أفضل ما قرأنا في 2022

قائمة كتب: أفضل ما قرأنا في 2022

تصميم محمد شحادة

قائمة كتب: أفضل ما قرأنا في 2022

الخميس 29 كانون الأول 2022

كما نفعل كل عام، طلبنا من عدد من كتاب حبر أن يرشحوا لنا كتبًا اطلعوا عليها خلال 2022، وأن يخبرونا بسبب اختيارهم لها، ومواضع الأهمية التي يرونها في هذه الكتب. وبناء على مقترحاتهم جاءت هذه القائمة، التي يمكن لكم إضافة عناوينها إلى خطط القراءة للعام القادم.

اضغط/ي على الغلاف أدناه للانتقال إلى نص الكتاب.


تاريخ موجز للمساواة

توماس بيكيتي، Seuil، باريس، 2021

أحمد نظيف

تبدو كُتب توماس بيكيتي لي دائمًا كحلقات مسلسل مشوق، وما يزيدها تشويقًا هو روتين نشرها على مدى سنوات متباعدة. لكنها، مهما تباعد الزمن بينها، تحتفظ بخيط ناظم لا يمكن أن يخطئه العقل، هو ببساطة التوّق إلى العدالة الاجتماعية، بكل ما يعينه هذا التركيب من معانٍ متشعبة، طبقيًا وجنسيًا وقوميًا. «تاريخ موجز للمساواة» آخر ما صدر من حلقات هذا المسلسل الطويل، والذي بدأ منذ مفتتح القرن الحالي، عندما نشر عام 2001 كتابه الأول «الدخل المرتفع في فرنسا في القرن العشرين: عدم المساواة وإعادة التوزيع»، ثم كتابه الموسوعي: «رأس المال في القرن الحادي والعشرين» (2013)، وأردفه بكتاب «رأس المال والأيديولوجيا» (2019). 

في هذا الكتاب، يحافظ بيكيتي على نهجه متعدد التخصصات الذي أكده في كتبه السابقة، إذ لا يعتبر الاقتصاد تخصصًا مغلقًا على نفسه، كما يحاول الاقتصادويون أن يفعلوا عبر احتكار المعرفة الاقتصادية وإعادة توزيعها وفقًا لخيارات نيوليبرالية فرضتها الشركات الكبرى والحكومات والمؤسسات الأكاديمية. بل يعتبر الاقتصاد مكونًا ضمن علم اجتماعي أوسع يشمل علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والعلوم السياسية والقانون والفلسفة والتاريخ. هذا النهج المتعدد يستفيد من بقية فروع العلوم الاجتماعية أولًا، ويقارب المسألة بشكل أوسع على نطاق عالمي، في نهج أقرب إلى مفكري مدرسة التبعية (سمير أمين، وجيوفاني أريغي، وغيرهم)، في اعتبار أن نمط الهيمنة السائد محليًا لا يمكن مقاربته إلا من خلال تحليل طبيعته كوحدة مترابطة في العالم كله. 

يرسم بيكيتي في موجز تاريخ المساواة مسيرة الإنسانية الطويلة نحو المساواة، من خلال رسم تاريخ عدم المساواة، من الثورة الفرنسية إلى الحركات الاجتماعية الكبرى في القرن العشرين. ويوضح منذ البداية أن «اللامساواة هي قبل كل شيء بناء اجتماعي وتاريخي وسياسي». ويحدد مسار الحركة نحو المساواة ليس بوصفه مجرى نهر هادئ وطويل يصل إلى وجهته، وإنما باعتباره طريقًا وعرًا ومتعرجًا فقد بوصلته عند مستدار السبعينيات وبداية الثمانينيات خلال صعود «الردة النيوليبرالية» مع الثنائي ريغان-تاتشر.

لكن رغم هذا التيه الذي تعيشه فكرة المساواة خلال العقود الأخيرة، فإن توماس بيكيتي يبدو شديد التفاؤل، مستفيدًا من دروس التجربة التاريخية، مؤكدًا أن النيوليبرالية ستكون مجرد قوس في تاريخ البشر، سيغلق في اتجاه أفق أوسع نحو المساواة. لن يغلق من تلقاء نفسه قطعًا، ولكن بفعل التعبئة الشعبية والنضال. وهو الطريق نفسه الذي سلكه الإنسان منذ القرن الثامن عشر في اتجاه المساواة: النضال في سبيل حق الاقتراع والتعليم المجاني والإلزامي والتأمين الصحي الشامل والضرائب التصاعدية وحقوق النقابات العمالية وحرية الصحافة. حيث سار التطور الرأسمالي بكل توحشه كفًا بكف مع كفاح الطبقات الشعبية من أجل تحسين أوضاعها، وهذا الكفاح نابع من هاجس بقاء، ما زال حيًا وقويًا. 

هذا التلازم التاريخي المتناقض بين التقدم واللامساواة تؤكده الأرقام: متوسط العمر المتوقع ارتفع من 26 عامًا في عام 1820 إلى 72 عامًا في عام 2020، وانخفض معدل وفيات الرضع من 20% في عام 1900 إلى 1% اليوم. ومع ذلك، لم تختفِ التفاوتات فحسب، بل تميل إلى الزيادة: في عام 1914، كان أغنى 1% يمتلكون 55% من الثروة، بينما تصل النسبة اليوم إلى أكثر من 90%. يطرح بيكيتي حلًا لهذه المعضلة من قلب المشكلة، حيث يعتبر أن النيوليبرالية قد نجحت عندما سيطرت على الدولة، عكس ما كانت تدافع عنه الليبرالية الكلاسيكية، لذلك فهو يدافع عن حلول تكون منطلقة من فكرة أن تكون الدولة هي من يقود معركة المساواة من خلال فرض الضرائب على الثروات والمصادرة للثروات الكبيرة وفرض السياسات الاجتماعية لفائدة الطبقات الوسطى والشعبية والسيطرة على معدلات الرواتب وحدها الأقصى.

أقفاص فارغة

فاطمة قنديل، الكتب خان، القاهرة، 2021  

أميرة عكارة

ربّما يكون الأصعب من كتابة عمل أدبي متفرّد هو الكتابة عنه، مثلما هي الحال مع هذه الرواية/ السيرة الذاتيّة المهمّة. في «أقفاص فارغة»، تكتب فاطمة قنديل لتعرّي حياتها، بشجاعة ملفتة، ولتكشف عمّا مرّت به من أحوال متعاقبة، وما تنقّلت منه وإليه من بيوت ومدن، وما عايشته من تقلّبات وتحوّلات عائليّة وعامّة، سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة. رغم ذلك، تروي قنديل هذه المسارات والتنقّلات ببساطة وبسلاسة بالغة، دون ادّعاء أو تنظير أو تجمّل أو مبالغة، حتّى إنّنا لا نكاد نلمح هذه التحوّلات العامّة، رغم أنّ اعتمالاتها في الحياة التي عاشتها منذ كانت طفلة، وفي حياة عائلتها الصغيرة والممتدّة، لها بالغ الأثر في تشكيل حياتها كما ترويها، وفي دفعها في الطرق والمسالك التي وطأتها، وفي المصائر التي واجهتها منذ الستّينيات وحتّى كتابة هذه السيرة. فالشخصيّ والعام يتضفّران بصورة شديدة التشابك في هذه الرواية، كأنّ الشأن الشخصيّ هو قشرة الجرح تلك التي رغبت قنديل في كشفها في الهواء، وفي إماطتها عن الشأن العام، وتعريته تمامًا.

بهذا المنطق كتبت فاطمة قنديل سيرتها، فحوّلت الكتابة إلى نصل سكّين يُشحَذ ويزداد حدّة كلّما كان وفيًّا لعهده في فتح الجراح وتشريحها. فنحن أمام سرد سلس، مُحكَمٍ، خاطفٍ للأنفاس، لا يتصاعد عبر تتابع الأحداث زمنيًّا وتعقّدها حتّى تصل إلى ذروتها، مثلما يقتضي البناء الكلاسيكيّ للرواية، بل يتعمّق أثره تدريجيًّا إلى أن نجد أنفسنا وقد سرقتنا السكّين التي شرّحت بها فاطمة قنديل حياتها وجراحها بمهارة وشفافية. فما يتبقّى في نهاية المطاف هو إحساس صافٍ بالمرارة يتسرّب إلينا، أو تسقيه صاحبة السيرة لنا قطرًة قطرًة، حتّى نتجرّعه تمامًا. تفعل فاطمة قنديل ذلك كلّه بينما تملك سطوتها على الحكاية التي لا تتفلّت منها وهي تتنقّل بين مراحل حياتها العُمريّة، وتروح وتجيء بين الأزمنة والأحداث، وتقفز بنا من الحاضر إلى الماضي ومن الماضي إلى الحاضر، دون أن تخسر انتباهنا، ودون أن تُضيّعنا على الطريق وسط ذلك كلّه.

وبينما حذّرها أصدقاؤها من مثل هذه الكتابة الشخصيّة العارية، ونصحها أحدهم بالكتابة «بضمير الغائب»، استنكرت فاطمة قنديل هذه النصائح وهي تُفصح عن هدفها الرئيس: «لا أريد سوى أن أمسخ كلّ الذكريات إلى أصنام، ثمّ أكسرها، ثمّ أكنس التراب المتبقّي منها، حتّى ولو كنت، أنا نفسي، صنمًا من بين كلّ تلك الأصنام». وذلك ما تفعله قنديل حقًّا إذ تنخرط في كتابة لا تُهادن، وتكشف عن نفسها تباعًا دون تقصّد الاستعطاف أو الاستمالة. تكتب قنديل سيرتها هذه وهي تمشي في «المناطق الخطرة» بهدوء وثبات، إذ إنّها ترى الكتابة كملاذ، وكمواجهة واعية مع الذات، مواجهة تستلزم الحضور التام واليقظة الكاملة التي لا تكون إلّا باستدعاء الغائبة، وباستحضار ضمير المتكلّمة، وذاكرتها.

رغم ذلك، ترتعب قنديل من وجود قرّاء لأوراقها، وممّا يستلزمه هذا «التعرّي» اللغويّ والسرديّ من استباحة للخاصّ والشخصيّ، ومن نزوع للتلصّص. لكنّ هذه الرغبة الأصيلة فيما يتطلّبه أيّ نصّ من تلقٍّ ومقروئيّة كانت تصاحب ذاك الخوف وتلازمه. فبينما كانت فاطمة قنديل تُعدّ كتابتها هذه السيرة «انتحارًا»، كما تخبرنا، فقد كانت الغلبة، في النهاية، لهذه الرغبة في المضي قُدمًا في المواجهة وفي المكاشفة الصادقة. رغم ذلك، تُورِّط قنديل القارئات والقرّاء معها في المسؤولية عن هذه الكتابة إذ تقول، أو بالأحرى تحذّر، في موضع مبكّر من سيرتها، وفي تنبيه لافت، أنّ جُلّ ما تخشاه هو أن تتحوّل هذه السيرة إلى مجموعة من الاقتباسات بعد موتها، وأن تستحيل حياتها درسًا أو عبرة. تضعنا قنديل، إذن، أمام مسؤوليّاتنا منذ البداية؛ فهي لا تروي سيرتها الذاتيّة لتعظ أو تُهاجِم، كما أنّ هذه الكتابة الشاقّة والشجاعة ليست مدعاة لإصدار أحكام القيمة، أو استخلاص الدروس، أو الاختزال إلى بضع أقوال مأثورة. وهي بذلك تنبّهنا إلى مهمّة القراءة وقيمتها كتأويل مستمرّ لا يحتمل القصّ والاجتزاء، وكفعل تواصليّ يتقاسم القرّاء مع الكاتبة عبء إنجازه واكتماله.

تفتح هذه السيرة الذاتيّة أيضًا مجالًا لتخيّل ما اكتنفته كتابتها من مشاعر وتوتّرات، وما تنازعت صاحبتها من الحال ونقيضها: الشجاعة والجبن، القوّة والهشاشة، الإقدام والإحجام. أتخيّل، مثلًا، كم محت فاطمة قنديل ومزّقت، وكم استعادت من سطور وتفاصيل وحكايات؛ أتخيّل كم مرّة توقّفت لتسائل ذاكرتها، ولتتشكّك فيها، ولتتيقّن من الأحداث، أو ربمّا لتمعن في تأويلها وتأمُّل معانيها. كما أتخيّل، أو بالأحرى، أتسائل، كم احتاجت من القوّة لتحمّل ألم التذكّر، وعبء الحكاية؟ لكنّ المهمّ في النهاية أنّها، ورغم كلّ شيء، كتبت لكي تضع حياتها أمامها، وأمامنا، ولكي تستطيع بالتالي أن تتحرّر منها، وتمارس سطوتها عليها. كتبت فاطمة قنديل عمّن ماتوا، فعليًّا ورمزيًّا، وانتصرت بفعل الكتابة هذا على ما مرّ بها، وما مرّت به. فهذا «ما لم تكتبه فاطمة قنديل»، كما يقول العنوان الفرعيّ للرواية؛ هذا ما عاشته، وواجهته بالتحديق مليًّا في جوهره وحقيقته، وبإحالته من مقام الخصوصيّة والسرّيّة إلى مقام العموميّة والإشهار.

المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة (1908-1948)

ماهر الشريف، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2020

أفنان أبو يحيى

افتتح ادوارد سعيد -على الأقل عربيًا- حقبة تاريخية واسعة من التنظير حول المثقفين ودورهم في المجتمع في بعض فصول الاستشراق ولاحقًا في كتابه المثقف والسلطة، وراكمت أعماله على الإرث المعرفي الذي خلّفه انطونيو غرامشي وميشيل فوكو ونعوم تشومسكي حول مهام المثقف وعلاقته مع الدين والدولة والمجتمع، لكن الأهم من ذلك هي أنها ولأول مرة عالجت مفهوم المثقف ضمن تفاعله مع القضية الفلسطينية. يقدم المؤرخ الفلسطيني ماهر الشريف في كتابه «المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة (1908-1948)» بحثًا تاريخيًا حول طبيعة المشروع الفكري الحداثي الذي عرفته فلسطين، تأثرًا برواد النهضة العربية والثقافات الأوروبية. 

يقع الكتاب في عشرة فصول يخلق الباحث في كل منها أرضية مشتركة مع القارىء لمفاهيم نسبية مثل المثقف والحداثة والمدنية والوطنية، محاولًا رسم الحدود الواضحة بين «المثقف الملتزم» و«المتعلم حامل الشهادة»، وبين «الحداثة الجوانية» و«التحديث البراني»، و«تأخر الشرق» و«مدنية الغرب». يقارن الشريف في كتابه بين أوضاع العرب الفلسطينيين وأوضاع اليهود الصهاينة القادمين من أوروبا، معتمدًا على قول قسطنطين زريق في أن «ما أحرزه الصهيونيون من نصر (في النكبة) ليس مرده تفوق قوم على قوم، بل تميّز نظام على نظام».

يعالج الكتاب فترة زمنية توضح استجابة ويقظة المثقفين الفلسطينيين المبكرة للمشروع الصهيوني رغم التحديات التي واجهوها ورصدها الباحث في أربعة رهانات رئيسية هي الثقافة، والمجتمع، وتنازع البقاء أمام قوى الاستعمار، وأزمة الهوية في الاقتباس عن الغرب وبلوغ الحداثة، متحدثًا بلسان نخبة من المثقفين مختلفي المشارب والاهتمامات، من أمثال خليل السكاكيني وأحمد سامح الخالدي وإميل توما وإميل حبيبي وعبدالله البندك، ومسلطًا الضوء على التجربة النسائية لأسمى طوبى وساذج نصار وهند الحسيني. ويقارب الكتاب بين نتاجات المثقفين الفلسطينيين في تشاركهم الهم الحداثي من اقتباسات يومياتهم ومقالات الصحف الفلسطينية، خصوصًا وأن التعليم والصحافة كانا من أهم قنوات انتقال الأفكار الحديثة إلى فلسطين  وأبرز حقول عمل المثقف الفلسطيني.

أعتقد أن أهم ما طرحه الكتاب هو استعراضه لانشداد المثقفين الفلسطينيين للغرب وتبريرهم الاقتباس عنه بمفاهيم دوران الحضارة الإنسانية والتفاعل الحضاري المتبادل، ثم نقاشهم لأخذ النافع وترك الضار والتمدن الظاهر والمدنية الحقيقية، قبل أن يصطدموا بالهوية القومية والوجه الاستعماري البشع لأوروبا و«رأي الغرب في الشرق»، ويتأثروا بتجارب تحرر الشرق في الهند والصين واليابان من عروش استعبادها في الداخل واستعمارها في الخارج. 

لم يغفل الكتاب عن المهاترات التي دارت بين المثقفين الفلسطينيين أنفسهم أو مواقفهم المتباينة من سياسات الحركة الوطنية الفلسطينية ودورها في إضعاف النضال الوطني، وهو ما وجدته متصلًا بالواقع الفلسطيني الحالي. لكنني بقراءة هذا الكتاب، تمكنت من الانتقال من البحث عن مشروع حداثي فلسطيني قبل النكبة إلى إيجاد وتشخيص تحديات تطبيق هذا المشروع الذي يحتاج إلى «سلّم طويل وأيد عاملة ورؤوس مفكّرة وصدور تضطرم وطنية وحميّة»، بحسب السكاكيني.

تاريخ التكهّنات: من أرسطو إلى الذكاء الاصطناعي

غايل رودجرز، مطبعة جامعة كولومبيا، نيويورك، 2021

حسين محسن

يتنقّل غايل رودجرز في كتابه الأخير عبر الزمن، ومن أرسطو وصولًا لخوارزميات الذكاء الاصطناعي، ليلاحق تبدل المعاني التي حازت عليها التكهنات. هل التكهن سعي لفهم الذات، أم لفهم دور الإله في الخلق كما تساءل القديس أغسطينوس منذ 16 قرنًا؟ كيف حوَّل فلاسفة كل من «الثورة العلمية» والرأسمالية اتجاه التكهنات نحو المستقبل لتصير مرادفة للتوقعات المعتمدة على التجربة والبيانات؟ عبر بحث تاريخي ووفرة من القصص، يسعى الكاتب للإجابة عن مثل هذه الأسئلة وربطها بما آلت إليه السرديات التجارية التي تسعى للتحذير من المستقبل بهدف السيطرة على الحاضر. عند حديثه عن بوليصات التأمين الحديثة مثلًا، ينزع الكتاب البداهة عن فكرة التأمين نفسها، ويتحدث عن سجالات جرت في محاكم بريطانية خلال القرن الثامن عشر حول أحقيّة الحصول على أموالٍ مقابل حماية من خطر قد لا يحدث أبدًا، وعن الحذر التاريخي لدى تيارات دينية من التأمين لاعتباره نقصًا في الإيمان بالأقدار الإلهيّة.

ليس هذا الكتاب الأول الذي يسعى الكاتب عبره لتتبّع مسار فكرة أو مصطلح معين، فسبق وأن شارك في كتاب عن تاريخ مصطلح «الحركة الحداثية» (modernism) من ضمن مؤلفات عدة أخرى. يعلّم رودجرز الإنجليزية في جامعة بتسبِرغ، ويظهر اهتمامه البالغ باللغة عبر تركيزه على شرح الجذور اللغوية لمصطلح «التكهّن» (speculation)، واختلاف معانيه مع انتقاله من لغة إلى أخرى. عبر أمثلة عدة، تَظهر الترجمة كمحاولةً جزئية لنقل المعنى، وبابًا لخلق معانٍ جديدة. أما القواميس، التي يعتمد عليها الكاتب دون التردد في نقدها لمحدوديتها، فتبدو بعد قراءة الكتاب كعوالم صاخبة من الأحداث التي ترسم، أو تخفي، معاني على حساب أخرى. 

ينتهي الكتاب بأسئلة عن حدود التوقعات، وعن هوية الجهة التي تمتلكها وتمتلك معها سلطة رسم بعض حدود المستقبل. مع وفرة البيانات وتزايد الاعتماد على خوارزميات الذكاء الاصطناعي، يتساءل رودجرز، دون ادعاء امتلاك أجوبة حتمية كالتي يقدمها أصحاب شركات التكنولوجيا العملاقة أو المناهضون الشرسون لأي تقنية جديدة، عما إذا كان الإنسان أو الآلة اليوم في دفة القيادة. قد تترك هذه الأسئلة القارئ أو القارئة المهتمة بتاريخ التبدلات التكنولوجية في حيرة ممتعة، وتشجع على الشك كبديل عن أوهام امتلاك اليقين.

قابلية المستقبل: عصر العجز وأفق الإمكانية

فرانكو «بيفو» بيراردي، دار ڤيرسو، لندن، 2019

يزن اللجمي

في تغريدة لها، وصفت جورجيا ميلوني، رئيسة وزراء إيطاليا اليمينية المتطرفة، الكاتب بالـ«مقزز»؛ وهذا سبب إضافي لقراءة بيراردي الذي بدأ مسيرته كناشط في الحراك الشيوعي الإيطالي في السبعينيات، قبل أن يصير أستاذًا محاضرًا في دراسات الإعلام في ميلان، وأحد أعتى الأصوات الماركسية في إيطاليا المعاصرة.

ينطلق الكتاب هذا من الأعراض التي باتت مألوفة لاهتراء عالمنا: الكارثة البيئية، وتركز الثروات في يد الأقلية، وتحول الاقتصاد والمديونية إلى منظومات تجريدية منفصلة عن الإنتاج، وتصاعد البؤس والفقر والسلفيات (خصوصًا الدينية) والقوميات (خصوصًا البيضاء)، والمسؤول طبعًا هو الرأسمالية بمنعطفها النيوليبرالي الذي قادها منذ الثمانينيات إلى تحويل كل شيء من صحة وتعليم وحروب إلى مناسبة للربح. لكن همّ الكتاب المركزي هو مفهوم «العجز»، أي غياب الشروط التي تمكن أي فاعل فردي أو جماعي من إنجاز فعله. ما هي أسبابه وطبيعة العجز؟ ولماذا فشلت حركة «احتلوا» وثورات الربيع العربي؟ لماذا الإحساس العارم اليوم بعدم القدرة على خلق مستقبل آخر؟

بمحاججات فلسفية غنية، يقترح بيراردي فرضية خلاصتها أن تعميم التكنولوجيا الرقمية قد ترافق مع نقلة في قدراتنا الإدراكية مما يسميه «سلوك تجميعي» ارتبط بقدرة اللغات التقليدية على احتواء تأويلات ومشاعر تعددية ومتناقضة وقابلية خلق معان جديدة (قابلية قامت عليها الديمقراطية الحديثة) إلى «سلوك موصول» دربتنا عليه مواقع الشراء والتواصل والتطبيقات البنكية وواجهات الاستخدام التي «تفرمت» تصرفاتنا وتستبدل قدرتنا على الصياغة بكلمات مفتاحية وإيموجيز جاهزة.

الضحية الأولى لتلك الأتمتة هي الطبقات العاملة المبعثرة جغرافيًا، والتي باتت لا تعرف أصلًا لحساب من وإلى جانب من تعمل، والتي تتقلص قدراتها ومخيلتها السياسية إلى باقة خيارات مبسطة. الاقتصاد، وهو مصدر السلطة، صار إذًا قائمًا على تلك الأتمتة، وبالتالي لن تؤثر فيه الأدوات الثورية التقليدية، مما يعني أن حراكات الشوارع والانتخابات والنضال السياسي قد عفى عليها الزمن (وهذا تشخيص مُرهب عندما يصدر عن شخص أمضى عمره في العمل الحزبي)، فـ«سلوك الكائنات الموصولة (البشر الجدد) لا يمكن فهمه ولا قيادته بأدوات السياسة [كون تلك الأدوات] مرتبطة بإدراك ما قبل-موصول». 

في خاتمة الكتاب، يصرّح بيراردي أن الطبقة الوحيدة القادرة على حيازة وسائل إنتاج القوة وصياغة بُنى مستقبلية جديدة لم تعد البروليتاريا التقليدية بل المبرمجين والمصممين. بتعاونهم مع المفكرين والفنانين، يرى بيراردي الأمل الوحيد في بناء«منصة تقنية مستقلة للتعاون بين العمال الإدراكيين للعالم تعمل نحو فكفكة وإعادة برمجة الآلة» بحيث تخدم مصالح الناس، وبحيث تصير الأتمتة والذكاء الاصطناعي أدوات لإراحة البشر من منظومة الرواتب ومن أعمال لا معنى ولا سعادة فيها، بدلًا من أن تظل مصدرًا لمراكمة الثروات.

ترجمات علمانيّة: الأمة-الدولة والذات الحديثة والعقل الحسابي

طلال أسد، ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2021

كريم محمد

تتكثّف الخلاصات النظريّة والأنثربولوجيّة التي اضطلع بها الأنثربولوجيّ المرموق طلال أسد في هذا الكتاب، وكأنّها عصارة عقود اشتغاله الطويل على ما أسماه منذ ثلاثة عقود بـ«أنثربولوجيا العلمانيّة». لا يمكن بحال فهم كتاب «ترجمات علمانيّة» إلّا بقراءة بصيرة ودقيقة لكتابيْ أسد السالفين «جينالوجيات الدين» و«تشكلات العلمانيّ»؛ لأنّه في هذا الكتاب لا يبني عليهما فحسب، بل يشعر القارئ وكأنّ أسد يقوم بعمليّة تكثيف لما كان متناثرًا، محاولًا أن يوجّه كلّ هذه الكثافة لاكتشاف قوّة العلمانيّة والدين من خلال منظور فيتغنشتاينيّ مركّز لعوالم الحياة، وألعاب اللغة، وكيف أنّ مقولتي الدين والعلمانيّة ليستا بمقولتين جامدتين، بل هما -حسب تعبير فيتغنشتاين- «من ألعاب اللغة». 

في «ترجمات علمانيّة»، نجد الاشتباك المعهود والمطرد لأسد مع العلمانيّة وتناقضاتها؛ أي العلمانيّة ووعدها بفضّ السحر عن العالم وتحقيق الرفاه البشريّ وتناقضها المتمثّل في تكاثر الكوارث، وبالتالي اعتمادها الجوهريّ على «العقل الحسابيّ» باعتباره قوّتها الممكنة في الاقتصاد والسياسة والحكم واللغة لـ«حساب» كلّ شيء: بدايةً ممّن يستحق أن ينطوي تحت زمرة الدولة-الأمّة وممّن هم خارجها، وحتى حساب الكارثة و«نهاية العالم» وكيف يمكن أن نحسب خاتمة كلّ شيء من خلال تقليل المخاطر وتعظيم المنافع.

يُفعّل طلال أسد في كتابه هذا أمل الأنثربولوجيا في إبقاء الأمل في مستقبل أقلّ خطورة باقيًا؛ «فالأنثربولوجيا باعتبارها حقلًا علميًّا لها دور متواضع في الإبقاء على ذلك الأمل حيًٍّا». ويستعينُ بالمصادر الروحيّة/الدينيّة والعلمانيّة معًا في تشابك والتقاء فريد للتفكير في أزمات ما تُسمّى «الحداثة»، وبالتالي فهو في واقع الحال يميل إلى ضرب من التفكير التأمليّ الإناسيّ في أهمّ تشكيلات العالم الحديث، متمثلًا في العلمانيّة والدين بوصفهما من داخل هذا العالم نفسه وكيف أنّهما يطرأ عليهما التغير في المعنى، ومنح المعنى من ثمّ، بفعل التاريخ والفاعلين الاجتماعيين الذين يشكّلون مضامين هذه المفاهيم التي لطالما نُظر إليها على أنّها مجرّدة، ونظريّة، بل هي مفاهيم مُعاشة بلحم ودم في العالم الاجتماعيّ. 

وهكذا، ينظر أسد بخاصّة في تحوّلات اللغة الدينيّة إلى لغة العلمانيّة. وينكبّ مناقشًا للادّعاء المنصوب بأنّ التصوّرات الليبراليّة للمساواة تمثّل أفكارًا قديمة عن المسيحيّة تُرجمت بلغة علمانيّة. كما أنّ أسد يوضّح في كتابه هذا بصورة واسعة مفهومه القديم والذي لا يمكن فهم مشروعه بدونه، ألا وهو التقليد الخطابيّ للإسلام؛ وكيف أنّه لا يعني الانطياع والإذعان، بقدر ما يمكّن الدارس والباحث من سبر عوالم تشكّل المفاهيم والحساسيات الدينيّة مع مرور التاريخ.

كما ينظرُ أسد في تاريخ فكرة الذات ومركزيّتها للدولة العلمانيّة. وكيف أنّ الدول القوميّة الحديثة، كدول علمانيّة، تقوم على فكرة الإقصاء من حيث التكوين بسبب اعتمادها على فكرة الحساب أو ما يُسمّيه بـ«العقل الحسابيّ»: حيث تفترض هذه الدّول حقّها الأخلاقيّ في تعبيرها وتمثيلها لـ«الأغلبيّة» (الذي هو مفهوم عَدديّ) في مقابل «الأقليّة». 

وينصبّ جزءٌ مهمّ من الكتاب على مقارعة حجج آخر الفلاسفة الكبار، ألا وهو يورغن هابرماس، في فكرته عن اللغة العلمانيّة، وكيف أنّ على المتديّنين في الدول الحديثة أن «يترجموا» المضامين الدينيّة إلى لغة علمانيّة تشملُ الجميع. لقد تعرض هابرماس، مرارًا وتكرارًا، لنقد حادّ على هذه الفكرة من قبل مفكرين آخرين من أمثال كازانوفا، لكن تبصرات أسد في هذا الكتاب على أفكار هابرماس مثيرة للغاية؛ لأنّها توضّح لنا شيئين أساسيين: كيف تعمل الدولة القوميّة؛ وبالتالي كيف تحصل «سيرورة الاستيعاب» داخلها.

في «ترجمات علمانيّة»، نتلمّس الذكاء الأنثربولوجيّ في تعامله الحيّ مع المفاهيم الحديثة من خلال تفكير مبدع، يرتكز فيه طلال أسد إلى تنويعة واسعة من المفكّرين بدءًا من فتغنشتاين وأبي حامد الغزالي وفالتر بنيامين ليحاول أن يواجه لغة الدّولة والحداثة بلغة أخرى تتجاوزها من حيث الضيق والمنظور في التعاطي مع الحياة والبشر والمصير. هذه اللغة التي تتجاوز لغة الدولة لا يمكن بحال أن تُبنى إلّا في سياق نقديّ قويّ كهذا الذي نراه في «ترجمات علمانيّة».

البنك العالمي: تاريخ نقدي

إريك توسان، أطاك المغرب، الرباط، 2022

علي أموزاي

في نيسان 2022 أصدرت جمعية أطاك المغرب، عضو لجنة إلغاء الديون غير الشرعية، ترجمة كتاب «البنك العالمي: تاريخ نقدي» لمؤلفه إريك توسان. وتوسان هو مؤرخ واقتصادي وأحد مؤسسي لجنة إلغاء ديون العالم الثالث سنة 1990، والمسماة لاحقًا لجنة إلغاء الديون غير الشرعية. ولطالما كان البنك العالمي، أو البنك الدولي، (إلى جانب المؤسسات الدولية الأخرى) أحد اهتماماته النقدية النضالية. 

للكتاب مكانة فريدة في الحياة النضالية والفكرية لتوسان. فهو ثمرة عمل بدأ منذ ثلاثين عامًا. إذ صدرت صيغته الأولى سنة 2004 بعنوان «طغيان البنك العالمي»، وكانت الثمرة قد نضجت نهائيًا بإصداره سنة 2021 بعنوان «البنك العالمي: تاريخ نقدي».

تناول إريك الديون والمؤسسات المالية الدولية بعيون من هم أسفل، ويدل على ذلك إهداء الكتاب «لكل أولئك الذين يناضلون من أجل انتزاع الكرامة والعدالة الاجتماعية. إلى أولئك الذين يواجهون البحر الأبيض المتوسط والقناة الإنجليزية وريو غراندي وجميع الجدران المخزية التي أقيمت بأمر من حكومات الدول الغنية الرافضة لحرية التنقل».

كون هؤلاء هم المعنيون بالكتاب، فإن أسلوب كتابة هذا الأخير تعبير بسيط عن أفكار بسيطة. وصف جلبير الأشقر الكتاب في المقدمة التي وضعها له بأنه «كتاب تعليمي (..) خالٍ من المصطلحات النقدية للمنشورات التكنوقراطية أو الأكاديمية التي تجعل القراءة غير متاحة للغالبية العظمى من الأشخاص المتأثرين بالمواضيع التي تعالجها تلك المنشورات. هؤلاء فعلًا هم المستهدفون بهذا الكتاب، وليس أعضاء نخبة السلطة الاقتصادية العالمية».

يضم الكتاب ثلاثين فصلًا وملحقين في 269 صفحة. ويغطي قائمة واسعة جدًا من المواضيع، من أصول مؤسسات بريتون وودز والسياق العالمي الذي أنتجها، وعلاقاتها مع منظمة الأمم المتحدة، وتاريخ البنك وكونه ذراعًا للقوى الرأسمالية العالمية الكبرى، والولايات المتحدة الأمريكية بالدرجة الأولى، ودعمه للديكتاتوريات (تركيا، وإندونيسيا، وكوريا الجنوبية، وغيرها) ودوره المشين في الإبادة الجماعية في رواندا.

ولكن أروع فصول الكتاب تلك التي تتحدث عن أكاذيب البنك الدولي بشأن التنمية، مثل وجوب لجوء البلدان النامية من أجل ضمان التطور إلى المديونية الخارجية وجذب الاستثمار الأجنبي والانفتاح على السوق العالمي واحترام دورها في قسمة العمل الدولية. أطلق الكتاب حكمه على تلك الأكاذيب بقوله: «تُظهر الحقائق يومًا بعد يوم، على مدى عقود، أن هذا لا يفلح. إذ تؤدي هذه النماذج المؤثرة على رؤية البنك الدولي منطقيًا إلى تبعية قوية للبلدان النامية تجاه التدفقات الرأسمالية الخارجية». وعندما تفشل تلك النماذج، لا تتأثر سردية البنك، إذ «لا يسائل البنك العالمي النظرية عندما يكذبها الواقع. على العكس، إنه يسعى لتشويه الواقع لمواصلة حماية العقيدة».

إنه كتاب قيم، ويشكل أداة لا غنى عنها ليس فقط لفهم آلية النظام الاقتصادي العالمي، بل أيضًا لمواجهته والنضال ضده.

القارئ الأخير

ريكاردو بيجليا، ترجمة أحمد عبد اللطيف، المتوسط، ميلان، 2020

صفاء الزرقان

لطالما كان فعل القراءة والتلقي محط اشتغالٍ فلسفي وأدبي، وإشكالية فلسفية متعلقة بالتأويل، بفك التشفير والترجمة. كيف نقرأ؟ لمَ نقرأ؟ ماذا نقرأ؟ غير أن ما ينصب عليه الكتاب «هو ما القارئ؟». سؤال الماهية والكينونة هنا أحدث انزياحًا في الأسئلة وجذبها لاتجاه آخر، نحو الذات الفاعلة، أي القارئ. هل هو الناسخ أم الكاتب أم الناقد أم الميلانخولي أم السياسي أم الثائر؟ بدءًا من هذا السؤال يكتسب القارئ ذاتًا لها اسم وحكاية هي الأخرى. إنه الآخر الذي يُعرض النص في مواجهته. 

القارئ في كتاب بيجليا نموذج متلون يضم الكثيرين تحت لوائه، لكن الطريف والبديع في الكتاب يكمن في «قراءته» لأولئك القراء. يخيم شبح بورخيس على الكتاب؛ فالكاتب ممسوس ببورخيس، القارئ الشره الذي فقد عينيه لكنه لم يفقد القراءة، «أنا الآن قارئ صفحات، بعينين، لم تعودا تريان». 

القراءة صيرورة مضطردة، فعل مستمر حتى وإن تعرض لانقطاعات. إن الجالس خلف زجاج مقهى في قلب مدينة ما قارئ يجيل ببصره في وجوه المارة العابرين. 

يخرج النص الفانتازي الخيالي ليتحول في يد القارئ إلى دليلٍ للتجربة، لخريطة تقدم إيجازًا للواقع. نحن هنا أمام نصٍ وقارئ فالمؤلف قد مات، وبالتالي أصبح القارئ مصدرًا لسلطة التأويل وتوليد المعنى. فالقارئ المجهول والمحجوب في عزلته ما يلبث أن يُصبح مرئيًا حاضرًا ما أن يخرج بمعنى أو نقد أو مراجعة للكتاب. وبالتالي فإن فعل القراءة هو ما يجعل الفرد مرئيًا. 

الكتاب استعراض للقارئ وشرطه وقصته، لكنه في سياق تشريحه للقارئ لا يتناول القارئ الحقيقي فقط؛ بل ينزح إلى استعراض نماذج من القراء في الأدب مثل هاملت ودون كيخوتيه. هنا ليس المهم ما الذي تقرأه تلك الشخصيات بل أثر الفعل عينه عليهم وعلى إدراكهم لذواتهم ومآزقها. فتنشأ علاقة تبادلية تثري كل الأطراف المشتركة في النص والقراءة. 

الكتاب تأمل في القارئ الحديث، في ذاته وكينونته. هنا يحدد بيجليا أهم سمة تميز الكاتب والتي تتمثل في الوحدة والانعزال، في الكتابة بلا انقطاعات. وحيث إن «الوحدة سمة رئيسية في الفرد»، فإن القارئ أيضًا يحتاج لأن يكون وحيدًا منعزلًا ليخلق المعنى. فكافكا احتاج إلى الوحدة ليكتب، كتابة تأتي «كطلقة واحدة، من دون تردد، وفي صمت تام، وانعزالٍ عن كل شيء». انطلاقًا من هذه السمة، شرع المؤلف بتشريح كلٍ من المؤلف والقارئ مرةً بعلاقته بالمرأة، كما هو الحال في علاقة كافكا وفيلس وجويس ونورا والعديد من الكتاب الروس، ونساء اضطلعن بدور «الناسخ» بالغ الأهمية في حياة أولئك الكتاب. نرى هنا نماذج للمرأة الناسخة مغايرة للصورة الواردة في التقليد اليوناني والصورة النمطية لدى فرويد كذلك، الصورة السلبية للمرأة في مقابل صورة القارئ الذكر. لقد قدم أمثلة لقارئة/ناسخة مشتبكة مع ما تنسخ وتقرأ تناقشه وتساءله وتتمرد عليه. 

القراءة لا تخلو من معنى سياسي، فالقارئ يبحث عما هو غير مرئي/مستبعد وهو ما يحيله إلى «المؤامرة». إنها فعل سياسي، استعرضه من خلال جيفارا وغرامشي، كنموذجين لقراء «أوقات الخطر… قراءة متطرفة خارج المكان»، وقدم من خلالهما ربطًا للعلاقة بين الحرف والسلاح والحياة. في حالة جيفارا، كان الانعزال سمته الأبرز، كان مقاتلًا يقرأ بنهم لكنه لم يستطع أن يتحول إلى سياسي مثل كاسترو الذي امتلك قدرة على الانخراط مع الناس. فالعزلة لا تستقيم مع التجربة السياسية لينشأ توتر بين الفردي والسياسي.

القدس الشريف: منظور جديد للأرض، والبشر والحجر (3000 ق.م – 1517 م)

عبلة المهتدي، وزارة الثقافة الأردنية، عمان، 2021

ريما العيسى

تسعى عبلة المهتدي نحو قراءة جديدة لتطور مدينة القدس وأهلها عبر قرون ممتدة عبر الزمن حافظت المدينة فيها على خصوصيتها وهويتها. تشاهد المؤلفة المدينة المقدسة عبر منظور جديد وأسلوب حديث حاولت من خلاله دراسة واقع القدس المعاش خلال مراحلها التاريخية الأولى سعيًا وراء مناقشة الأخطاء التاريخية الشائعة والفرضيات الصهيونية المتداولة على مستوى واسع في يومنا هذا والتي تهدف إلى تهويد المدينة ومحو تاريخها وأحقية أهلها الفلسطينيين فيها.

استعانت الباحثة بالدراسات الآثارية الحديثة والوثائق التاريخية والمصادر المعاصرة حول القدس، إما لتأكيد بعض الروايات التاريخية أو دحضها. كما استعانت المؤلفة ببعض مدونات الرحالة من المشرقيين والغربيين حول الحياة اليومية لأهالي القدس. ومن أهم الملاحق ما كتبه ناصر خسرو في وصفه للمدينة في كتابه الشهير سفرنامه بأسلوب شيق جميل. 

تركز الكاتبة في مراحل التحولات الخمس التي شهدتها القدس، مرحلة النشأة الأولى وبناتها؛ مرحلة التطور التدريجي وتقلب الحضارات؛ مرحلة السقوط والانكسار في ظل الحروب الصليبية؛ مرحلة التحرير والاستنهاض؛ وأخيرًا مرحلة الازدهار في ظل حكم المماليك؛ على الواقع المعاش في المدينة، من حيث الجوانب الإدارية والسكانية والاقتصادية والحضارية في كل مرحلة، والتعريف بالعوامل والظروف السياسية التي كانت تفضي إلى التحولات من مرحلة إلى أخرى، وتأثير كل ذلك على مكونها المتعدد المنابت والأديان.

تبين عبلة المهتدي أن القدس وبالرغم من الانكسارات التي مرت بها، عاودت النهوض والازدهار، مركزة على أن التواجد العبري في المدينة كان تواجدًا عابرًا وغاصبًا لم يتمكن من الاستمرار طويلًا ولم يترك وراءه أثرًا وشاهدًا تاريخيًا سواء في القدس أو في محيطها، مثله مثل الأقوام الغازية الأخرى الساعية وراء الهيمنة على هذه الأرض واستغلال ثرواتها، رغم أن الغزاة الآخرين قد تركوا وراءهم شواهد تدل عليهم بخلاف العبرانيين. 

أعتقد أن هذا يحيلنا إلى مسألة تستحق الطرح، أي اعتبار التوراة نصًا تاريخيًا وليست نصًا دينيًا فحسب. إذ علينا ألا نعول على التوراة كنص تاريخي، من أجل التوصل إلى دحض ما يطرحه الصهاينة من فرضيات تسعى إلى طمس التاريخ الحقيقي لصالح نص ديني وأسطوري، يهدف إلى تهويد المدينة وتطهيرها عرقيًا من سكانها العرب الفلسطينيين، وتهديد مقدساتها المسيحية والإسلامية على حد سواء، وخصوصًا ما يتعرض له المسجد الأقصى بذريعة البحث عن هيكل سليمان المزعوم أسفله. فمن أكثر التواريخ التي تعرضت للتشويه والطمس تاريخ العالم العربي وفلسطين على وجه التحديد. وأشد ما أساء إلى هذا التاريخ هو محاولة ربطه ومماشاته مع التوراة على حساب التاريخ الحقيقي. ولكن ظهر في العقدين الأخيرين مجموعة كبيرة من الدراسات التاريخية والآثارية تسعى إلى تصحيح مسار الدراسات التاريخية المتعلقة بفلسطين وإعادة قراءة تاريخها من منظور جديد. وهذا الكتاب إسهام جديد في هذا الحقل.

من يمتلك حق الجسد؟: قراءة في الحياة السجنيّة

أحمد عبد الحليم، أمم للتوثيق والأبحاث، بيروت، 2022

فيصل عادل 

صدر هذا الكتاب في وقت انتفضت فيه قضية معتقلي الرأي في مصر وتسلقت سطح الأحداث، بالتزامن مع تنظيم مصر لفعاليّات مؤتمر المُناخ 27 والحديث عن أولويّة القضايا الإنسانية والحريات على النيّات الدوليّة في مكافحة التغير المُناخي. في ثلاثة فصول، يتتبع عبد الحليم السياسات العقابيّة في السجون المصرية وتأثيرها على السجناء، لا سيما التأثيرات الجسديّة واللسانيّة، التي تقوده للاشتباك مع فلسفة من يحق له أن يمتلك الجسد، فيما يخص إعادة إنتاج السُلطة السِّجنّية لأجساد سجنائها، واكتشاف التمثيل الناتج، المتداخل والمتباين، لعملية الإنتاج الجديدة.

بالنسبة لي، ما يُميز كتاب عبد الحليم، أنه ينطلق من تجربة فرديّة انتهت لمحاولة مميزة لتأريخ ما حدث ويحدث داخل الفضاء السِّجنّي في مصر، بعيدًا عن المرويّات الأدبيّة التي تتحدث عن التجارب الفرديّة التي تنقل تجربة كاتبها. وحتّى إن كانت الكتابة الذاتيّة مُثيرة لأصحاب التجارب، أخذ الكتاب نهجًا جديدًا من بحث منهجي يمزج بين الممارسة والنظرية. نجد هذه المنهجيّة واضحة في اعتماد الكتاب على مقابلات مع السجناء السابقين، وعشرات المصادر والمراجع البحثية العربية والأجنبية. 

بدايةً، يصف عبد الحليم السُلطوية في مصر، منذ بدء تأسيسها الحديث على يد محمد علي، بأنّها امتلكتْ حق أجساد مواطنيها، ويرى أن السجن فضاء مُصغر ومحدود، حوّلته السُلطة السياسية من خلال يدها «السِّجنّية» إلى معمل تجريبي خاص بأجساد السجناء، استطاعت من خلاله هدم وبناء وهندسة دلالات (إيماءات) جسدية ولسانية جديدة ضمن منهجية السُلطوية في إعادة إنتاج الأجساد. 

يأخذ عبد الحليم السجن كرحلةٍ يروي فيها كل التفاصيل منذ البداية إلى النهاية، عن طريق تمثيل الجسد، فلا «يفرّق بين ما هو سياسي وما هو جنائي». فالجسد عند دخوله إلى السجن، وبعد أن «امتلكتّه السُلطة السِّجنّية»، تبدأ في تشكيله بدايةً في العُري، فيصبح جسدًا عاريًا. ومن ثم -من خلال ممارسات أُخرى- يُصبح مراقبًا ثم ذليلًا ثم خادمًا آلةً ثم ميتًا ومريضًا، إلى آخره من «تمثّلات متنوعة للجسد»؛ تنقلات متداخلة ومتباينة، كل منها لها مرئيّاتها الحياتية الخاصة. 

في خاتمة الكتاب، ينظّر عبد الحليم بأنّه لا إصلاح للمُؤسسات السجنّية في مصر، إلّا بإرادة من السُلطة السياسية في الخارج، ولا سبيل لمُقاومة السجناء لهذه السُلطة، التي بالفعل جرّدت السُجناء من ماهية المُقاومة فيما مثّلهُ بـ«الجسد الأعزل». كما ينظّر «حيال مدى الارتباط الأساسي بين ماهية السُلطة السياسية والسُلطة السجنيّة»، إذ ربطهما ببعضهما من حيث القوة والاستقرار والإصلاح والثورية، عبر بضعة استشهادات واقعية، مثلما حدث إبان ثورة يناير، حيث انهارت السُلطة السجنّية (فتح السجون وثورة السجناء وهروبهم، سجن المنيا تحديدًا)، بالتوازي مع انهيار نظام مبارك السياسي والأمني.

كيف يتم تمرير الكلمة: حساب مع تاريخ العبودية في جميع أنحاء أمريكا

كلينت سميث، ليتل براون، 2021

فيصل عادل

في رحلّة مُمتعة وموجعة في آن واحد، يمسك كتاب الشاعر والكاتب والباحث الأميركي كلينت سميث بيد القارئ في جولة على الأقدام في تاريخ العبوديّة بالولايات المتحدة الأميركيّة. يوضّح سميث دوافعه في تسليط الضوء على قضيّة تاريخ العبوديّة منذ البداية، بأنها تمّ تهميش تناولها تاريخيًّا. قرّر المؤلف أن يُشارك في كتابه الممتع رحلته الجريئة الفاحصة في ثمانية مواقع متفرقة في الولايات المتحدة وموقع واحد في العاصمة السنغالية داكار؛ رحلة بدأت عام 2017 وتمّت عام 2020. يتنقل سميث في كتابه بالقارئ  في أزمنة وأماكن مختلفة، كلهم تربطهم ببعضهم علاقة واحدة هي العبودية. 

منذ البداية، يشرّع سميث في عرض أفكاره عن التاريخ فيقول إنه «في حين يركّز هذا الكتاب على الأماكن التي تعيش فيها قصة العبوديّة للسود في أميركا، فإنّ الأرض التي يجلس عليها العديد من هذه المواقع التاريخية تنتمي إلى مجتمعات السكان الأصليين قبل أن تنتمي إلى أيّ شخص آخر. من بين المواقع الثمانية التي قمت بزيارتها في الولايات المتحدة لهذا الكتاب، تقع نيو أورليانز على أرض شيتيماتشا وتشوكتاو؛ ويجلس مونتيسيلو على أرض موناكو؛ وتقع مزرعة ويتني على أرض تشوكتاو؛ ويقع سجن أنغولا على أرض تشوكتاو؛ وتقع مقبرة بلاندفورد على أرض أبوماتوك ونوتوواي؛ وجالفستون، تكساس، على أرض أكوكيسا وكارانكاوا وأتاكابا؛ وتقع مدينة نيويورك على أرض مونسي لينابي؛ ويقع المتحف الوطني للتاريخ والثقافة الأمريكية الأفريقية في ناكوتشتانك (أناكوستان) وأرض بيسكاتاواي».

بالطبع، يأتي الكتاب بأمل الكاتب في رَأب الصدع التاريخي المستمر في المجتمع الأميركي بين البيض والسود عن طريق كشف ترابط المجتمع بما يتجاوز علاقة العبد المُستعبد، إذ يُؤكّد سميث أنّ العبيد ساهموا بشكل مُؤثّر في بناء الوطن مثلهم مثل الجميع. يشير سميث في كتابه إلى أنّ الولايات المتحدة الآن «في نقطة انعطاف، حيث هناك استعداد للتعامل بشكل كامل مع إرث العبودية وكيف شكلت العالم الذي نعيش فيه اليوم»، وحتّى مع الخطوات الجادة التي اتخذتها بعض الأماكن في تعاملها مع العبوديّة وإرثها والتوعيّة من عواقبها الآنية والمستقبليّة. ومع ذلك، يعود الكاتب ليؤكّد أنّ الأمر صعب للغاية، لأنّ تلك الآمال دائمًا ما يوقفها الكثير من الأشخاص.

ينطلق سميث من سرديّة مفادها أنّ «تاريخ العبودية بالنسبة لتاريخ الولايات المتحدة لم يكن هامشيًا، وبالنسبة لتأسيسنا؛ كانت العبوديّة قضية محوريّة بالنسبة لها. هي ليست غير ذات صلة بمجتمعنا المعاصر؛ لقد أنشأته. هذا التاريخ في ترابنا، إنه في سياساتنا، ويجب، أيضًا، أن يظلّ في ذكرياتنا». إذ يبدأ رحلته في التنقيب بالتاريخ عما يؤكّد أفكاره، من مسقط رأسه بمدينة نيو أورلينز، تحديدًا من مزرعة مونتيسيلو، موطن توماس جيفرسون أحد الآباء المؤسسين وكاتب إعلان الاستقلال، ولكن أيضًا أحد أكبر مالكي العبيد. يستغل سميث كتابته الشعرية في وصف جولات كاملة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، ورسم مشاهد الرجال السود المرتدين زي العبيد ويعملون في المزرعة، ثم ينقلنا للقاء أشخاص في وقتنا الحالي. 

يرتكز الكتاب على ثنائيات المكان والتاريخ والماضي والحاضر، إذ يزور سميث مواقع تتعلق بالعبودية في أمريكا، من مونتيسيلو، لمزرعة ويتني، لسجن أنغولا، الذي له تاريخ طويل في «إقراض» السجناء من أجل العمل المجاني والقسوة، لمقبرة بلاندفورد حيث تحتفل فعاليات يوم الذكرى الكونفدرالية بأبطال الجنوب حتى يومنا هذا، إلى جالفستون وتكساس وجونيث، وتاريخ العبودية في تكساس، ومدينة نيويورك وعلاقاتها بسوق العبودية حتى قبل وقت طويل من إنشاء سكة الحديد. وأخيرًا، يأخذنا سميث في زيارة إلى جزيرة غوري في السنغال بأفريقيا، حيث بيت الرقيق الشهير، وبداية صناعة الرق. 

الكتاب رائع وسلس لغةً وطرحًا للأفكار، حتّى وإن كانت قضيّة الاستعباد ليست حديثة العهد أو مقتصرة على فئة بشرية معينة، لكن يظلّ الحديث والتنقيب فيها وعنها أمرًا مهمًا في توضيح الصورة الحقيقية القاتمة للوضع، وكتاب سميث الزخم يُعد جزءًا من تلك الصورة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية