«ملامح من الماضي والحاضر»: السّلط في ذاكرة حسني فريز

منازل في مدينة السلط. تصوير مؤمن ملكاوي.

«ملامح من الماضي والحاضر»: السّلط في ذاكرة حسني فريز

الثلاثاء 07 كانون الأول 2021

أضحت مدينة السّلط في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين من أكبر مراكز التجمع السّكاني في شرق الأردن،[1] ويُرجع الكاتب والمؤرّخ محمد عبد القادر خريسات هذه الزيادة السّكانيّة إلى عدّة عوامل؛ أهمّها الهجرة من المناطق المجاورة للسّلط، وذلك بعد خروج إبراهيم باشا من سوريا سنة 1840 وانتشار الفوضى، حيث هاجر عدد من العائلات الدمشقيّة إلى السّلط طلبًا للأمن. بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ موقع المدينة التّجاري المُشرِف على عدد من الطرق المؤدية إلى فلسطين ساهم في استقطاب الكثير من العائلات الفلسطينيّة، لا سيّما من مدينة نابلس، ولم يقتصر نشاط تلك العائلات على قطاع التّجارة فحسب، بل امتدّ إلى قطاع الزّراعة، والعمارة وأعمال البناء.[2]

كانت عائلة الشاعر والأديب والتربويّ حسني فريز من بين العائلات الدمشقيّة التي هاجرت إلى السّلط، حيث قصدها جدّه بعد عام 1860.[3] وُلِد حسني فريز عام 1907 لأب دمشقيّ وأمّ نابلسيّة، تلقّى تعليمه في كتاتيب السّلط والمدرسة الحكومية الأوليّة في عهد العثمانيين، تخرّج في مدرسة السّلط الثانويّة عام 1927، ثم ابتُعث إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، وحصل على بكالوريوس في الآداب عام 1932.عمل معلّمًا في مدرسة السّلط، وفي عمّان، والكرك، ثمّ عُيّن مديرًا لثانويّة السّلط عام 1944، فموجِّهًا تربويًّا. كما عُيّن وكيلًا لوزارة التربية والتعليم عام 1962، وعمل بعد ذلك مستشارًا في وزارة الثقافة والإعلام.[4]

ألّف حسني فريز عددًا من الكتب المدرسيّة، وصدر له في الشّعر ديوان «هياكل الحبّ» عام 1938، وديوان «بلدي» عام 1954، وفي الشعر الشعبيّ ديوان «غزل وجزل» عام 1977. صدرت له أيضًا عدّة مجموعات قصصية مثل «عروة وعفراء» عام 1971، و«قصص من بلدي» عام 1975. كما ترجم فريز بعض الأعمال من الإنجليزية إلى العربيّة مثل «كليوباترا»، «أساطير الإغريق واليونان»، «طاغور»، و«قصص من شكسبير».

برزت خصوصيّة مدينة السّلط في أعمال حسني فريز النثريّة والشعريّة، ومنذ عام 1971 حتى قبل وفاته بيوم واحد عام 1990، ظلّ فريز يكتب مقالة أسبوعية في جريدة «الرأي» الأردنية،[5] رصد من خلالها العادات والتقاليد والحكايات الفلكلوريّة والثقافة الشعبية في مدينة السّلط، كما وثّق -على مدى عقدين من الزّمن- الحالة السياسيّة والفكريّة والثقافيّة في المنطقة العربيّة، وأتى على ذكر العديد من رفاقه في الأدب والعِلم والتعليم.

ساحة العين والمسجد الكبير في السلط.

سعى الدكتور هاني العمد إلى جمع هذه المقالات وتحقيقها في ثلاثة مجلّدات، صدرت عن وزارة الثقافة الأردنيّة بعنوان «مقالات حسني فريز» عام 2010،[6] كما سبق ونُشر جزء من هذه المقالات والخواطر في كتاب «ملامح من الماضي والحاضر» الصادر عام 1981، وكتاب «مع رفاق العمر» الصادر عام 1982.

أستعرض هنا جزءًا من هذه المقالات والخواطر، لنرى كيف تجلّت مدينة السّلط في ذاكرة حسني فريز مطلع القرن الماضي.

طبيعة السلط

يصف حسني فريز علاقته مع مدينة السّلط، وتأثّره بسحر طبيعتها في إحدى قصائده[7]، قائلًا:

كم قد حَببتُ من المدائن إنّما      للسّلط موقعها الحبيب الغالي
أمّي هنا وأبي ومهدُ طفولتي      ورفاقُ عمري الرّاسخون ببالي
وربيعها وخريفها وشتاؤها       والصّيفُ أحلامٌ وسحر جمالِ
إنّي حفظتُ زهورها وبقولها     وغناء قُبّرة الربيع الحالي
ونعمت في جبالها وسهولها      وقرأت في تكوينها أحوالي
أنا لستُ نهرًا في التدفّقِ إنّما     أنا سَلْسَلٌ من نبعها السّلسالِ

ويتذكّر فريز في إحدى مقالاته طبيعة السّلط الخلّابة، والحياة في ظلّ كرومها وأحراجها الكثيفة، فيقول: «السّلط أو سالتوس[8] مدينة الأحراج، وفي أيامي كان في ضواحيها بعض الأحراج، ولكنّ كرومها كانت تكسوها بالورق الأخضر في فصل الصيف. وهي الآن عريانة إلّا من شجر الزيتون الذي يتنافسون على زراعته»، ويبالغ في وصف أعناب السّلط وزبيبها فيضيف: «تمتاز أعناب السّلط بطعمها اللذيذ وقشرها الرّقيق حتى لتبدو البذرة لعين النّاظر في حبّة العنب وهي في القُطف. وبعض زبيبها لا مثيل لطعمه في الدنيا ربّما!».

وأمّا عن مجالس السّهر والسّمر عند الكروم، فيحكي لنا فريز: «في الكروم تكون اللّيالي السّاهرة على أنغام الرّبابا والقصص التي يقصّها الشّاعر نثرًا وشعرًا عن الحبّ والحرب والكَرَم، ويُسمّى الذي يلعب على الربابا ويقصّ القصص وينشد الأشعار شاعرًا، وإن كان غير شاعر لأنّه راوية غزير المحفوظ. وطالما كان الرّواة شعراء. وفي تلقيبه بالشّاعر تكريم له».[9]

وفي حديثه عن ثروة السّلط المائيّة في تلك الأيّام، يوضّح فريز أهمّية طواحين الماء في السّلط وعيونها الكثيرة:

«قبل أن يكون في السّلط مطحنة تُدار في البترول، كانت طواحين الماء تكفي حاجة السّكان في طحن الحنطة. وكانت تلك الطّواحين تمتدّ من وادي السّلط إلى وادي شعيب (..) كان في وادي السّلط أربع طواحين تدور في أواخر الشتاء إلى منتصف فصل الصيف، ولعلّها كانت أفضل وأغزر ماء. وكان في مدينة السّلط عيون كثيرة. كان فيها جامعان، وفي كلّ جامع بركة مملؤة بالماء وماؤها يفيض على الجوانب والماء دائم الجريان (..) كلّ هذه الينابيع تتدفّق وتغسل قدمي مدينة الأحراج ولا وجود لها الآن. وإذا انحدرتَ في الوادي مئات الأمتار وجدتَ عين الجادور التحتا والفوقا. ثم عين الفرخة والديك وبعد مئات الأمتار عين حزير (..) وإذا انحدرت كيلو متر وجدت عين المكرفت ومن تحتها وادي شعيب».[10]

ويبيّن فريز كذلك أساليب السّقاية آنذاك، والفرق بين العين التي يستقي منها الناس، والعين التي تسقي الدواب من الخيل والبغال والحمير، والفرق بين عين السقّائين المُخصّصة للرجال، والنبع المخُصّص للنساء، والذي يقع داخل بناء «لا يُرى مَن في داخله»، وذلك لمراعاة خصوصيّتهنّ واحترام مساحتهنّ الخاصّة في نطاق الحيّز العام للمدينة؛[11] حيث تغتسل النساء أو يغسلن ثيابهنّ، ومنهنّ من يستقين، ويحملن الماء على رؤسهنّ بتنكة أو في قربتين على ظهر حمار.

معماريّة السلط

يرى المؤرّخ محمد عبد القادر خريسات في ضوء دراسة شوارع السّلط وأزقّتها أنّ تخطيط المدينة يتماشى مع تقاليد العمارة الإسلامية في تخطيط المدن، بحيث أنّ المسجد والسّرايا (قصر الحكومة) يقعان في وسط السّاحة في مركز المدينة، «ومن المركز تتفرّع الطرق إلى المحلّات[12] المختلفة، مُشكّلةً في غالب الأحيان حارات أو أحواش مغلقة. وقد وُجِدت هذه الظاهرة في السّلط تمامًا. حيث انصبّت طرق المحلّات جميعها في مركز المدينة، وأُطلق عليها اسم السّاحة».[13]

شارع الحمام في السلط.

يتذكّر حسني فريز في إحدى مقالاته مدينة السّلط في الرّبع الأول من القرن العشرين، ويتحدّث عن طرقها وأسواقها، ويذكر اعتماد أهل السّلط على الدّواب من الحمير والكدش والبغال والخيل للتنقّل، إذ لم يستخدموا العربات حينها بسبب وعورة الأرض على حدّ قوله.[14]

وفي الحديث عن أسواق السّلط وأشهر صناعتها، يذكر فريز سوق الاسكافيّة القريب من الساحة:

«ومن الصّناعات الشهيرة صناعة الأحذية من الجلود المحلّية التي تدبغ محليًّا أيضًا (..) ولعلّه كان يوجد أكثر من مئة دكّان[15] لصنع الأحذية في سوق واحدة على الصفّين وصناعة البسط التي تقوم بها السيّدات، وكانت تلك البسط تُعتبر من مظاهر الثراء لغلاء ثمنها وجمالها ومتانتها. ومن ذلك صنع الفخار وكان من صنع النساء. والفخّار هذا لم يكن شهيرًا بجماله، ولكنّه كان نافعًا جدًّا اتُّخِذ منه الصّحاف والجرار للماء».[16] 

تتميّز مدينة السّلط بمعماريّتها الجميلة، وقد ساهمت «طبيعة السّلط السخيّة بالأحجار والأخشاب» في تحديد نوعيّة المواد الأولية للبناء على حدّ تعبير المؤرّخ خريسات، إذ كانت «الحجارة[17] من أكثر المواد البناء استعمالًا، ممّا أضفى على المدينة طابعًا معماريًّا مميّزًا. وساعدت الغابات التي كانت تحيط بالمدينة من كل جانب بتزويدها بالأخشاب اللازمة للبناء».[18] لكنّ فريز يعتقد أنّ الاحتطاب أهلك ثروة الغابات الطبيعية، وينتقد في إحدى مقالاته عدم حماية الحكومة للأشجار حينها، وقلّة وعي الناس بذلك.

ساحة العين والمسجد الكبير في السلط.

وفي وصفه لبيوت[19] الفلّاحين التي عرفها صغيرًا، ودخلها زائرًا، أو بائعًا متجوّلًا، يقول فريز:

«سقفه من قصب، فهو هادئ لا حرّ فيه في أيام الصيف العادية. مدخل البيت هو غرفة واحدة، يمتد أمامك بضعة أمتار، وينتهي المدخل بجوار المصطبة، وعلوه نحو متر أو أقل. وفي المدخل ينام الدجاج والماشية والدواب وغير ذلك»، ويقدّر أن ثلث البيت مخصص للدواب والضأن والدجاج.[20]

كما اشتهرت السّلط بالمضافات، وإكرام الضيوف وحسن استقبالهم. وقد احتوت كل محلّة[21] على مضافة أو أكثر في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، بحسب المؤرّخ خريسات، ولم تكن هذه المضافات مخصّصة لاستقبال الضيوف وإيوائهم ليلًا فحسب، بل ملتقى لسكّان المحلّة، حيث يجتمعون كل مساء لتبادل الآراء فيما يتعلّق بأمور معيشتهم. وكانوا كذلك يجتمعون في المضافات خلال ليالي الشتاء الطويلة، ويستمعون إلى قصص يقرأها عليهم أحد القرّاء في المحلّة، مثل «الزير بن سالم»، «وتغريبة بني هلال»، و«عنترة»، و«نمر بن عدوان»، وغيرها.[22] ويُذكر أنّ «مضافة أبي جابر» الواقعة قرب «ساحة العين» من أشهر المضافات في مطلع القرن العشرين.[23]

مضافة أبو جابر من الداخل.

يصف حسني فريز طقوس استقبال الضيوف، خاصّة في فصل الصيف، قائلًا:

«ومن مغيب الشّمس كنت ترى الضيوف أمام هذه العريشة أو تلك، أو ذلك القصر. ويطلقون كلمة القصر على العريشة التي تكون جدرانها من الحجارة المبنية كالجدران الاستناديّة من غير طين، والمسقوفة بأغصان الشجيرات والنباتات التي يقتلعونها من الكرم. ما أبدع النّومة في ذلك القصر والهواء يتخلّل جوها من السقف ومن الجدران وأنت تحت الغطاء الصّوفي (..) كان أهل الوجاهة يستعدّون للضيف ويهيّئون الخراف والجداء، والصيّف فرصة للقاء الصّحب ولإظهار نعمة الله على الإنسان».[24]

المجمع الإنجليزي في السلط.

عادات أهل السّلط وتقاليدهم

يتغنّى حسني فريز بلهجة أهل السّلط القريبة إلى قلبه في قصيدة «اليوبيل الذّهبي لمدرسة السّلط»، فيقول:

(ها كيف) أحيانًا ألذُّ بمسمعي
من ألفِ أوفٍ رنَّ في الموّالِ
(هاظَا الْلّاجاكَ) أرى لها ترنيمةً
ليستْ من اللفِّ الهزيلِ البالي[25]

ويذكر فريز أنّ الناس في السّلط، مطلع القرن العشرين، فريقان: الأوّل من الفلّاحين الذين يعملون في الأرض ويمتلكونها، ومنهم من يقوم بأعمال التّجارة البسيطة في الحوانيت وبيع الأقمشة والبِقالة، ومنهم من يعمل في حراثة الأرض وأعمال البناء، وينحدر وجهاء البلد وزعاماتها من طبقة الفلّاحين. أمّا الفريق الثاني فيتألّف من الأقلّيات؛ وهم النّاس الذين جاؤوا من نابلس خاصةً، يعملون في الحرف والحوانيت، يستأجرون الدكاكين أو يتملّكونها، والأقليّة الأخرى «ضئيلة العدد»، وهي العائلات التي جاءت من دمشق. وأصحاب الأرض من هاتين الأقليتيّن، كانوا يستعينون بالفلّاحين لزراعتها واستثمارها.[26]

أُطلق لقب «المدنيّة» على هذه الأقليّات الوافدة من المدن إلى السّلط، فيشرح فريز أسباب انضمام هذه الأقليّات إلى العشائر، قائلًا: «الأقلّية تتألّف من أُسر، في حين أنّ الفلّاحين يتألّفون من الحمايل والعشاير، والعشيرة معنيّة بحقوق كل فرد فيها (..) ومن اختار من الأقليّة انضمّ إلى عشيرة، ويُسمّى «لفوفة»، أي طارىء يلتفّ على العشيرة وهي مفضّلة عليه»، وقد انضمّ جدّ وأب حسني فريز إلى حمولة العطيّات، كما يقول.[27]

إحدى الشوارع الخارجة من شارع الحمام.

يستطرد فريز في الحديث عن الفرق بين حياة الفلّاح وحياة العامل، وفيما يُرمسن حياة الفِلاحة والعمل في الأرض من النّاحية العمليّة، فهو ينتقدها من النّاحية الاجتماعيّة، وخاصة أساليب تعامل الناس مع بعضهم، والاستغلال في الأمور الماليّة.

يعتقد فريز أنّ زوجة الفلّاح تختلف عن زوجة العامل، نظرًا لأنّ الأولى ليست محتجبةً عن الرجال، وتجلس بينهم إذا تقدّم بها العمر وهي أكثر اعتمادًا على نفسها، حيث تخرج إلى الحقل والطّاحون، وتساعد زوجها في الأرض، وإذا كانت «ابنة حمولة»، فإنّ ذلك يمنع زوجها من الاعتداء عليها بالضّرب والأذى خوفًا من عشيرتها. أمّا زوجة العامل، فيعتقد فريز أنّها ضحيّة لعنف زوجها، خاصةً إذا ما اشتكى من قلّة العمل، واتّهمها بأنّها «مُتبطّلة» رغم اعتنائها به وبأطفالهما، فيضيف: «تخشى إن هي تمرّدت عليه أن تكون عالة على أهلها لأنها لا تستطيع أن تعمل، فهي أمّية لا تقرأ ولا تكتب، وهي لا تعرف إلا أن تكون خادمًا (..) وهكذا تبقى في الجحيم الذي هو صحبة ذلك الزوج».[28] ناهيك عن معاملة بعض العمّال السيئة لزوجاتهم، بما يتناقض مع القيم الدينيّة والأخلاقية، وذلك ما يُسمّيه فريز «بالعمى الاجتماعي».

وفي إحدى مقالاته بعنوان «الأعراس عند الفلّاحين والعمال»، يتحدّث فريز عن تقاليد الزواج السائدة عند أهل السّلط؛ حيث عادةً ما تُقام الأعراس في فصل الخريف بالنسبة للفلّاحين، وذلك بعد انتهاء «موسم الغلال من الحبوب والعنب والزيتون والفاكهة»، كما يصف تقاليد الرقص السلطيّ، أو ما يُعرف «بالصّحجات»، فيقول:

«الصحجة السّلطية تكون هكذا: يقف الشباب على شكل نصف دائرة ويصفّقون ويكون لهم حادٍ يبدأ الغناء بقوله: هلا هلا بك يا ولد ريتك حنيفي يا ولد، ويقف الحاشي بعيدًا عن الحلقة مترًا أو أكثر وبيده خنجر، ولكن بعد وقت تنزل سيّدة أو فتاة لا تكاد عيناها تظهران لأنّها مُلثّمة وترقص بما يُشبه رقص الرجل، وقد يرقص معها رجل».[29]

أمّا أعراس العمّال وأهل الحِرف والحوانيت، فيعتقد فريز أنّها ذات نمط واحد تقريبًا، حيث يستأجر العريس «الحمّام البلديّ»، ويدعو الأهل والرّفاق ويلبس ثياب العرس «التلبيسة»، ثم تبدأ الزفّة قبل العشاء، فيصفها قائلًا: «والزفة هي ما يلفت النظر. حيث يردد الشباب وراء الحادي كلمات تتضمن مقطع ( يا حلالي يا مالي) ويدور معظم الغناء حول الغزل. وعندما تقف الزفة تحت بيت رجل بارز، الذي عادة ما يخرج ويرش على المحتفلين العطر، أو بعض أنواع من السكاكر. وتظل الزفة تمشي ببطء حتى تصل إلى بيت العريس. ثم ينساب إليه النقوط ولا يختلف عن نقوط العرس الفلاحي»، ويذكر أنّ «نقوط» العرس كان في تلك الأيام من أكياس الأرز والسّكر وحبّ القهوة والخِراف.[30]

السلّط في أواخر العهد العثماني وبداية عهد الإمارة

كان حسني فريز شاهدًا على أواخر فترة الحكم العثماني في السّلط، ويذكر أنّ النّاس في ذلك الوقت لم يدركوا معنى القوميّة العربيّة بالأبعاد ذاتها التي تطوّرت فيما بعد، فاعتبارات الحدود وجنسيّات البلدان لم تكن موجودة كما هي الآن: «إنّنا في زمن الأتراك لم نكن نعرف أنّ الدمشقيّ سوريّ، وأنّ النابلسيّ فلسطينيّ، وأنّ السّلطيّ أردنيّ، كما هو الحال الآن. ولم نكن قبيل قيام الثورة العربية الكبرى نعلم أنّنا عرب. لقد كنّا ننشد كل صباح أمام مدارسنا، وأمام الحاكم. لا أكراد، لا أتراك، لا عرب. (..) لكنّنا عثمانيّون».[31]

يحتفي فريز بذلك التعايش بين النّاس آنذاك، إلا أنّه لا يغفل عن شكوى النّاس من سياسات الفقر والتجويع، إذ كانت أوضاع الناس الصعبة سببًا في جعلهم يفرحون بقيام الثورة العربية على حدّ قوله: «عرفنا الجوع والمرض والقمل، ولم يكن ثمة مضادّات. ثم أحسسنا بالفرح بالثورة العربية الكبرى وغنّينا أغانيها». أمّا السّلطات التركيّة، فقد كانت تحتكر الطعام في مخازن، ويذكر أنّها «جعلت من دير اللاتين في السّلط مخزنًا أو عنبرًا للأرازق فكان الناس يقولون أنهم شاهدوا الحبوب والزيتون والزبيب والقمر الدين والملح والدّبس والبرغل وما لا أدري»،[32] حيث استطاع النّاس أن ينهبوا من خيرات العنبر، بعد محاربتهم للجنود الأتراك، وطردهم.

وفي إحدى خواطره، يتذكّر فريز أيام دخول الجند الإنجليز إلى السّلط، واحتشاد النّاس إعجابًا وأملًا بهم بعد أن ضاقوا بحكم الأتراك ذرعًا وحلموا بالخلاص، ويقارن مظهر الجنود الإنجليز النظيف، وأحذيتهم المتينة، بالعساكر الأتراك وأزيائهم الرثّة وأحذيتهم المُهترئة. كما يتطرّق إلى موضوع العملة النقديّة التي كان الإنجليز يستخدمونها، وكان ذلك على ما يبدو، بداية سقوط نظام الحكم العثمانيّ، والوقوع تحت سلطة الاستعمار الإنجليزي، فيقول:

«يشتري الجند بعض حاجاتهم بالعملة المصريّة المضروبة في عهد السّلطان حسين كامل عز نصره، إنّها لا تشبه المتاليك والبشالك والبراغيث، ولا تشبه العشرين فلسًا التركيّة، إنّها ضخمة تملأ اليد. إنّ المجيدي المصري أفضل من المجيدي التركيّ، هكذا يتحدّث الناس ويعجبون لرفاهية الجند ونظافة ملابسهم، ويجدون فرقًا كبيرًا بين مظهر الجندي التركيّ المسكين، وهذا المنظر المُسرف في بذخه!»[33]

وبصفته معلّمًا وتربويًّا وإداريًّا، ينتقد فريز المستوى الثقافيّ والتعليميّ، وسياسات التّجهيل والأمّية السائدة أثناء فترة الحكم العثمانيّ: «لمّا كنت يافعًا لم يكن في السّلط مكتبات. ولكن كان للمؤذّن الحاج شريف السختيان، رحمه الله، دكّان صغيرة ملاصقة لباب المسجد الكبير، وكانت تحتوي بعض القصص والكتب. وقد اشتريت منه مرّة أو أكثر، فأصبح بإمكاني بعدها أن أقرأ»[34]. كما يهجو أساليب التعليم الشائعة أيّام الكتاتيب والمدارس الحكوميّة الأوليّة في فترة الحكم العثماني، فيقول: «كانت الكتاتيب والمدارس قليلة في ذلك العهد والأمية شائعة. وكان الناس يدركون أهمية القراءة والكتابة، حتى إن الأهلين كانوا يأخذون الولد الى المدرسة ويقولون للمدير: إلك اللّحم وإلنا العظم، أي اضربه كما ترى وكما يحلو لك. وقد استغلّها بعض المعلّمين أسوأ استغلال».[35] ورغم أنّ المدارس كَثُرت بعد عهد الاستقلال، يرى فريز أنّنا علقنا في أساليب التعليم النظريّة والعنيفة تلك، وأضحى الوضع في المدارس الآن، رغم التقدّم العلميّ، أخطر ممّا كان عليه.

في ظلّ ندرة الدراسات والمراجع التي توثّق التاريخ الاجتماعيّ، وأنماط العمرانيّة البشريّة في مدن الأردن مطلع القرن الماضي، يمكن اعتبار مقالات حسني فريز وخواطره بمثابة وثائق هامّة، ترسم ملامح مدينة السّلط التي أُدرجت مؤخرًا على قائمة التراث العالميّ (اليونيسكو).

  • الهوامش

    [1] يذكر المؤرّخ محمد خريسات في دراسة أجراها عن تاريخ السّلط أنّ أول من سكنها هي فرقة من الأكراد الهكاريين، كانت مع جيش صلاح الدين الأيوبي. وفي عام 1879 تضاعف عدد سكان السّلط ليصل إلى 6000 نسمة، أمّا في عام 1913 ارتفع العدد إلى 10000 نسمة. للمزيد انظر/ي دراسة «في تاريخ مدينة السّلط (الصّلت) »، الصادرة عام 1997، ص38.

    [2] المصدر السابق.

    [3] ملامح من الماضي والحاضر، حسني فريز، ص5.

    [4]انظر/ي حسني فريز (1907-1990).

    [5] المرجع السابق.

    [7] من قصيدة «في اليوبيل الذهبيّ لمدرسة السّلط الثانويّة»، لقراءة القصيدة كاملةً، انظر/ي هنا.

    [8] وردت أسماء عدّة لمدينة السّلط على ألسنة المؤرّخين والباحثين، ويذكر خريسات أن سالتوس هي التسمية الرومانية بمعنى القوة والتّمتع بالحكم الذاتي، لكن بعض الباحثين الغربيين يعتقدون أنّ سالتوس تعود للأصول اللاتينية والتي تعني الجبال المقطوعة. أمّا بالنسبة للمؤرّخين والجغرافيين العرب، فقد استعملوا أسماء أخرى، للدلالة على السّلطة والقوّة أو الوضوح والبروز، مثل «الصّلت» عند المؤرّخ ابن الأثير (1232)، و«السّلط» عند الجغرافيّ ابن سعيد المغربي (1214-1243)، و«السّنط» لدى الزبيديّ. للاطّلاع على المزيد من التفاصيل حول تسمية مدينة السّلط ومعانيها، انظر/ي خريسات، ص16-19.

    [9] ملامح من الماضي والحاضر، حسني فريز، ص9-10.

    [10] المصدر السابق، ص7-8.

    [11] يذكر المؤرّخ خريسات أنّ هذه العين كانت تُسمّى «عين الحريم»، «حيث يُحظر على الرجال دخولها بأيّ شكل من الأشكال، حتى لو كانت النساء غير موجودات فيها، ويغرّم من يدخلها ب 25 قرشًا»، ص56.

    [12] يصف خريسات هذه المناطق التي كان يتمركز بها سكّان السّلط حسب أصولهم، والمختار المسؤول عن كل محلّة، مثل محلة الأكراد، محلة العواملة، محلة القطيشات، محلة الأغراب (النابلسيّة)، ومحلة النّصارى. للمزيد انظر/ي خريسات، ص 61.

    [13] خريسات، ص 49.

    [14] ملامح من الماضي والحاضر ص 6.

    [15]للمزيد عن تاريخ الأسواق التّجارية في السّلط، انظر/ي خريسات ص50.

    [16] ملامح من الماضي والحاضر، ص 7.

    [17] للمزيد حول أنواع الحجارة المستخدمة في البناء، انظر/ي خريسات ص 46.

    [18] خريسات ص 45.

    [19] للمزيد حول أنماط عمارة البيوت في السّلط، انظر/ي خريسات ص 42-ص49.

    [21] انظر/ي ملاحظة رقم 12.

    [22] خريسات، ص 58.

    [23] للمزيد حول المضافات المشهورة الأخرى في السّلط، انظر/ي المصدر السابق، ص59.

    [24] ملامح من الماضي والحاضر، ص10.

    [25] انظر/ي هنا السلط أول مدونة تبحث في ماضي وحاضر مدينة السلط الأردنية إنسانا ومكانا بدأت عام 2006.

    [26] المصدر السابق، ص5.

    [27] المصدر السابق، ص6.

    [28] المصدر السابق، ص12.

    [29] المصدر السابق، 79.

    [30] المصدر السابق، ص80.

    [32] المصدر السابق.

    [33] ملامح من الماضي والحاضر، ص 63.

    [35] مع رفاق العمر، حسني فريز، ص67.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية