مؤنس الرزاز

المعماريّة الأدبيّة في روايات مؤنس الرزّاز: «جمعة القفّاري» و«متاهة الأعراب» أنموذجًا

بالاستناد إلى إحدى جدرايّات الغرافيتي في جبل اللويبدة لمايك دردريان ورمزي. تصوير: محمد المصري، كاريكاتير: ميرما الورع، إعداد: أحمد صلاح ووفيقة المصري

المعماريّة الأدبيّة في روايات مؤنس الرزّاز: «جمعة القفّاري» و«متاهة الأعراب» أنموذجًا

الإثنين 21 شباط 2022

( هذا المقال جزء من ملف أنتجته حبر في الذكرى العشرين لرحيل الكاتب الأردني مؤنس الرزاز، لقراءة باقي مواد الملف اضغط/ي هنا)

«للحياة اليوميّة غرابةٌ لا نلمسُ منها إلا سطحها الذي ترتسم حافّته على خلفيّة ما نرى، فالجزء الأكبر من هذه الغرابة يتحرّك بعيدًا، حيثُ تغفل عنه النظرة الشموليّة للعين. في هذا المشهد، ثمّة ممارسات غريبة عن الفضاء الهندسي والجغرافي للمنشأ البصريّ، ونظرته الشموليّة. تعمل هذه الممارسات حسب شكلٍ محدّد، مُستندةً إلى فضائيّة مُختلفة (تجربة فضائيّة إنثروبولوجيّة شاعريّة وغامضة)، وإلى حيّز أشبه بالهالة في المجال الأعمى للمدينة المسكونة. إنها مجازيّة لا نلمحها إلّا في لحظات تنقّلها وتغيّرها الدائم وسط النصّ الواضح للمدينة المقروءة».[1]

يبدو مؤنس الرزّاز من خلال اشتباكه مع الفضاء المكاني في عدد من أعماله الروائيّة مثل معماريّ مُتمرّس، يحفظ أحياء المدينة وأبنيتها وشوارعها، فيُحرّك شخصيّاته في النصّ كما لو أنّه يرسم خرائط ومُخطّطات عبر حركتها ومساراتها المُتعدّدة. يُعيد بذلك ترسيخ الفضاء العامّ للمدينة كما نألفه أحيانًا، ويبتكر فضاءات مغايرة لما اعتدنا عليه أحيانًا أخرى. إذ تلفت حبكاته السرديّة أنظارنا إلى ديناميكيّة الحياة في المدينة وطوبوغرافيّتها، فيُسمعنا لحظاتها الصاخبة والهادئة في آن، كما يُقحمنا في ديموغرافيّة المدينة عبر صراع الشخصيّات وتنوّع استجاباتها، ثم يُسافر بنا دون سابق إنذار إلى فيافي الصحراء ومتاهاتها.

لا يغفل الرزّاز عن إضاءة فضاءات المكان الشاعريّة الخفيّة، ليتركنا نُعاين نظرتنا المألوفة إليها، ونتساءل عن إمكانيّات أخرى للانخراط في واقع المدينة، والقبض على هويّتها المُتذبذبة. إلا أنّ السرد يتفلّت من بين يديه، فتضلّ الشخصيات طريقها، لنضيع معها بين تراث الماضي وحداثة المستقبل.

يعكس العنوان والمبنى السرديّ لرواية «متاهة الأعراب في ناطحات السراب»، الصادرة عام 1986، مقاربةً للتوسّع العمراني الذي طرأ على مدينة عمّان في أواخر القرن الماضي، مُتقاطعًا مع بداية الثورة المعلوماتيّة التي خلّفت آثارها على أبنية المدينة وواجهاتها، وطالت حياة سُكّانها، فتركتها في حالة فصام مُزمن بين الماضي والحاضر. من جهة أخرى، تعكس رواية «جمعة القفّاري: يوميّات نكرة»، الصادرة عام 1990 مشاعر الاغتراب عن الذات لمواطن عمّاني اكتشف بأنّه يجهل الكثير من التفاصيل حول مدينته عمّان، وبلده الأردن بشكل عام.

تتصعلكُ شخصيّات الرزّاز وتهيم على وجوهها، يُنزلها من برجها العاجي ويُدخلها في اشتباكات مع الفضاء العامّ، كأنّه يُحاولُ يائسًا أن يُذيب الحدود بين شرق عمّان وغربها، وبين معالم التمدّن وحياة الصحراء، لكنّ الحدود تمسي مرئيّةً أكثر كلّما تكلّمت الشخصيّات أو تحرّكت على سجيّتها.

فكيف تحوّلت أفكار الشخصيّات وحواراتها إلى خطوات أقدام ومسارات اختياريّة أو إجباريّة في شوارع المدينة؟ وكيف يخطّط الرزّاز معماريّة عمّان ويُهندسُ شوارعها ومرافقها باستخدام البناء السرديّ واللّغويّ؟ إلى أين يُسافر بشخصيّاته؟ ولماذا تلفظُها شوارع المدينة بينما تبتلعها متاهات الصحراء؟ وكيف عكست غرابة السرد ومفارقاته مشاعر الاغتراب عن الذات في كلا الروايتيْن؟

جُمعة القفّاري: المُتصعلك المُتمدّن

يتّخذ السرد الشذريّ ليوميّات «جمعة القفّاري» شكل مسارات مُتفرّقة يسلكها وحيدًا أحيانًا، أو برفقة ابن عمّه «الغلباويّ»، أو بصحبة واحدة من النساء اللاتي يتعرّف إليهنّ ولا ينجح في استبقائهنّ معه.

يُطلّ علينا «جمعة» في مُقدّمة الرواية مُعترفًا: «نعم أنا جمعة القفّاري الذي عاش طوال حياته في عمّان الغربيّة. لم يغادرها إلا في سفرات سياحيّة إلى أوروبا، أو للعلاج في أمريكا. نعم أنا نكرة».[2]

شخصيّة «جمعة القفّاري» كما يُصوّرها الرزّاز تتّصف بالغرابة والسذاجة، وتنطوي على كثير من التناقضات، فهو «صعلوك نبيل» و«مقطوع من شجرة»، يُحبّ المغامرات ولا يُقدم عليها، يتسكّع ويتجوّل في شوارع المدينة بلا طائل، يحلم بكتابة رواية اسمها «مغامرات النعمان في شوارع عمّان»، يُسقط من خلالها عدم معرفته بمناطق عمّان وجغرافيّة الأردن على بطل روايته «نعمان العمّوني».

ثمّة أنساق أدبية دفينة في السرد تشفع له فوضى نصوصه الظاهرة، وتُخرجه من مآزقه السردية الماكرة التي يُقحم نفسه فيها عن سبق إصرار وترصّد.

يعمد الرزّاز إلى توضيح حدود المدينة منذ البداية، وبذلك يُحيل السرد إلى خريطة تشتمل على مسارات ومُحاولات «جمعة» الفاشلة في التعرّف إلى ما يجهله من عمّان، والانخراط مع فئات مُختلفة من المجتمع على نحو يُعرّضه لتنوّع مشاهد الحياة في المجتمع الأردني وتناقضاتها، يقول «جمعة»: «بوسع الإنسان في الأردن أن يعيش في عمّان الغربيّة ويموت فيها، دون أن يكتشف مجاهل «جبل النظيف» الذي تحتاج شوارعه إلى حملة تنظيف، ولا «جبل النزهة» الذي لا يصلح للنزهة».[3]

يبرز عنصر الميتاسرد أو السرد الماورائي عبر تداخل روايّة الرزّاز مع رواية «جمعة القفّاري». إذ تعكس أفكار «جمعة» الأوليّة حول الرواية التي يودّ كتابتها رغباته الدفينة في خلق «بطل يتمنّى أن يكونه، بطل خاض المعارك وضرب في أرجاء الأرض، وسيسمّيه عون كيشوط، أو عون الكياشطة، نسبةً إلى دون كيشوت الأندلسي»،[4] بطلٌ يُعيد أمجاد الماضي، رغم تموضعه في مكان وزمان مُغايريْن. لكنّ «جمعة» يغيّر رأيه على إثر الانتقاد الذي تعرّض له من ابن عمّه «كثير الغلبة»، وفي محاولة للتصالح والانسجام مع فضاء المدينة الذي يجهله، يُقرّر أن يكتب روايةً عن «النعمان» المُتجوّل في شوارع عمّان.

هكذا، تُضحي عمليّة الكتابة دافعًا للتعرّف إلى المدينة وإعادة قراءتها بشكل مغاير للمألوف: «كان يُسمّيها عمّان: «الرحم والملاذ» وبدأ يكتب أوراقه ويتهيّأ لمرحلة التأقلم والانسجام والتعامل مع الحياة بواقعيّة (..)».[5]

يُعنون الرزّاز بعض فصول الرواية بأفعال مضارعة، مثل: «جمعة يشمّ الهواء»، «جمعة يبحث عن مغامرة»، «جمعة يعثر على عمل بعد شهور من البطالة»، «جمعة والغلباوي يتسكّعان». تشير هذه الأفعال، وإن كانت عبثيّة، إلى حركة «جمعة» ورغبته في الالتحام مع المدينة، والإقدام على فعل يُخلّصه من إحساسه بالجهل وأنّه مُجرّد نكرة وعاطل عن العمل، مريض بالأحاسيس المرهفة، يعيش في عالمه الخاص مُنفصلًا عن محيطه الخارجيّ وبعيدًا عن قساوة الحياة اليوميّة وخشونة الواقع.

يُراوح الكاتب بين توظيف الفضاء الخاصّ مثل البيت، والفضاءات العامّة على شاكلة المقهى، والمطعم، والفندق، والمكتب، والمستشفى، والمكتبة، إلخ، إلا أنّ الفضاء العام الخارجيّ المُتمثّل في الشوارع والحدائق له تأثير جليّ على السرد. يتعرّض «جمعة» عبر التجوّل في الشوارع أو من خلال الجلوس في الحدائق إلى مواقف تُوحّد بينه وبين الفضاء العام، كأنّه في تماهٍ مع المدينة ومعالمها، يتطبّع بطباعها وتناقضاتها: «ثمّة ما لا تعرفون عن «جمعة»، لقد كان مُزدحمًا بالمُعضلات مثلما تزدحم شوارع وسط البلد أيام الخميس بالمارّة والسيّارات، ومُقفّرًا من الصداقات مثل شوارع الأحياء الراقيّة أيام الجمعة».[6]

لكن ذلك التماهي والانسجام بينه وبين المدينة لا يدوم طويلًا، وسرعان ما تفسده المواقف الغريبة التي يواجهها «جمعة» نتيجة إصراره على التصرّف والحركة بتلقائيّة وعفويّة، كمدينة بلا تخطيط أو تدبير، ما يُضاعف من إحساسه بأنّه خارج عن المكان.

وبين عمّان الغربيّة كما يعرفها وعمان الشرقيّة التي لا يعرفها، يظلّ «جمعة» شاهدًا على تغيّر المناطق التي يألفها جرّاء التحوّلات العمرانيّة الطارئة على المدينة. يعكس مشهد جلوس «جمعة المقطوع من شجرة» في إحدى حدائق عمّان الصغيرة المستديرة، على سبيل المثال، تصادم رغباته في الشعور بالانتماء إلى المكان مع أهداف التخطيط العمراني الجديد للمدينة. يصلُ أحد المهندسين على حين غرّة مع العمّال والجرّافات ليفسدوا عليه لحظات استمتاعه بالمساحات الخضراء: «هذه الحديقة تعيق السير. قرّرنا اقتلاعها. إنّ هذه الجزر تنتمي إلى الماضي في علم تخطيط المدن، أعني أنّ الإشارات الضوئيّة تنتمي إلى العصر الحديث وهي بديل، أو بالأحرى».[7]

المشي بلاغةً

تتحرّك الشخصيات في حيّز الفضاء العام بطريقتها الخاصّة، تقفُ، وتجلسُ، وتتكلّم، وتصمت وكأنّها تكتبُ سرديّتها الخاصّة في مكان عامّ بأسلوب يُميّزها، وتختار مساراتها في المدينة كما تختار أسلوب حياتها أو كلامها، لكنّها في الوقت ذاته تتشكّل بوحي من الوعي الجمعيّ، وبتأثّر من الثقافة والمجتمع والطبقة الاجتماعية، وعوامل أخرى.

وبشكلٍ موازٍ، يُمكن لنا أن نقارب أسلوب الحياة اليوميّة للأشخاص والحركة في الفضاء العام مع الهويّة المعماريّة للمدينة التي تتشكّل بفعل الحركة والسكون، والبناء والهدم، والطبقات الاجتماعيّة، والأسلوب المعماريّ الذي يتراوح بين الذوق الفرديّ (المباني الخاصّة مثل البيوت المُستقلّة أو المكاتب الخاصّة)، أو الذوق الجمعيّ (المباني العامةّ والمؤسسات الحكوميّة).

ورغم أنّ الكاتب هو الذي يقف وراء خيارت الشخصيّات وحركتها في مسارات مُحدّدة، لكنّه يفعل ذلك بوحي من الوعي الجمعيّ الذي يُمكّنه من توزيع معرفته وتجربته مع المكان والناس على شخصيّاته، لكن لنا أيضًا أن نتخيّل أنّ الشخصيّة الرئيسيّة «جمعة» تعكس جزءًا من شخصيّة «الرزّاز» أو سرديّته ربّما، تمامًا كما يبدو أنّ «نعمان العمّوني» هو نسخة من شخصيّة «جمعة» حسب ما لاحظ أصدقاؤه ومعارفه عندما أخبرهم عن روايته. ومن هنا، فإن أسلوب الكاتب في البناء السردي واللغويّ، ينطوي على أجزاء من صفات الشخصيّات وأسلوبها، تمامًا كما ينطوي البناء المعماريّ على جزء من هويّة المدينة وسكانها، وممارساتهم اليوميّة.

مؤنس الرزّاز ليس محض معماريّ مُتمرّس، بل فيلسوف وأنثروبولجيّ وأركيولوجي مُخضرم، يحفر عميقًا في دهاليز المدينة، ثمّ يخرج إلى سطح نصوصه ساخرًا منّ كل شيء، حتى من نفسه!

في كتابه «ابتكار الحياة اليوميّّة» عام 1990، يرى ميشال دو سارتو أنّ عمليّة المشي بالنسبة للتخطيط الحضري تشبه الخطاب بالنسبة للغة، فالمشي هو طريقة للحركة والتعبير في حيّز المدينة تُحدّده أنظمة معماريّة، والخطاب أيضًا وسيلة تعبيريّة تتخذ حيّزًا مسموعًا أو مقروءًا وتحدّدها الأنظمة اللغويّة. من هنا، يُعرّف دو سارتو المشي على أنّه فضاء لفظيّ، ويقارب بينه وبين فنّ البلاغة في الكلام، إذ تُمثّل المسارات والانعطافات التي نسلكها في طريق ما خيارًا مُشابهًا للأساليب اللغويّة والكلمات التي نستخدمها للكلام أو الكتابة. هكذا، فإنّ المشي كما يراه دو سارتو فنّ من فنون التعبير البلاغي، فالقدرة على الكتابة والتعبير بأساليب بلاغيّة بالنسبة له هي عملية انتقاء وتأليف بين الكلمات كما يؤلّف ويجمع مَن يمشي بين خطواته.[8] 

أمّا كلمة البلاغة في العربيّة فتأتي من الفعل بلغ؛ أي وصل، حيث يقتضي فنّ البلاغة إيصال المعنى بأساليب فنّية مختلفة. وبالنظر إلى «جمعة» وهو يمشي ويتسكّع و«يتصعلك» في شوارع المدينة دون أن يبلغ مُبتغاه، يخلق الرزّاز حالةً موازية من العجز عن بلوغ الهدف والمعنى من خلال كلام «جمعة» الغريب وحواره مع الشخصيّات الأخرى وأسلوب كتابته العبثي والسخيف.

والمشي كذلك لغة سرديّة تتكلّمها أقدام الشخصيّات وتكتبها فوق شوارع المدينة. وفي مقاربة بين البناء المعماري للمدينة والبناء السردي للرواية، تبدو عمليّات البناء والهدم والتوسّع في الحيّز المدينيّ وكأنّها موازية لعوالم «جمعة» في رواية الرزّاز، وعوالم «نعمان» في رواية «جمعة». يتداخل الواقع مع التخييل في النسيج الروائي، ويتداخل الأخير بدوره في النسيج المدينيّ، فيرسم في أذهاننا خرائط ومُخطّطات حيّة للمكان الذي نألفه فنعيد تصوّره، أو نجهله فنسعى إلى استكشافه.

وعليه، يُرافق الكلامُ حول رواية «جمعة» مشاهدَ المشي والحركة والصعود والهبوط والقيادة في شوارع عمّان، فيما تتماهى المواقف التي يتباطأ فيها جمعة عن الحركة أو يتوتّر أثناء المشي في منطقة ما أو يضيع في منطقة أخرى مع لغة الشخصيّات. يصف «الغلباويّ» ابن عمّه «جمعة» وهو يلهث بصوت مرتفع ويتصبّب عرقًا وهو يمشي صعودًا إلى منطقة الدوّار الأول في جبل عمّان: «أنت مثل باص قديم عجوز يرتقي المرتفعات».[9]

من جهة أخرى، يُمثّل هبوط «جمعة» إلى شارع بسمان في وسط البلد ومغامرته في ركوب الباص العمومي تغييرًا للمسارات المعتادة التي يألفها في عمّان الغربيّة، ما يستدعي منه تغيير طريقته في التفكير والكلام مع ركّاب الباص. يتحدّث الغلباوي عن جمعة ومغامرته، قائلًا: «قال لي إنّه لم يستقّل باصًا منذ عشرين سنة وإنّه قرّر أن يفعل ذلك بسبب من الفضول البحت والرغبة في المغامرة، إنه يشكو دائمًا أنّه انحدر من الشريحة العليا للطبقة البرجوازيّة الصغيرة إلى الشريحة الدنيا من الطبقة ذاتها (..)».[10]

يُوازي الرزّاز بين حركة الأقدام والكلام، وبذلك تمسي عمليّة المشي دالّةً على الصفات الشخصيّة والفكريّة. «جمعة» لا يعرف المشي على أرض الواقع، حركته عشوائيّة وبلا طائل، أمّا أخته «عائشة» المُطلّقة فتتحرّك بحريّة، تتطابق خطواتها المتّسقة وحركتها المنتظمة مع كلامها الواثق والمتّزن: «عائشة تشعرني بالضآلة، تعمل ليل نهار، تترجم وتطبع، تربّي الأولاد، تدرّسهم، تأخذهم كل يوم جمعة إلى حديقة الطيور أو مدينة الملاهي أو متحف جبل القلعة، أو معرض للرسم، وتهتمّ بي، وتعدّ الطعام، وتقرأ»، فيُحلّل الغلباوي سرّ حيويّتها عندما يتعجّب «جمعة» من قدرتها على الجمع بين مسؤوليّات متعدّدة: «السرّ في أنّها ليست مرتبطة بزوج، الزوج قيد، الزوج مثل الحذاء الضيّق الذي تضعه الطفلة الصينية أو اليابانيّة أو الكوريّة كيلا تنمو قدمها (..)».[11]

وعليه، يتّخذ المشي أبعادًا جندريّة في الرواية، وهو بذلك يكشف عن ديناميكيّة الحياة في المدينة. وفيما يشعر «جمعة» الحسّاس والمُرهف بأنّه فاقد للبوصلة الشخصيّة، وضائع في شوارع المدينة، تبدو أخته عائشة، التي يعتبرها «رجل البيت»، قادرةً على التصرّف وتدبير أمورها المنزليّة وتربيّة أولادها. تنعكس هذه الصفات الجندريّة من خلال القدرة على التصرّف والحركة والمشي في مسارات ذات أهداف واضحة، إذ يصف «جمعة» الفرق بين شخصيّته الحالمة وبين شخصيّة أخته الواقعيّة قائلًا: «كنت أعيش في بيتها مثل شبح. هي امرأة عملية وصاحبة قرار وتجربة. تعرف تفاصيل الحياة ومفرداتها اليوميّة. وأنا، هيه، رأسي في غيم الشعر وضباب النثر والفلسفة والقضايا المُجرّدة والمسائل الجوهريّة وأحلام الجماهير، وقدماي تتشركلان ببعضهما على الأرض».[12]

عوالم بديلة: بين المدينة والصحراء

يُمهدّ العنوان الطويل لرواية «متاهة الأعراب في ناطحات السراب» لبناء سردي شاسع ومشبع بالأحداث والشخصيّات والأزمنة والأمكنة المتشابكة، أشبه بمسرحيّة ملحميّة تتصدّرها شخصيّة «حسنين» الفصامي، فيما يحكمها تاريخ عائلته الممتدّة.

يظهر الفضاء المديني في بداية السرد مألوفًا، والعنصر الغرائبي الوحيد هو أنّ «حسنين» شخصيّة فصاميّة يتحدّث مع الناس على أنّه شبح، وبأسلوب مقارب للواقعيّة السحريّة يتعامل الجميع مع «حسن الأول» في عالم الصحو على أنّه مجرد «شبح» لا قيمة له ، فيما يرافقه «حسن الثاني» مثل قرين غير مرئي من عوالم الخيال والأحلام واللاوعي الجمعيّ.

تصميم أحمد صلاح وإعداد وفيقة المصري.

«حسنين» الضائع في متاهات الثورة المعلوماتية والمنغمس بجدّية في فكّ شيفرة «العصر التكنو-إلكتروني» في توق دائم إلى هويّة مُوحّدة، وعبثًا يُحاول: «(..) حين سألني صحفي لا يعرف أنّني شبح- في مقابلة صحفيّة عن بطاقة هويّتي، سمعتني أقول له: ربع فلّاح، ربع بدوي، ربع مدني، ربع أجنبي، نتاج سلالات من اللاجئين. خليط من الشركس، والشوام، والفلسطينيين، والبدو، والعراقيين، والدروز الذين لجأوا إلى هذه المدينة، لا بل أحسّ أحيانًا أنّني نشأت مثلها، بلا تخطيط. بالصدفة، كيفما اتّفق. أشهد طفرات وتحوّلات مفاجئة، أنمو وأضمر، هكذا كيفما اتّفق، والحقيقة أن حسن الثاني هو الذي قال ذلك، حسن الثاني مثل خلد يحفر أنفاقًا ودهاليز بين الأزمنة».[13]

المدينة هي المسرح الذي يصعد الرزّاز على خشبته ويكتب عابثًا، في محاولة مواربة للتصالح مع الواقع بأبعاده المألوفة والغريبة.

تبدو شخصيّة «حسنين» مثل شخصيّة «جمعة» في الرواية السابقة؛ شبحيّة، عفوية، وعشوائيّة، ومثل معماريّة المدينة بلا تخطيط. ينطلق الكاتب من ديموغرافيّة المدينة ومعماريّتها عائدًا إلى تاريخ البلد والبلدان العربية المجاورة، ويؤسّس في روايته هذه لمشروع تفكيكي يهدم من خلاله السرديّات التاريخيّة العربية وحتى البشريّة مُجتمعة، ويبعثرها كيفما اتّفق، سعيًا لمكاشفتها ومساءلتها مرة أخرى.

الأزمنة السرديّة ليست خطّية، فهي إمّا عكسيّة أو دائريّة أو لازمنيّة؛ إذ يأخذنا الرزّاز تارةً إلى العصور القديمة والحضارات البدائيّة، ويدور بنا في مكائد الزمن الحاضر، ثم يسافر عبر الزمن إلى المستقبل. كما يتلاعب بالأمكنة، فينتقل بنا من متاهات مدينة عمّان إلى متاهات الصحراء العربيّة، ويبني من السراب أبنيةً وهميّة، وعوالم بديلة، قِوامها الأحلام والهواجس والأفكار المختزنة باللاوعي الجمعيّ.

متأثّرًا بسياقات الأدب ما بعد الحداثي، وبالتحوّلات الطارئة على المدينة العربيّة وأنماط التوسّع العمراني في أواخر القرن الماضي عمومًا وعمّان خصوصًا، يتوه الرزّاز مع شخصيّته بحثًا عن عوالم بديلة.

تصميم أحمد صلاح وإعداد وفيقة المصري.

وكما في الرواية السابقة، يوظّف الميتاسرد، ويكتب رواية داخل رواية، يعيد من خلالها تفكيك مركزيّة المدينة/ العاصمة عمّان، ويضرب في الأرض بحثًا عن مدن وأنماط معيشيّة أخرى، هربًا من الواقع المأزوم.

يموت «حسنين» ويُبعث من جديد ليغيّر سرديّته، يكتب رواية عن عالم بديل لطالما حلم بتشييده، لكنّ الأمور تتفلّت من بين يديه، وتتمرّد شخصيّات روايته «ذياب» و«آدم» وجدّه «حسنين» عليه، تنقسم الشخصيّات وتتكاثر، تتصعلك وتهيم على وجهها في الصحراء، ومن هنا تبدأ عمليّة استرجاعها وبحثها ودراستها، ولذلك يُدخلنا الرزّاز إلى عالم معماريّ وهميّ في قلب السراب واللامكان، داخل فندق أمريكي يُدعى «المؤسسّة العربيّة الواحدة للأوبئة».

يُبشّرنا الرزّاز بعالم موبوء ومصاب بالفصام، رغم كلّ محاولات «حسنين» لخلق عوالم فُضلى لطالما حلم بتشييدها. يحتل النمط المعماري النيوليبرالي القسم الأخير من الرواية، يتنقّل بنا «حسنين» داخل أروقة المبنى التي تشبه المتاهة، صاعدًا بين الطوابق المرتفعة، وهابطًا إلى الأقبية. يتجمع المختصّون الغربيّون لإجراء أبحاث استشراقيّة على «صعاليك» الكاتب «حسنين» المُتمرّدين الخارجين عن سلطة النصّ ومساراته السرديّة، ما يعيدنا إلى مساءلة سلطة المؤلّف والاعتراض على ديكتاتوريّته، في محاكاة لتمرّد الشعب على الأنظمة الحاكمة.

تصميم أحمد صلاح وتصوير محمد المصري.

تبرز إلى الواجهة كذلك قضية مساءلة الذات والهويّة العربيّة، عبر الولوج إلى أروقة المباني والمؤسسّات والأنظمة المعلوماتيّة الغربيّة، بحيث تكشف الهويّة المعمارية في تداخلها وتأثّرها بالأنماط النيوليبرالية عن مفاهيم الفكر العربي الحديث وتداخله مع الفكر الغربي. يجادل «حسنين» إحدى الشخصيّات في المؤسسة قائلًا: «ثمّة نموذجان يتجاذبان الذات العربيّة منذ يقظتها الحديثة: النموذج العربي الإسلامي القديم، والنموذج الأوروبي الحديث».[14]

هناك نموذجان، وحسنان، وروايتان، وكاتبان، والرقم اثنان على ما يبدو هو سرّ الرواية، ومفتاحها في آن.

وفي مقاربة بين المعماريّة الأدبيّة والمعماريّة التاريخيّة والتراثيّة في الرواية، يتماهى «حسنين» في شخصيّته وجذوره الممتدّة مع البناء المعماري في طبقاته المتعدّدة، أمّا وجهه الظاهر وفكره المُتأثّر بالثقافة الغربيّة فمجرّد طبقة زائفة، وواجهة حضاريّة، تفكّكها إحدى الموظّفات في «المؤسسة العربيّة للأوبئة» عندما تُحلّل شخصيّته، قائلة: « إنتَ بتشبه هاي العمارة. اللّي ظاهر منك معاصر. لكن تحت السطح طوابق أندلسيّة وعبّاسيّة، وتحتها طوابق أمويّة، وتحتها طوابق مش عارفة شو، وهيك حتى نوصل طوابق أهل الكهف والإنسان الأول البدائي. إنت مزوّر، إنتَ قناع».[15]

وبينما يُراوح الكاتب بين اللهجة العاميّة الأردنيّة والفصحى، فهو لا يغفل عن تغذية السرد بصور نمطيّة شرقيّة خالصة من أجواء التراث الشرقيّ، فتحضر شهرزاد في أحلام «حسنين» وتختفي، ويسيطر الأعراب الصعاليك على الصحراء ويقتتلون ويعيثون فسادًا فيها. وفي خضمّ التخمة السرديّة هذه، وتشتّت الأمكنة والأزمنة، يبدو كأنّ الرواية انفلتت من يد الرزّاز، كما حدث مع «حسنين»، وهنا تكمن الخدعة، إذ يضحي مسرح الأحداث الذي تتمرّد الشخصيّات فيه على نص الرواية مُشابهًا لتمرّد المدينة وعمارتها على معماريّها وساكنيها، لينقلب السحر على الساحر، ويثور المصنوع على الصانع، كما يتمرّد النص على الكاتب.

إلا أنّ براعة الرزّاز في التجريب والتخريب والتغريب[16] واستخدام أساليب أدبيّة مثل التهجين[17] والتنضيد[18] تؤكّد أنّه مدرك لأبعاد ما يكتب، إذ ثمّة أنساق أدبية دفينة في السرد تشفع له فوضى نصوصه الظاهرة، وتُخرجه من مآزقه السردية الماكرة التي يُقحم نفسه فيها عن سبق إصرار وترصّد.

خاتمة

مؤنس الرزّاز ليس محض معماريّ مُتمرّس، بل فيلسوف وأنثروبولجيّ وأركيولوجي مُخضرم، يحفر عميقًا في دهاليز المدينة، ثمّ يخرج إلى سطح نصوصه ساخرًا منّ كل شيء، حتى من نفسه!

المدينة هي المسرح الذي يصعد الرزّاز على خشبته ويكتب عابثًا، في محاولة مواربة للتصالح مع الواقع بأبعاده المألوفة والغريبة. يرسم لنا وجهَ المدينة كما نعرفه، يعاينه، ثمّ ينبذه، يخربش عليه، ويهجره إلى أماكن بديلة، لعلّنا نلتفت إلى ما وراء عوالمه، وندرك كيف تؤثّر ممارساتنا اليوميّة في المدينة على هويّتها والتي تؤثّر بدورها على هويّتنا، أملًا في إعادة النظر إلى الواقع والمكان الذي نسكن فيه ونتعايش معه ونعتاده حدّ الإذعان به كما هو دون تغيير.

  • الهوامش

    [1] Certeau, Michel de. The practice of Everyday Life. Translated by Steven Randall, University of California Press, 1988.

    [2] «جمعة القفّاري..يوميّات نكرة»، مؤنس الرزّاز، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، 1990، ص 5.

    [3] المصدر السابق، ص 5.

    [4] المصدر السابق، ص 21.

    [5] المصدر السابق، ص 21.

    [6] المصدر السابق، ص 20.

    [7] المصدر السابق، ص 18.

    [8] المرجع رقم 1.

    [9] المصدر السابق، ص 97.

    [10] المصدر السابق، ص 31.

    [11] المصدر السابق، ص 149.

    [12] المصدر السابق، ص 152.

    [13] متاهة الأعراب في ناطحات السراب، مؤنس الرزّاز، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1986، ص 128.

    [14] المصدر السابق، ص 288.

    [15] المصدر السابق، ص 289.

    [16] التغريب Defamiliarization: هو أسلوب أدبي يهدف إلى نزع الألفة عن الأشياء المعتادة، ووصفها بطريقة غريبة لندركها بطريقة مغايرة للمعتاد والمألوف. للمزيد انظر/ي waelnajmy: أهم أفكار الشكلية الروسية Russian Formalism

    [17] التهجين الأدبي Hybridization بحسب باختين يعني توظيف المبدأ الحواري في الرواية، بحيث تحتوي على خصائص الانفتاح الثقافي والتلاقح بين أنماط الفكر والخطابات والأيديولوجيات والأصوات والرؤى والأساليب السرديّة المتعدّدة، عبر قالب لغوي هجين يخدم ذلك. للمزيد انظر/ي: «التعدد اللغوي وحوارية الخطاب في الرواية من خالل تقنيات )التهجين، الأسلبة، التنضيد والمحاكاة الساخرة( رباعية الدم والنار لعبد الملك مرتاض)، أ. مأمون عبد الوهاب. المجلة الأكاديمية للأبحاث والنشر العلمي | الإصدار الخامس عشر | 5-7-2020 

    [18] يُعبّر التنضيد اللغوي عن التعدّد الطبقي والهرمي والاجتماعي الذي يشير إلى تفاوت الأنماط الفكرية والأيديولوجيّة داخل الرواية. للمزيد انظر/ي المرجع السابق. انظر/ي أيضًا «متاهة الأعراب في ناطحات السراب» لمؤنس الرزاز أنموذجًا صحيفة الرأي

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية