افتخر واصمت: السياسة عند الدرجة صفر

الأحد 11 نيسان 2021
في انتظار بداية موكب نقل 22 مومياء ملكية مصرية إلى المتحف الوطني الجديد للحضارة المصرية، في 3 نيسان، 2021. تصوير محمود خالد. أ ف ب.

«حربٌ واحدةٌ التي ندرُسُها مهما كَتَبنا، حتى وإن كُنّا نَكتُبُ عن تاريخِ السلامِ ومؤسساتِه».
– ميشيل فوكو

بعد العرض الأسطوري الذي قدّم في موكب نقل المومياوات الفرعونية من المتحف القديم إلى المتحف الجديد الكبير، عبر ميدان التحرير بالعاصمة المصرية، كانت هناك أنواع عديدة من التعليقات من المتابعين، تراوحت بين اعتزاز بتاريخ، وخوف على هوية تاريخية أخرى، وامتعاض من الدولة واختياراتها في إنفاق المال العام، وغيرها من التعليقات التي ربما تتكرر في كل حدث رسمي كبير مثل هذا. أريد في هذا المقال أن أتناول ثلاثة أنواع من التعليقات التي رافقت هذا الحدث، مما سيقودنا إلى نتيجة مثيرة للتأمل حول علاقة النظام الحالي في مصر بمواطنيه.

لقد حاولت مجموعة من المعلقين تحويل هذا الحدث إلى موضوع معرفي: هل كان الفراعنة حقًا عادلين؟ هل بُنيت الأهرام بالسخرة؟ لماذا نحتفي بالملوك ولا نحتفي بعامة الناس؟ هل نمتّ -بالفعل- بصلة جينية إلى الفراعنة أم إلى عبيدهم، أم أن الزمان قد شابنا بأخلاطه؟ إلخ. 

استُدعيت الهوية الفرعونية لمصر في أحوال كثيرة عبر القرن العشرين، إذ استدعيت لترسيخ القومية المصرية خلال تجربة النضال ضد الاستعمار، وضد دوغمائية التفوق الأوروبي الأبيض، وهي في هذه الحال لم تكن تفرّق بين الفخر بالفراعنة والفخر بالنبي موسى وبرحلة العائلة المقدسة إلى مصر. كما استُدعيت لترسيخ الوطنية المصرية في مقابل القومية العربية، إزاء مشكلة التخلف، لتقول إننا أهل للحاق بالأوروبي الأبيض، وأن امتدادنا الحضاري صاعد إلى الشمال لا إلى الشرق. وكرّة أخرى استُدعيت الحضارة الفرعونية لمواجهة الصحوة الإسلامية وحركات الإسلام السياسي، وفي خضم سنوات الحرب الباردة الطويلة، لتقول هذه المرة إننا مستقلون بما يكفي ولا نحتاج إلى انتماء آخر بجوار انتمائنا المصري الصافي، رغم الاعتزاز أيضًا بالتاريخ القبطي لمصر، بوصفه -للعجب- جزءًا من التاريخ الفرعوني. كما استعيد التاريخ الفرعوني أيضًا في الثقافة الشعبية في فترة التسعينيات، بوصفه شاهدًا لدولة «العلم والإيمان» التي «أراد» الرئيس الراحل محمد أنور السادات لها أن تهيمن، بما يقرره لها من مفاهيم، على كافة التوجهات السياسية والفكرية في مصر، فأصبح أخناتون أول موحّد في التاريخ، وأصبحت المسلات الفرعونية «أصابع التوحيد المُشيرة إلى السماء» وكما عقدت صلة بين أوزوريس والنبي إدريس.

لقد حضر تاريخ الفراعنة في العصر الحديث دائمًا بوصفه حوارًا مع تاريخ آخر، بشكل مختلط وانتقائي. لكن كل هذا الخلط لم يكن حكرًا على علاقة المصريين بالتاريخ الفرعوني أو بغيره، بل كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بطبيعة علاقة الحداثة بالتاريخ بشكل عام. فكما أشار المنظر البريطاني تيموثي ميتشل من قبل: «لقد بدا مع مطلع القرن العشرين أنك لكي تكون حديثًا يجب أن تكون قديمًا». لقد كان للتاريخ دور أساسي في نشأة قوميات العالم الحديث، ودور أنطولوجي أهم في تصور «الأمة» لذاتها، بوصفها «قديمة وسيدة على أراضيها» منذ الأزل. ولعب «المتحف» -كما أشار منظّر «الجماعات المتخيلة» بندكت أندرسن- دورًا رئيسيًا في هذه المعادلة. فإلى جوار الخريطة وانتشار المطبوعات، مثّّل المتحف أيقونة رمزية للعلاقة الممتدة المتصلة بين الأمة وبين تاريخها. لقد احتاجت الدولة/الأمة للتاريخ من أجل توفير مبرر ثقافي لشرعيتها، رغم كونها حديثة التشكّل، أو مستقلة مؤخرًا عن إمبراطورية استعمارية ما، وقام المتحف بتوفير شريط سينمائي -معروض مكانيًا- يمكنك من خلاله أن تتمشّى بين مراحل تاريخ أمتك التي انصهرت في أيديولوجيا هويتك الحديثة. 

لقد حضر تاريخ الفراعنة في العصر الحديث دائمًا بوصفه حوارًا مع تاريخ آخر، بشكل مختلط وانتقائي.

يصف بيتر سلوتردايك، الفيلسوف الألماني المعاصر، متحف القرن التاسع عشر والقرن العشرين بـ«مدرسة الاغتراب»، لأنه كان يُقدم هذه الانتقائية والخلط في صورة متجانسة، ستصبح مع الوقت هي الطريقة المرئية الوحيدة والمقبولة لسرد التاريخ وعلاقته بالذات المشاهدة. لقد عمل متحف القرن العشرين على هذه الطمأنة عبر تأسيس ذاكرة توحي بعلاقة وثيقة بين المواطن المعاصر وتاريخ أُمته ضاربة الجذور في التاريخ. وربما كان هذا هو السبب في نوع ثانٍ من التعليقات المحتفية التي أثارها عرض موكب المومياوات المصري.

لقد قوبل العرض بنوع لا تُخطئه العين من الامتنان والفخر لدى الكثير من عامة الناس وخاصتهم، ومجرد الدخول على صفحة لأحد المشاركين في تحضير الموكب على صفحات التواصل الاجتماعي، تتلقف العين أعدادًا هائلة من تعليقات الشكر والعرفان والشعور بالجميل، وكأن هذا الحفل قد أعاد في بعض المصريين كل ما فقدوه خلال تاريخهم الحديث. ليست هذه مبالغة، فلا يوحي سيل التبريكات والزهو الذي ضاقت به أرجاء الفضاء الإلكتروني خلال الأيام الفائتة إلا أن أصحاب هذه التعليقات قد وجدوا ما فقدوه من شعور بالثقة والانتماء، وعوضًا عن أي شيء وكل شيء، وكأنهم ما إن غُمّسوا في هذه الاحتفالية غَمسةً قالوا: ما رأينا شقاءً قط.

والحق أنهم قد فقدوا الكثير. وربما أكثر ما يشعرهم بالوحشة، التي تكشَّفَت فجأة مع موكب المومياوات، أنهم فقدوا طمأنينة ما كانوا قد اعتادوها تجاه بلدهم، كما افتقدوا «رعايتها» لثقتهم أيضًا، بتأكيدها المُستمر -خلال زمن قد أتى إلى نهايته منذ أعوام- على أنها تتفهم مسؤوليتها تجاه هذه «الرعاية»، وأنّ من الواجب عليها صيانة شعور «رعاياها» بالانتماء لتاريخهم. لقد اعتادت دولة الرعاية تلك على أن تقدم نفسها كحلقة وصل موثوقة، لا تضمن التراث فحسب، بل ترعى شعور «رعاياها» بأمانهم الوجودي الموصول بتاريخهم. لقد تأسست علاقة المواطنين -الرعية بالأحرى- في ظل دولة الرعاية، على عدد من الشروط الوجودية، أهمها أن المواطن «فرع» من «أصل» تُمثّله الدولة. وفي هذه الحال، سيشعر المواطن دون دولته -أو دون ما اعتاده من خطاب ترعاه دولته- أنه في مهب الريح وقد تخطَّفه الطير. 

لكن، هل هذا التواصل الوجودي مع الهوية والثقة هو ما يُمكن أن يُرى في «تصوير» المتحف الجديد وتصوير «الانتقال إليه»؟ وهل يقوم بنفس الدور -الانتقائي والترشيحي- تجاه الهوية التاريخية التي قد تُشعر المواطن بالثقة؟ إن بقايا مومياوات الفراعنة وآثارهم التي يجري نقلها الآن إلى المتحف الكبير الجديد، قد انصهرت وذابت لتشكل مخلوقًا رمزيًا جديدًا، يؤدي دورًا ثقافيًا في جهاز الإدراك التاريخي لدى المواطنين، جهاز يتطلب وجوده كل هذا الإبهار البصري والصوتي الاستعراضي، ومليارات الدولارات التي أُنفِقَت على بناء متحف كبير، ومن قبله تفريعة قناة السويس الثانية، والمؤتمر الاقتصادي العالمي، وبناء العاصمة الإدارية الجديدة التي لم تتلق إلى الآن نفس الاحتفاء والتجاوب. ولا يُراد من هذا المخلوق الجديد أن يدل على علاقة «صحية» بين الدولة والتراث، قد يستعيدها المواطن المتشوق للأمن على هويته والاطمئنان على أنه «مرعيٌّ» من قبل جهاز ضخم اسمه الدولة. إن التاريخ الفرعوني هذه المرة، وعلى عكس متحف القرن العشرين الحداثي، ليس موضوعًا في ذاته. ليس القصد ما بداخل المتحف من رموز الهوية، بل القصد هو «المتحف» ذاته كرمز على القدرة العقلانية على الإنجاز والتصرف، المتمثلة فيما يدعوه الفيلسوف الألماني إرنست بلوخ بـ«اختراق غبار التاريخ».

هذا الغبار التاريخي المجازي راكمته السياسات عديمة الشفافية وغير الكفؤة التي مارستها الدولة، وكانت حصيلتها بؤس آلاف من الأفراد والأسر، وفقدانهم الثقة والأمان، والحرية، أو الدخل العادل الذي يضمن حدًا أدنى من الحياة الكريمة، أو فقدان حياتهم نفسها في أحيان ليست بالقليلة. إنه مجاز لحالة الطوارئ والعنف غير المبرر والتعطيل غير العقلاني لمسارات السياسة والتحاور. ففيما يتعلق بالآثار، كان للدولة سجل طويل مع العنف غير المبرر، وآخر هذه الأحداث كان هدم أجزاء من «جبانة المماليك» كجزء من أعمال مد طريق «محور الفردوس»، مما أثار غضب المعلقين والمختصين بالآثار، وكذلك هدم عدة أماكن من المعالم الأثرية في مدينة الإسكندرية.

أما الاحتفالات، سواء كانت بالمتحف الجديد أو بتفريعة قناة السويس أو ما سيأتي من احتفالات، فستعمل رمزيًا داخل جهاز ثقافي يستهدف وعي المواطن -المعذور في تعطشه لدولة تحمي أمانه الوجودي- لكي توحي له بأنه أمام صفحة جديدة من صفحات التاريخ السياسي. لكن هل ستستمر الدولة في نفس النهج المطمئن؟ ربما، لكن ذلك لن يعني شيئًا ما دام الإنجاز يعني في العرف السياسي الجديد مصدرًا للشرعية، التي سرعان ما ستنتج عنفها غير المبرر ثانية، ثم تعود إلى «درجة الصفر» لتتمكن مرة ثانية من ممارسة العنف، وهكذا دواليك.

إن العنف في «السياسة عند الدرجة صفر» -أو لحظات «الصفر القاعدية» كما يسميها رولان بارت- لا يُعد استثناءً، أو حدثًا مؤسفًا ينتهي خلال وحدة زمنية من وحدات الحياة اليومية العادية، بل إنه حضوره في «أفق الإمكان» بشكل دائم، أي كونه محتمل الوقوع لأي سبب، يُلغي لحظات الأمن المجتمعي ويعطلها لصالح الخوف من الممارسات العنيفة التي يُمكن أن تطلّ رأسها في أي وقت. ومن ثم، لن يتبقى فرق، في السياسة عند الدرجة صفر، بين العنف والسلم، إذ هما حاضران دومًا على سبيل الاحتمال، ودون أسس منطقية ملزمة للدولة. 

إن هذا الاختراق لغبار التاريخ لا يهدف إلى طيّ صفحة الماضي العنيف غير العقلاني، أو تقديم صورة عقلانية وكفؤة مغايرة لأجهزة الدولة، تعيد بناء روابط الثقة مع المواطنين كما قد يظن حسن النية، بل يهدف إلى تقديم دولة «قادرة على الاختيار». 

الدولة القادرة على هذا «الإبهار المرئي» هي نفسها الدولة القادرة على ممارسة العنف العشوائي غير العقلاني.

لقد كان من الطبيعي أن يندفع بعض المثقفين المصريين المرموقين، بلوعة وطنية، إلى نوع ثالث من التعليقات يدور حول التساؤل -بعد الإقرار بالانبهار والكفاءة وعظمة التنظيم وما إلى ذلك- عن رشادة الإنفاق وعن سبب «استثنائية» مشهد هذا الموكب ونجاحه، وعن سبب عدم تكرار نفس النجاح في قطاعات أخرى متعلقة بالاحتياجات الأكثر أساسية للمواطنين، وعدم التعامل بنفس كفاءة «العرض» مع ملفات حيوية مثل التعليم والصحة والنقل، خصوصًا أننا على مرمى حجر من حادث قطار سوهاج المأساوي، الذي يُعيد للأذهان تصريح رئيس الجمهورية برفضه التام لإنفاق عشرة مليارات جنيه على تطوير مرفق السكك الحديدية، لأنها في رأيه غير ذات فائدة تذكر. لكن، وللأسف، ربما تمثل هذه التساؤلات تشتيتًا للواقع ههنا: واقعٌ لا ينقصه تشتت آخر في حقيقة الأمر. إن هذه الأسئلة تنطلق من افتراض مُسبق، هو عقلانية الدولة، وقدرتها على العمل ضمن طريق واضح من اللوائح والقوانين والإجراءات ومعادلات الغاية/ الوسيلة. لكن الدولة القادرة على هذا «الإبهار المرئي» هي نفسها الدولة القادرة على ممارسة العنف العشوائي غير العقلاني، والقادر على شق القنوات أو بناء المدن الجديدة، هو نفسه القادر «المريد» لممارسة أقسى درجات العنف الانضباطي تجاه أي تهديد له، وإن كان في آخر سلسلة الاحتمالات.

إن تقديم الحياة السياسية لا بوصفها مسارًا، أو سلسلة من الخطوات التي ينبغي أن تتصف بالشرعية والقانونية، بل بوصفها مجموعة من «الهضاب» المتباعدة، أو لحظات «الصفر القاعدية» (كأن الدولة ينبت لها عقل جديد صفري مع كل فعل من أفعالها)، يُقدم السياسة بوصفها مسألة سيادية محضة، ويقدم السيادة على أنها في حالة تحرك دائم، لا تتصف بهوية أو أيديولوجيا، أو يحكمها التزام قانوني أو عرفي من أي نوع. ستكون السياسة ههنا، أو مرحلة الصفر، صورة لدولة قادرة على سنّ القوانين وتعطيلها، وفي كل حالاتها السلمية قادرة على ممارسة أقسى درجات العنف بلا مبرر.

إن هذا الطابع المبهم من السياسة مقصود في ذاته، وهو نهج سارت عليه كبرى الدول ذات الطابع العسكري، الأمر الذي استشفه الفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير مبكرًا في طبيعة الدول المعاصرة وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية. إنه مقصود لأنه ينقل صورة وحشية للدولة «القادرة على الاختيار» أو «دولة العلاج» القادرة على تنفيذ أكبر المشروعات. وفي نفس الوقت يمكنها التبرؤ من أي عقد اجتماعي قد يظن المواطنون أنه ملزم لها. أي أن تبرؤها هذا ليس فشلًا أو عجزًا، وأنها حين أرادت فعلت، ووفرت الموارد، التي قد يظن المواطن أنها غير قادرة على توفيرها. فالعرض الأسطوري المرئي، والحال هذه، يخفي وراءه عنفًا دمويًا تجاه «الآخر»، ورؤيتك لهذا العرض المثير وقدرتك على الفخر به تعني أنك مطالب، أن تقع في تعاقد ضمني يُلزمك بأن ترى ما تعرضه الدولة، وأن تغض الطرف عما تخفيه عنك، وأن تتعلم الصمت أو أن تتكيف مع العمى الذي يسببه غبار التاريخ، لأنك ستتعلم أن هذا الغبار قد تكثف لدرجة أن معجزة تلزم لإزاحته، وأن الدولة صاحبة العرض البصري المبهر قادرة على صنع المعجزات حين تريد، فانتظرها، وأن الدرب بين آلاف الهضاب المتباعدة لا يخبره إلا عليم حاذق، وقد فات الأوان لتعلم فن الخرائط.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية