يحاصرها، وفي الخلفية دومًا صوت نشرة الأخبار يستعرض أعداد القتلى والمصابين. 

يأخذنا الفيلم في رحلة عاطفية لنعايش عشريّة الألم والدم التي عاشها الجزائريون في تلك الفترة، والتغيّرات التي كانت البلاد تشهدها بعد أقل من ثلاثة عقود على تحريرها من الاحتلال الذي استمر أكثر من 130 عامًا. هناك تيار كبير من السينمائيين الشباب في الجزائر، مثل صوفيا جاما، وجمال كركار، وكريم موسوي وغيرهم، ترتكز أفلامهم على ما عايشوه في طفولتهم خلال هذه الفترة، وكلها تدور حول الجرح الغائر الذي تركته تلك السنوات على المستوى الفردي، لنرى الشرخ الاجتماعي عبر شاشات السينما، ونعايش مشاعر الفقد والخوف والاغتراب والمستقبل الباهت ومجابهة المجهول، وضمن هذه السلسلة من الإنتاجات يقع فيلم بابيشا للمخرجة منيّة مدور. والبابيشا بالجزائرية كلمة تطلق عادة على الفتيات والشبّان المهووسات والمهووسين بشكل معيّن من الموضة. 

تتعرض أخت نجمة للقتل على يد جارتها التي تطرّفت وانضمّت إلى الجماعات الدينية المسلّحة، ورغم هذا تصرّ نجمة على البقاء في البلاد والاستمرار في مشروعها في صناعة الحايك «اللباس التقليدي الجزائري»، وهو ثوب أبيض تلتحف به النساء ويغطين به كامل أجسادهنّ حتى الوجه، ويعتبر من رموز المقاومة النسائية خلال سنوات الثورة الجزائرية. لكن هذا المشروع يتعرّض للخطر بفعل ما يحصل في البلاد من عنف، ونتيجة ما تشهده من تطرّف. 

جاء الفيلم ببطولة مجموعة كبيرة من النساء، فيما كان حضور الذكور فيه بشخصيات هامشية أو كريهة سلبية. وقد عرض الفيلم  في مهرجان كان ضمن جائزة «نظرة ما».

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية