ما الذي يمكن أن يقدّمه لنا الأدب في زمن الوباء؟

الأحد 19 نيسان 2020
لوحة «انتصار الموت» للرسام بيتر بروغل، عام 1562.

ما يزيد الأمر سوءًا، أن أحدًا على قيد الحياة الآن لم يعش أزمة مثل هذه من قبل.

ربما تعج صفحات التاريخ بتفاصيل أزمات مشابهة، أقربها لنا الإنفلونزا الإسبانية في 1918 وأشهرها الطاعون الأسود في العصور الأوروبية الوسطى. لكن التاريخ يتحدث عن أرقام وحقائق ونظريات جامدة، سرديته في غاية الأهمية بلا شك لفهم ما يحدث وتوقع تبعاته، لكنها لا تحمل ما أبحث عنه؛ معظم السجلّات التاريخية لا تحمل تسجيلًا دقيقًا لمشاعر فرد وحيد أو أسرة معزولة خوفًا من الوباء، ولا تروي سلوك شخص لا يأبه بالتهديد الذي يحوم حول حياته لكنه يموت رعبًا من وقوع أي سوء لأحبائه. مثل هذه التفاصيل هي ما تهمني الآن، وتهم كلًا منّا على حِدة، في عزلة عالمية إجبارية لم نكن نتخيل حتى احتمالية حدوثها في زمن أعمدته العولمة والتواصل. أحتاج لفهم ما يحدث على المستوى الإنساني الفردي قبل العالمي الجماعي.

بحثت عن غايتي -وربما عزائي- كالعادة في الخيال. سبق ووجدتُ في الروايات والأفلام خير دليل لفهم الواقع أكثر من الواقع نفسه، لم لا يكون الأمر نفسه هذه المرة؟ ولذا، وللتعامل مع أزمة الكورونا الحالية، سأعرض مجموعة من الروايات والأفلام، وأفكر بها معكم.

«الحرافيش»، نجيب محفوظ

فصول قليلة هي كل ما منحها محفوظ لحكاية الوباء الذي عمّ القاهرة. لم يكترث بالوباء نفسه كثيرًا، وسماه «الشوطة» وهو اسم شعبي مصري للأمراض التي تأتي على حين غرة فتنتشر بين الناس، وجعله أشبه بالطوفان ليصنع بطلًا أقرب لنموذج نبي الله نوح، السلف الأول لسلالة طويلة.

حلت «الشوطة» بالحارة، مسرح أحداث رواية الحرافيش لنجيب محفوظ، فصار النعش يسير وراء النعش إلى المقابر كالطوابير. لا فارق بين أعيان الحارة ومتسوليها، يقيء الواحد منهم ويُسهل ثم ينهار ويموت. بين كل ساعة وأخرى يُعلن عن ميت جديد. في الظلام وقف عاشور، بطل الرواية، بجوار سور التكية، المبنى الغامض الذي يسكنه دراويش لم يرهم أحد ولا تنفك تخرج منه أناشيد ملائكية سماوية بعيدة عن الجميع؛ رمز نجيب محفوظ الأثير للسماء وأهلها. تساءل عاشور بعدما لم يجد في أناشيدهم نغمة رثاء واحدة متأثرة بما يحدث: «ألم تعلموا يا سادة بما حل بنا؟ ألم يترام إلى آذانكم نواح الثكالى؟ ألم تشاهدوا النعوش وهي تُحمل لصق سوركم؟».

في هذه الليلة سيرى عاشور في المنام أنه يأخذ أهل بيته ويغادر بهم الحارة إلى الجبل. وسيدعو بقية أهله وسكان الحارة ليفعلوا المثل، لكنهم لن يستجيبوا له، سيخرج وحيدًا برفقة امرأته الشابة وابنها الرضيع، ويعيشون في كهف جبل قريب لستة أشهر.

للأسف لم يتعمق محفوظ في وصف شهور العزلة، ربما لو كان فعل لكنت وجدتي ضالتي عنده. لكنه مرّ عليها في صفحتين ذكر فيهما بشكل عابرٍ ملل الزوجة الشابة وقضاء عاشور الفترة في التعبد وتأمل ضعف الإنسان.

عاد عاشور بعد انتهاء عزلته ليجد الحارة خاوية على عروشها، فاتخذ من بيت أحد وجهائها القدامى سكنًا. وعندما ستجتذب الحارة سكانًا جددًا، سيحسبونه من أعيانها السابقين. وسيُلقّب بالناجي لكونه الباقي الوحيد من سكانها القدامى.

عند العودة للرواية هذه الأيّام أثارت انتباهي العبارة التالية: «وقال إن من ربه قريب لا يحجزه عنه شيء، وإنه لا يدري لِمَ يستسلم أهل حارته للموت، ولا لم يُقرون بعجز الإنسان، أليس الإقرار بعجز الإنسان كفرًا بالخالق؟».

على عكس الصورة السائدة في أذهاننا التي يرتبط فيها الهروب والتجنب بالسلبية والعجز، والبقاء والمواجهة صمودًا وشجاعة، اعتبر عاشور الهروب إلى الخلاء وتجنب الناس فعلًا إيجابيًا يتحدى الموت، أمّا البقاء في الحارة فبمثابة الاستسلام له وإقرار بالعجز غير مقبول. 

أظن هذا بالضبط ما أحتاج بشدة لاستيعابه الآن أكثر من أي شيء. في الأعوام السابقة كانت الثقافة العالمية السائدة ثقافة «الفعل»، افعل شيئًا، لا تجلس ساكنًا، الفعل يعني التقدم للأمام، السكون يعني الركود والتحلل. لكن اليوم، ومع وباء الكورونا، باتت الخدمة التي من الممكن أن يقدمها المرء لمجتمعه هي التحلي بشجاعة الانسحاب وصمود الهروب، والصبر في العزلة. سيكون هناك الكثير «لنفعله» بعدما تنتهي العزلة، الآن كل ما نحتاج إليه هو السكون.

«الديكاميرون»، لجيوفاني بوكاتشيو

عندما كتب جيوفاني بوكاتشيو عمله الأشهر «الديكاميرون»، لم ينو سوى تقديم عمل لتسلية النساء بحكايات النميمة الشعبية والخيانات الزوجية والقصص العاطفية بين أبناء الطبقة البرجوازية. لو كان حيًا اليوم لذهل من تحوّل كتابه لأحد أعمدة تطور اللغة الإيطالية وتحرر الأدب الإيطالي من قيود اللاتينية، موضوعًا إلى جانب مع كوميديا دانتي الإلهية.

في ترجمة مختزلة إلى العربية صدرت في خمسينيات القرن الماضي، حملت النسخة المترجمة عنوان «الديكاميرون: ألف ليلة وليلة الإيطالية» ورغم صدور ترجمات أكثر دقة والتزامًا بالنص الأصلي بعدها، التصق بها اللقب، نظرًا لكونها مجموعة قصصية كبيرة ذات إطار روائي واحد تُسرد داخله القصص التي لا علاقة لها ببعض، مثلما في حكاية شهريار وشهرزاد في ألف ليلة وليلة. 

إطار الديكاميرون هو هروب أبطالها من وباء الطاعون الأسود الذي حل بفلورنسا الإيطالية فقتل أكثر من نصف سكانها، وعاش سكانها -مثل بقية سكان أوروبا- في رعب هائل منه لأعوام. بعد عدد من الصفحات التي سرد فيها بوكاتشيو بالتفصيل حال المدينة المظلم بتفصيل أليم، تتغير لهجته فجأة إلى لهجة مشرقة شبه عابثة بينما يحكي عن الشابات السبع الجميلات، بنات العائلات البرجوازية الغنية، اللواتي تجمعن في كنيسة ذات يوم أحد، وقررن الهروب من المرض لاجئات للريف المهجور، ثم قابلن ثلاثة شبّان أخذوهن معهن لأن «جماعة من النساء دون حماية رجل لن تستطيع حكم نفسها بنفسها»، بحسب تعبير الكاتب القروسطي. 

لمواجهة الملل الذي يهدد منفاهم الاختياري، قررت المجموعة تنظيم خطة، بحيث يحكي كل واحد منهم قصة يوميًا، فتُحكى في أيام العزلة العشرة مئة قصة هي مجموع قصص الديكاميرون.

تكاد قصص الديكاميرون المئة لا تكون ذات صلة بالوباء، مزيج من الكوميديا والإيروتيكا والرومانسية والنميمة، جديرة بصحيفة صفراء معاصرة، مع ذلك هي مكتوبة بإحكام أدبي ولغوي عبقري ينقل باحترافية المزاج الشعبي الإيطالي في ذلك الحين.

في عزلتنا الحالية، أجد أن هذا الشكل من الانفصال عن الواقع هو بالضبط ما نحتاج لاستقائه من بوكاتشيو وشبابه العشر؛ أقضي دون أن أشعر جلّ وقتي على مواقع التواصل الاجتماعي في متابعة أخبار كوفيد-19 حتى أكاد أشعر أنني إن فتحت الصنبور فسينزل منه شلال من الكورونا لا الماء.

العزلة، طوعية كانت أو إجبارية، لا تؤدي إلا إلى تغذية الهلع أكثر. سلوك شباب بوكاتشيو العشرة الذي يبدو طائشًا في العيون المتحفظة، ربما يكون الآن الأسلم والأفضل ليحافظ الواحد منا على سلامته العقلية. قد يكون في الانغماس في نشاط مثل تبادل الحكايات، الواقعية منها والخيالية، وقاية من نوبات هلع أخطر من الفيروس المستجد.

«الطاعون»، لألبير كامو

في رواية الفيلسوف الوجودي، يضرب الطاعون مدينة وهران الجزائرية. الطاعون في الغالب أكثر الأوبئة التاريخية حضورًا في عالم الأدب والخيال، ربما لأن هجماته المتعددة في كل أركان العالم، على مدى ألفي عام، كان لها دور حاسم في تغيير مسارات التاريخ. ربما لهذا اختاره كامو عندما أراد استخدام وباء يضرب المدينة في روايته، بدلًا من الكوليرا الذي شهد انتشاره بنفسه في الجزائر عندما كان طفلًا، أو الإنفلونزا الإسبانية التي رغم كونها الأكثر فتكًا تاريخيًا والأقرب إليه زمنيًا، إلا أن موقعها التاريخي عقب الحرب العالمية الأولى وتشتت تأثيرها في العالم كله، جعلاها غير مغرية بالوقوف إلى جوارها وتأمل وقائعها بالنسبة للأدباء والمفكرين البارزين في العالم وقتها، المنشغلين بمسائل أكثر بروزًا وإلحاحًا مثل الحرب الماضية والفاشية القادمة وحرب أخرى بعد قليل.

مثل أي طاعون تاريخي يحترم نفسه، بدأت الحكاية مع الفئران؛ تراكمت جثث آلاف الفئران كل يوم في جميع أنحاء المدينة بشكل غير معتاد. بعد أيام من الارتباك يموت أحد المواطنين بعد أعراض ميزها الأطباء بسهولة أنها أعراض الطاعون الدملي الشهيرة. يهرع الأطباء لتحذير السلطات وحثهم على الاستعداد لمواجهة الوباء القادم، ومثلما هي العادة لدى كل سلطة بيروقراطية في التاريخ، تقابل إدارة المدينة التحذيرات بالإنكار واللامبالاة، مُضيعة وقت ثمين. ثم تستجيب أخيرًا بعدما يصل عدد المتوفين يوميًا إلى المئات، وتبدأ في إجراءات تعقيم المدينة ووضعها بالكامل في الحجر الصحي.

في البداية يتجاهل الناس إجراءات العزلة، وبدلًا من التزام البيوت يملؤون الشوارع وكأنهم يحتفلون بالعطلة. ثم يعم الهلع بعدما يرون بأعينهم الجثث ذات الدمامل تتزايد في تسارع. يشير الراوي عندها، وهو طبيب من شخصيات الرواية، إلى أن الأوبئة كانت موجودة دومًا على مدار التاريخ في كل مكان، على الرغم من ذلك، عندما يقع الواحد منهم ضحية لأي منها، يُذهل الناس دومًا من وجوده. ثم اكتشف الطبيب أنه نفسه، المثقف الذي يعرف الكثير عن التاريخ والأوبئة، لا يقدر على استيعاب ما يجري من حوله وكأنه هذيان. يبدو أن المعرفة بوقوع البلاء الحتمي، مهما مهدت له، لا تخفف من وقعه إلا قليلًا.

في الرواية، غلب على الناس الذين رفضوا تقبل حقيقة الوباء في فترة العزلة الأولى الإنكار، وسيطرت الهموم الشخصية وأخذ كل فرد يبكي مشكلته ومأساته المستقلة، التي هي في رأيه أسوأ حالًا وأكثر أهمية مما يجري مع البقية في الخارج. لكن بعد مرور شهور في تلك الظروف القاسية، تبدأ المأساة في توحيد القلوب حتى تصير مقاومة الوباء، سواء السلبية بالبقاء في العزلة أو الإيجابية عبر إجراءات المكافحة، همًّا واحدًا جماعيًا. ربما كانت تلك الفكرة تحديدًا أكثر ما رغب كامو في التشديد عليه في الرواية؛ رغم العبثية في فعل مقاومة الموت الحتمي، إلا أنه يمكن العثور على العزاء والمعنى في فعل المقاومة ذاته. مقاومة النهاية الحتمية هي ما يجعل للحياة القصيرة العبثية في نظره معنى.

شخصيات الرواية متعددة وتعبر عن وجهات نظر وردود أفعال متباينة، وسنجد صدىً لكثيرٍ من النقاشات التي تملأ مواقع التواصل الاجتماعي في الرواية، حتى الجدال حول جدوى الكمامة في الوقاية وقيمة العزلة نجده هناك. هذا التشابه كان من أهم ما وجدت في الرواية، ومنه أدركت أن ما يحدث الآن حدث من قبل. قد يختلف المرض وتختلف شدته، لكن الوباء يأتي مثلما كان يأتي دومًا، ورد فعل الإنسان هو ذاته الآن مثلما كان قبل مئة سنة مثلما كان قبل ألفي عام. في كل مرة سيصيبنا الذهول نفسه. وفي كل مرة سنتقبل في النهاية وسنتحمل المأساة. 

إدراك الصدى التاريخي وعادية المأساة عند النظر إليها من منظور أوسع كان فيه بعض العزاء، الآن أنا أكثر اطمئنانًا -ولو بقليل- بعدما عرفت أن حالنا ليس فريدًا من نوعه.

«أبناء الرجال»، لألفونسو كوارون

ربما ليس بالإمكان حصر الأعمال السينمائية والروائية التي تناولت مواضيع نهاية العالم بأشكالها المختلفة في العقود الأخيرة. شغلت هذه الثيمات المخيلة الغربية فتناولتها بكل شكل ممكن. حولت الأوبئة البشر لموتى أحياء (زومبيات) مرارًا، ودمرت الأرض الكوارث الطبيعية أو القنابل البشرية تكرارًا، والمستقبل البعيد إمّا يقتل فيه الروبوتات البشر بأسلحة ليزرية، أو يقتتل فيه البشر على شربة ماء لمعداتهم وشربة بنزين لمعدات سياراتهم. وكأن أحدًا لا يصدق إمكانية دوام سنوات الرخاء -النسبي- الذي عاش فيها العالم منذ انتهت الحرب العالمية الثانية، وينتظر الجميع، مترقبين وقلقين زواله.

في هذه الأيام تجد هذه الثيمات إقبالًا متوقعًا لدى المشاهدين، لكن ما نبحث عنه هنا لا نجده متوفرًا كثيرًا، فلا الوباء الذي نعاني منه الآن يحول البشر إلى زومبيات (حتى الآن)، ولم تنفجر القنابل النووية محولة الأرض إلى جحيم مصغر (حتى الآن). لكن هذا لا يمنع وجود بعض العناوين التي قد نجد فيها فكرة جديرة بالتأمل أو أكثر.

لندن عام 2027 التي رسمها المخرج المكسيكي ألفونسو كوارون في فليم أبناء الرجال «Children Of Men» لا تبدو مستقبلية إلى هذه الدرجة. يتخيل الفيلم الصادر في 2006 لندن تعاني من التفجيرات الإرهابية وتدفقات لا تنقطع من اللاجئين، تلومهم الحكومة الإنجليزية على كل شيء وتعلن الحرب عليهم. بينما العالم على شفا الانهيار بسبب وباء مبهم أصاب البشرية كلها بعقم كامل، فلم يولد طفل بشري جديد منذ 2009، ما يعني فناء البشرية القريب بعد موت الأحياء.
ثيو فوران، موظف حكومي حالي وناشط ثوري سابق ويائس بدوام كامل. عندما يسمع عن مشروع الإنسان الذي تقوم منظمة علمية إنسانية تسعى لإيجاد علاج للعقم وتُبشر بنتائج طيبة يقول «حتى وإن وجدوا علاجًا للعقم، لا فارق، فات الأوان، الفوضى تجتاح العالم. أتعرف؟ كان الأوان قد فات قبل حتى انتشار العقم ذاته».

تتواصل معه زوجته السابقة التي انهار زواجه بها بعد موت ابنهم الوحيد بوباء الإنفلونزا العالمي في 2008، وقد صارت زعيمة جماعة ثورية. تطلب منه المساعدة في تهريب فتاة من اللاجئين خارج بريطانيا. لا يقبل بالطبع إلا بعد عرضهم لمبلغ كبير من المال.

بعد وهلة نكتشف الحقيقة: الفتاة حبلى، والهدف هو توصيلها لمشروع الإنسان الذين قد يجدون فيها حلًا للعقم الإنساني. ثم تُقتل زوجته السابقة على يد أفراد من جماعتها ينوون قتل ثيو واستغلال الفتاة في ثورة قادمة. بوسع ثيو الهروب الآن وترك الفتاة لمصيرها، خاصة وأن المقابل المادي الذي وُعد به لن يأتي. لكنه لم يعد الشخص ذاته، رؤية بطن الفتاة المنتفخة غير شيئًا ما في شخصيته.

من الجلي للجميع أن توصيل الفتاة لمشروع الإنسان لا يعني بالضرورة نجاة البشرية، خاصة البطل الذي يؤمن أن الإنقاذ لا سبيل له، لكنه يقامر بكل شيء ويقرر توصيلها، مواجهًا خطر الموت بيد الجهات التي تسعى للحصول على الفتاة الحامل لغرض ما.

ينجح ثيو في النهاية في إيصال الفتاة (ورضيعها) لسفينة تابعة لمشروع الإنسان، ولكنه يموت متأثرًا برصاصة تلقاها قبل قليل، يموت قبل أن يعرف، مثلما لن نعرف، إن كان فعله سينقذ العالم أو لا.

تعليقًا على النهاية، قال كاتب الفيلم ومخرجه ألفونسو كوارون «أردنا من النهاية أن تلمح لاحتمالية الأمل، لنعطي لفرصة للمشاهدين لاختبار حس الأمل عندهم. إن كنت شخص آملًا، سترى في النهاية أملًا كثيرًا، أما إن كنت متشائمًا، لن تجد فيها إلا اليأس التام».

كشاب مصري عشريني وابن يتيم للربيع العربي، بوسعي التماهي مع ثيو اللامبالي ولندن المظلمة، بسهولة شديدة أفهم -وربما يفعل مثلي أغلب أبناء جيلي- قوله «لا فارق، فات الأوان». ربما الحال سيء، ربما العزلة الاجتماعية التي نعيشها الآن ليست إلا إرجاءً للمحتوم، تقول الأرقام أن الفيروس سيأخذ دورته الكاملة في الغالب، ربما العالم بعد انحسار الوباء سيكون أصعب مما كان عليه قبله، أزمات مالية ونفسية ووجودية. لكن ثيو برغم يقينه المظلم أوصل الفتاة إلى سفينة مشروع الإنسان مضحيًا بما تبقى من حياته، متبعًا طريق كامو في الطاعون: مقاومة النهاية هي ما تجعل للطريق معنى. فهم ثيو عندما رأى بطنها المنتفخة أنه إن تركها وتراجع، طبقًا لما تمليه عليه رؤيته المظلمة للعالم، سيلوم نفسه ما تبقى له من العمر وسيموت كمدًا كل لحظة، أما أخذ المحاولة لأخرها، حتى لو كانت غير مضمونة النتيجة، فكان فيه الإجابة على كل تساؤل وإحباط في حياته السابقة. لم يمت ثيو من أجل العالم، وإنما من أجل نفسه.

لا نحتاج لأن نموت في قارب برصاص المتمردين مثل ثيو لنصل للنتيجة ذاتها، الصمود في البيوت المغلقة الآن يؤدي لنفس النتيجة.

«حاسة مثالية»، لديفيد ماكينزي

مرض جديد غامض يجتاح العالم، يعاني الفرد فجأة من نوبة قلق مفاجئة، ثم يفقد حاسة الشم إلى الأبد. خلال أيام يصيب المرض الجديد سكان العالم كله، ولا يعود بوسع البشر تمييز الروائح. مقارنة بباقي الحيوانات، اعتماد البشر على حاسة الشم هو الأقل بين الحواس الخمس. العالم دون شم هو عالم أقل جمالًا بالطبع لكنه محتمل. مايكل، الطباخ المتمرس في المطعم الفاخر، يقرر وزملاؤه التركيز على حدة الطعم في الطعام طالما لن يشمه أحد، يزيدون من البهارات ويدققون في توزيعها لتقديم أفضل خبرة تذوقية ممكنة لرواد المطعم. 

بعد شهور من تعوّد البشر على عالم دون روائح، تضرب الواحد منهم فجأة نوبة جوع شديدة تجعله يأكل كل ما تطوله يداه، ليكتشف بعدها أنه لم يعد بوسعه تمييز طعم ما يدخل في فمه؛ لحقت حاسة التذوق بالشم. هذا عالم أسوأ بالتأكيد من ذلك الذي يفتقر إلى حاسة الشم فقط. 

ومع المضي في الفيلم، تتتابع الخسارات، ويفقد البشر الحاسة تلو الأخرى. لكن يظل البصر. 

ولأنه لابد لكل قصة من علاقة حب تجعل من القصة أكثر احتمالًا، فإنه خلال تلك الشهور التي يفقد فيها البشر حواسهم، تنشأ علاقة حب بين مايكل وسوزان، بين الطاهي وعالمة الأوبئة، ويكون هذان الشخصان وعلاقتهما المتقلبة المتقدة المسار الذي نرى من خلاله وحوله ما يطرأ على العالم من تغيّرات.

كان مايكل وسوزان يعيشان في جحيم صغير، إثر فراقهم الذي حدث نتيجة لشجار أثاره مايكل في نوبة غضب ما قبل فقدان السمع. افتقد العاشقان بعضهم أكثر ما افتقدا حواسهما. وفي مشهد نهاية كلاسيكي مفعم بالعواطف، يعود العاشقان لأحضان بعضهما بلا سمع ولا تذوق ولا شم، وفي تلك اللحظة يفقدان -ويفقد الجميع- البصر. 

هذا سيء، لكن لا يهم، فكل منهم قد وجد ملاذه، و«الحياة تمضي».

 أي نوع من النهايات هذه؟ سعيدة أم حزينة؟

أصابتني النهاية بارتباك ولم أستطع تحديد شعوري تجاهها، فقد الناس حواسهم، لم يعد هناك أذان تسمع ولا عيون ترى، برغم كل ذلك أنت لا تشعر بالسوء مع نهاية الفيلم، بل بشكل ما يغمرك الارتياح، أنت تعلم أن الحياة سوف تمضي.

لم أستطع قط تقبل «التفاؤل». التفاؤل كمفهوم مجرد يفترض أن «كل شيء سيصير على ما يرام»، وهو ما أجده نوعًا من السذاجة، نعلم جيدًا أن الأشياء لن تصبح أفضل والعالم لن يصبح غدًا مكانًا ورديًا. لكن «حاسة مثالية» جعلني أدرك فجأة أن هذا ليس النموذج الوحيد للتفاؤل، فهناك نموذج أخر واقعي قوي يتجاوز أي ضرر فردي أو عالمي، ربما تحسن الحياة أمر مشكوك فيه، لكن المؤكد أنها ستمضي، ستمضي قدمًا في النهاية برغم كل شيء.

حدث كل هذا من قبل، في قاهرة محفوظ ووهران كامو وفلورنسا بوكاتشيو، حدث في الواقع وفي الخيال، وانهار العالم مرارًا، لكن هناك دومًا من يبنيه مرة أخرى، وتدب الحياة في كل ركن منه رغمًا عن كل حرب ومرض وموت. 

إن الوضوح الذي يمكن أن يقدمه الخيال كما في هذه النماذج الأدبية، أشبه بالوضوح الذي يقدمه العثور على النظارات الطبية بعد يوم طويل من الهلع والبحث وسط  دوامة من الألوان والأشكال العشوائية.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية