البيت في الفنّ الفلسطيني المعاصر

تجهيز بعنوان «متّجه إلى البيت»، منى حاطوم، 2000.

بين صيرورة المقاومة وسيرورة الاحتلال

البيت في الفنّ الفلسطيني المعاصر

الثلاثاء 06 تموز 2021

 «فالبيوتُ تموتُ إذا غابَ سُكّانها»[1]

من فضاء مُتخيَّل ومُحتشد بصور الذاكرة الفردية والجمعيّة، يستوحي الفنّانون والفنّانات أساليب فنّية مبتكرة لإعادة إحياء البيوت التي نهبها الاحتلال منذ عام 1948 وتجسيدها بأدقّ تفاصيلها؛ ابتداءً من الطراز المعماري؛ جدرانًا وأبوابًا وشبابيك، وكلّ ما يُزّينها من عناصر تراثية كالخزف والبلاط والسجّاد، وبكلّ ما تحتضنه من مُقتنيات شخصية كالكتب والصور والتُحف والقطع الأخرى الثمينة منها أو المُهملة التي لا قيمة لها إلا في نظر أصحابها. من جهة أخرى، تعكس البيوت في المنفى ومخيّمات اللجوء الفلسطيني، وتلك التي مازالت قائمة تحت تهديد الهدم والاستيطان في الضفة الغربية والقدس، والبيوت التي ظلت قائمة رغم الحصار والدمار في غزّة، فضاءً مُتذبذبًا ومُستباحًا، في حالة انزياح ظاهر عن معاني السّكن والاستقرار، الأمر الذي يستدعي الفنّانين والفنّانات إلى ابتكار أساليب فريدة من نوعها لتجسيد كينونتها المعقّدة.

لكن، منذ النكبة الفلسطينية حتى اليوم، لم يكتف الاحتلال الإسرائيلي بعرقلة مسار الفنّ عبر الاعتداء على بيوت الفنّانين والفنّانات ونهبها، والتضييق عليهم بتخريب إبداعاتهم وملاحقتهم بشكل مستمرّ، بل وصل الأمر حدَّ مصادرة الألوان في أعمالهم الفنّية.[2] وعليه، تُشكّل متغيِّرات القضية الفلسطينية نقاط تحوّلّ هامّة في مسار الفنّ الفلسطيني ومراحل تطوّره؛ بحيث كانت المسافة الجغرافية الفاصلة بين الفنّان/ة والبيت/الوطن عاملًا حاسمًا في تحديد «المنطلق التشكيلي» كما يعتقد الفنّان الفلسطيني كمال بُلّاطة؛ إذ كان الطابع التجريدي غالبًا على الأعمال الفنية الفلسطينية المُنجزة في المنفى،[3] فيما لجأ الفنّانون والفنّانات في الوطن المحتلّ إلى توظيف الرمز في أعمالهم التصويرية، لاسيّما خلال الفترة التي أعقبت النكبة، وكان في ذلك التفاف على ما اعتبره الاحتلال الإسرائيلي تهديدًا «للدولة». يظهر ذلك على سبيل المثال، في أعمال نبيل عناني، وسليمان منصور، وغيرهم من مؤسسي حركة الفنّ الفلسطيني الحديث.[4] 

ومع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى شعر الفنّانون والفنّانات في فلسطين بضرورة مجاراة أساليب المقاومة الشعبية، فكان لازمًا أن يخرج الفنّ الفلسطيني من دائرة التلميح بالمقاومة إلى حيّز التصريح بها. وقد تطلّب هذا الانتقال المرحليّ تغييرًا في الأساليب الفنّية والمواد المُستخدَمة، فأدخلوا الطّين والقشّ والخشب والخزف والفخّار والزجاج إلى حيّز إبداعاتهم. كما كانت عودة بعض الفنّانين والفنّانات من الخارج، لا سيّما بعد «اتفاقية أوسلو»، مثل منى حاطوم، وسامية حلبي، وناصر السومي، بمثابة نقطة تلاقٍ بين فنّاني الوطن والمنفى، ممّا أتاح لفنّاني الوطن الاحتكاك بالخبرات الفنّية من الخارج بعد العزلة التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي على تجاربهم الفنّية، وبات الابتكار والتجريب يتبلوران على نطاق فنّي حداثي أوسع، كفنّ التجهيز وكل ما يقتضيه من تطويع للمواد المُستوحاة من البيئة والتراث الفلسطينييْن.[5]

الأعمال الفنّية التي أستعرضها في هذا المقال متباينة من حيث الأساليب، بين التصوير والتجريد والنحت والتجهيز، وقد أُنجزت في فترات زمنية وأماكن جغرافية متباعدة بين الوطن والمنفى، لكنّ انتقائي لها تحديدًا جاء بغرض التركيز على كينونة البيت الفلسطيني، وما تختزله من أجزاء السردية التاريخية الفلسطينية، وسأحاول من خلالها الإجابة على الأسئلة التالية: كيف ركّز الفنّانون والفنّانات على الطابع المعماري للبيوت الفلسطينية؟ كيف انزاح الفضاء البيتي الفلسطيني عن وظيفته الأصلية؟ ما هي العناصر الفنية التي أبرزت كينونة البيت الفلسطيني وحوّلت أدقّ تفاصيله إلى رمز لمقاومة الاحتلال؟ كيف تجسّدت تفاصيل البيت، وديكوراته الداخلية، ومحتوياته الشخصيّة بأساليب تعبيرية مبتكرة توثّق عمليات نهب الاحتلال الإسرائيلي للتراث الفلسطيني؟ ما الذي يعنيه البيت بالنسبة للفنّانين والفنّانات؟ وكيف طوّع الفنّ الفلسطيني الفضاء البيتي بأساليب فنيّة مبتكرة تتمرّد على الواقع، وتتحايل على عناصر القبح، وعمليات الخنق والتضييق التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي؟ ما هي الأساليب الفنّية التي أتاحت إمكانية تغيير المُتخيَّل، عبر إضافة العناصر التي سلبها الاحتلال وحذف العناصر التي أقحمها على الفضاء البيتي؟ وأخيرًا، كيف أضحى العمل الفنّي بذاته، في بعض الحالات، بديلًا عن البيت/ الوطن المسلوب؟

اليد ترى البيت، والقلب يرسمه[6]

تفوح ذاكرة الفنّانة الفلسطينية تمام الأكحل بعبق بحر يافا وأزهار برتقالها، فتصوّر في لوحاتها بيوت المدينة وميناءها وشواطئها التي تفيض طفولةً وبهجة. وعلى النقيض من ذلك، تصوّر مشاهد المخيمات التي طرأت على ذاكرتها بعد أن هُجِّرت وعائلتها عام 1948 إلى بيروت، مشاهد امتصّت جزءًا من الضوء والألوان في لوحاتها، فظهرت البيوت في مخيّم «مار إلياس» بألوان داكنة، تذكّر بالحياة القاتمة والكئيبة، بعيدًا عن البهجة التي عهدتها طفلةً في يافا.

عندما علمت الأكحل أنّ فنّانة إسرائيلية اسمها «شوشانا فنكلشتاين» تحتلّ بيتها، وتحيا عوضًا عنها حياتها اليافاوية الزاخرة بالجمال، أحسّت بضرورة توثيق ما حصل، فأنجزت لوحة بعنوان «بيتي بيافا» عام 1988.

بأسلوب واقعي تعبيري بسيط، تستدعي الفنّانة بالألوان الزيتية تفاصيل بيت الطفولة، وتجمع بين ماضي البيت وحاضره في اللوحة ذاتها؛ إذ تعيد تصوير نفسها طفلةً تجلس أمام النافذة، وتعلّق لافتةً على بوابة بيتها معلنةً عن افتتاح معرض يوثّق ما حلّ بها، بعنوان «شوشانا تحتلّ بيتي».

«بيتي بيافا»، تمام الأكحل، 1988.

قد تبدو اللوحة للوهلة الأولى مجرّد تصوير عادي لبيت هادىء فيه طفلة تجلس أمام النافذة وتتطلّع إلى البحر، لكنّ الأكحل تنزع الخصوصية عن البيت عندما تشرع بوابته معرضًا ليتفرّج الناس على ما حلّ به، أمّا اشتغالها بدقّة على إبراز تفاصيل الطراز المعماري للبيوت التراثية القديمة في مدينة يافا فيعدو كونه غرضًا جماليًا، فاللوحة بمثابة أرشيف لوني لذكريات الطفولة، تحاول من خلالها إعادة استملاك ما سُرق منها، كما توثّق جزءًا من التراث الفلسطيني، بالتركيز على مهارة المعماريين في فلسطين وإتقانهم لصنعهم.

كمعماريّة ماهرة تُهندس الأكحل تفاصيل البيت بدقّة ودراية، إذ تبرز في اللوحة بعض الأساليب المعمارية الإسلامية المُستخدمة للتزيين، مثل الشمسيات[7] نصف الدائرية المزخرفة بأشكال هندسية من الزجاج الملوّن، والزخارف ذات الأشكال المُثلَّثة المحفورة على الواجهات، بالإضافة إلى الأعمدة التي «استُخدِمت في فترات متأخرة من العصر العثماني كعنصر جمالي»،[8] والقبة الكروية الصغيرة التي تعلو سقف البيت، والنوافذ في الطابق الأرضي التي تنتهي بعقد دائري،[9] والشبابيك العلوية المزدوجة المطلّة على شاطىء البحر.

في زيارة إلى الوطن المُحتلّ مع زوجها الفنّان الفلسطيني إسماعيل شمّوط عام 1997، منعت «الفنّانة الإسرائيلية» الأكحل من الدخول لرؤية بيتها، وفي عام 2016، تمكّنت رغم عراقيل دولة الاحتلال من زيارة بيتها في يافا، وكلّها أمل أن يُسمح لها بدخوله هذه المرة، لكنّها وجدت البيت مُغلقًا، على نيّة أن يُحوَّل إلى متحف، بعد أن رحلت عنه «الفنّانة الإسرائيلية» التي استولت عليه سنوات طويلة.[10]

آثرت الأكحل في النهاية أن تحتفظ بالبيت في مخيّلتها ولوحاتها، دون أن تطال صورته مشاعر القهر التي تصيبها في كلّ مرة تُغلَق أبوابه دونها.

سيمفونية البيوت والقِباب

احتشدت مُخيّلة الفنّانة الفلسطينية جمانة الحسيني بذكريات مقدسيّة غير مكتملة، بعدما أجبرها الاحتلال الإسرائيلي على الانفصال المُباغت عن بيتها في القدس بعد النكبة، لذا، قرّرت أن ترسمها على طريقتها الخاصة. وفي بيروت، لم تبرح بيوت المدينة وقِبابها لوحات الحسيني، فظلّت تستطيل وتستدير وتتجدّد بألوان وأشكال عفوية.

صوّرت الحسيني معمار المدن والقرى في فلسطين بالاتّكاء على ما علق في ذاكرتها، فعجّت لوحاتها بالبيوت والقصور المقدسيّة ذات القِباب المُلوّنة، والنوافذ ذات العقود الدائرية والاستطالة الأنيقة، ومن «منظورها الأمامي المتكرر، أومضت المدينة الأسطورية التي ابتدعتها مخيّلة الحسيني»،[11] فكانت خاليةً إلا من العصافير والفراشات والأحصنة، أو ساحةً ينتشر الأطفال في أرجائها بأبعاد ثنائية؛ تُحاكي الرسومات البدائية للأطفال في أولى مراحل تعلّم الرسم والتلوين.

تركّب الحسيني معادلة الضوء والعتمة في المدينة الفارغة، تترك خيطًا أبيض من الضوء يجتاح أفق اللوحة موازيًا جسد الحصان الأبيض الثائر، ليضيء جزءًا من عتمة البيوت الخاوية. لكن، لماذا تركت الحسيني الحصان وحيدًا في قلب اللوحة بين البيوت؟ لكي يحرس البيوت أم يؤنسها كما قال درويش؟ وأين ذهب سُكّان البيوت؟

بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، غادرت الحسيني إلى باريس، فشكّل البعد الجغرافي عن المدينة القريبة من فردوسها المفقود بداية الانزياح عن الأسلوب التشخيصي، كما يرى الفنّان الفلسطيني كمال بُلّاطة. أنجزت الحسيني خلال الثمانينيات سلسلة من اللوحات بعنوان «القدس»، بدت وكأنّ ألوان المدينة قد تلاشت من ذاكرتها، فانسحبت تاركةً الأبيض الشفّاف خيطًا رفيعًا يحدّد ما ظلّ من معالم بيوت القدس وأسوارها، لكنّ شغب الطفولة ظلّ محتفظًا ببريقه في لوحاتها؛ برتقالة يافاوية بلون الذهب تغطّي قبّة الصخرة، وتعكس بريقها على قِباب البيوت والقصور الأخرى.

«القدس»، جمانة الحسيني.

أعادت الحسيني رسم خريطة فلسطين، ملأتها بيوتًا وقِبابًا مُلوّنة، وأنشأت بيتًا صغيرًا لها في كلّ لوحة، فعثرت على فردوسها البديل هناك، قائلةً: «وجدتُ فلسطين في اللوحة. هنا أعيشُ طفولتي وشبابي وكلّ ذكرياتي؛ العصافير، والأزهار، والفراشات، والأشجار، والبحر الميت، والنوافذ، والأبواب، وسماء فلسطين. عثرتُ على نفسي هنا».[12]

جمالية الخراب في البلاط الفلسطيني المُزخرف

ليس الطراز المعماري التقليدي في المدن والقرى الفلسطينية فحسب ما استرعى عيون الفنّانين والفنّانات في سعيهم نحو تجسيد البيت الفلسطيني، بل ركّزوا كذلك على دواخل البيوت وديكوراتها، لِما لها من خصوصيّة تُبرز جوانب التراث الفلسطيني، وتعكس مهارة الحرفيّين والحسّ الفنّي لدى أصحاب البيوت وساكنيها.

في معرض بعنوان «شِقاق»، أُقيم في القدس عام 2017، يُدخل الفنّان الفلسطيني الأرمني بنجي بوياجيان مشهد ديكور البيوت الفلسطينية القديمة إلى حيّزه الإبداعي، ويقدّم تاريخًا بصريًا موجزًا عن البلاط التقليدي المُزخرف أو المعروف بالبلاط الشامي الذي شاع استخدامه في البيوت الشامية في دمشق، ثم انتقل إلى بيوت العائلات الميسورة في فلسطين مطلع القرن العشرين.[13]

يرسم بوياجيان أشكالًا هندسية متداخلة ومُلوّنة تحاكي زخرفة البلاط الفلسطيني، وقد يبدو للوهلة الأولى أنّ الغرض من وراء توظيف الأرابيسك التجريدي هو جمالي محض، مستوحىً من مشاهد علقت في ذهنه صغيرًا عندما رأى البلاط المُزخرف في بيوت القدس القديمة. إلا أنّ بوياجيان يخلق مفاهيم مغايرة عبر التلاعب البصري بهذه الأشكال الهندسية، وتعمّد اقتراف الأخطاء الصغيرة جدًا في رسمها وتكرارها،[14] ما يُذكّرنا بأصالة هذه الحرفة اليدوية التي تظلّ صامدةً أمام محاولات التزييف والتقليد، خصوصًا بعد هيمنة الآلة على هذه الصناعة، ناهيك عن محاولات دولة الاحتلال الإسرائيلي البائسة في الاستيلاء على أقدم مصنع للبلاط الفلسطيني التقليدي في نابلس بغية تصدير منتجاته باسمها.[15]

تتداخل الأشكال وتتراكم فوق بعضها قرب الإطار العلوي والجانبي، تأتي الطبقات المتعدّدة تذكيرًا بما دُفن تحت البلاط كما يقول بوياجيان؛ أي تاريخ الأرض التي أُقيمت هذه البيوت فوقها. تتلاشى آثار البلاط من الجهة السفلية، كأنّها خراب يزحف ببطءٍ إلى وسط اللوحة، وباستخدام الألوان المائية التي لا تتيح إمكانية تعديل الأخطاء بسهولة، يوظّف بوياجيان عنصر الخراب مُذكّرًا بسيرورة عمليات الهدم والمحو التي تطال البيوت الفلسطينية القديمة. 

لوحتان لبنجي بوياجيان؛ على اليمين لوحة دراسات لسلسلة المأزق الدائم، 2011.، وعلى اليسار درب التبانة، 2013.

بيوت بأبعاد أخرى

تفتّش الفنّانة الفلسطينية فيرا تماري في عدد من أعمالها عن أبعاد أخرى للفضاء البيتي/ الوطني المسلوب، فتضرب في الأرض وتستخرج من الطبيعة موادًا فنّية تُطوّعها بدراية، وتُمكّنها من التحرّك بحريّة في حيّز مفاهيمي شاسع. كما اتّسع الحقل الفنّي عند تماري بعد إنجازها لعدّة دورات في إيطاليا واليابان و إتمام دراستها العليا في بريطانيا، وظلّت أساليبها تتجدّد بعد انضمامها للتدريس في جامعة بيرزيت عام 1986. ونظرًا لأنّ مساق الفنون التشكيلية لم يكن متاحًا في الجامعات الفلسطينية آنذاك، نظّمت تماري العديد من الورشات والبرامج الفنّية، وشجّعت طلابها على التجريب والابتكار في حقول فنّية متعدّدة.[16]

مع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى مُنعت تماري من التدريس في الجامعة، فانكفأت على نفسها في البيت، «وأخذت تقولب أشكالها الطينية وتزجّجها بالألوان الخزفية، وتخبزها في أتون محترفها البيتي وتدّخرها لوقت آخر»،[17] وكانت من بينها مجموعة من المنحوتات الخزفية استوحتها من ألبوم صور قديمة للعائلة في مدينة يافا قبل النكبة. شكّلت تماري من عجينتها أفراد العائلة كبيرهم وصغيرهم كما يظهرون في الصور القديمة، منحتهم أبعادًا ملموسة تُقرّبهم إليها، وتقرّبها من البيت الذي لم يعد ملكًا لهم.

هكذا تؤطِّر تماري صورة البيت في صورة النّحت الخزفي، فتبني للصورة جدارًا خزفيًا آخر تعلّقها عليه بعد أن حُرمت من الجدار الحجري، وبذا تسترجع اللحظات الحميمية التي وُلدت في قلب البيت؛ مثل وقفة أفراد العائلة أو جلوسهم في وضعية استعداد لالتقاط الصورة، يليها فعل تعليق الصورة على الجدار، وما ينبني عليه من مفاهيم كالسّكن والاستقرار. تُشعل تماري دفء الفضاء البيتي وجوّ ألفته باستخدام درجات الألوان الطينية (Terracotta)، حيث يتراصّ الطين هنا ويتماسكُ تماسكَ أفراد العائلة، فيظهرون على أنّهم كتلة متداخلة تتوحّد مع جدران البيت وأرضيته، وبناءً على ذلك، يتّخذ الالتحام مع الأرض وعناصرها أبعادًا دقيقة جدًا في نحتها الخزفي.

كما اكتسبت كينونة البيت لدى تماري أبعادًا أكثر تعقيدًا عند دخولها عوالم الفنّ التجهيزي. ومن ذكرى بيت العائلة في يافا إلى ذكريات بيتها في القدس حيث كَبُرت، قدّمت تماري تجهيزًا ضخمًا بعنوان «المنزل»، ضمن معرض «تحيا القدس» الذي أُقيم عام 2017 في مبنى المتحف الفلسطيني ومساحاته الخارجية في بلدة بيرزيت.

«المنزل»، فيرا تماري، 2017.

يُتيح فنّ التجهيز للفنّانة تماري إمكانية تخيُّل الفضاء البيتي بأبعاد أخرى، بحيث تدمج ذكرياتها الأثيرة مع الواقع القبيح لتخلق فضاءً ثالثًا[18] أفصح تعبيرًا عمّا يعنيه البيت بالنسبة لها. تصوّر تماري ذكرياتها حول ذلك الفضاء المُشترك بين الجيران في بيوت القدس القديمة، وكيف أضحت السلالم التي تصل بين بيوت الجيران مُقفّصة بشبك معدني يفرضه المستوطنون، مُضيّقين على البيوت وحياة أصحابها.[19] تظهر السلالم بلون أخضر كامتداد للأرض والطبيعة المحيطة بها، تخترق القفص المعدني وكأنها أشجار تكبر وتتمدّد بحرية، صاعدة إلى فوق دون وجهة محدّدة، تومىء إلى طريقة الاتصال الخفيّة بين الجيران، خروجًا مُتمرّدًا على عنف الأقفاص والحواجز. ومن هنا ترى الفنّّانة أنّ عملها الفنّي «ينتفض ويتحدّى الاستعمار المُقفّص لمنازل القدس الفلسطينية».[20] 

فنّ العبث بالبيت ومحتوياته

بعد زيارتها إلى لندن عام 1975، لم تتمكن الفنّانة الفلسطينية منى حاطوم بسبب الحرب الأهلية من العودة إلى بيروت حيث وُلدت لاجئةً لأبوين فلسطينييْن.[21] وهناك؛ في المنفى الثاني، لم تتصالح حاطوم بسهولة مع استحالة فكرة البيت/ الوطن، فقرّرت عوضًا عن ذلك أن تتفنّن بالعبث بها مرارًا، إلى أن أضحى البيت بالنسبة لها مكانًا باعثًا للرعب والصدمة، وصار مفهوم السّكن والاستقرار لديها مدعاةً للتندّر والتهكّم. 

تُجهّز حاطوم في عدد من أعمالها البيت بكلّ ما لا يخطر على بال، تؤثّثه بقطع حديدية مُدبّبة وغير صالحة للاستعمال، تعبث بأدوات المطبخ، تُضخّمها كيفما تشاء، وتُقحمها في حيّز مفاهيمي لا يجاري ضآلتها، فمثلًا تحوّل مَبشرة الجبنة إلى فاصل حديدي مثقوب يُستعمل لتغيير الملابس،[22] تسدّ الفتحات في وعاء لتصفية الماء فيتحوّل إلى قنبلة،[23] وتفرش «دعّاسة»[24] أمام الباب كُتب عليها «Welcome» مصنوعة من الدبابيس. وفي عملها «متّجه إلى البيت» عام 2000، تجهّز حاطوم المطبخ وغرفة النوم وتحيطها بالأضواء والأسلاك الكهربائية والسّماعات التي تُصدر أصوات أزيز كهربائي، مُحذّرةً كل من يحاول الدخول أو حتى الاقتراب من هذه الكينونة التي تُسمّيها بيتًا. وهكذا، تدفعنا حاطوم إلى التساؤل؛ أيّ شعور ينتاب من يسكن/ يتّجه إلى بيت كهذا؟ لا شكّ أنّ الراحة والسكينة أبعد ما يُمكن عن حالة السّكن المُربِكة والمُكهرَبة تلك.

«متّجه إلى البيت»، منى حاطوم، 2000.

لا تكتفي حاطوم عند هذا الحدّ من العبث، بل تتحدّى تلك التأويلات التي تسعى إلى تجزئة هويّتها وتشريح تجربتها كامرأة عربية فلسطينية تعيش بعيدًا عن الوطن؛[25] فهي ترى أنّها كلّ ذلك مجتمعة. أمّا الغرض من أعمالها الإنشائية كما تقول هو أن تدعو المُتفرّجين إلى تجربة بصرية فيزيائية تحفّز الجوانب المادية والحسّية والعاطفية لديهم، بعيدًا عن التأويلات السياسية المقولبة.

مع ذلك، يبدو أن حاطوم في عملها «مشهد داخلي» عام 2008 تُلبّي رغبة الجمهور في التلصّص على عوالمها الداخلية، فتكشف لهم جزءًا من هويّتها كفلسطينية، لكن دون أن تتخلّى عن أساليبها العبثية وأفكارها النّسوية. تُنشىء حاطوم غرفة نوم شبه فارغة، مؤثّثة بأسلوب اختزالي قبيح، ثمّة سرير أعزل لا فراش فوقه، قاعدته مصنوعة من أسلاك الحواجز؛ تجريد لحالة الراحة المستحيلة عند الفلسطينيين، وعلى الوسادة البيضاء رُسمت خريطة فلسطين من شعر امرأة؛ حلمًا طويلًا مُنهكًا في مشهد داخلي وشخصي جدًا، أبعد ما يمكن أن يكون عن الرغبة في المشاركة.

«مشهد داخلي»، منى حاطوم، 2008.

يختزل البيت في أعمال حاطوم منفىً لامتناهي الأبعاد، فيصير «العالم كلّه أرضًا غريبة»[26] بالنسبة لها. وعليه، يُلخّص إدوارد سعيد تجربة منى حاطوم على أنّها «مفارقة السّلب وهي تتموضع في العالم، وتقف بثبات في فضاء اليومي معروضة أمام عيون الناظرين ليروا وينجوا بطريقة ما، ممّا يتلألأ أمامهم. لا أحد يستطيع أن يُجسّد التجربة الفلسطينية بصريًا بهذه الصرامة وبهذا القدر من اللعب، وبهذه القوة وبهذه الطريقة الضمنية بالوقت ذاته مثل منى حاطوم».[27]

«مشهد داخلي»، منى حاطوم، 2008.

الحياة على ضوء خافت

أخذ الفنان الفلسطيني محمد أبو سل يشقُّ طرقًا بديلة[28] في عتمة حصار غزّة وأزمته الخانقة، ويقتفي أثر الضوء الشحيح، موثّقًا الحياة داخل البيوت وخارجها، دون الاتّكاء على العناصر الجمالية المبتذلة. عبر مشروع فوتوغرافي أطلق عليه اسم «شمبر»،[29] وهي آلة بديلة قديمة تعمل على الكيروسين، طُوّرت لتعمل على الغاز الطبيعي، كإحدى البدائل رخيصة الثمن في حالات انقطاع الكهرباء المستمرة عن غزة، التقط أبو سل مجموعة من الصور الفوتوغرافية بمثابة شهادات حيّة لبيوت الناس عام 2012 وطرق الإضاءة البديلة المستخدمة. حاول أبوسل أن يعكس «تلك الحالة المضيئة بشكل شاذ عن البيئة المحيطة كاستثناءات لونية متباينة وسط مزيج من روائح عوادم المولدات (..) دون تكلّف أو تصنّع»،[30] خلال فترة انقطاع الكهرباء ليلًا لمدة ثماني ساعات في منطقة «البريج» وسط قطاع غزّة.

تخلق هذه الصور بواقعيتها حالة من القبح الساخر، وكأنها تقبض على الحياة مُتلبِّسة في ضوء خافت وسط العتمة المُطبقة على القطاع. في إحدى الصور بعنوان «بيوت/ مُولِّد صغير: انقطاع التيار الكهربائي ليلًا، ضجيج وتلوّث»، تبدو البيوت في الصورة وكأنّها الكينونة المضيئة الوحيدة وسط الظلام الذي يغرق فيه القطاع، بينما تلخّص وقفة الأطفال كأشباح عند الحدّ الفاصل بين الشارع المُعتم والبيت المُضيء ما تعنيه الحياة هناك في غزّة. من يعبأ بعواقب الضجيج والتلوّث في الوقت الذي تمسي عنده أبسط ضروريات الحياة من أقصى كمالياتها؟

«بيوت/ مُولِّد صغير: انقطاع التيار الكهربائي ليلًا، ضجيج وتلوّث»، محمد أبو سل.

في صورة أخرى بعنوان «بيت/ شموع»، تضفي وجوه الأطفال الشاردة الملتفّة حول الشمعة في حضرة الأب نوعًا من الشعرية غير المكتملة، تتضاءل حركة الأجساد، وتتكوّم في زاوية واحدة. انقطاع الكهرباء بشكل يومي لم يحصر حركة أفراد العائلة داخل البيت فقط، بل حاصر الزمن في تلك الزاوية التي تضيئها شمعة، كأنّ البيت مسافر بساكنيه إلى زمن الشموع، ساخرًا من حداثة العالم التي لا معنى لها في غزة.

«بيت/ شموع»، محمد أبو سل.

خلال العدوان الأخير على غزة، قضى الاحتلال الإسرائيلي على كل الطرق الفنيّة البديلة التي شقّها الفنّان أبو سل بصعوبة، حدث ذلك عندما تلقّى مكالمة من جيش الاحتلال في العاشر من شهر أيار الماضي، يمهله خمس دقائق لإخلاء البيت قبل قصفه. يصف أبو سل ما جرى قائلًا: «بكيتُ عندما غادرت بيتي، أعمالي الفنّية كلها هناك، لا يمكنني أن أنجزها ثانية (..) حاولت من خلال الفنّ أن أبحث عن الجمال في وسط الخراب الذي نعيشه في غزة».[31]

خاتمة

إنّ الأعمال الفنية التي تُجسّد البيت الفلسطيني هنا تعدو كونها محاولات استرجاع للذكريات الأثيرة، أو محض تعبير ساخط عن الوضع الفلسطيني، بل تشكّل كذلك فعل توثيق ومقاومة للاحتلال الإسرائيلي، وإلا لما حاول مرارًا الاعتداء عليها بتخريبها ومصادرتها. أدرك الفنّانون والفنّانات في الوطن والمنفى هذه الحقيقة جيدًا، ومن نقطة انزياح السّكن الفلسطيني عن معاني السّكينة والاستقرار، ابتعدوا إلى فضاء فنّي شاسع، يمتزج به البعيد بالقريب، والواقعي بالخيالي، ويصير البيت الفلسطيني كينونة فريدة مُهجّنة تحاكي بتعقيداتها الواقع الفلسطيني، وجمالياته الممزوجة بقبحه.

  • الهوامش

    [1] من قصيدة لماذا تركتَ الحصان وحيدًا للشاعر محمود درويش.

    [2] يذكر الفنّان الفلسطيني إسماعيل شمّوط أنّ «إسرائيل» «لم تحارب فقط اللوحة الفلسطينية، بل حاربت اللون الفلسطيني»، ويتابع: «أتذكر أن زميلنا الفنان فتحي الغبن من غزة، اُعتقل وسجن بسبب معرض قال إنّه استعمل ألوان العلم الفلسطيني في رسم لوحاته، حتى الألوان علينا أن نختارها وفق ما تريد «إسرائيل»، وهذا ما لا نرضاه، لوحاتي سرقت من مكتبة البلدية في نابلس، بعد أن مُنعت من العرض، جاء الحاكم العسكري يومها، وحسب ما قاله من تواجدوا وقتها، أنه أصدر أمرًا بمصُادرة اللوحات، وفي حادثة أهم من هذه كان لي لوحتان مهمتان عرضتا في بيروت وعرضتا في القدس ونابلس وعمان، واحدة اسمها ربيع فلسطين وواحدة اسمها النكبة وهما لوحتان كبيرتان، أطلق جنود الاحتلال الرصاص عليهما، بعد اقتحام مكتب جامعة الدول العربية في القدس، إثر احتلالها العام 1967، لا شك أن خوف الإسرائيليين من اللوحة يعني أن اللوحة الفلسطينية كان لها فعل وتأثير كبيرين». انظر/ي إسماعيل شموط نحن الفلسطينيون الجدار الأبقى

    [3] انظر/ي مقدّمة كتاب استحضار المكان: دراسة في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر، كمال بُلّاطة، ص24.

    [4] في معرض بعنوان «هموم الهُويّة»، استضافته «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» و«دار النمر للفنّ والثقافة» في بيروت عام 2019، ناقش أربعة من الفنّانين الفلسطينيين وهم فيرا تماري، ونبيل عناني، وتيسير بركات، وسليمان منصور، ملامح الفنّ الفلسطيني المعاصر، وأبرز المراحل التي أثّرت في تطوّره بعد النكبة الفلسطينية، مرورًا بالانتفاضة الأولى، واتفاقية أوسلو، كما أفرد الفنّان نبيل عناني تفصيلًا عن الرمزية في الفنّ الفلسطيني التشكيلي. انظر/ي هموم الهوية مؤسسة الدراسات الفلسطينية

    [5] المصدر السابق.

    [6] إشارة إلى السيرة الذاتية للفنّانة الفلسطينية تمام الأكحل وزوجها الفنّان الفلسطيني إسماعيل شمّوط بعنوان « اليدُ ترى، والقلبُ يرسم»، الصادر عام 2016 عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

    [9] العقود هي إحدى أنواع الأقواس المشهورة في العمارة الإسلامية، شاع استخدامها في الأندلس والمغرب العربي.

    [11] استحضار المكان: دراسة في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر، كمال بُلّاطة، ص 232.

    [12] للمزيد حول أعمال الفنانة جمانة الحسيني.

    [13] انظر/ي معرض «شِقاق» الذي أُقيم في القدس عام 2017، ومقابلة مع الفنّان بنجي بوياجيان.

    [14] كما يظهر في لوحاته الواردة في هذا المقال، فإنّ الأشكال الهندسية فيها لا تتبع نسقًا ولونًا واحدًا، وهذا على عكس نمط الزخرفة على البلاط الذي يكون على الأغلب متناسقًا شكليًا ولونيًا.

    [16] للمزيد حول أعمال الفنانة فيرا تماري.

    [17] استحضار المكان: دراسة في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر، كمال بُلّاطة، ص170.

    [18] يعرّف المُنظِّر المَدني إدوارد سوجا الفضاء الثالث على أنّه طريقة أخرى لفهم وتغيير الفضاء الإنساني، بحيث يمتزج الموضوعي باللاموضوعي، والملموس بالمُجرّد، والوعي باللاوعي، والحقيقي بالخيالي، والآني بالتاريخي. للمزيد، انظر/ي Soja, Edward W. Thirdspace. Blackwell, 1996. p. 57.

    [19] انظر/ي فيرا تماري، المنزل، 2017 اسماء الفنانين المتحف الفلسطيني

    [20] المصدر السابق.

    [21] للمزيد حول الفنانة منى حاطوم

    [23] No way

    [25] في مقابلة لها مع جانين أنطوني عبّرت الفنّانة منى حاطوم عن تضايقها من الأسئلة التي تطالبها بالربط بين هويتها وثقافتها من خلال أعمالها، فالهوية بالنسبة لها ليست شيئًا ثابتًا يسهل تعريفه. انظر/ي Mona Hatoum by ​Janine Antoni

    [26] في إشارة إلى معرض منى حاطوم الشخصي الذي أقيم عام 2000 في متحف Tate لندن بعنوان «العالم كلّه أرض غريبة» (The Whole World Is a Foreign Land).

    [27] انظر/ي فنّ الانزياح: منطق منى حاطوم في جمع المتناقضات، إدوارد سعيد.

    [28] انظر/ي عمل الفنّان التركيبي الذي يشقّ من خلاله طرق بديلة مُتخيّلة، بعنوان «مترو غزة» a Metro in Gaza – Mohamed Abusal

    [29] للمزيد حول أعمال الفنان الفلسطيني محمد أبو سل.

    [30] المصدر السابق.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية