المزيد من الهالات: عن العمل الفني في عصر الرمز غير القابل للاستبدال

الأربعاء 13 نيسان 2022
الرموز غير القابلة للاستبدال
أعمال فنية معروضة للبيع على موقع «نادي يخوت القردة الضجرة».

تحدّث مقدم البرامج جيمي فالون بحماس مع ضيفته باريس هيلتون عن رسوم القردة التي يملكها كل منهما، وعن الرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs)، وتقاطع حماسهما مع صمتٍ مريبٍ من الحضور في الاستوديو، الذين لا يكونون هادئين عادةً. يمكن أن يُنسَب هذا الصمت إلى غموض المفاهيم؛ لماذا القردة، وما هي الرموز غير القابلة للاستبدال؟ رسمت هذه المفاهيم وغيرها كسلاسل الكتل (Block chains) والعملات الرقمية صورة ضبابية العام الماضي، ما زال كثيرون حتى اليوم يحاولون فهمها أو الإحاطة بها، ويتعذّر الحديث عنها بشكل شامل أو المرور على كافة تفاصيلها رغم ترابط هذه التفاصيل. عوضًا عن ذلك، ينفع أن نبقي تركيزنا على الرموز غير القابلة للاستبدال، وأن نتفحص أهم الادعاءات التي تقدمها، خصيصًا في علاقتها مع عالم الفن وتغييره، والآثار المحتملة لذلك.

واحدٌ، من بين عدّة

غالبًا ما يُشار إلى الرموز غير القابلة للاستبدال بوصفها حلًا لمشكلة الإنترنت الأكبر، وهي الوفرة غير المحدودة. فكما نعرف، تنساب المعلومات على شبكة الإنترنت بطريقة لا يمكن السيطرة عليها، وتسمح لأي مستخدم بإنشاء عدة نسخ من أي محتوى يصادفه دون عناء، وخلال ثوانٍ فقط. ليس هذا الحل هو الأول أو الوحيد بطبيعة الحال، وكنت في مقالة سابقة قد أشرت إلى «المساحات المسيجة» على الإنترنت، التي تخضع لنوعٍ من الإحكام أو السيطرة لتنظيم تدفق المعلومات فيها، أو تسعيره. فما هو الفريد الذي تقدمه هذه الرموز لتستحق هذا الضجيج، خاصةً أنها لا تمنع أو تجرّم عملية النسخ، كما يجري في حالة قوانين حقوق الملكية.

الواقع أن هذه التقنية تُشبّه كثيرًا بـ«وثيقة الأصل» التي تُلحَق بالأعمال الفنية المادية أو الفيزيائية. إن امتلاك رمز غير قابل للاستبدال لا يعني نظريًا امتلاك الملف، الذي نكرر أن نسخه عملية سهلة، بل امتلاك رابطٍ يصادق ملكية المقتني للرمز، سواء أكان صورة أم مقطعًا صوتيًا أم مصورًا. يحدث هذا عبر تخزين مجموعة من البيانات في سجل رقمي، على سلسلة كتل «إيثيريوم» غالبًا، وهي عملة رقمية، إلا أن سلسلة الكتل الخاصة بها تسمح بأن تكون هذه البيانات فريدةً وغير قابلة للتبديل أو التعديل، عكس ما يجري مع العملات الرقمية. ويخلق ذلك «أصلًا» يتميز عن ملايين النسخ التي تظهر على الإنترنت، ويملكه المقتني، دون أن يملك بالضرورة حقوق الملكية الخاصة به بالطبع. 

تتسبب هذه المعلومات بالكثير من الحيرة لمن لم يدخلوا هذا العالم، وما زال «النسخ واللصق» مبدأً رئيسيًا يحكم تعاملهم مع الانترنت، وقد تكون العودة إلى مقالة الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين «العمل الفني في زمن إعادة إنتاجه ميكانيكيًا» وإلى مراحل من تطور الفن الرقمي مفيدة لإزالة الحيرة.

لم يكن الانتقال نحو «الرقمي» عادلًا بشكل كامل بالنسبة للفنانين، ويلخص ويليام ديريسيويكز في كتابه «موت الفنان» هذا الوضع بالقول إننا اليوم، رغم كل السهولة التي تسمح لأي منا بمشاركة عمله الإبداعي، ثمة صعوبة بالحصول على مردود مادي حقيقي من هذه المشاركة. ضمن هذا الاقتصاد الإبداعي كما يسميه ديريسيويكز، لا مكان للإبداع المأجور، والحقيقة أن أي فنانٍ اليوم قد يقضي فترة زمنية للترويج والتسويق الذاتي، تعادل الزمن الذي يقضيه أثناء صناعة عمله الفني. يرد الكاتب هذا إلى عدة عوامل، بينها شركات التقانة الكبيرة، التي تهتم بالمرور وتدفق البيانات، أكثر من اهتمامها بما تحمله هذه البيانات، وبآثار نشاطات كالقرصنة على العملية الإنتاجية، وقد يكون أبرزها تخفيض الشركات أو المنصات المنتجة لثمن أعمالها إلى حدٍ يجعل من القرصنة أمرًا لا طائل منه، وتحميل الفنانين كلفة هذا التخفيض. وحينما يختفي المردود المادي تظهر عملات خاصة بهذا السوق، كالعمل مقابل مزيد من «التعرّض» أو الـExposure الذي يفترض أن يمنح الفنانين فرصًا أكبر بالحصول على عمل مأجور يومًا ما. 

إن العلاقة المباشرة والفورية بين هذه الأعمال وطبيعتها الاستثمارية، ينبئنا بأنها لن تكون بالتميّز أو التفرد الذي نتصوره. إذ تُروّج هذه الاعمال بصريح العبارة بوصفها «استثمارًا».

يبدو هذا مدخلًا قصيرًا، وملائمًا، للتعريف بمحنة الفنانين اليوم، والتي ينطلق منها بعض المتحمسين للرموز غير القابلة للاستبدال حين يشيرون إلى العالم الجديد الذي «يمكّن» الفنانين في سوق عملٍ متوحش كهذا. ولم لا؟ تبدو المسألة للوهلة الأولى منطقية. فداخل هذا العالم، الذي يعاني من إفراطٍ في الوفرة بكل أشكالها، تبدو هذه الرموز قادرةً على خلق نوع من «الندرة» الصناعية بالمقابل، والتي تعادل الطلب والعرض وتعيد إلى العمل الفني شيئًا من القيمة التي فقدها عبر الاستنساخ والقرصنة. 

في مقالته، يقول بنيامين إن الاستنساخ أو إعادة الإنتاج الميكانيكية للأعمال الفنية عبر وسائط ناشئة، حينها، كالتصوير الفوتوغرافي والسينما، أودت بمفاهيم باتت باليةً، مثل العمل الخلاق والعبقرية، وأدت إلى زوال «الهالة» (Aura) التي تحيط بالعمل الفني. فقبل إعادة الإنتاج، حازت الأعمال الفنية فيما مضى على قيمة طقسية، تحدد معناها بحسب التقاليد الدينية التي خضعت لها ومرّت عليها. ومع بداية عصر النهضة وعَلمَنة الفن في أوروبا، ظهرت قيمة طقسية علمانية للأعمال الفنية، إلا أن العمل الفني في كل هذه الحالات كان نادرًا وأصيلًا ومتجذرًا في التقاليد، ومن هذا الشعور بفرادته، كانت الهالة تخلق مسافة بينه وبين المتلقي، وتبني علاقة يبدو خلالها العمل طاغيًا على هذا المتلقي، وغامضًا وغير قابل للإدراك بشكلٍ كامل. 

ولذا، ليست خسارة الهالة شيئًا سلبيًا بالمطلق، عكس ما يعتقده البعض عندما يقرأون مقال بنيامين بوصفه «دفاعًا غير مسيّس» عن تقاليد الصناعة الثقافية، كما تصفه الباحثة سوزان باك-مورس. فمع زوال الهالة تتاح الفرصة لتقريب الأعمال الفنية من العامة، واستبدال الطقسي بالسياسي، ما يعطي الفنون بعدًا ديموقراطيًا، ويستبدل الذهول كعنصر رئيسي في تلقي الفنّ ليحلّ محله الحسّ النقدي.

وعودةً إلى ما تقوله باك-مورس، لا يمكن قراءة المقال دون وضعه في سياقه والانتباه إلى ظرفه السياسي، مع بداية صعود النازية، والتحديات التي كانت تشكلها تلك المرحلة. وبالنسبة لبنيامين، فإن إضفاء البعد الديموقراطي على الفن عبر «تسييس الجماليات»، لا بالاعتماد على «موضوع» العمل وحسب، بل عبر الوسيط أيضًا بطريقة عرضه وتلقيه وعلاقة ذلك بوعينا، وتعاملنا مع السياسة، كان الحل والبديل للخطر الرجعي حينها، الذي «يجمّل السياسة» وحتى الحرب. 

بالنظر إلى اليوم، لا يمكن أن يعقد رهان متسق على هذه الإمكانيات، والواقع أن هذا كان مأخذ البعض على بنيامين ورهانه على زوال الهالة، فالسينما أفرزت «هالتها» الخاصة لاحقًا، من نجومٍ أو تجارب مشاهدة غامرة، ولم تحقق الإمكانيات المرجوة منها، مثلما ساهمت النسخ بحد ذاتها في ترسيخ قيمة الأصل لأعمال فنية معينة، كالموناليزا مثلًا، والأمر نفسه بالنسبة لتفاصيل أخرى، كالأعمال المنسوخة التي تتمايز عن بعضها كإصدارات محدودة أو موقعة. وعند ظهور الإنترنت، عاد بعض هذا التفاؤل. إذ طالت وسائل التواصل الاجتماعي هبات من المديح لـ«أفقيتها» وإضفائها بعدًا ديموقراطيًا على عملية التواصل. إلا أنها، كما يقول جوناثان بيلر في مقالةٍ عن الرموز غير القابلة للاستبدال، أنتجت نظام «الإنفلونسر»، بهالته الخاصة، وترجمت قدراتها الخطيرة في مواقف عدة حتى تحوّلت -خلال عقدٍ من الزمن- من أداة لتحقيق الديموقراطية إلى خطرٍ يتهددها، ومهّدت الطريق اليوم لفائضٍ من الهالات، حيث يمكن لتغريدة واحدة أن تعبث بحركة الأسهم أو أسعار العملات الرقمية.

لا يبدو أن الهالة قد انطمست فعليًا، بل تغيرت لتلائم هذا الشرط الجديد، وتضعنا أمام شخصيات يفترض أن نتأملها بالذهول والإعجاب نفسه. اليوم، يحظى المدراء التنفيذيون لشركات التقانة الكبرى بهذه الهالة، إلى الحد الذي يدفع البعض لتشبيه الثقافة التي يفرضونها بالطائفة (Cult). تقول الصحفية الأمريكية شيرا أوفيد في مقالٍ لها في النيويورك تايمز، إن سحر «العبقري» اليوم، بما يمثله، يساهم في خلق قطاع تقانة عفنٍ على الصعيد البنيوي، بما توفره الحالة الأسطورية التي ترافق صورة الفرد العبقري، من قوة وتفادٍ لتحمل المسؤولية. ويرفق جون باتريك ليري في جاكوبين مقطعًا من كتابه «كلمات مفتاحية: اللغة الجديدة للرأسمالية»، ويتتبع فيه التطور لكلمة «ابتكار» (Innovation) منذ كانت ترتبط دينيًا بمدعيّ النبوءة الكاذبين وحتى صارت كلمة رنانة اليوم، ومفهومًا أقرب للروح الإدارية التي تطوف حول كل أشكال المؤسسات، وتصف مزايا هاتف آيفون جديد حتى. ومع كلمات التأبين التي ظهرت في الصحف بعد وفاة ستيف جوبز ووصفته بصفات عدة كان أبرزها «النبي العلماني»، لم يعد المصطلح يؤسطِر العملية الإبداعية بحد ذاتها، بقدر ما صار مرتبطًا بتخصصات مهنية بعينها وبعد طبقي مميز، يلازم أعمال الياقات البيضاء وغايته جني الأرباح.

وليست مصادفة أن يقوم جاك دورسي، أحد «الأفراد العباقرة» والرئيس التنفيذي السابق لتويتر، ببيع أول تغريدة أطلقها على الموقع كرمز غير قابل للاستبدال. وهنا، يبدو أن ما باعه دورسي هو «التاريخ»، أو أولى صفحاته التي لم تكن لتكتب دونه، وصار من نصيب مشترٍ مميز أيضًا، أحكم قبضته على لحظة مقتطعة من الزمن.

أي مستقبل؟

لا يمكن أن يغفل تحليلنا حقيقة أن الفنان البصري «بييبل» باع لوحة كرمز غير قابل للاستبدال منذ فترة بسعر يفوق 69 مليون دولار، وهو رقم لم يكن الفنان نفسه يتصور أن يجنيه (ولا يلام على كل ذلك بالطبع).

 يدفع هذا المبلغ البعض للتفاؤل بأن هذا الشكل يبشر بوجود مستقبل للفنانين الرقميين. والحقيقة قد تكون بعيدة عن ذلك بعض الشيء. فرغم كل «التثوير» الذي تطرحه الرموز، كما يشاع عنها، علينا أن نسأل أنفسنا: لكم بييبل سيتسع هذا النظام الجديد؟ وهل سيفرض هرميته هو الآخر؟ فمقابل هذه الأرقام الفلكية لأعمال «الفنان العبقري»، تبدو الأرقام المعروضة للفنانين المغمورين شديدة التفاوت، للدرجة التي قد لا تساوي ثمن «صكّها». وكما أشارت بعض التقارير مؤخرًا، فإن أعمال بعض الفنانين تُصَك كرموز غير قابلة للاستبدال وتباع دون إذنهم. أكثر من ذلك، عندما نسمع عن تحدي هذه التكنولوجيا لسلطة المتاحف، لا يسع المرء إلا أن يتذكر أين سمع ادعاءات كهذه مؤخرًا. فمع ازدياد شعبية العملات الرقمية، طُرِح الادعاء ذاته، عن المصارف المركزية الشريرة والتكنولوجيا المتسامية عن الممارسات والأخطاء البشرية، والتي ستحل المشاكل القديمة، وبالطبع، فإن كل ذلك لم يعنِ الكثير حين نشأت طبقة من الـ1% الذين يمتلكون الحصة الأكبر من عملةٍ مثل بيتكوين، معيدة الشبح القديم إلى الواجهة، بحلة جديدة. 

مع زوال الهالة تتاح الفرصة لتقريب الأعمال الفنية من العامة، واستبدال الطقسي بالسياسي، ما يعطي الفنون بعدًا ديموقراطيًا، ويستبدل الذهول كعنصر رئيسي في تلقي الفنّ ليحلّ محله الحسّ النقدي.

عند هذه النقطة، يذكرنا بنيامين بما يميّز الفاشية، وهو تنظيم واستيعاب الجماهير دون المساس ببنى الملكية التي تسعى هذه الحشود لتغييرها، والاستعاضة عن ذلك بفرصة «لتعبر هذه الجماهير عن نفسها»، وإقناعها بضرورة الحفاظ على هذه البنى أو العودة إلى بعضها، كما يحدث الآن. واليوم، مع التقديم الذي بتنا نعرفه عن حال الفنانين، ومع التبعات الاقتصادية لجائحة كورونا، والتي يبدو حتى اللحظة أن الفرد الاعتيادي هو من سيدفع ثمنها، يمكن فهم ما تقدمه هذه «الفرصة» بالضبط. فهي ستعد الفنانين بحدودٍ تسيج أعمالهم وتعيد لها كل ما فقدته، وستمد الفرد الاعتيادي بمدخله ليصبح هو الآخر جامع تحف أو مضاربًا فنيًا. وليست هذه الناحية جديدة بالضبط، إذ اشتهر في الأعوام الأخيرة تطبيق «روبن هوود»، عبر محاولته لتمكين العامة ليصبحوا مضاربين في الأسواق، باعتبار أن هذه المخيلة، وإن استندت إلى مظلمات حقيقية وحاولت الظهور بمظهر المجيب لها، لا تستطيع تصور حلول أكثر جذرية. 

يروي أنيل داش، وهو أحد مطوري هذه التقنية بشكلها الأولي، خيبته من شكلها اليوم، إذ يقول إنها في الأصل كانت محاولة حقيقيةً وصادقة لحماية حقوق الفنانين وإنشاء سجلات لتعاملاتهم. والواقع أنها رغم ما تبدو عليه اليوم ما زالت لم تتطور في ناحية مهمة عن النموذج الذي وضعه داش مع الفنان كيفن مكوي، وهو عجز تقنية سلاسل الكتل عن تخزين الملفات كالصور مثلًا، لذا، فإن ما يخزن عليها فعلًا هو رابط إلكتروني لهذه الصور، ما يعني زوال الأعمال بزوال الرابط، وهو تحدٍ يتضح تناقضه بين فكرة فرض «أصلٍ» يتفوق على كل النسخ، وسهولة زوال هذا الأصل.

إلا أن أهم نقطة يستعرضها داش هي روايته لكيفية حدوث هذا التحول. لا شك أن حالة الإغلاق التي ترافقت مع فيروس كورونا، وشملت المتاحف والصالات الفنية، قد سرّعت المضي في هذا الاتجاه، إلا أن داش يلفت النظر إلى عامل آخر. فمع انتباه الأثرياء لسلاسل الكتل، تحولت التقنية إلى ملجأ يسمح لهم بتخزين أصولهم، كما يفعلون عادةً في عقارات لن يزوروها أبدًا، وبدأ هؤلاء بتخزين العملات الرقمية، التي سترتفع قيمتها مع ازدياد الإقبال على شرائها. وخلال هذه الفترة، لم يكن هؤلاء أمام الكثير من الخيارات التي تسمح لهم باستخدام مدخراتهم الرقمية، لذا وجدوا ملاذًا مثاليًا في سوق الفنون الناشئ هذا، والذي يمتاز -بحسب داش- بأنه لا يشترط وجود أي ذائقة أو خبرة بالفن ويحتمل بفعل المضاربة أن يدرّ أرباحه.

أكثر من ذلك، إذا ما تخطينا نسبية مسألةٍ مثل الذائقة، أو ما الذي يجعل من عمل فني جديرًا بهذا الاسم، فإننا نتساءل، لأجل التبسيط، عن القيمة الفنية لبعض الأعمال المباعة اليوم، ولنأخذ تجربة «نادي يخوت القردة الضجرة» على سبيل المثال. يُعتبَر الموقع اليوم رائدًا في نهضة الرموز غير القابلة للاستبدال، ورغم «فرادة» كل رمز، تبدو المفارقة واضحة: بالكاد يمكن أن يختلف كل عملٍ عن الآخر، بحيث يصعب تصوّر أن الملكية لأحد هذه الأعمال تنبع من خصائص «فريدة» داخلة في تكوينه، وتجعل منه المعادل الرقمي لعملٍ من أعمال «الفن الرفيع»، بقدر ما يتعلق ذلك بالاستعراض الذي يرافقه والدعم الذي تلقاه من مشاهير الثقافة الشعبية. ليست كل الأعمال شبيهة بتلك الخاصة بنادي اليخوت بالطبع، إلا أن حجمه يجعل من المرور عليه أمرًا ضروريًا، خاصةً أن تجارب شبيهة قد استلهمت طريقته، مثل الأسود الكسولة ونجوم سرطانات البحر(Lobstars).

وفي الواقع، إن العلاقة المباشرة والفورية بين هذه الأعمال وطبيعتها الاستثمارية، ينبئنا بأنها لن تكون بالتميّز أو التفرد الذي نتصوره. إذ تُروّج هذه الاعمال بصريح العبارة بوصفها «استثمارًا». ومع كل هذا الضغط من الشارين والمستثمرين، وإذا ما عدنا إلى الملاحظة القديمة ذاتها، عن تأثير البنى التحتية بمختلف نتاجات البنى الفوقية، والتي يذكرنا بها بنيامين في بداية المقال، سيبدو من الطبيعي لرأس المال، ضمن صناعةٍ سريعة التقلب كهذه، أن يحدد الجماليات ويعرّفها بشكل شديد المباشرة، وهو ما يدفع بالفنانين نحو العمل على ما يقترب من هذه الجماليات، ويزيد من فرص البيع أو تحقيق الربح، على حساب أي تجديد أو تميّز أو فرادة، إن صحت الكلمة. ولمّا كان بنيامين يصف هذا التطويع بالبطيء، فاليوم يبدو وكأنه يجري بسرعةٍ أكبر، وصار بالإمكان الحديث عن «جماليات» محددة وواضحة لـ«فن الكريبتو». 

الفردوس المفقود

يورد بنيامين بيان المستقبلي الإيطالي فيليبو مارينيتي عن الحرب الإثيوبية الاستعمارية، والذي يصف بإسهاب جماليات الحرب، ويشير إلى أن الحروب وحدها تستطيع حشد الوسائل التقنية للحاضر من أجل الحفاظ على نظم الملكية الموجودة. فعندما تقيّد هذه النظم التوظيف الطبيعي لقوى الإنتاج، يؤدي تزايد المستحدثات التقنية والسرعة ومصادر الطاقة إلى توظيفٍ آخر غير طبيعي لها، يتمثل ذلك بالحروب، التي تدل وفقًا لبنيامين على عدم نضوج المجتمع كفاية ليستغل هذه التقنيات الجديدة، العاجزة بدورها عن التكيّف مع القوى المجتمعية وحل التناقض بين وسائل الإنتاج الجبارة والاستفادة الضئيلة منها في الإنتاج الفعلي، كما يعبر عن ذلك في أوقات الكساد والبطالة. ويصف هذا البحث عن مكامن الجمال في الحروب كأوضح صيغ «الفن لأجل الفن». 

قد يرد البعض على عمليات الاحتيال التي تنخر هذا المجال بكونها عرضًا لا يمكن تفاديه، أو واحدة من المشاكل التي تعزى إلى الجدّة النسبية، مثلها مثل الحديث عن احتمالات ممكنة لغسيل الأموال والتهرب الضريبي (وهي مشاكل نجدها بالطبع في عالم الفن «التقليدي»). إلا أن ثمة مشكلة أخرى تصرّح عن نفسها، ولننظر هنا إلى الكلفة البيئية لهذه التكنولوجيا الجديدة. إن المعادلات المعقدة التي تقوم الكمبيوترات الخارقة بحلّها، لا لشيء سوى تصنيع «الندرة» اليوم، تنتج كمية هائلة من الغازات المسببة لرفع درجات الحرارة، لتصبح تهديدًا إضافيًا وعاملًا دخيلًا على معادلة لا يمكن وصفها بالمتزنة إطلاقًا، ويتضح كل يوم عدم اتزانها هذا، مع كل تحذير بيئي جديد. 

إزاء حقائق كهذه، لا بد أن يتساءل المرء عمّا إذا كانت المسألة برمتها تستحق هذا الثمن الباهظ، فاليوم تبدو الفكرة تطبيقًا لعبارة «فليُصنَع الفن ولو على حساب فناء العالم» التي صاغها بنيامين (وسميّت باسمها مجموعة أعمالٍ معروضة على موقع Opensea الخاص بالرموز غير القابلة للاستبدال)، واستخدامًا للتكنولوجيا الموجودة بين أيدينا لا لتحسين جودة الحياة، بل للتفكير بـ«خصخصة القمر»، أو تطوير «أسواق عقارية افتراضية»، بينما تقول الصورة على الجانب الآخر أشياء كثيرة عن أزمات أكثر مباشرة وإحاطة بنا، تبدأ بسلاسل الإمداد والطاقة والأجور، ولا تنتهي عند الحروب بالمعنى الحقيقي للكلمة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية