فيلم حُمّى البحر المُتوسط: الاغتراب بطلًا

الأربعاء 14 كانون الأول 2022
حمى المتوسط
مقطع من فيلم حمى البحر المتوسط.

يأخذنا فيلم حمّى البحر المتوسط إلى مدينة حيفا، وهو فيلم للمخرجة مها الحاج، حائز على جائزة أفضل سيناريو في مسابقة «نظرة ما» ضمن مهرجان كان لعام 2022. وتتخلّله مشاهد بديعة للبحر والأضواء والميناء، مقاربًا هذا الجمال من الداخل، من خلال التعرف على شخصيات مُتَألمة ومُغتربة، ليقول لنا بطريقةٍ ذكية إن الأشياء ليست كما تبدو، وإن المُدُن المُركبة سياسيًا واجتماعيًا من شأنها أن تَخلق شخصيات مُركّبة على المستوى الوجداني. وهُنا تتشابه الشخصيات والمُدُن في القُدرة على الاختباء خلف أقنعة. ليست هذه مقولة الفيلم الأساسية، وربما من الصعب على المشاهدين القبض على مقولته الأساسية، مما يجعله غير متوقع، ويحمل بذور الانفتاح على المُمكن بكُل ما يحمل من سرديات واحتمالات، فهو يناقش مصفوفة معقدة من القضايا دون أن يُشير إليها بشكل مُباشر، ويترك مساحة للمُشاهد بأن يلتقط الإشارات ويصطاد المعاني.

نبدأ الفيلم بالتَعرُّف أولًا على شخصية وليد، رجل تظهر على وجهه تعابير غامضة، توحي بالملل أحيانًا وأحيانًا أخرى بالألم، وسُرعان ما يذوب هذا الغموض عندما يَدخل وليد إلى غرفة المُعالجة النفسية لنكتشف أنه مُشخّص منذ سنتين بمرض الاكتئاب، يكون هذا مَدخلًا لنقد موضعة العلاج النفسي بصبغته الأوروبية في سياقنا الفلسطيني، إذ تتحدث المُعالِجة عن الجلسة العلاجية كأحد الوسائل الاستهلاكية التي من شأنها أن تحسن من حالة وليد النفسية والمزاجية، مُشبهة إياها بالالتحاق بنادٍ رياضيّ أو حصص يوغا، وكأن هذه الجلسات هي مساحة مُنفصلة عن العالم اليومي السياسي للإنسان، ومُستقطعة زمانيًا ومَكانيًا. وبينما يتحدث وليد عن عدم استفادته من العلاج، تقول له المُعالجة النفسية إن سنتين ليستا كافيتين ليحرز تحسنًا في حالته النفسية، وتتبع هذه الجُملة قائلة إن وقت الجلسة قد انتهى، رغم أن سير الكلام لم يكن مناسبًا لقطع الجلسة، ولكن هذه إشارة لملامح العلاج النفسي الغربي بما يتسم به من جُمُود ونزعة نحو الاستهلاك. وهو ما يجعل وليد غير قادر على الاستفادة من الجلسات العلاجية، بل على العكس، إذ يقول بأسلوبٍ ساخرٍ إنها تُفاقم الاكتئاب والأعباء النفسية.

يروي فرانز فانون[1] أنه طبّق أحد أشكال العلاج النفسي على مجموعتين ممن يعانون من إشكالات نفسية، المجموعة الأولى كانت من الرجال الجزائريين، والمجموعة الثانية من النساء الأوروبيات، وقد نجح العلاج مع مجموعة النساء الأوروبيات، وبدأت علامات التحسن بالظهور عليهن، وبدأن الخروج تباعًا من المستشفى، في حين فشل العلاج مع الرجال الجزائريين. في البداية ظنّ فانون أن النتيجة مردّها كوْن الأطباء النفسيين لا يستطيعون التحدث باللغة العربية، ولكنه ومع تكرار العلاج مرة تلو الأخرى، وتكرار فشله، توصّل إلى نتيجة مفادها أن الرجال الجزائريين يقاومون العلاج النفسي الغربي الذي يفترض بأن الجزائر فرنسية، ولا يأخذ بعين الاعتبار ضرورة فهم السياق الجزائري ثقافيًا وتاريخيًا، وكل ذلك يضع على الجزائري عبء تحمّل النظرة الغربية له، والتوافق معها، الأمر الذي قاد فانون إلى الانشغال في ضرورة التواضع أمام الثقافة المحلية الجزائرية؛ لكي يتجاوز الغرور الأوروبي الذي يطغى على خطاب الطب النفسي. نلاحظ هنا كيف تمثّلت معاناة الجزائري وألمه كشكل من أشكال رفض الخطاب الاستعماري المتغلغل في الطب النفسي، فكان الألم -على سوئه- فعلًا يستمر بالوجود، ولا يسعى الجزائري لتجاوزه بالخيارات المتاحة أمامه، تمامًا كوليد.

 في خضم كل المفارقات الي يعيشها فلسطينيو أراضي الـ48 والبقاع المقهورة في العالم، يُمكن أن يتشابه العنيف والمكتئب، الأزعر والمُثَقَف، المُتَكيِف وغير المُتَكيف، من حيث الغضب والقهر. والأهم من حيث الاغتراب.

وهُنا تَخلق المُخرجة مُحاججة حول مفهوم الاكتئاب في سياقنا الفلسطيني، يُشير غاري غرينبيرغ في كتابه «صناعة الاكتئاب» (Manufacturing Depression) إلى أن المُعالجين النفسيين الذين يحثون على التخلص من الاكتئاب، يحثون أيضًا على التكيف مع عالم غير عادل، وذلك لأن العلاج النفسي النيوليبرالي يختزل رد فعل الشخص تجاه مجموعة معقدة من الظروف السلبية إلى مجرد تشخيص طبي يُدعى «الاكتئاب»، مُتجاهلًا ضرورة إصلاح البيئة التي هي في الأساس المسبب الرئيسي للاكتئاب بوسائل ذات طابع اجتماعي، وسياسي، واقتصادي، وبهذا يحوّر الطب النفسي إلى مهنة تفرض فيها مفاهيم طبية ضيقة في تشخيص وعلاج الاكتئاب، إذ يتم فيها سلب الألم من أي معنى له والسعي نحو القضاء عليه تمامًا،[2] وفي هذا تسطيح للنفس البشرية، إذ يلغي الفوارق الاجتماعية والحضارية والثقافية للمجتمعات، الأمر الذي يفضح عنصرية الطب النفسي النيوليبرالي وما يحمله من استعمار جديد. ويشير غرينبيرغ إلى أن هذا التصدير للمفاهيم والممارسات الأوروبية إلى باقي بلدان العالم بهدف توحيد معنى الاضطراب العقلي ما هو إلا حيلة لخدمة الشركات التجارية الكُبرى، وتبرئة العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي هي في حقيقة الأمر سبب رئيس في الاضطرابات النفسية والعقلية. 

نُلاحظ هذا عند تتابع أحداث الفيلم، إذ نبدأ بإدراك أن الاكتئاب الذي ألَمّ بوليد إنما هو محض تجلٍّ لحالة سياسية واجتماعية يعايشها الكثير من الفلسطينيين في الداخل المحتل عام 1948، فبينما يعرض الفيلم حياة وليد اليومية داخل بيته، نرى في خلفية هذه المشاهد الأخبار الفلسطينية التي تُعرض على التلفاز والتي لا يتوقف وليد عن مُتابعتها، تكون هذه إشارة لمعرفة أحد مصادر اكتئابه، وبعد التقاط باقي إشارات الفيلم يصبح هذا جليًا، لنكتشف أن وليد يبحث عن هوية مفقودة وضائعة، ويحمل فوق كاهله تعب البلاد وهمومها. لا يوضح الفيلم منطلقات رؤية وليد للعالم ولكنه أوحى بها للمشاهد من خلال صور لغسان كنفاني وشخصيات فلسطينية ثورية يعلقها على حائط مكتبه الذي يُحاول أن يكتُب فيه أول روايةٍ له، بعدما تَرَك وَظيفته في أحد البنوك، القرار الذي لا يُعجِب أهل وليد ولا أحدًا ممن حوله، فالكتابة لا تُعتبر عَمَلًا حقيقيًا ولا تَعود عليه بالربح المادي، وهُنا أيضًا نبدأ بإدراك طبقات الاغتراب التي يُعاني منها وليد، فاغترابه لا يقتصر على وجوده في سياق استعماري فقط، بل أيضًا داخل منظومة رأسمالية، لا قيمة للإنسان فيها إلا بقدر ما يحصّل من أرباح مادية. وهُنا يُمكن أن نرى اكتئاب وليد كعَدَم تكَيُف ورفض لكل أوجه النظام والهيمنة، وليس محض تشخيص طبي يُعالج بالجلسات والأدوية، إنه توق إلى اكتساب وعي اجتماعي-سياسي بضرورة التغيير الجذري للمجتمع، وتغيير الواقع الراهن الذي لا ينفك عن تحويل الأفراد الى ما يشبه الروبوتات المغتربة، ويتوافق هذا مع إطار متجذر في الماركسية، التي تجادل بأن سعادة الإنسان ورفاهه، والأهم من ذلك فرديته، لا يمكن أن تتحقق بالكامل إلا في مجتمع خالٍ من الاستغلال والقمع، وما عدا ذلك تُصبح الصحة النفسية بمثابة التَكَيّف مع شروط غير عادلة. ويبقى السؤال ما أشكال وتجليات ذلك التَكَيُف؟

«كان أحمد يلتقي بنقيضه، عشرين عامًا، كان يسأل، عشرون عاما كان يرحل»، وكما يلتقي أحمد العربي بنقيضه في مقطع السؤال عن الحقيقة، يلتقي أيضًا وليد بنقيضه، إذ تظهر لنا شخصية جلال الذي انتقل مؤخرًا إلى العمارة التي يسكن فيها وليد، فتتشكل علاقة مركبة وعميقة بينهما رغم اختلافهما، جلال الرجل «الأزعر» الذي لا يهتم بالسياسة والأيديولوجيا والوطن، بل يعتبر أن هذه المفاهيم هي شكل من أشكال مضيغة الوقت، فهو يعيش كل يوم بيومه، يسمع الموسيقى بصوت مرتفع ويشرب الكحول، وسرعان ما نكتشف أن التقاء وليد وجلال، هو بمثابة التقاء النقيضين على الطريقة الهيجلية التي تؤمن ان المتناقضات تُعرّف ببعضها وببعضها يتمايز، أي أننا لا ندرك الشيء إلا إذا أدركنا نقيضه، فالضدان هما الشرط لمعرفة كُل منهما ولوجود كُل منهما، وقد جعلتنا المُخرجة نتعرف على مكنونات وليد وجلال من خلال العلاقة الجدلية بينهما، إذ إن معرفة المتناقضات أو التمييز بينها يعني إدراك هذه العلاقات التي تجمع بينها، فالعلاقة التي تجمع بين الأشياء تولد خصائصها، ومعنى هذا أن لا معنى لها خارج الوحدة التي تجمع بين المُتناقضين، وبهذا يصبح الجوهري هو العلاقة، وخارج هذه العلاقة يُصبح النقيضان محض عدم أو تجريد، وهكذا تشَكَلَت علاقة وليد وجلال. وعندما اختفى جلال، تهيأ لي بأنه كان محض خيال في ذهن وليد، هو شخصية تعيش داخل رأس وليد وليس لها وجود مادي ملموس، الأمر الذي يَتَعمق في نهاية الفيلم.

نكتشف حقيقة جلال رغم ما يبدو عليه من تَكَيُّف، جلال الذي أثار إعجاب زوجة وليد، كونه رجلًا يحمل ملامح الذكورة التقليدية؛ يستطيع إصلاح المغسلة، ويتنازل عن موقف سيارته لجارته، ويستطيع أن يُقيم حديثًا مع أهل وليد، هو الشخص «الفهلوي» والذي يعمل في الجريمة شبه المُنظمة. تُعيدني شخصية جلال عندما يَسقُطُ القناعَ عنها، إلى كتاب سيكولوجية الإنسان المقهور لمصطفى حجازي، والذي يتحدث عن العُنف والفهلوية كحيل دفاعية يُمارسها الإنسان المقهور ليَضمن وجوده، ويعتبرها موقفًا من العالم المادي وظواهره ومؤثراته، وموقف من البنى الاجتماعية وأنماط العلاقات السائدة فيها، على المستوى الذاتي الحميم، كما على المستوى الذهني.[3] الأمر الذي يجعلنا نرى جلال على أنه الإنسان الذي فقدت إنسانيته قيمتها، وقدسيتها، والاحترام الجديرة به، لأن الواقع القهري هو عالم فقدان الكرامة الإنسانية بمختلف صورها، وهو الذي يتحول فيه الإنسان إلى شيء، إلى أداة أو وسيلة، إلى قيمة مبخسة. لنجد أنفسنا في مواجهة حقيقة صعبة مفادها أنه في خضم كل هذه المفارقات الي يعيشها فلسطينيو أراضي الـ48 والبقاع المقهورة في العالم، يُمكن أن يتشابه العنيف والمكتئب، الأزعر والمُثَقَف، المُتَكيِف وغير مُتَكيف، من حيث الغضب والقهر. والأهم من حيث الاغتراب.

  • الهوامش

    [1] Bulhan, Hussein. 1985. Frantz Fanon and the psychology of oppression. New York: Plenum Press.

    [2] Greenberg, Gary. Manufacturing depression: The secret history of a modern disease. Simon and Schuster, 2010.

    [3] حجازي، مصطفى. «التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الانسان المقهور» (2005).‎

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية