فضيلة والصحراوي: وقائع حبّ معلن في «الراي» ومن أجله

الأربعاء 31 أيار 2023
فضيلة والصحراوي
تصميم محمد شحادة.

عندما سألني فاضل الحلاق هل تعرف الشابة فضيلة، أجبته بنبرة واهنةٍ، لا. عندها طرح مقص الحلاقة أرضًا، تاركًا رأس الزبون معلقًا على الكرسي الجلدي، واضعًا يديه حول خصره، وغرق في ضحك تنبعث منه رائحة السخرية، ثم قلص قوس حاجبيه وقال: «كيف لمراهق في مثل سنّك ألا يعرف الشابة فضيلة والشاب الصحراوي». وفي زاوية غير مكشوفة كان شقيقه مراد يعبث بشعره المجعد منتظرًا زبونًا جديدًا، ويتابع بصوت عالٍ أغنية منبعثة من المُسجّل؛ أغنية صاخبة، كانت سجالًا رهيبًا بين فضيلة والصحراوي. يتقاذفان فيها الحب والحنين والبوح كالوسائد.

سرحَ خيالي نحو ذاك الكم الهائل من الحب المبثوث فيها. تختلط فيه اللذة بالخوف، روائح الأجساد بروائح العطر، ضيق المكان باتساع المشاعر، القلوب بالحناجر، كل المتناقضات التي اجتمعت في مربع صغير، كل الخيالات، كل الانتصارات الصغيرة. لكن شيئًا ما في داخلي اعتراه الخزي، بسبب جهلي بهذا الثنائي. أحسست أنني غريب عن عالمي الصغير. لكن ذلك التلاشي الممتع الذي أحسسته وأنا أتخيل مشهد الحب جعلني أكثر تماسكًا في مواجهة هذا الجهل.

حدث ذلك في تسعينيّات القرن الماضي، في بلدة جنوب تونس على تخوم الصحراء. كان ضحك فاضل الملطخ بالسخرية دافعي نحو الاستماع لأغاني الشابة فضيلة، ومنها دخلت عالم الراي المؤنث، رغم أن صوتها كان فيه بقايا ذكورة لا أدري من أين جاءت، أو أنها كانت تفعل ذلك عمدًا إثباتًا للوجود في غابة من الغناء الجزائري الذكوري، حتى إنها لا تنسى في مطلع الأغاني أن ترسل التحايا لكاتب الكلمات والملحن وتذكر اسم استوديو التسجيل، على عادة فناني الراي من الرجال، وقد سار على نهجها من جئن بعدها من النساء. 

في ذلك الفراغ الرهيب، بين سقوط الاتحاد السوفياتي وأحداث الحادي عشر من سبتمبر، المُسمى تسعينيات، وحيث كان كل شيء سائلًا، تسللت إلى البلدة ظواهر جديدةٌ منها هوس الشباب بأغاني الراي الجزائري. كانت بلدتي حينذاك صغيرة بحجم راحة اليد، السوق ثلاثة شوارع أو أكثر قليلًا، فيها استوديو تصوير واحد وبائع شرائط واحد ومعبد يهودي وبضعة مساجد منثورة على حواشيها. ولم يكن تحصيل شرائط الراي سهلًا، ذلك أن الشرائط الجديدة تتأخر في الوصول إلى ذيل الخارطة. لكن العمال العائدين من العاصمة كانوا سبيلنا إلى الجديد، إذ كانوا يدسون حزمة منها في حقائب العودة. وفي ذلك الوقت لم يكن الإنترنت قد حلّ مشاكلنا في إيجاد الأغاني التي نحب بعد.

أخدود حفرته المياه

لم تولد موسيقى الراي وأغانيه في الجزائر، مطلع القرن الشعرين، منعزلةً أو مستقلةً. بل كانت كالأخدود الذي حفرته موجات مياه متنوعة. روافده كثيرة، بكثرة ما مرّ على الجزائر من ثقافات وألوان فنية: أندلسية وشرقية وأمازيغية وبدوية. تدفقت منصهرةً في شكل جديد سيصبح له سادة يسمون «الشيوخ». من الثلاثينيات إلى الستينيات، كان هؤلاء الشيوخ يمثلون طليعة الموسيقى الجزائرية، لكنهم ظلوا خجولين في مواجهة التناقضات التي كان المجتمع يعيشها تحت الاستعمار وخاصة في ظل الثورة بين عامي 1954 و1962.

في خمسينيات القرن العشرين سيزدهر رافد جديد من روافد ما سيصبح «رايًا» في السبعينيات، وهو غناء «المدّاحات»، وهن مجموعات من النساء في مدينة وهران غرب البلاد، يغنين في حفلات الزفاف أو الختان، سيعبّرن بشكل أفضل عمّا كانت تعيشه البلاد، ثم ستنتشر أغانيهنّ بشكل واسع داخل المجتمع المحلي. وهنا ستولد روابط كفاحية بين موسيقى وغناء الراي، الذي كان بالكاد في طور التشكل، وحرب التحرير الوطني. وسيكون نموذج أحمد وهبي، أحد مؤسسي الأغنية الوهرانية الحديثة، مثالًا دالًا على هذا التقاطع بين الفن والمقاومة. انضم وهبي إلى الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني في تونس، وخلال نشاطه بالفرقة سجل أغنيته «وهران وهران»، والتي كانت بمثابة نعي للمدينة الجزائرية، من خلال كلمات حزينة ولحن أشد حزنًا، يعبر عما كانت تعيشه في ظل الحرب. لاحقًا ستتحول هذه الأغنية إلى إحدى علامات الراي الجزائري الحديث، وسيعيد غناءها الشاب خالد بعد ثلاثة عقود.

بعد استقلال البلاد سيتجه الراي نحو مزيد من التبلور والاستقلالية عن بقية الألوان الفنية. منذ منتصف الستينيات بدأت محاولات بدائية لتكريس الراي لونًا مستقلًا. سيكون اثنان من رموز هذا الراي البدائي بمثابة قناة للأجيال الجديدة: بلقاسم بوثلجة ومسعود بلمّو. ظهر الأول في منتصف الستينيات وكان عمره 13 عامًا فقط عندما سجل أغنية «ميلودة». سيكون بوثلجة، رغم أنه لم يحظ بشهرة واسعة، أول من يدخل في ذخيرة الراي موضوعات تتحدث عن حالة النساء في المجتمع الأبوي في ذلك الوقت، وعن المحظورات الكثيرة. في سبعينيات القرن الماضي كان الراي ينفض الغبار عن موضوعاته، التي تجاوزت قصص الحب العذري البسيطة نحو الخمر والجنس والحب الحسي. وضمن مربع صغير بين وهران وسيدي بلعباس، كان الغرب الجزائري يحتكر إنتاج هذا اللون. فيما تتسع خارطة استهلاكه نحو جميع أنحاء الجزائر وأطراف تونس الغربية وشرق المغرب الأقصى، وأحياء الحوض الباريسي ذات الغالبية المغاربية، لاسيما حي باربيس.

في نهاية السبعينيات، بدأت السلطة تتسرب من بين أصابع الحزب الواحد كالماء. مات الرئيس هواري بومدين، في أعقاب مرض سريع وغامض. كان الجو باهتًا. الأجيال التي ولدت بعد ثورة التحرير وأثناءها، لا تكف عن التعبير عن عصيانها تجاه قداسة الشرعية الثورية للسلطة. ألقت الأشعة الأخيرة من سنوات بومدين ضوءًا غير واقعي على الجزائر. يغرق الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و17 عامًا في حياة الليل دون أفق. في هذا المناخ سيظهر شباب أكبر سنًا سيترجمون كل ذلك الشعور بالخواء، بينهم الشاب خالد والشاب مامي.

كانت وهران مختبرًا كبيرًا لتجريب أنواع جديدة من الموسيقى ومعاجم جديدة من الكلام، لصياغة معنى جديد لوقوع شبابها في قبضة الفوضى المتزايدة المرتبطة بالبطالة التي ابتليت بها المدن الكبرى، والحب التعيس أو المحرم. وقد شكلت أغنية خالد «راني نسوفري» (إنني أعاني) تلخيصًا لتلك المرحلة. كان الشاب صحراوي واحدًا من هؤلاء، حيث لم يكن سنه يتجاوز العشرين حينذاك، قادمًا من مدينة تلمسان، أقصى غرب البلاد، نحو وهران لتعلم العزف على آلة البيانو، ليقع في فخ الراي ويضيف إلى اسمه لقب «شاب»، جريًا على عادة أقرانه في مقابلة زمنية مع «الشيوخ» الذين وضعوا أسس هذا الفن باكرًا مطلع القرن.

طفولة الأسطورة وشبابها

ولدت الشابة فضيلة عام الاستقلال في حي الدرب الشعبي في وهران. صغيرةً جدًا انتمت إلى مغني الراي بوطيبة الصغير، أحد الذين وضعوا أسس الراي كما نعرفه اليوم. كما ترددت على فرقة الكاتب المسرحي عبد القادر علولة للتمثيل، لذلك اكتسبت باكرًا شجاعة الوقوف على المسرح ومواجهة الجمهور، وهي شجاعة كانت في حاجة لها عندما خرقت جدار الصمت والاحتقار أواخر سبعينيات القرن الماضي، لتصبح أول مغنية راي حديث بعد أن أطلقت على نفسها لقب «شابة»، شأنها شأن الرجال في هذا الفن الثوري. عام 1978، سجلت أول أغنية لها «ما حلالي نوم». فتح لها ذلك طريقًا نحو الشهرة المحلية، بوصفها الصوت الأنثوي اليتيم وسط غابةٍ من الذكور. كما جعلها ذلك تفتح الأبواب لمن جئن بعدها، لاسيما الشابة الزهوانية، التي ظهرت في وقت قريب من بداية الثمانينيات قادمةً من مجموعات المداحات. 

لم تولد موسيقى الراي وأغانيه في الجزائر، مطلع القرن الشعرين، منعزلةً أو مستقلةً. بل كانت كالأخدود الذي حفرته موجات مياه متنوعة. روافده كثيرة، بكثرة ما مرّ على الجزائر من ثقافات وألوان فنية: أندلسية وشرقية وأمازيغية وبدوية.

بجوار ثورة الراي، كانت الجزائر في ثمانينيات القرن الماضي تعيش تحولات ما بعد هواري بومدين. أفكار الصحوة الإسلاموية وأجواؤها التي جابت العالم العربي مشرقًا ومغربًا، ظهرت تأثيراتها واضحةً في الجزائر، منذ منتصف السبعينيات، عندما بدأ تيار إسلاموي يتشكل من روافد مختلفة، بعضها من داخل حزب جبهة التحرير الوطني نفسه. وبدأت الدولة من جانبها تحاول مواجهة هذا التيار من خلال المزايدة عليه في التشبث بالهوية الدينية والتقاليد الاجتماعية. في حزيران 1984، أصدرت السلطة قانونًا جديدًا للأسرة، مثّلَ انعكاسًا واضحًا لهذا المسار الجديد للدولة الجزائرية في سياق عام من شيوع أفكار الهوية على حساب تراثها التقدمي الثوري. كان مسار فضيلة المتجه أمامًا، يمشي عكس تيار السلطة المتجه إلى الوراء. 

في إحدى مساءات ربيع عام 1979، توجهت الشابة فضيلة إلى «استوديو الأفراح» في حي المدينة الجديدة بوهران لتسجيل أغنية من أغانيها. دخلت قاعة التسجيل الصغيرة حيث وجدت عددًا من العازفين بينهم محمد الصحراوي وقد ضم إليه آلة الأكورديون. كان الصحراوي حينذاك يراوح بين العزف والغناء، أمّا فضيلة فقد بدأت تتلمس طريقها بثقة أكبر بعد ألبومها الأول في عام 1978. بعد نهاية التسجيل ذهب كلٌ في طريقه، باستثناء الصحراوي الذي أصرّ أن يوصل فضيلة إلى باب منزلها. ربما في ذلك الطريق غير الطويل بين استوديو الأفراح ومنزل فضيلة أوقد كل منهما شعلة الحب في قلب الآخر. على ذلك النحو الذي سرده هاروكي موراكامي، بعذوبة وبهاء، في قصته القصيرة «عن لقاء الفتاة المثالية 100% ذات صباح أبريلي جميل». بعد قصة حب ذاعت وشاعت أخبارها في مقاهي وهران وحفلاتها، سيتزوج الثنائي عام 1983، لتولد بعد ذلك أسطورة فنية غير مسبوقة في تاريخ الراي، لكنها كانت داخله ومن أجله.

في العام نفسه، عام السعد والوعد بالنسبة لهما، ظهرت أغنيتهما المشتركة «نسال فيك». ولدت الأغنية بمحض الصدفة. كان الشاب الصحراوي قد قرر تسجيلها عند صديقه رشيد بابا، صاحب أحد أشهر استوديوهات التسجيل في ذلك الوقت. عندها تعرف رشيد على فضيلة للمرة الأولى، واقترح على سبيل الدعابة أن يقوم بتجربة لتسجيل الأغنية معًا. كان رشيد خلف الزجاج منتشيًا بالتجربة، ودون أن يفكر في الأمر، قرر أن يُثبت البروفة الأولى للأغنية ويطبعها على شريط الكاسيت. نجحت الأغنية، وتحولت إلى إحدى علامات الراي وما زالت تُسمع حتى اليوم. كانت سجالًا حميمًا بينهما، وليست مجرد أغنية ثنائية بين امرأة ورجل، بل بين حبيبين داخل الأغنية وخارجها. ثم ظهرت لهما أغنية «مانيش منا»، وهي إعادة كتابة وتلحين لأغنية جزائرية تراثية تحمل الاسم نفسه.

منذ منتصف الثمانينيات بدأ الراي يأخذ مكانه بقوة داخل أحياء الطبقة العاملة المغاربية في فرنسا. فقد بدأ الجيل الثاني من المهاجرين يتشكل، باحثًا عن جذوره. ممزقًا بين هوية فرنسية فرضها المكان وهوية الآباء والأمهات فرضتها عوامل التاريخ والزمن. في الوقت نفسه بدأ شباب وشابات الراي الوهراني يشعرون بأن مكانهم أصبح ضيقًا وقد اكتفوا بالمحلية. 

مطلع عام 1986، سيكسر الراي حواجزه ويعبر المتوسط نحو فرنسا. بدأ كل شيء في 23 كانون الثاني 1986: تاريخ انطلاق أول مهرجان للراي في ضاحية بوبيني، شمال باريس. جاء المغاربة والجزائريون والتونسيون والعرب من جميع أنحاء أوروبا، من أجل رؤية الشاب خالد والشاب مامي والشاب الصحراوي والشابة فضيلة لأول مرة على خشبة المسرح. يتذكر الصحفي والمنتج الموسيقي مارتن ميسونييه، الحفلة الرئيسية التي غنى فيها الجميع قائلًا: «كانت القاعة لا تسع إلا ألفيْ مقعد فيما حاول ألفا شخص بقوا في الخارج شق طريقهم إلى الداخل. كان هذا النجاح غير متوقع على الإطلاق بالنسبة لهؤلاء الشباب الذين لم يستفيدوا إلا من حملة دعائية صغيرة. لكنها كانت بالفعل أسطوريةً». 

في فرنسا ، كان يُنظَر إلى الراي من بعيد على أنه جسم غامض ثقافي وصل من الجزائر ولا يتحدث إلا عن الجنس والكحول والنساء. لمدة ثلاثة أيام، كان الراي عاريًا أمام جمهور مبتهج، الأمر الذي مثّل أول اعتراف به خارج حاضنته المغاربية. سيحظى المهرجان بدعم وزير الثقافة جاك لانغ، ومعهد العالم العربي ودار الثقافات العالمية، وستذاع الحفلات الموسيقية على راديو فرنسا الحكومي. كانت تلك شرعية ثقافية غير مسبوقة ستجعل من الراي ليس فقط مجرد لون غنائي محلي، بل موجةً عالميةً ستظهر بقوة مطلع التسعينيات. في هذا السياق بلغت أسطورة فضيلة وصحراوي ذروتها، من خلال جولات فنية في أوروبا والولايات المتحدة.

التسعينيات و«الشهقة» الأخيرة

في كانون الثاني 1992 استقال الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد من منصبه. كان ذلك التاريخ انعطافة جذريةً في مسار الجزائر المعاصرة. سيطرت النخبة العسكرية على السلطة بشكل مباشر. فيما أخذت قوة الجماعات الإسلامية تزداد يومًا بعد يوم. مع منتصف العقد الأخير من القرن دخلت البلاد مرحلة الحرب الأهلية والمجازر. ودشنت الجماعات مرحلة الاغتيالات السياسية التي طالت مثقفين وصحفيين وفنانين. في أيلول 1994 وصل الرصاص إلى قلب الشاب حسني أو حسني شقرون، أحد أبرز نجوم الراي حينذاك. كان حسني نجم الراي المحلي بلا منافس. من مراكش إلى تونس، عبر الجزائر العاصمة أو وهران، روحه الموسيقية موجودة في كل مكان في الحياة اليومية. صالونات تصفيف الشعر، وأكشاك الهاتف، والمقاهي. في اليوم التالي حزمت فضيلة والصحراوي حقائبهما نحو فرنسا. بطفلين وأحلام ممزقة بين البلاد والمنفى سيدخل الثنائي مرحلة جديدة.

خلال أعوام قليلة غادر أغلب نجوم الراي الجزائر نحو فرنسا. فيما لم تكن أخبار البلاد تحمل سوى أرقام الضحايا وتفاصيل المجازر البشعة. في 15 شباط 1995 يصل خبر إلى باريس مفاده اغتيال رشيد بابا، المنتج والمؤلف الموسيقى الشهير، في مدينة وهران خلال إحدى أماسي شهر رمضان. لم يكن بابا مجرد منتج بالنسبة لفضيلة والصحراوي بل صديقًا ومساهمًا في بناء هذه الأسطورة الثنائية. 

كانت التسعينيات ذروة المجد بالنسبة للراي، وشهقته الأخيرة، بوصفه موجةً عارمةً من شباب وشابات انطلقوا وانطلقن من أحياء وهران الشعبية إلى العالم.

وحدهما، الشاب خالد ومامي، يجدان توازنهما في المنفى الفرنسي، من خلال حفلات أسطورية في قاعات «البتاكلان» و«بيرسي» الباريسية، وعبر مرور دائم من خلال شاشات التلفزيون والصحافة الفرنسية. فيما يتوارى البقية خلف طبقة سميكة من الغبش.

كانت التسعينيات ذروة المجد بالنسبة للراي، وشهقته الأخيرة، بوصفه موجةً عارمةً من شباب وشابات انطلقوا وانطلقن من أحياء وهران الشعبية إلى العالم. في هذا المناخ المكلل بالحزن على ما يجري في البلاد، بدأ الشقاق يدب في قصة الحب التي ولدت قبل عقدين. قبل أن يقفل القرن العشرين دورته بشهور قليلة افترق صحراوي عن فضيلة. في مقابلة أجريت بعد 11 عامًا تقول فضيلة: «لقد انتهى حبّه في قلبي منذ 11 عامًا (..) إنه أبو أولادي، وجاري في فرنسا، كما إن زوجته الثانية صديقتي، وأبناؤه منها مثل أولادي، لكنني لا أتكلم معه منذ 11 عامًا، وسأستمر على موقفي حتى الموت، لسبب أتركه سرًّا بيني وبين خالقي (..) لو أردت الزواج بعده مثلما فعل، لكنت وافقت على عدة عروض وصلتني من رجال أعمال وحتى وزراء، لكنني قررت أن أتزوج أولادي، وأظل وفيّة لهم طيلة حياتي، فلعبت دور الأب والأم بالنسبة لهم».

أما صحراوي فقد وصف زواجه بفضيلة بأنه «أكبر أخطاء حياته». قبل أن يلوذ بعزلة منذ عشر سنوات، بدد شكوكها في مقابلة صحفية أعلن خلالها «توبته عن الغناء». قائلًا: «هذا القرار اتخذته منذ فترة طويلة بعدما شعرت أنني قدمت كل شيء، ثم ليس معقولًا أن أستمر في الفن وأنا جدّ، سئمت من حياة الليل، الآن بات لديّ الوقت لأجلس مع أحفادي محمد وزكريا وحكيم».

عندما أنظر إلى الوراء، أجدني قد خلفت ربع قرن ورائي منذ اللحظة التي خرجت فيها من عند فاضل الحلاق باحثًا عن شريط جديد لفضيلة والصحراوي. السنوات تعرّت كما الشمس. أمّا قصة الحب تلك، التي أحببناها، جيلي وأنا، فقد مزقتها مشارط التاريخ والجغرافيا. وأما المراهق الذي كنته فقد رفع منديل الوداع منذ زمن طويل لكنه لم يكفّ يومًا عن العودة إلى تلك الأسطورة وأغانيها محاولًا إعادة الزمن إلى الوراء دون جدوى. حزينة التسعينيات كانت وفي خاصرتها جرح غائر، ولكنها عاصفة ومجنونة كليلة حبّ، تتبّع ذكرياتها خطوي عبر الطريق كما يتحرّى الدليلُ الأثر.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية