بو كلثوم وألبوم «طالب»: «معكم تجاربي بس بيضل إلي صوتي»

الأحد 10 تشرين الأول 2021
المصدر: صفحة بو كلثوم على موقع فيسبوك.

ربما تحصل أعلى درجات المكاشفة والمصارحة حين يغوص المرء في أعماق ذاته، يقرع الأبواب المغلقة منذ سنوات، يفتح الصناديق الثقيلة المليئة بالأسرار، فتنجلي أمامه مشاهد وصور لذاته ومكنوناتها، ينظر فيها، ويقرؤها، ويدرسها، ويقرّر أخيرًا مشاركتها مع الجميع. وفي «طالب» يقرر بو كلثوم تحويلها إلى صناديق صغيرة، نفتحها نحن المستمعين مع ضغطنا على زر تشغيل كل أغنية من أغاني الألبوم، إذ تنجلي أمام أعيننا تلك الخارطة لنفسٍ تشبهنا وتختلف عنّا. ننظر إليها من خلال عيونه، ونعبر معه إلى أماكن وأزمنة بعيدة، ونعود نهاية إلى ذواتنا فنجدها تغيّرت. تأخذ هذه الرحلة في الألبوم الجديد للرابر ومغني الهيب هوب السوري بو كلثوم «طالب» (2021) نصفَ ساعة و35 ثانية. لها 12 محطة، وفي كل واحدة صندوق ينتظر فتحه لنكتشف عوالم جديدة.

أصدر بو كلثوم قبل «طالب» ألبومين، الأول بعنوان «أنديرال» (2015) والثاني «البعبع» (2017)، وعدة أغانٍ منفردة، منها أربعٌ حقّقت له شهرة واسعة نسبيًا، وفتحت له الباب لجمهور جديد ومختلف، هي «ترحال» (2017) و«زملّوا» (2018) و«جوّانا» (2019) و«ممنون» (2020).

يأتي هذا العمل الجديد ليتابع من جهة هذا المشوار الذي بدأه بو كلثوم في وطنه سوريا، ووصل فيه اليوم إلى أمستردام الهولندية، معايشًا تجربةَ اللجوءِ والمصاعب والمعارك التي ترافقها، والتي نجد صورها حاضرة في أغانيه بأشكال مختلفة. ومن جهة أخرى، يقدّم الألبوم صورة جديدة وتجربة مغايرة عن التجارب الموسيقية السابقة.

موسيقيًّا وغنائيًا ركّزت ألبومات بو كلثوم السابقة على الراب أكثر من الهيب هوب، وبالتالي اعتمدت الأغاني، بشكل واضح، على قوّة الكلمة والأساليب اللغوية؛ مثل القوافي والجناس اللفظي، وبقيت الموسيقى أقرب إلى إيقاعات (beats) يلقي بو كلثوم كلماته فوقها. أمّا في الألبوم الجديد، فنجد الأسلوب الموسيقيّ أقرب إلى الهيب هوب، وتحت مظلّته أنماطًا مختلفة، بينها الجاز والـ«آر أند بي» (R&B) والفانك (funk)، وأخرى شرقية، أقرب إلى ألحان شامية، باستثناء أغنية «مونولوغ صفر» التي نسمع فيها تأثير النمط التراثي الفولكلوري لموسيقى المغرب العربي، وبالأساس تونس والجزائر. بالتالي، نشهد في ألبوم «طالب» تجديدًا موسيقيًّا، فيه تجريبية ودمج لأنماط مختلفة.

من ناحية المضمون، وبخلاف ألبوماته السابقة التي تمحورت حول الواقع السوريّ والنقد المجتمعي، يصوّر هذا الألبوم تجربة أكثر شخصية، ترسم عبر الكلمات والأداء صورًا ومشاهد تنظر عميقًا في تجربة اللجوء، ومشاعر اليأس والغضب والفقدان. سبق أن برزت هذه الثيمات في أغاني بو كلثوم المنفردة والتي تناولت اللجوء والحنين، كما جاء في أغنية «جوّانا» على سبيل المثال. لكن الألبوم الجديد، ولكونه عملًا موسيقيًّا يتكوّن من عدّة أغانٍ، فإنه استطاع عرض تجربة أغنى، تناولت جوانب مختلفة من تجربة اللجوء وصناعة الموسيقى ومن موقع أكثر تقدمًا في فهم الذات وإدراكها. تستعرض أغاني الألبوم الرحلةَ التي مرّ بها بو كلثوم منذ بداية مسيرته الحياتية، الحياتية لا الفنيّة، لأنه يذكر تجارب سبقت قراره خوض عالم الموسيقى، ليربط بين كل هذه المحطات، ويرسم صورة جديدة أكثر ما يميّزها مواجهة الشخص لنفسه، لأفكاره ومشاعره، بتركيباتها وتناقضاتها، بنورها وعتمتها.

وغى النجوى

تفتتح أغنية «وغى النجوى» الألبوم، وتُعلن بكامل المصارحة نوايا هذا العمل، حيث يضع بو كلثوم ثيمة العلاقة مع المستمع في المقدّمة. يصارحنا في أول جملتين ويقول: «ومش جاي أناطح فيكم حد / شياطيني أكبر من بُنا بيتي». إذا تمعنّا في أغاني الألبوم، نجد أشخاصًا حاضرين دائمًا مخاطبين غائبين، يجلسون في عالم خيالي أمام هذا العمل ويسمعون «وغى النجوى». للنجوى معانٍ عديدة، لكنها في سياق الألبوم أقرب للمناجاة، أي الحوار الداخلي الذي يعبّر فيه الشخص عن مشاعره العميقة وأفكاره، ويخاطب فيها شخوصًا غائبة أو أشياء مجردة. هي الصوت الذي يخرج من البطن، من داخل النفس؛ كما يقول بو كلثوم لاحقًا في أغنية «يه، يه..»: «وبيسألوني ليش بتغني وبتراب؟ يه يه / لح ضل عم غني من بطني ليبطني التراب»، وكأنه يقول إن جميع هذه الأغاني بوح صادق وشفاف لما يكمن داخله من شعور وإدراك. 

«وغى النجوى» أقرب إلى موّال أو حتّى ابتهال، يعلو فيه صوت بو كلثوم الجميل والدافئ إلى طبقات تغلّف المستمعين بموسيقى ساحرة، أشبه بمقدمة سيمفونيّة، لاعتمادها على عدّة آلات وترية ونفخية، تجذب الأُذن، وتُنذر بتلك الصور الشخصية الجميلة ولكن القاسية التي سيُخرجها بو كلثوم من جوفه، فيقول: «بلبس دروسي أوسمة صدري / ما كسرته الناس للحامل جبال / كل ما هدّتنا عدنا». بهذا، تقدّم لنا هذه الافتتاحية القصيرة صورة مصغّرة للألبوم، الذي هو عبارة عن مونولوغ طويل يشاركنا فيه بو كلثوم بالدروس التي تعلّمها من معارك الحياة، معارك تُعيد الإنسان أحيانًا إلى نقطة الصفر -كما يقول في الأغنية الثانية- لكنها بقدر ما تشكّل عقبة وعائقًا، فإنها بمثابة نقطة الانطلاق نحو الأعلى، نحو البصيرة والأمل.

من الصفر

تبدأ الأغنية الثانية في الألبوم من نقطة الصفر وتتخذها موضوعًا لها، إذ تكمل الافتتاحية التي تنتهي بـ«ما من الصفر الرجال». للأغاني في الألبوم تسلسلٌ ذكي وواعٍ، ومَن يصغي ويتتبع الأصوات، يجد خيطًا رفيعًا حاكه بو كلثوم بحساسية عالية، هذا الخيط يربط الأغاني، فيظهر الألبوم بالتالي مترابطًا، وعملًا فنّيًا له ثيمة واضحة، وأسلوب متجانس، مميّز وتجريبي في الوقت نفسه. 

يمكن تقسيم مبنى الألبوم إلى جزأين. في الأول، والذي ينتهي عند أغنية «شيڤا»، يكشف بو كلثوم تفاصيل رحلته، من الطفولة ومصاعب تلك الفترة، إلى النزوح عن البيت والوطن، وصولًا إلى تجربة الحياة في الغربة وفي عالم الموسيقى، فيقول، «تغيّرت القارّة ونَفسه قاضي المحكمة». وتأتي نهاية هذا الجزء أغنية «هاي بو» للحديث عن الانتهازيين الآتين من ماضي الفنان ليحتلوا مكانًا ما في حاضره.

تكسر أغنية «شيفا» هذا التسلسل، وتشكّل نقطة التحوّل في الألبوم، وتعكس التحوّل النفسي للشخص. تتناول الأغنية موضوع تحطيم الصناديق التي تأسر الإنسان في عتمتها وظلام تكرار الماضي. بالتالي، يعكس موضوعها ما أعتقد أن بو كلثوم يحاول صنعه في ألبومه؛ الخروج إلى النور عبر مواجهة الذات وتغيير واقعه. تتحول الأغنية بدورها وترتيبها في الألبوم إلى جسر عبور نحو مرحلة أخرى.

أمّا الجزء الثاني فنجد فيه تركيزًا أكثر على عرض التغيير الذي مرّ به بو كلثوم، ويصوّر بالأساس المشاعر والأفكار تجاه معارك الماضي، لكن من نقطة الحاضر. 

بكلماتٍ أخرى، يبني التسلسل محورًا زمنيًا يُرتّب تجربة بو كلثوم الحياتية والفنية، وفي الوقت نفسه يأخذنا من يأسه وامتعاضه، إلى رضى وقبول ذاته والمسار الذي مرّ فيه.

تشكّل صورة الغلاف قطعة أخرى من لوحة الألبوم، وتعكس ثيمته الأساسية. يقول بو كلثوم في بداية «مونولوغ صفر»: «وياما واصل ع الحفة ومدندل رجليي عنها / عم بتطلع ع الهاوية وشو رافع رجليي عنها». يجلس بو كلثوم، كما نرى في صورة الغلاف، على حافة سقف سيارة، رجلاه «مدندلات» عنها. يمكن اعتبار المركبة مجازًا للحياة، أو لنكن أكثر دقة، لرحلة الحياة. أحيانا نجدها تتوقف في لحظات التأمل والإدراك، حين ندخل عوالم داخلية ونترك هذا العالم الخارجي لبرهة من الزمن فنعود إليه مجددًا بعد أن أتممنا النظر في ذواتنا. أمّا الأشخاص المجهولون الجالسون داخل هذه السيارة، بلباسهم الغامق والداكن بالمقارنة مع ملابس بو كلثوم فيُشير إلى أنهم «الشياطين» الداخلية أو «وحوش العقل الباطن» الذين يذكرهم بو كلثوم مرارًا في الألبوم، والذي يرافقونه في رحلته الحياتية. وفتح باب السيارة يشدّد مرة أخرى على أن الألبوم بمثابة باب مفتوح لنا، الجمهور، يدعونا للقفز والغوص عميقًا في العالم الداخلي لهذا الفنان. 

إلى الجمهور

يخاطب بو كلثوم من خلال الحوار الداخلي في الألبوم شخوصًا مختلفة. في أغنية «هاي بو»، على سبيل المثال، يخاطب الفئة الانتهازية من الناس، وفي أغانٍ ثانية، مثل «مش هون»، يقول: «أنا هدفي إني حقق، إنتو الهدف الجمهور»، مخاطبًا فئة الفنانين والموسيقيين. لكنه يولي أهمية خاصة وكبيرة للجمهور. يذكر بو كلثوم في عدد من الأغاني علاقته بالجمهور، ويسلط الضوء بشكل خاص على جانب معيّن من هذه العلاقة: حين يصبح الجمهور رادعًا للتطوّر. يكشف بو كلثوم في عبارات معيّنة، أحيانا قصيرة للغاية، عن علاقة شائكة ومعقّدة مع جزء من جمهوره. نجد رسائله القصيرة للجمهور مبعثرة على طول الألبوم، لكنها بارزة بشكل خاص في أغنيتي «مش هون» و«يه، يه..».

تبدأ أغنية «مش هون» بالكلمات التالية: 

موسيقى العامة موجودة و بكثره برّا إن شئت
بس ما تطالبني بكيفك لإن موسيقتي مش للپليبز[1]
برسم مشاهدي بالموسيقى خالي مش بالكليپز
بس أنا الشايل الموضوع وكلنا صرنا إن صرت
معكم تجاربي بس بيضل إلي صوتي.

يسعى بو كلثوم من خلال هذه الكلمات لإيصال ما مفاده أن موسيقاه ليست للكلّ ، إنما لجمهور معيّن، بإمكانه استيعابها وإدراكها. عندما يقول «ما تطالبني بكيفك» فهو يتصدّى لذلك الإلحاح، الذي يصبح أحيانًا عنيفًا من جهة الجمهور، والذي يُطالب الفنان بالمزيد من الأغاني التي تتبع أسلوبًا واحدًا ووحيدًا وتقديم أعمال مشابهة لأعمال قديمة، وهو فعلًا ما حدث مع صدور هذا العمل الجديد، إذ إن جزءًا كبيرًا من جمهور بو كلثوم انتقد الألبوم لعدم تقديمه أغان مشابهة لـ«جوّانا» و«ممنون»، وعبّروا عن خيبة أملهم في هذا العمل. هذا الجانب من علاقة الفنان بالجمهور مركّب وصعب، ويمكنه أحيانًا أن يصل إلى مرحلة يخضع فيها الفنان لهذا الإلحاح والمطالبة، فيفقد هويّته كفنان ويصبح مجرّد ماكينة تصنع المزيد مما هو ناجح ورائج. بكلمات أخرى، تتحوّل رغبة الفنان في إرواء عطش الجمهور إلى عائق لتطوّره الشخصي والفنيّ؛ من يقع في هذا الفخ يفقد جوهر الصناعة والإبداع، ويحصر نفسه في دائرة تكرار خالية من أي تجديد وتجريب. 

عندما يقول بو كلثوم: «معكم تجاربي بس بيضل إلي صوتي» فإنه يرسم حدودًا واضحةً بينه وبين الجمهور؛ نعم، يشاركنا بو كلثوم في أعمق تجاربه، أفكاره، ومشاعره، ولكنه يبقى في النهاية مالكًا لصوت داخلي شخصي فردي، لا يمكن لأحد التحكم فيه وبما سيخرج منه وعنه. يمكن بالطبع لأي شخص في الجمهور أن ينتقد أو يعبّر عن إعجابه أو عدم إعجابه بعمل معيّن، لكن قيمة العمل الفنيّ من ناحية جمالية، فكرية، وإبداعية ليست مرتبطة مباشرة فقط مع رأي الجمهور. 

شيڤا وموسيقى الألبوم

بالإضافة إلى الأساليب اللغوية والإبداعية المختلفة والأداء الجميل الذي يرسم عن طريقه بو كلثوم طيفًا واسعًا من المشاعر، يبرز عمله في الألبوم منتِجًا. 

يمكننا تناول الألبوم موسيقيًا عبر أغنية «شيڤا»، حيث يصوّر بو كلثوم نفسه كمن يكسر الصناديق ويخرج عن القاعدة. الصناديق هنا لها أكثر من بُعد مجازي؛ بإمكاننا تناولها بالسياق الذي ذكرته في البداية، والذي بحسبه يُصبح الصندوق بمثابة العلبة التي تكمن داخلها التجارب والمشاعر التي أغلق عليها في النفس، والتي يُخرجها بو كلثوم اليوم إلى النور عبر ألبومه. بإمكاننا أيضًا تناول هذه الصناديق بالسياق الموسيقيّ الفنيّ، حيث تتحول إلى المربعات التي نجدها على أوراق التدوين الموسيقية، أي أوراق النوتات، والتي تترتب عليها النغمات على طول الصفحة. تكسيرها يعني محو الخطوط الواضحة التي لا تفصل فقط بين المقاطع الموسيقية المختلفة بل تحصرها أيضًا في إطار صارم وصلب. عندما يذكر بو كلثوم المترونوم (أي بندول الإيقاع أو ضابط السرعة في الموسيقى)، وعندما يقول «أنا مو جاية عد جاية هد»، فهو يعبّر عن نواياه في كسر القواعد وعدم اتباع القوانين التقليدية للمقطوعة الموسيقية. إن نظرنا إلى الموسيقى في الألبوم، نجد فيها الكثير من التجريب والابتكار ودمج أساليب موسيقية مختلفة، مما يُغني الألبوم، ويثري تجربتنا السماعية.

يدمج بو كلثوم أنماطًا موسيقية شرقية وغربية، فمثلًا، في الجزء الثاني من أغنية «مونولوغ صفر» يوحي الإيقاع بألحان عربية، من المغرب العربي تحديدًا، لكن في الوقت نفسه فإن لها طابعًا غربيًا قريبًا لموسيقى الجاز، خاصةً في استعمال آلات النفخ. هناك استعمال كبير في الألبوم لآلات وترية ونفخ مختلفة ومتعددة، وأحيانا يصبح صوت بو كلثوم وأداؤه أشبه بآلة تضيف طبقة فوق الكلمات المحكية والمغنّاة. 

في أغانٍ مثل «هاي بو» و«مش هون» يبرز أكثر تأثير هيب هوب وراب الساحل الغربي في أوائل تسعينيات القرن الماضي، المستلهمة بالطبع من الفانك (Funk) والسول (Soul). يمكن سماع تأثير هذه الموسيقى بشكل واضح في الألبوم، وهو تأثير واعٍ يستعمله بو كلثوم أيضًا كأداة إضافية لتكملة مشاهد تلك الرحلة داخل نفسه وتجاربه الحياتية المختلفة، ويمكن اعتبار هذه الموسيقى جزءًا من الموسيقى التي بدأت تشكّل وعيه الموسيقيّ والفنّي عندما كان طفلًا وشابًا. هناك شعور نوستالجي يرافق الاستماع إلى الألبوم، نعود معه إلى سنوات مضت، عشنا فيها، نحن، أولاد جيل التسعينات، فترة نشأت خلالها تلك الأنماط الموسيقية على يد أبرز وأشهر مغني الراب والهيب هوب الغربي. يدمج بو كلثوم بين كل هذه الأنماط المختلفة ويخلق موسيقى جديدة تجريبية تعبّر عن مساره الحياتيّ والموسيقيّ، وعن جيل كامل كبر ونشأ على الأسوار الواقعة بين الشرق والغرب، المتمثلة أيضًا بدمج اللغة العربية بالإنجليزية في الألبوم. 

نهاية الرحلة

نصل أخيرًا إلى المحطة النهائية، نفتح الصندوق الأخير لنجد آثار ذلك المسار الطويل والعميق، ونكتشف القطعة الأخيرة التي تربط بين كل عناصر الألبوم المختلفة، وتعطينا نهاية الصورة الشاملة لهذه التجربة السماعية والشعورية. تبني كلمات الأغاني في الألبوم لغة واحدة تتأرجح بين التحدّي والمواجهة، والحساسيّة والهشاشة الرفيعة. ثنائية القوّة والهشاشة كانت حاضرة وبارزة دومًا في أغاني بو كلثوم، لكن ما يميّز ألبوم «طالب» هو المساحات الجديدة التي يصل فيها الألبوم من حيث امتلاك هذه الثنائية وتحويلها بشكل واع إلى موضوع بحد ذاته.

تنقسم أغنية «تغيّرت» إلى قسمين، مستحضرة تلك الثنائية في بنيتها وهيكلها. تبدأ الأغنية بلحن شرقي شاميّ وبأسلوب الشعر المحكي (spoken word)، وتنقلب في نصفها الثاني إلى لحن وإيقاع هيب هوب غربي مع أسلوب غنائيّ، يستخدم الأداء والصوت بطريقة أكثر إيقاعية. يدرك بو كلثوم في نهاية هذه الرحلة أن «الحمل تقيل، بس كمان الحلم كبير»، وكما يقول في أغنية «شمال»: «يلي أعطاني حمالي، أعطاني وسيلة». أي أن من يُعطينا خلال حياتنا أحمال هو أحيانًا نفسه من يمنحنا الوسيلة التي من خلالها نستطيع السير قدمًا، باحثين عن ملاذ ومنفذ للشفاء عبر الصناعة والإبداع. بقمة الحميمية يصارحنا بو كلثوم ويقول:

بتبدا تتعلّم يوم بتعرف إن ما بتعرف شي
بتبدا تتعلّم، يوم بتوعى إنك ما بتعرف فيك
يوم بيبطل نفس السم يشفيك
بتنمو يوم بترفض إنك نفس الجوره ونفس اللوب تعيد
مرة مازن حكى جملة علّقت براسي منيح
يا رب ألهمني أتغير قبل ما أخلق تغيير
زمان كنت خايف شارك شو بحس ليشوفوني ضعيف
اليوم أنا أنا، ووقت الجد وجهي التاني يجيك 

يُدرك بو كلثوم أن الهشاشة والحساسيّة ليست ضعفًا، بل هي بحد ذاتها القوّة والقدرة على سبر أغوار الذات، والنظر عميقًا في التجربة والتعلّم، و«كسر سايكل جيل». يقول قريبًا من نهاية الأغنية بأنه «لح يوقع المرّة العاشرة بس ليقوم للـ11»، وهل هي صدفة أن الألبوم يضم 12 أغنية؟ لا أعتقد، فالألبوم بحد ذاته وسيلة ونتاج النهوض مرة أخرى من نقطة الصفر. أمّا الدرس الأخير الذي يشاركنا فيه بو كلثوم هو أنه كان وما زال «طالب هالحياة، وكل طالب حامل نعش»؛ «طالب» بمعنى من يتعلّم من تجارب الحياة وأيضًا بمعنى من يطلب الشيء، أي من يسعى في حياته القصيرة والعابرة على هذا الكوكب خلق وإحداث تغيير، في ذاته أوّلًا وفي العالم الخارجي ثانيًا. ما يجعل «حمل النعش» أسهل هي تلك الرحلة داخل الأعماق حين يجد المرء صورة نفسه التي بهتت ألوانها وتوارت ملامحها في معارك الحياة. عندها، يقف على حافة الماضي والحاضر، وينظر إلى المستقبل بعيون زال عنها ثقل الذكريات.

  • الهوامش
    [1] (Plebs) وتعني عامّة الشعب، وعادة ما تستخدم بشكل مهين.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية