«إيريالز»: دبي تحت الغزو الفضائي

السبت 04 تموز 2020
من مشاهد الفيلم. حقوق الصورة لموقع ذا ناشونال، ومن تصوير نينا سارجسيان

أعلنت شبكة نتفلكس في أيّار/مايو الماضي عن أن فيلم الخيال العلمي الإماراتي «إيريالز» سيكون متاحًا للمشاهدة على منصتها، منتصف حزيران/يونيو، وبذلك فإن الفيلم الذي قد أنتج قبل أربعة أعوام، ونال فرصة متواضعة للعرض في بلد إنتاجه، أصبح متاحًا أمام جمهور أوسع، سيكون بعضه مهتمًا بالتأكيد بمشاهدة ما قد يحدث لو تعرضت دبي لغزو فضائي، كما يقول الموجز التعريفي للفيلم. 

وصلت أول أعمال الخيال العلمي، بمعناه الحديث، إلى اللغة العربية على يد إبراهيم المازني حين ترجم رواية «آلة الزمن» لهربرت جورج ويلز مطلع القرن العشرين. تبدو ترجمة المازني شديدة الاختلاف عن النص الأصلي، وربما يرجع بعض من ذلك إلى الصعوبة التي واجهها المازني في ترجمة اصطلاحات جديدة على العربية، لكن ومع هذا فإن قسمًا كبيرًا من تلك الاختلافات يبدو راجعًا إلى إعادة كتابة النص، كما لو أنه تعريب للرواية أكثر منها ترجمة لها.

لم تتح مستويات البحث العلمي والإنتاج التكنولوجي شديدة التواضع في المنطقة العربية، والهزائم العسكرية المتتالية سياقًا ثريًا لإنتاج خيال علمي محلي

وبالرغم من تلك العلامات المبكرة على شهية عربية لإنتاج أدب خيال محلي، فإن تحقق ذلك احتاج لوقت طويل. ففي العام 1947، نشر توفيق الحكيم «في العام مليون» التي يعتبرها البعض القصة الأولى في العربية من صنف الخيال العلمي، وبالإضافة إلى قصص أخرى له، مثل «شاعر على القمر» (1972)، و«حديث مع الكوكب» (1974)، ينسب للحكيم كتابته لأول مسرحية عربية من النوع نفسه بعنوان «رحلة إلى الغد». لكن الحكيم وظّف الرحلات عبر الزمن والفضاء كمجرّد سياق أو بنية تصل بالشرط الإنساني لحده الأقصى، بغية مناقشة أسئلة وجودية، دون خوض مغامرة تصوّر معقد لعوالم أخرى وإمكانات مستقبلية للحياة. ويبدو أن حدود الخيال الآمنة تلك تظل ملازمة لأعمال الخيال العلمي العربية سواء المكتوبة أو المرئية. فمستويات البحث العلمي والإنتاج التكنولوجي شديدة التواضع في المنطقة العربية، والهزائم العسكرية المتتالية لم تتح سياقًا ثريًا لإنتاج خيال علمي محلي. فأعمال الخيال العلمي الفنية على مستوى العالم ارتبطت دائمًا بسياق مزدهرٍ علميًا وبمشاعر التفوق والثقل السياسي، ولا عجب أن يصل الخيال العلمي إلى أقصاه في كلٍ من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة في ظل الحرب الباردة. وربما بسبب ذلك، ضمن أسباب أخرى، اقتصرت أفلام الخيال العلمي المصرية في معظمها على الكوميديا، من البداية في «السبع أفندي» (1951) و«رحلة إلى القمر» لإسماعيل ياسين (1959) وصولًا إلى «خطة جيمي» (2014). وإن كان هذا لا ينفي أن هناك أفلام عربية تناولت الخيال العلمي بشكل جدي مثل «قاهر الزمن» (1987)، أو بتركيز أكثر على الجماليات مؤخرًا مثل أعمال الفلسطينية لاريسا صنصور، لكن تظل تلك استثناءات.

وفي الوقت ذاته فإن الموضوعات السياسية الملحة التي لطالما هيمنت على الحقل الثقافي العربي قد طبعت الأعمال المنتجة بصبغتها. وفي حالة أدب الخيال العلمي، يظهر ذلك في كثير من الأحيان، وكأن العناصر الخيالية ليس إلا أداة لإسقاطات سياسية على الحاضر والمألوف. فنجد على سبيل المثال رواية «قاهر الزمن» للمصري نهاد شريف (1972) معنية بنقد النظام الناصري بطريقة مستترة، و«السيد من حقل السبانخ» لصبرى موسى (1987) تركز على ديستوبيا سياسية بتأثير أورويلي واضح، وسلسلة الفتيان المصرية «ملف المستقبل» على سبيل المثال كانت تكرر ثيمات وطنية وقومية، بإشارات مباشرة إلى الصراع العربي الإسرائيلي، وكذا فإن أعمال السوري طالب عمران الغزيرة حملت مضمونًا سياسيًا دائمًا. 

يعاني «إيريالز»، فيلم الخيال العلمي الإماراتي الأول، من مشكلة ضيق مساحة الخيال نفسها، فالغزو الفضائي لدبي ليس سوى مبرر لطرح أسئلة وجودية واجتماعية تتعلق بالحاضر أو الطبيعة البشرية بالعموم، ويمكن طرحها في أي سياق آخر، وإن كان نموذج الكارثة يتيح إمكانية دفع تلك الأسئلة إلى حدودها القصوى. وعلى العكس من التقاليد الكوميدية لأفلام الخيال العلمي المصرية، فـ«إيريالز» فيلم جاد وإن كان لا يخلو من مفارقات حوارية ساخرة، من نوع السخرية الضمنية. انعكست الميزانية المتواضعة للفيلم، 200 ألف درهم فقط (حوالي 54.5 ألف دولار)، على العناصر البصرية فيه، فمعظم الأحداث تدور في شقة مغلقة، ربما باستثناء مشهد يتكرر خلال الفيلم لأفق مدينة دبي وكرة معدنية هائلة معلقة في سمائها، ويترك هذا المشهد انطباعًا قويًا. فمن ناحية تبدو دبي بأبراجها الزجاجية/المعدنية التي تخترق الأفق أليق مدينة عربية بفيلم خيال علمي، وبترسيخ لصورتها العمرانية كمدينة للمستقبل أو من المستقبل. فبالقياس على صور الميدان الأحمر وقُبب الكرملين في أفلام الخيال العلمي السوفيتية والصور الأفقية للبنتاغون والبيت الأبيض في مقابلها الأمريكي، يبدو «إيريالز» وكأنه يستحضر دبي إلى مركز العالم وربما أكثر، فخيالات الحرب الباردة لم تكتفِ بأيقنة واشنطن وموسكو كمراكز أرضية، بل وكونية أيضًا، وبالتالي، أن تظهر مدينة في فيلم لغزو فضائي يجعلها بشكلٍ ما في موقع ثقل على مستوى كوكبي. 

يقتصر عنصر الخيال العلمي في الفيلم على معرفتنا من نشرات الأخبار بأن هناك حضورًا فضائيًا غامضًا له تأثيرات على مستوى العالم لا يمكن الجزم بمصدرها. الفيلم الناطق بالإنجليزية في معظمه يتميز بنص جيد، ذكي أحيانًا ليست بالقليلة، يتناول سؤال مواجهة الكارثة والطارئ، وكيف يكون المجهول خلاصًا أو وعد به للبعض وتهديدًا للبعض الآخر، مركزًا على فكرة العجز الإنساني وهشاشة المعرفة، التي تبدو متضاربة دائمًا في الفيلم. وما يدفع إلى المزيد من الإعجاب بنص الفيلم، هو التشابهات بين أحداثه وبين ما يواجهه العالم اليوم في ظل الإغلاق الكامل بسبب الوباء. فبطلا الفيلم غير قادرين على مغادرة محل سكنهما، عزلة شبه كاملة مع نقص في الاحتياجات الأساسية، بالإضافة إلى شعور بعدم اليقين الدائم، وعجز الرسمي حول العالم عن تفسير ما يحدث أو مواجهته.

تتبع سردية الفيلم الكثير من الخطوط الأساسية التي فصلتها سوزان سونتاغ، في مقالتها الشهيرة عن أفلام الخيال العلمي الأمريكية، «تخيل الكارثة» (1965)، فكما تقول «لا تدور أفلام الخيال حول العلم. إنها تدور حول الكارثة»، كما في: «إيريالز» أيضًا. تذهب سونتاغ إلى «أن الرضا الآخر الذي تمنحه هذه الأفلام هو التبسيط الأخلاقي الشديد»،[1] وهو ما يتبدى أيضًا في حوارات بطلة وبطل الفيلم الإماراتي التي تدور حول أسئلة قطبية مختزلة، وإن كان يظل معظمها بلا حسم: التفسير العلمي مقابل التفسير الخرافي، نظرية المؤامرة مقابل التحليل المنطقي.

واحدة من الخطوط التي يخرج فيها «إيريالز» عن مخطط سونتاغ هو العنف، ففيما تذهب هي إلى أن «الخيال علمي يهتم بجمالية التدمير، فعلى مواطن الجمال الخاصة أن تتجلى للعيان وسط عيثان الفساد وإحلال الفوضى»، فإن مخرج الفيلم الإماراتي، على زيدي يصرح لجريدة البيان بأن تحاشي العنف في فيلمه كان عمديًا: «حاولنا قدر الإمكان الابتعاد عن مشاهد الدمار التي عادة ما تعتمد عليها أفلام هوليوود». وبرر هو ذلك بأنه أراد «التركيز على ردة أفعال الناس وتصرفاتهم»، لكن أيضًا يمكن تصور أن مشاهد تدمير لمدينة دبي لم يكن في الأغلب ليحظى باستقبال إيجابي لا من السلطات أو الجمهور في الإمارات.

نص الحوار في الفيلم يظل أقوى عناصره، وإن كان يبدو أحيانًا كثيرة مناسبًا لمسرحية أكثر منه لعمل سينمائي، ويفسده مستوى تمثيل شديد الضعف، وهو ما ينسحب أيضًا على صورة متواضعة الجماليات في المشاهد الداخلية، أثقلها إيقاع بطيء وبالأخص في الثلث الأخير في الفيلم الممتد لتسعين دقيقة. في النهاية، يصعب إطلاق صفة الخيال العلمي على الفيلم في الحقيقة، الذي يمكن تصنيفه على أنه دراما اجتماعية، لكن الطموح المحبط لـ«ايريالز» يبدو تعويضه الأساسي في محاولة أيقنة مدينة دبي بدمجها في مشهد فضائي مستقبلي، مؤكدًا على العنصر الدعائي الذي يبقى، حتى دون قصد، في القلب من كل خيال علمي.

  • الهوامش
    1) سوزان سونتاغ، ضد التأويل ومقالات أخرى، ترجمة نهلة بيضون، المنظمة العربية للترجمة، صفحة 304.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية