باولو فريري: سيرة معلّم ما كفّ عن التعلّم

تصميم إيفان جيرونيمو.

باولو فريري: سيرة معلّم ما كفّ عن التعلّم

الثلاثاء 21 أيلول 2021

هذه ترجمة بتصرف لنص أطول نشر في موسوعة الإنترنت للفلسفة.

كان باولو فريري أحد أكثر فلاسفة التعليم تأثيرًا في القرن العشرين. وقد عمل بجد كبير لمساعدة الناس من خلال فلسفته وممارسته للبيداغوجيا النقدية. كانت غاية فريري، المولود في البرازيل، محو الأمية بين شعوب الدول والقارات المستعمرة سابقًا، وكانت رؤاه متجذرة في الوقائع الاجتماعية والسياسية لأبناء وأحفاد العبيد السابقين. وقد خدمت أفكاره وحياته وأعماله تحسين شروط حياة المقهورين. 

يبحث هذا النص في الأحداث المفتاحية في حياة فريري، فضلًا عن أفكاره المتعلقة بالبيداغوجيا والفلسفة السياسية. بل ويبحث على وجه الخصوص في الوعي النقدي (conscientizacao)، والبيداغوجيا النقدية، ونقد النموذج البنكي في التعليم، وعملية استدخال القامع. وقد دافع فريري كإنساني عن مقولة الدعوة الوجودية لكل شخص أن يغدو أكثر إنسانية، وأن إنسانية كل من القاهر والمقهور تنكمش عندما تتميز علاقتهما بديناميات القهر، وأنه يمكن من خلال عملية الوعي النقدي أن يدرك القاهر والمقهور قوتهما الخاصة، وأنه لن يتمكن المقموع أخيرًا من تغيير ظروفه بشكل حقيقي إلا حين تتماشى نواياه وأفعاله باتساق مع غاياته.

البرازيل المستعمرة

من المهم لفهم أفكار باولو فريري وأعماله بشكل أفضل، أخذ السياق الذي طور فريري من خلاله فلسفته بعين الاعتبار. تَمثّل سياق فريري في المنطقة الشمالية الشرقية من البرازيل، منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى الستينيات. كانت البرازيل مستعمرة برتغالية منذ عام 1500 وحتى عام 1822. وكما كان الحال مع باقي المستعمرات الأمريكية، هلكَ الكثير من السكان الأصليين نظرًا لظروف العمل القسري القاسية، ولعدم امتلاكهم مناعة من الأمراض الأوروبية. لذلك تم استعباد بعض من تبقى من الناجين في معتزلات (engenhos) مصانع السكر. وحيث إن أغلب السكان الأصليين قد ماتوا، زاول أصحاب مصانع السكر عملية شراء الأفارقة كعبيد للعمل وزيادة إنتاج السكر، الذي كان الصادِر البرازيلي الرئيس إبان تلك الحقبة.

تكوّنت الغالبية العظمى من سكان البرازيل خلال السنوات الأولى من الاستعمار البرتغالي من السكان الأصليين، ومن المنحدرين من أصول إفريقية، إذ كانت حركة الهجرة البرتغالية إلى البرازيل ضئيلة، ذلك أنها قد مثلت بالنسبة إليهم مشروعًا تجاريًا بالدرجة الأولى، أتاح لهم استغلال الموارد البرازيلية لمنافسة إنجلترا وهولندا تجاريًا. ولم تنتشر الصحف في البرازيل حتى عام 1808، بينما تفشت الأمية بين الغالبية العظمى من السكان. 

جدارية باولو فريري في كلية التربية والعلوم الإنسانية في جامعة بيو بيو في تشيلي. المصدر: ويكيميديا.

قضى فريري عمله وحياته في تخفيف العواقب الكارثية لأربعمئة عام من الاستعمار والعبودية في القارة الأمريكية. ألغيت العبودية رسميًا في البرازيل عام 1888، حين مرت البلاد بفترة من النمو الاقتصادي بعد استقلالها عن البرتغال عام 1822. بيد أن الظروف الاقتصادية للكثير من السكان تدنت في منتصف القرن العشرين، ودفع الجوع الذي بات يهدد الناس بالعديد من المزارعين إلى بيع أنفسهم، أو أفراد من عائلاتهم كعبيد لتفادي المجاعة.

السنوات الأولى

ولد باولو ريجلوس نيفيس فريري في ريسيفي عام 1921. وقد اختبر مباشرة الاضطرابات السياسية والمصاعب الاقتصادية في ثلاثينيات القرن الماضي. حيث توفي والده في غضون كساد الثلاثينيات، وبات يَعرف -كطفل صغير- التأثيرات المحبطة للجوع والتجرّد من الإنسانية، فوجد نفسه مضطرًا -بفعل الظروف- لسرقة الطعام لعائلته، وتخلّف في النهاية عن المدرسة الابتدائية كي يعمل ويعيل أسرته ماديًا. وقد طور فريري من خلال هذه المحن حسه التضامني الحازم مع الفقراء. ومنذ ذلك الحين قام بالتزام واعٍ للعمل على تحسين أوضاع المهمشين.

تمكن فريري من إكمال دراسته الابتدائية ما بين ريسيفي وجابوتاو، والتحق بمدرسة أوسوالدو كروز الثانوية في ريسيفي. حيث وافق مدير تلك الثانوية على السماح لفريري بالدراسة برسوم مخفضة، إذ لم تتمكن عائلته من دفع الرسوم كاملة. وبدأ فريري، كرد للجميل، بتدريس صفوف اللغة البرتغالية في مدرسة أوسوالدو كروز عام 1942. ثم تابع دراسة القانون في كلية القانون في ريسيفي من عام 1943 وحتى عام 1947.

التأثيرات على فريري

تأثر فكر فريري وأعماله بسياقه التاريخي في المقام الأول، المتمثّل بتاريخ البرازيل وتجربته الشخصية. أما بالنسبة لبعض المؤثرات الأولى والدائمة، فتمثلت بأبويه، ومعلمه ما قبل المدرسة، وألنزو بيساو دي أراوخو مدير مدرسة أوزوالدو كروز الثانوية. وتمثلت الأفكار التي أسهمت في تطور فلسفته وأعماله بالوجودية وعلم الظواهر والحركة الإنسانية والماركسية والمسيحية. كما كانت أفكار هيغيل وكارل ماركس وأنيسيو تيكسيرا وجون ديوي وألبرت ميمي وإيريك فروم وفرانز فانون وأنطونيو غرامشي تشكل المؤثرات الرئيسية عليه.

تعلم فريري الحب والتسامح من والديه. وقد توفي والده عام 1934 نتيجة مضاعفات تصلب الشرايين، وكان عمر فريري حينها 13 عامًا. تولت والدته مهمة إعالة الأسرة، ورغم أن طفولة فريري لم تكن سهلة نظرًا لموت والده والظروف الاقتصادية في الثلاثينيات، إلا أن والديه قد خلقا مناخًا من التسامح والتفهم في المنزل.

كانت أونيس فاسكونسيلوس معلمة فريري في الروضة، وقد تركت أثرًا بليغًا على فهمه للمدرسة والتعلم. وبات نتيجة ذلك مغرمًا بالتعلم، وصار يرى المدرسة مكانًا يُشجّع المرء فيه على استكشاف حبه للاستطلاع، وكذلك كان تأثير ألويزيو بيساو دي أراوخو عليه. فعندما طلبت أمه من المدير أن يكمل فريري المدرسة لديه، مع العلم بأن أمه، إيديلتروديس، لم يكن بمقدورها دفع تكاليف التعليم، قبله المدير بالمدرسة لالتزامه بالتعليم من أجل مساعدة الناس، مما ترك بصمة دائمة عليه.

الوعي الزائف عند ماركس يحدث عند اعتقاد البروليتاريا خطأً أنهم لا يُستَغلون، أو أنهم بمزيد من الكدّ سينالون يومًا ما الاستقرار الاقتصادي والحرية. أما عند فريري فيحدث حين يستدخل المقهور أيديولوجيا القاهر.

تأثر فريري بعمق بعدد من أفكار هيغل، وأهمها الميتافيزيقيا العملية، والأخلاق الاجتماعية، وعلم الظواهر، وجدلية التجاذب بين السيد والعبد. حيث ينادي في جميع كتاباته بأن الدعوة الوجودية لكافة البشر هي أن يصبحوا أكثر إنسانية. بينما زعم كثير من قرائه ونقاده بأنه يفترض ميتافيزيقيا جوهرية تجسد ضربًا من الطبيعة الإنسانية، افترضت تفسيرات أخرى ميتافيزيقيا هيغلية عملية. ولو افترضنا صحة التفسير الأخير، فإن عملية الصيرورة هي المهمة لدى فريري كما يتوج تكشف التاريخ في الروح المطلقة عند هيغل. تأثر فريري كذلك بالجمعانية الهيغلية، وعمل مع الطلبة الأفراد بهدف خدمة المجتمع ككل. فقد أدرك أهمية تمكين الأفراد (الحقوق الإيجابية)، وحمايتهم (الحقوق السلبية)، وهي نتيجة فهم فريري لدور وأهمية تحسين المجتمع، والالتزام بذلك. وقد تبنى فريري علم الظواهر (الفينومينولوجيا) كأسلوبه المفضل، ليس فقط لجعل سياقه مفهومًا، بل لمعرفة طريقة تتيح لطلابه تعلم سياقاتهم الخاصة. فتركيزه على الذاتية من علم الظواهر كان لمساعدة تلاميذه على فهم حقائقهم الخاصة، عبر تعلمهم اللغة، أو كما دعاها هو «الكلمة»، والتعلم معًا كيفية قول كلمتهم. فتجاذب جدلية السيد مقابل العبد عند هيغل بات لدى فريري تجاذبًا بين القاهر والمقهور.

كان لأفكار كارل ماركس التأثير الأشد على فلسفة فريري الخاصة. وقد برز من بين تلك الأفكار الوعي الطبقي، ومفهومه للعمل، والوعي الزائف. فبالنسبة لماركس، عندما يكتسب المرء إدراكًا بوعيه الطبقي يصبح مدركًا لموقعه الاقتصادي في المجتمع، وبالتالي لمصالح طبقته. حيث يشير مفهوم فريري للوعي النقدي (conscientização) إلى عملية الوصول إلى الوعي، وليس وعي المرء بطبقته فحسب، وإنما الدور الأوسع الذي يلعبه عرقه وجنسه وقدرته الجسدية وغير ذلك، في المجتمع. وقد آمن -مثل ماركس- أن العالم يتغير من خلال العمل. وسواء أكان طلابه عمال بناء أو بوابين وعمال مصانع أو إسكافيين، استخدم عملهم وأدوات مهنهم كوسيلة لتعليمهم القراءة والكتابة، وكيفية تغيير كل منهم العالم ليصنع عالمه عبر عمله. وكما أشار ماركس للخسارة الروحية التي اختبرها العمال جرّاء تغريب العمل، سعى فريري لمنع هذه الخسارة، واستعادة الكرامة الإنسانية لعمل طلابه، من خلال مشاركتهم القوة المحولة لعملهم. ما يشير إليه فريري باستدخال السيد له أسسه في مفهوم ماركس للوعي الزائف، فهذا الوعي الزائف عند ماركس يأخذ مجراه عندما يعتقد أفراد من البروليتاريا خطأً أنهم لا يُستَغلون، أو أنهم بمزيد من الكدّ سينالون يومًا ما الاستقرار الاقتصادي والحرية. بالنسبة لفريري يحدث الوعي الزائف حين يستدخل المقهور أيديولوجيا القاهر.

وقد تأثّر فريري أيضًا بأعمال وفلسفة أنيسيو تكسيريا. حيث تدعو أعمال تكسيريا لدمقرطة المجتمع البرازيلي عبر التعليم، وقد عارض التعليم في زمنه، والذي كان حكرًا على الطبقات العليا، ومعززًا للنخب الاجتماعية التي تركت غالبيةَ البرازيليين دون قدرة الحصول على تعليم. وسعى تكسيريا نحو إرساء تعليم حرّ وعمومي وعلماني في متناول الجميع. وقد تأثر فريري بمساءلة تكسيريا عما يمنع البرازيلي العادي من تبني روحٍ ديمقراطية، واتفق الاثنان أن ذلك يعود إلى الطرق الهرمية والسلطوية التقليدية التي تعامل الناس من خلالها مع بعضهم البعض حين كانت البرازيل مستعمرة برتغالية، وإلى استمرار مؤسسة العبودية لاحقًا في البرازيل. وقد آمن كلٌ من فريري وتكستيريا وعملا على تطوير حسّ ديمقراطي من خلال التعليم.

كان لفلسفة جون ديوي التعليمية تأثير على فلسفة فريري وعمله، وخصوصًا على ديناميات الصف والحركية بين المعلم والطلاب. كان تكسيريا تلميذًا لديوي، فأصبحت أهمية تعزيز الحس الديمقراطي من خلال التعليم أمرًا مركزيًا لفريري أيضًا. وقد اعتقد أن الصف يمكن أن يكون مكانًا للتغيير الاجتماعي، وآمن -مثل ديوي- أن على كل طالب أن يلعب دورًا فعالًا في تعلّمه، بدل أن يبقى متلقيًا سلبيًا للمعرفة. وهكذا اتفق فريري وديوي على أن المعلم المثالي يكون واثقًا بكفاءة الطلاب ومنفتحًا على المشاركة والتعلم من طلابه. وقد كان كلاهما منتقدًا للمعلم صاحب التوجهات غير الديمقراطية، الذي ينقل المعلومات من الخبير إلى الطلاب، ويفتقر إلى حب الاستطلاع والثقة لمتابعة التعلم من طلابه. 

كانت الوجودية مؤثرًا هامًا آخر على فلسفة فريري. حيث رأى أن للكائنات البشرية حرية الاختيار وهي مسؤولة عن خياراتها. فرغم أنه قد أخذ بعين الاعتبار السياق التاريخي الذي خلقته تركة العبودية في البرازيل، إلا أنه لم يؤمن أبدًا بأن الشروط التاريخية تحدد المستقبل، سواء له أو لطلابه أو للمجتمع البرازيلي. بل على النقيض، تبنى المعتقد الوجودي بأن البشر لا يحددهم ماضيهم. وعندما علّم صفوف محو الأمية، لم يكتف بتعليم الطلاب القراءة والكتابة فحسب، بل تشارك الوعي ومعه الإدراك بأن طلابه أحرار لاختيار الحياة التي خلقوها لأنفسهم. 

أبرز تأثير لفانون على فريري تجلّى في فكرته أن على المقهورين الانغماس الفاعل في كل خطوة نحو إحراز حريتهم. أي أن المقهورين لا يمكنهم ولا يجب أن يتحرروا من جانب أحد غيرهم.

ساعدت أفكار إريك فروم في تمييز فريري لكيفية إحداث التحرر الإنساني حيال الأيديولوجيا السائدة في البرازيل آنذاك. فقبل النظرية النقدية، كان العقل البشري يفسّر كمصدر للخيارات المنطقية المستقلة والحوار المستنير. تحدى ماركس هذه الفرضية عندما أشار إلى الوعي الزائف كأحد الطرق التي تصير الأيديولوجيا المهيمنة من خلالها أداة للهيمنة على خيارات الإنسان، ومفضية إلى الاغتراب. اعتمد فريري على فهم فروم للحرية الإنسانية وجدله حول السيطرة للتوصل إلى فهمه للدينامية بين القاهر والمقهور. أيد فروم -كباقي الوجوديين من قبله- خلق القيم الإنسانية، بدل اتباع الأعراف المحددة مسبقًا والتي لا جدال فيها. وقد تأثر فريري بمفهوم فروم للحرية في تطوير الممارسة التحررية للبيداغوجيا النقدية، بحيث يسهم الناس في الصف بوعي بعضهم البعض، وهكذا يطلبون حريتهم ويحتضنونها. واستعار فريري مفهوميْ حب الحياة وحب الموت من فروم، للتمكن من تفسير الفرق بين الإنسانية وعمل الخير. ففي كتابه «قلب الإنسان» (1967)، يفرّق فروم بين نوعين من المقاربات عند مساعدة الآخرين؛ الشعور بالحاجة للسيطرة على الموقف والناس الذين تتم مساعدتهم، والسماح للوضع والناس أن يكونوا ما يحتمل أن يكونوا عليه. يميز فروم الناس الذين يشعرون برغبة بالسيطرة كمحبين للموت، لأنهم في رغبتهم بالسيطرة على الآخرين والأحداث في الحياة ذاتها، ينكرون على الناس والحياة احتمالاتها. أمّا أولئك الذين يتيحون للآخرين وللأحداث أن تأخذ مجراها لما ستصبح عليه، فهم بالنسبة لفروم يتميزون بكونهم محبين للحياة لأنهم يحترمون حرية وإبداع الكائن البشري، ويثقون بتكشف أحداث الحياة.

ساعدت أفكار ألبرت ميمي وفرانز فانون فريري على فهم التجربة الاستعمارية في البرازيل أولًا، ثم في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا. ورغم تأثره العميق بتحليل ماركس للطبقات الاقتصادية، إلا أنه ما كان يمكن فهم تاريخ البرازيل وأمريكا اللاتينية من خلال التحليل الطبقي فحسب، نظرًا لتاريخ الاستعمار والعبودية. وقد اتفق مع ميمي بأن السبب الرئيس للاستعمار كان اقتصاديًا. كما آمن بوجود سببين لتفشي الأمية في الشمال الشرقي من البرازيل، يعود الأول لاهتمام البرتغاليين الأساسي بالاستغلال الاقتصادي للبرازيل وشعبها، فكما كان الحال في باقي بلدان أمريكا اللاتينية، قام رجال الدين الكاثوليك بتعليم بعض الناس، واهتموا بعض الشيء بمصالح السكان الأصليين، إلا أن استعمار البرازيل -بحسب فهم فريري متأثرًا بميمي- كان أولًا وأخيرًا مشروعًا اقتصاديًا. ويعود السبب الثاني لازدياد مستوى الأمية إلى استغلال موارد الأرض وعمل الشعب من خلال مؤسسات العبودية والتبعات الكارثية لذلك. ويعتقد فريري بالاتفاق مع تكسيريا، أن انعدام الحس الديمقراطي والتعليم في البرازيل يعود بالتحديد لتاريخ استعمار البرازيل.

كان لفانون تأثير عميق على فريري -إلى جانب ميمي- في فهم التجربة الكولونيالية. وربما تجلى أبرز تأثير لفانون في فكرته أن على المقهورين الانغماس الفاعل في كل خطوة نحو إحراز حريتهم. أي أن المقهورين لا يمكنهم ولا يجب أن يتحرروا من جانب أحد غيرهم. كما تأثر فريري بجدل فانون حول اللغة -وفي حالته الفرق بين «الفرنسية الصحيحة» وفرنسيته الكريولية- وظهر ذلك في فهم فريري وتعليمه للبرتغالية بطريقة جعلته يعترف دائمًا بحق طلابه بالتحدث باللغة البرتغالية بطريقتهم الخاصة. 

كما تأثر تطور فريري الفلسفي بعدد من أفكار أنطونيو غرامشي، فقد أثرت فكرة غرامشي عن المثقف العضوي فيه، وجعلته يؤمن بأهمية التعليم وتعزيز تطور طلابه من الطبقة العاملة. التزم فريري تبعًا لتأثره بفانون وغرامشي بفكرة وممارسة تشريع تجارب ومعرفة طلابه كي ينبثق المثقف العضوي. حيث إن أولئك المثقفين العضويين سيكونون بدورهم في أفضل المواقع للإسهام بحلول لمشكلات المجتمع، من حيث معرفتهم الوثيقة بمجتمعهم وتعقيداته وحلولها أفضل من أي خبير درس المشكلات أكاديميًا فحسب.

وإلى جانب التأثيرات النظرية المذكورة من المهم التنويه إلى تأثير المسيحية على فلسفة فريري. فقد تأثر بلاهوت التحرير كما تطور في أمريكا اللاتينية، حيث كانت أولوياته محاربة الفقر، والنشاط السياسي والممارسة السياسية، والعدالة الاجتماعية. وقد تماشت فلسفة فريري مع القاعدة الشعبية ومؤسسة لاهوت التحرير من الأسفل إلى الأعلى، والتي شددت على أهمية ممارسة تعاليم يسوع المسيح بدل الإذعان للهرمية الكنسية التقليدية.

حملة محو الأمية

بدأ باولو فريري العمل مع الفلاحين والعمال الأميين في المنطقة الشمالية الشرقية من البرازيل عام 1947، وبحلول مطلع الستينيات كان قد نظم حركة شعبية لمحو الأمية. نظرًا للاستعمار البرتغالي للبرازيل ومؤسسة العبودية كان المستوى التعليمي لأغلب البرازيليين متدنيًا جدًا. بلغ عدد سكان المنطقة الشمالية الشرقية من البرازيل 25 مليون نسمة عام 1962، قرابة 15 مليون منهم من الأميين. 

في عام 1947، عندما كان فريري شابًا عمره 26 عامًا، وكان ما يزال يدرّس صفوف اللغة في ثانوية أوسوالدو كروز، بدأ العمل في وكالة حكومية تدعى الخدمات الاجتماعية الصناعية «سيسي» (SESI). وقد عين للعمل كمساعد في قسم العلاقات العامة والتعليم والثقافة. وكان هدف الوكالة تقديم الخدمات الاجتماعية في مجالات الصحة والإسكان والتعليم والترفيه للطبقة العاملة البرازيلية. 

لوحة باولو فريري للويس كارلوس كابيلانو. المصدر: ويكيميديا.

عمل فريري لدى سيسي لمدة عشر سنوات، تعلّم خلالها جوانب مهمّة حول الطبقة العاملة البرازيلية والنظام الدراسي البرازيلي، أثّرت في كيفية تطوره لاحقًا كمعلم ومفكر سياسي. وقد عمل عن كثب مع المدارس متفحصًا كيفية وضع السياسات وتأثيرها على نوعية التعليم الممنوح للطلاب. وقد لاحظ آنذاك كيف كان أولياء أمور الطلبة من الطبقة العاملة البرازيلية ينشئون أولادهم. فرغم أن فريري نشأ في بيئة متسامحة، إلا أن ذلك لم يكن الحال بالنسبة لأغلب العائلات. وقد جاء فريري إلى سيسي بحس ديمقراطي، إلّا أنه قوبل بما بدا أنه ضرب من الاستبداد المشروط، أثّر على كيفية تواصل الأهل مع أبنائهم وكيفية مقاربة المعلمين للتدريس. وكان العقاب البدني القاسي وسيلةً يستخدمها الأهل والمعلّمون، وقد لاحظ أن هذا العقاب الذي خضع له الأولاد لم يف بالغرض المرجو منه، بل على النقيض، غُرّب الأولاد عن آبائهم ومعلميهم، كما جرى إرساء مناخ استبدادي قاسٍ. وبدأ فريري تبعًا لذلك بتدريب المعلمين والأهل على تعلم طرق أكثر تسامحًا لتعليم وضبط أولادهم. 

اختبر فريري خلال السنوات العشر التي قضاها في سيسي الكثير من التجارب التي ستشكل لاحقًا دراسته للدكتوراه وأطروحته في جامعة ريسيفي. قبِلَ فريري بعد ذلك منصبًا كمستشار في قسم الأبحاث والتخطيط. وبدأ حينها يوطد نفسه كمعلم تقدمي. فأجرى دراسات في تعليم الكبار والمهمشين وقدمها في المؤتمرات الوطنية لتعليم الكبار. وتمحورت أفكاره المبكرة حول صنع القرار التعاوني، والمشاركة الاجتماعية، والمسؤولية السياسية. إذ إن فريري لم يعتبر التعليم مجرد طريقة للتمكن من المعايير الأكاديمية أو المهارات التي تساعد المرء احترافيًا، بل اهتم بأن يفهم المتعلمون مشاكلهم الاجتماعية ويكتشفوا أنفسهم كذوات مبدعة. أنهى فريري أطروحة الدكتوراه عام 1959، تحت عنوان «التعليم الحالي في البرازيل».

طلب عمدة ريسيفي، ميغيل أرايس من فريري عام 1961 العون في تطوير برامج محو الأمية في المدينة. وكانت الغاية الأساسية من هذه البرامج تشجيع محو الأمية في صفوف الطبقة العاملة، وتعزيز جو من الديمقراطية، والحفاظ على تقاليد السكان الأصليين ومعتقداتهم وثقافتهم. وقد باشر فريري حينذاك العمل مع دوائره الثقافية، ليكتشف كم ما تزال مؤسسة العبودية مدمرة ونافذة حتى بعد عقود من إلغاء العبودية. 

ينتقد فريري المعلم صاحب التوجهات غير الديمقراطية، الذي ينقل المعلومات من الخبير إلى الطلاب، ويفتقر إلى حب الاستطلاع والثقة لمتابعة التعلم من طلابه.

قرر فريري استخدام اسم «الدوائر الثقافية» بدل صفوف محو الأمية. وكان وراء هذا الاختيار عدد من الأسباب أحدها الدلالات السلبية لكلمة «أميّ». ورغم أن معظم طلابه كانوا في الواقع أميين، لكن ما من أحد يرغب أن يفكر أو يصف نفسه بالأمي. والسبب الآخر أن مشروع فريري لم يركز على تعليم الناس القراءة والكتابة فحسب، ذلك أنه في تلك الفترة كانت معرفة القراءة والكتابة شرطًا للتصويت في الانتخابات الرئاسية، وقد قصد فريري خلق حس بالوعي الاجتماعي من خلال الأساليب التي وظفها للتعليم ومن خلال المحتوى الذي تشاركه مع طلابه.

ولم يُدعَ المعلمون في الدوائر الثقافية بهذا الاسم عمدًا، وإنما دُعُوا بالمنسقين، كما دعي الطلاب بالمشاركين. وبدل المحاضرات التقليدية تم تشجيع الحوار. اختار فريري ألا يستعمل مبادئ اللغة التقليدية، من حيث أن مضمونها كان بعيد الصلة بالسياق الثقافي للفلاحين والعمال الذين كان يدرّسهم. وبدأ بدلًا من ذلك بالظروف الواقعية للمتعلمين. توقّع فريري من المنسقين أن يحفزهم الحب ويرشدهم التواضع، وأن يمتلكوا إيمانًا قويًا بالطاقة الإنسانية. كما طلب من المنسقين أن يعتبروا التعليم آلية للتحرر لا التدجين.

تسلم خواو غولارت رئاسة البرازيل عام 1961. وكان غولارت قائدًا شعبيًا، لذلك انبثقت العديد من الجماعات الطلابية والنقابات وروابط الفلاحين بعد انتخابه. وبات الوجود الشيوعي ملموسًا وواضحًا في البرازيل في الوقت ذاته. درّب فريري وفريقه من حزيران 1963 حتى آذار 1964 الطلبة الجامعيين وغيرهم من المهتمين حول كيفية العمل مع الراشدين في صفوف محو الأمية. وخطط فريري الوصول إلى مدى واسع في أنحاء البرازيل بقدر استطاعته من خلال تأسيس ما يربو على 20 ألف دائرة ثقافية في أنحاء البلاد. وكانت خطة فريري تعليم خمسة ملايين راشد خلال سنتين القراءة والكتابة. 

باولو فريري يلتقي كارلوس تونرمان (وزير التعليم في نيكاراغوا) وفرناندو كاردينال (مدير الحملة الصليبية الوطنية لمحو الأمية). المصدر: mst.org.

في الأول من نيسان عام 1964، أطاح انقلاب عسكري مدعوم من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) بحكومة غولارت. واعتقل عمدة ريسيفي، بيلوبيداس سيلفيرا. وطُرِد فريري من منصبه، وصودرت كافة المواد التعليمية لديه. وخضع فريري لسلسلة من التحقيقات واتهم بالشيوعية. وقضى بناءً على ذلك 75 يومًا في السجن، حيث بدأ كتابة مؤلفه الأول «التعليم كممارسة للديمقراطية». اعتبر الحكم العسكري الجديد مشروع فريري لمحو الأمية تخريبيًا وأوقف تمويله. ونفي فريري وعائلته من البرازيل من عام 1964 وحتى 1980. فعاشوا أولًا في بوليفيا ثم في تشيلي، حيث تابع مشروعه لمحو الأمية مع الفلاحين التشيليين.

أدرك فريري خلال عمله مع كل من الفلاحين البرازيليين والتشيليين، أنه رغم كون الناس ما عادوا عبيدًا، وتعلموا القراءة والكتابة، كما كانوا في بعض الحالات ملاكًا لأراضيهم، سوى أنهم لم يعتبروا أنفسهم أحرارًا. وبات -بهذا التبصر- أحد أهداف حياة فريري خلق ظروف لطلابه لاكتشاف أنفسهم ككائنات بشرية، لها قوتها كذوات وليس كأشياء، كأعضاء في المجتمع ومبدعين للثقافة. 

الإسهامات الفلسفية

  • البيداغوجيا النقدية مقابل النموذج البنكي في التعليم

نمت آراء باولو فريري الفلسفيّة من تجربته كمعلم وتفاعلاته مع طلابه. بدل الاستمرار بالأنماط الثقافية الراسخة في التعامل مع الناس عبر التسلسل الهرمي للسلطة، كانت نقطة انطلاق فريري في الصف تهدف إلى تقويض ديناميات السلطة التي ترفع البعض فوق الآخر. حيث يشدد أن العلاقة الديمقراطية بين المعلم والطلاب حتمية كي تأخذ عملية الوعي النقدي مجراها.

تستعين البيداغوجيا النقدية عند فريري، أو التعليم الطارح للمشاكل، بالمقاربة الديمقراطية للوصول إلى المثالية الديمقراطية، وبهذا المعنى يتسق الهدف والعملية. فيفسر كيف أن المعلم الذي ينوي أن يُحلّ نفسه في موقع سلطة أعلى من طلابه، والذي لا يعترف بطبيعته القابلة للخطأ والجهل، يضع نفسه في مآزق ويصبح متصلبًا، حيث يتظاهر بالمعرفة بينما الطلاب جهلة. فالتصلّب الناجم عن هذا النوع من ديناميات السلطة يلغي التعليم كعملية بحث واكتساب للمعرفة.

ينتقد فريري المعلمين الذين يعتبرون أنفسهم المالكين الوحيدين للمعرفة، ويعتبرون طلابهم أوعية فارغة عليهم ملؤها بالمعرفة، ويدعو هذه المقاربة البيداغوجية «بالأسلوب البنكي» في التعليم. حيث تشبه هذه المقاربة عملية الاستعمار، من حيث أن الثقافة الاستعمارية تعتبر نفسها الثقافة الصحيحة والقيمة، بينما ثقافة المستعمَر دونية وفي حاجة لثقافة المستعمِر لتحسينها. الأسلوب البنكي وسيلة عنيفة في معاملة الطلاب كونهم كائنات بشرية لديها نوازعها وطرقها الجائزة في التفكير، إذ يعامل هذا الأسلوب الطلاب وكأنهم أشياء لا كائنات بشرية.

يقترح فريري بديلًا عن الأسلوب البنكي علاقةً تبادلية بين المعلمة والطلاب، في مناخ ديمقراطي يبيح للجميع التعلم من بعضه البعض. يتميز الأسلوب البنكي في التعليم بعلاقة عامودية:

معلم

طالب

والعلاقة المتطوّرة بين المعلم والطلاب في هذا الأسلوب تتميز بانعدام الاستقرار والشك المتبادل، حيث يحتاج المعلم أن يحافظ على السيطرة وديناميات السلطة ضمن هرمية قمعية، في حين تتيح البيداغوجيا النقدية التي يقترحها فريري نوعًا من العلاقة الأفقية:

معلم ↔ طالب

هذه العلاقة ديمقراطية بقدر ما يرغب المعلم والطالب وينفتحان على احتمالية التعلم من بعضهما البعض، ففي هذا النوع من العلاقة لا أحد فوق الآخر، والاحترام متبادل. ويعترف كل من المعلم والطالب بأن لكل منهما تجاربه وخبراته المختلفة ليقدمها للآخر، بحيث يستفيد الطرفان ويتعلمان وينموان ككائنات بشرية.

بدل تعزيز العلاقات القمعية ضمنيًا من خلال الأسلوب البنكي في التعليم، اختار فريري عملية البيداغوجيا النقدية كنموذج للتعليم. وذلك لأن البيداغوجيا النقدية تستثمر الحوار بين البشر المتساوين بدلًا من الفرض القمعي. 

ينتقد فريري المعلمين الذين يعتبرون أنفسهم المالكين الوحيدين للمعرفة، ويعتبرون طلابهم أوعية فارغة عليهم ملؤها بالمعرفة، ويدعو هذه المقاربة البيداغوجية «بالأسلوب البنكي» في التعليم.

كما يغيب تشجيع الطلاب كأحد تبعات الأسلوب البنكي، وبهذا لا يتعلمون التفكير النقدي، ولا يشعرون بالثقة للتفكير لأنفسهم. فتبقى العلاقة بين الطالب والمعلم الذي يستعمل الأسلوب البنكي مشابهة لتلك التي بين الفلاح الذي يطيع أوامر رئيسه أو رئيسته. كما كان الحال مع الفلاحين الذين عمل فريري معهم، فعندما يهيمن شخص آخر أو مجموعة من الأشخاص على التجربة اليومية للمرء، لا يتمكن غالبية المهيمن عليهم من تطوير القدرة على التفكير أو المساءلة أو التحليل بأنفسهم، بحيث يتطور وعيهم نحو إطاعة الأوامر المفروضة عليهم بالدرجة الأولى.

يقترح فريري على المعلمين، تأزيم القضايا المطروحة للنقاش، لتعزيز التفاعل بين الناس. فعندما تعمد المعلمة التي تعمل من خلال البيداغوجيا النقدية إلى تأزيم القضايا والمسائل، لا تعود الإجابات الجاهزة متاحة. يدرك الطلاب -رغم وجود إجابات قطعية وواضحة لبعض الأسئلة- أن العديد من أسئلتنا المعمقة لا تحمل إجابات بديهية. عندما يعرف الطلاب أن المعلمين كائنات بشرية كبقية الناس، وأنهم لا يعرفون كل شيء، بل هم أيضًا يتعلمون، يشعر الطلاب حينها بالمزيد من الثقة في بحثهم عن الإجابات، والمزيد من الراحة في طرح أسئلتهم النقدية. بينما ينفي الأسلوب البنكي الحاجة إلى الحوار لأنه يفترض أن المعلم هو الذي يمتلك الإجابات كافّة، وأن الطلاب جهلة ومحتاجون لمعرفة المعلم. فمن أجل مساءلة موضوع ما، يتخذ المعلم موقفًا متواضعًا ومنفتحًا، وعلى غرار المعلم، ينفتح الطلاب على كافة الاحتمالات المطروحة للنقاش، وهذا يعزز بدوره تسامحًا ديناميًا ووعيًا ديمقراطيًا، لأن البيداغوجيا النقدية تقوّض العلاقات التي تمنح البعض السلطة والمعرفة وتنفيها عن البعض الآخر، وحيث يملي البعض الأوامر ويطيعها البعض الآخر دون مساءلة. فالمساءلة تعزز الحوار والحس بالتحليل النقدي الذي يتيح للطلاب تطوير نزعة للحوار، ليس في الصف فحسب، ولكن خارجه أيضًا. ولهذا الأمر أهمية قصوى لأن قابلية وقيمة الحوار تتدفّق بشكل إيجابي نحو علاقات الطلاب الأخرى، وفي المنزل ومكان العمل والمجتمع. 

  • الاستدخال

تعامل باولو فريري مع ناسٍ أتوا من سياق القمع التاريخي المنتشر. فقد جاء معظم طلابه من عائلات استعبدت سابقًا، وأدرك فريري أن إلغاء العبودية لم يعنِ أن الناس باتوا أحرارًا تلقائيًا. كما فهم أن تعليم الناس كيفية القراءة والكتابة كي يتمكنوا من التصويت في الانتخابات البرازيلية، أي تمكينهم عبر الحقوق الإيجابية، لم يكن كافيًا ليدرك الناس حريتهم ونهاية قمعهم. وأدرك أن قمع الكائن البشري يسري أعمق من مجرد المؤسسات السياسية والضمانات القانونية. واكتشف أنه بينما نسعى بجد من أجل حريتنا، فإنه إلى جانب العوائق المؤسساتية مثل الاستعمار والدكتاتورية، توجد أيضًا عوائق داخلية تمنعنا من أن نكون أحرارًا. فمفهوم الاستدخال الذي يعالج في هذا القسم عميق نفسيًا وثري ومحمّل بالمعنى. 

عندما يعرف الطلاب أن المعلمين كائنات بشرية كبقية الناس، وأنهم لا يعرفون كل شيء، بل هم أيضًا يتعلمون، يشعرون حينها بمزيد من الثقة في بحثهم عن الإجابات، ومزيد من الراحة في طرح أسئلتهم النقدية.

يكتب فريري حول حادثة جرت في مزرعة في أمريكا اللاتينية، لتفسير ما يعنيه الاستدخال، حيث احتلت مجموعة مسلحة من الفلاحين المزرعة. وأرادت المجموعة لأسباب تكتيكية الاحتفاظ بصاحب المزرعة كرهينة. ولكن لم يستطع ولا حتى مزارع واحد حراسة السيد، من حيث أن مجرد وجوده كان مخيفًا لهم جميعًا. يظنّ فريري أن فعل قتال سيدهم، ربما، جعل الفلاحين يشعرون بالذنب، ويستخلص أن السيد كان في الواقع «داخلهم». فقد استدخل أولئك الفلاحون سيدهم، رغم أن السيد كان في الواقع مغلوبًا من الفلاحين الذين فاقوه عددًا، ولم يكن بالتالي في موقع إصدار الأوامر أو المعاقبة لو أنهم رفضوا الانصياع، إلّا أن سلوك الفلاحين كان ما يزال مدفوعًا بخوفهم من سيدهم. فحرية الفلاحين لم تكن فقط مشروطة بمجرد إزاحة رئيسهم عن المزرعة، كما اعتقدوا مبدئيًا، ذلك أنهم قد كُيّفوا تمامًا لإطاعة الأوامر، والتصرف بأسلوب خانع، ومعرفة «موقعهم» وعدم تعديه، وهذا ما جرى حتى والسيد ما عاد يملك السلطة. 

عندما نستدخل قاهرنا فإننا نتصرف بالطريقة التي يرغب بها، حتى في غيابه. إن مثال فريري معبر جدًا، وتتمثل غيره من الأمثلة في العنصرية المستدخلة أو الذكورية المستدخلة. فاستدخال العنصرية يعني على سبيل المثال، أن الشخص العنصري لا يستلزم وجوده ليقمع غيره، ذلك أن الشخص الذي استدخل العنصرية يتصرف بطريقة تعزز قوة القاهر وتجسد بنية القهر. ومن أمثلة استدخال العنصرية في القرن الحالي الأشخاص ذوو البشرة الداكنة الذين يروّجون للبياض، من خلال استخدام مساحيق التبييض. أمّا استدخال الذكورية فيظهر عندما يرغب رجل في البكاء ولكن يكف عن ذلك حتى لا يبدو ضعيفًا. جميع هذه هي طرق مختلفة لاستدخال الناس بُنية قهرية ومن ثم السعي للحرية والقوة ضمن هذه البنية. هناك العديد من الطرق التي نستدخل فيها البنى القمعية إلى جانب العنصرية والبطريركية، مثل القومية والعمر وأنماط الكلام والوزن والجنسانية والجسم القادر والجسم غير القادر.

  • الوعي النقدي

كما ذكر سابقًا، عمل باولو فريري مع ناسٍ أدمجوا ضمن مؤسسات شكّلها قهر الاستعمار. ويجوز أن نكرر أنه رغم إلغاء العبودية رسميًا عام 1888، إلا أن الناس استمرت ببيع أنفسها كعبيد زمن فريري. وقد عمل مع أبناء وبنات وأحفاد العبيد السابقين، ولاحظ أن ديناميات السلطة لمؤسسة العبودية استمرت بالتأثير على طريقة اعتبار الناس لأنفسهم وعلاقاتهم مع من حولهم.

يوصف الوعي النقدي (conscientização) غالبًا على أنه عملية إدراك التناقضات الاجتماعية والسياسية ومن ثم التحرك ضد العوامل القمعية في ظروفنا الاجتماعية-السياسية. وهذا يستدعي تطوير توجه نقدي لمساعدتنا على فهم وتحليل العلاقات الإنسانية التي نكتشف أنفسنا عبرها. يبدأ الوعي النقدي عادة عندما يدرك الفرد سياقه الاجتماعي وسياقه السياسي وسياقه الاقتصادي، وجنسه، وطبقته الاجتماعية، وجنسانيته، وعرقه، وكيف تلعب هذه جمعاء دورًا هامًا في تشكيل الواقع. تقتضي عملية الوعي أيضًا الوعي بذواتنا لاختيار وخلق واقعنا.

يروى عن هارييت تابمان، الإفريقية الأمريكية المناضلة لإلغاء العبودية، القول إنها كانت لتحرر المزيد من العبيد، غير أن المشكلة تكمن في أن كثيرين منهم لم يعلموا أنهم عبيد. تلتقط ملاحظة تابمان لُبّ الوعي النقدي؛ فعندما يجري دمج شخص أو مجموعة من الناس داخل نظامٍ قمعي مثل العبودية أو البطريركية، يحدث في كثير من الحالات أن يستدخل المقهور القهر ولا يعرف أنه مقهور. ولتوضيح ذلك، فإن امرأة -ولندعوها جين- قد تتصرف بحسب، ومن داخل، الأعراف البطريركية طوال حياتها، وذلك قبل أن تصبح واعية سياسيًا، لكن لو حصل أن طلبت جين علاوة في وظيفتها ورُفض طلبها، وأعطيت العلاوة بدلًا عنها لامرأة أصغر سنًا وأقل كفاءة، فقد يبدأ وعي جين بما يتعلق بالتحيز الجنسي والعمري.

نظرًا لتاريخهم وسياقاتهم الاجتماعية-السياسية والاقتصادية، لم يكن العمال الذين عمل فريري معهم مدركين غالبًا لمدى القمع الذي يرزحون تحته، حيث إنهم قد ألفوا إطاعة الأوامر، وتنفيذ مهمات محددة، وعدم مساءلة الأشخاص في السلطة، وجرى ردعهم عن متابعة مصالحهم والتفكير بأنفسهم. وقد لاحظ فريري أن طلابه ينزعون أحيانًا لتشييء أنفسهم بدل تذويتها وجعل أنفسهم فاعلين قادرين على اختيار قدرهم بأنفسهم.

هناك عدة خطوات في عملية الوعي النقدي، فقد عمل فريري مع طلابه في دوائره الثقافية، واختار منهجًا يتيح له مساعدة الطلاب كي يعوا واقعهم الاجتماعي-السياسي. بدأ فريري العملية بخلق الظروف التي تتيح للطلاب إدراك ذواتهم. ويصف الخطوة الأولى بالقدرة على تحديد الفرق بين ما يعنيه أن تكون شيئًا وأن تكون ذاتًا؛ أي كائنًا بشريًا. ما أن تتخذ الخطوة الأولى، أي إدراك الذات، أكّد فريري لطلابه كيف شكلت تبعات خياراتهم تاريخهم الشخصي وأسهمت في خلق الثقافة الإنسانية. كما يبرز فريري وعلى الدرجة ذاتها من الأهمية، حقيقة أن كل إنسان يملك القدرة على تغيير العالم للأفضل من خلال عمله. وتكمن أهمية هذا في أنه سمح للناس العاديين أن يعرفوا قيمة أنفسهم. ونظرًا لأن النظام القمعي قد حط من قدر لهجتهم وعرقهم وعملهم وثقافتهم باستمرار، يؤكد فريري قيمة كل شخص وعمله. وبات طلابه ينظرون إلى أنفسهم كصانعين لقدرهم، كإسكافيين وحياكين واثقين من إبداعهم الفني، وبأن ثقافتهم ولهجتهم مهمّتان وقيّمتان. 

  • الحرية

يكتب باولو فريري حول حادثة جرت عندما سأل طلابه عن الفرق بين الحيوانات والبشر، فكانت الإجابات مؤرقة ومتبصرة. فقبل أن يبدأ الفلاحون بعملية الوعي النقدي، كانت لديهم القدرة بالتأكيد كي يعوا قوتهم، غير أنهم لم يبدأوا عملية الوعي النقدي، لذلك لم يفكروا بأنفسهم كأحرار. وعندما سُئل الطلاب عن الفرق بين الحيوانات والبشر، أجاب أحد الفلاحين في الدائرة الثقافية في تشيلي بأنه لا يوجد فرق بين الرجال والحيوانات، وإذا كان هنالك فرق فإن الحيوانات أفضل حالًا من حيث أنها تملك حرية أكبر.

إجابة الفلاح الصادقة هي مؤشر لكيفية رؤيته لنفسه وللسياق الذي عمل فيه فريري. فرغم أن الفلاحين لم يكونوا مستعبدين قانونيًا، إلا أنهم لم يفكروا بأنفسهم كفاعلين أحرار، كذوات تمتلك خيار انتقاء وصياغة حياتهم وتاريخهم. بل نظروا إلى أنفسهم بدلًا من ذلك، ككائنات تفرض عليها الأوامر، فكانت الحيوانات التي لا تملى عليها الأوامر حرة أكثر منهم. بمعنى آخر، لم يكن هناك بالنسبة لأولئك الفلاحين فرق حقيقي بينهم وبين السوائم والدواب التي تكدح في الحقول، إلّا إن كانت تلك الحيوانات مثل الثعالب والطيور التي لا تعمل في المزارع، والتي تملك في هذه الحالة قدرًا أكبر من الحرية من الكائن البشري.

على نقيض الاعتقاد الليبرالي الغربي السائد، فواقع عدم استعبادنا جسديًا لا يعني أننا أحرار، ولا يعني أننا لا نتصرف بطريقة يريدها قاهرنا المستدخل.

تدل هذه الإجابات على حقيقة أن «حرية» الفلاحين يجب أن تكون مشروطة. فصحيح أنهم تقنيًا وسياسيًا لم يعودوا عبيدًا، سوى أنهم لم يعتبروا أنفسم كائنات بشرية حرة لديها ذواتها وقدرتها على اتخاذ قراراتها. أدرك فريري من خلال العمل مع فلاحي أمريكا الجنوبية في البرازيل وتشيلي، أن أولئك الفلاحين لم يكونوا مجموعات من الناس المهمشة فحسب، ولكن الأسوأ من ذلك أنهم اعتبروا أنفسهم موجودين فقط لصالح مدرائهم، لا لأنفسهم أو لمصلحتهم الخاصة. ولم تكن المشكلة بكونهم أميين فقط، ولكن في اغترابهم الكلي عن ذواتهم. وعندما أدرك فريري درجة قهر طلابه، اختار ألا يعلمهم فقط القراءة والكتابة، وأن يخلق شروطًا ضرورية لهم في الصف ليدركوا ذاتهم ويروا أنفسهم ككائنات بشرية. فعملية الوعي النقدي أكبر بكثير من مجرد تعلم مجموعة من العادات أو المهارات، فهي إدراك ذات المرء ككائن بشري.

لمفهوم «الحرية» دلالات عديدة. فقد تعني الحرية القدرة على التنقل بحرية، أو قد تعني أن المرء غير مستعبد على سبيل المثال. وقد اعتقد فريري أن «الحرية» حق لكل إنسان بأن يصبح أكثر إنسانية. وقد لاحظ أن «الحرية» تعني أمرًا مختلفًا بالنسبة للفلاحين الذين عمل معهم. ويفسر فريري بأن أولئك الفلاحين يريدون إصلاح الأرض لا أن يكونوا أحرارًا. أي أن يكونوا قادرين على امتلاك أرضهم كي يصبحوا ملاك أراضٍ، أو أسياد عمال جدد على وجه التحديد. 

كتب فريري كيف أن غاية الفلاحين أن يكونوا كائنات بشرية، ولكن الإنسان الحر بالنسبة لهم، وضمن السياقات المتناقضة التي عاشروها ولم يتجاوزوها، يعني أن يكون قاهرًا. فكتب فريري كيف أن المقهور يجد في القاهر نموذجه «للرجولة» أو نموذجه للإنسانية، وما يعنيه أن تكون شخصًا حرًا. فقد بات الفلاحون يعادلون الحرية بالقدرة على قهر الآخرين. ومرد هذا ثنائية السياق الذي عايشوه والذي يقسم الرئيس «كحر»، من حيث أنه هو المسؤول ومن يعطي الأوامر للفلاحين. بينما لم يكن أمام الفلاحين من خيار سوى الانصياع لأوامر الأسياد. وضمن هذا السياق التاريخي كان المثال الوحيد أمام الفلاحين للإنسان الحر هو مثال الرئيس الظالم. وبهذا باتوا يعتقدون أن حريتهم لا توجد إلا بقهر الآخرين.

الحق في التصويت، وامتلاك العقار، وحرية التعبير والتعليم -رغم أهميتها جميعًا- لا تعني أن المرء حر. إذ هناك طرق مختلفة قد يكون الناس فيها أحرارًا، والحرية مسألة درجات. على نقيض الاعتقاد الليبرالي الغربي السائد، فواقع عدم استعبادنا جسديًا لا يعني أننا أحرار، ولا يعني أننا لا نتصرف بطريقة يريدها قاهرنا المستدخل.

تحدّى فريري بإصرار العلاقات السلطوية التي لا تؤدي إلا للمزيد من القمع. وليس هذا من أجل المقهورين فحسب، بل من أجل القاهرين الذين يصبحون أنفسهم مقهورين عبر ديناميات العلاقات القمعية. يكتب فريري كيف أن الخوف من الحرية يتجسد عند القاهر بطريقة تختلف عن المقهور. فالخوف من الحرية عند المقهور هو الخوف من الاضطلاع أو امتلاك حريته، بينما الخوف عند القاهر هو من خسارة «حرية» القهر. 

 بيداغوجيا المقهورين

يُعتبر كتاب «بيداغوجيا المقهورين» أشهر أعمال باولو فريري. وقد ألفه في باكورة سنوات نفيه من البرازيل ونشره عام 1968. تُرجم الكتاب إلى الإنجليزية عام 1970. وقد مُنع وأُدرج في القائمة السوداء مرات لا تحصى، من حكومات مختلفة، وجدته خطيرًا وهدامًا، بينها حكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. 

في الكتاب مجموعة من الأطروحات التي عاد إليها فريري في مؤلفاته اللاحقة، وعلى رأسها أن الظروف اللاإنسانية التي يرزح تحتها العديد من الناس ليست قدرًا محتومًا، بل هي نتيجة قمعٍ ممنهج ظالم يعزز العنف لدى القاهر وينزع إنسانية المقهور. وخلال عمله على استعادة إنسانيّته، يقول فريري، على المقهور ألّا يصبح قاهرًا لقاهريه، أو لغيره من المقهورين. وللتحرّر يرى وجوبَ إسهام المقهورين بشكل وثيق في كل مرحلة من مراحل التحرير، لأن الحرية أمرٌ يتحتم على كل امرئ طلبه لنفسه. 

يتطرّق الكتاب كذلك لأهمية الحوار في بيداغوجيا المقهورين، حيث يوفّر للناس فرصة اكتشاف أنفسهم، وبالتالي التسامح مع الأطراف المشاركة فيه؛ مع آرائهم وطرق وجودهم المختلفة، مما يمنح الفرصة للتعلّم من الآخرين. ويتابع بالقول إن على أولئك يعلّمون ويسهّلون ويساعدون أن يتعلّموا أولًا الاستماع إلى أولئك الذين يقومون بمساعدتهم والعمل معهم.

كما يقدم تفريقًا بين عمل الخير الإنساني والإنسانية. فرغم أن كلا المفهومين حسنا النية ويريدان الخير للبشرية، إلا أنهما ليسا الأمر ذاته، ولا يحققان النتائج ذاتها. ولذا انتقد الحركات الاجتماعية التي تتظاهر بإسداء المعونة الإنسانية، حيث لاحظ أن ما يحدث غالبًا في عملية «المساعدة» هذه هو سلب المساعدِين الناس قوّتهم الخاصة لتحسين أوضاعهم، إذ هناك طرق لمساعدة الناس تعزّز استقلاليتهم وطرق أخرى تفرض المساعدة على أولئك الذين يطلبونها.

سنوات المنفى

عاش فريري في المنفى ما بين بوليفيا وتشيلي والولايات المتحدة الأمريكية وسويسرا، من عام 1964 وحتى عام 1980. وكانت بوليفيا المنفى الأول بعيدًا عن البرازيل، إلا أنه لم يقض فيها سوى وقت وجيز، وذلك لكونه قد عاش حياته على مستوى سطح البحر، فكانت مرتفعات جبال الأنديز قاسية عليه، وعاش أوقاتًا صعبة في التكيف مع مرتفعات لاباز. بعد وصوله إلى بوليفيا بوقت وجيز، وقع فيها انقلاب على إدارة فيكتور باز إستينسورو، مما دفع بفريري إلى اللجوء السياسي في تشيلي، هربًا من المناخ السياسي والمرتفعات، حيث قضى فيها الأعوام ما بين 1964 و1969.

كانت السنوات الخمس التي قضاها فريري في تشيلي مثمرة لكتاباته وأبحاثه، حيث تمكن من متابعة وتطوير أعماله حول محو الأمية، فقد عمل لدى مؤسسة التطوير الزراعي ومع جامعة تشيلي في قسم التخطيط الخاص لتعليم الكبار. وجرى تبني نموذج فريري لمحو الأمية بنجاح، مما دفع به نحو المساهمة في مساعي الإصلاح الزراعي في تشيلي. وقد اتصلت اليونسكو به حينذاك ليصبح مستشارًا، فتابع مساعدة المنظمة في الدوائر الثقافية في تشيلي بأكملها. 

كانت السنوات الخمس التي قضاها فريري في تشيلي جيدة بالنسبة له ولعائلته، فقد أحبه التشيليون وأشعروه بالراحة. كما كان العمل مع الفلاحين التشيليين مجديًا له، إذ أتاحت له تجربته معهم ملاحظة الفروقات ما بينهم وبين الفلاحين الأميين في البرازيل. فرغم تشابه التواريخ بينهما إلا أنهما لم يكونا نفس الشعب.

عندما يهيمن شخص أو مجموعة من الأشخاص على التجربة اليومية للمرء، لا يتمكن غالبية المهيمن عليهم من تطوير القدرة على التفكير أو المساءلة أو التحليل بأنفسهم، بحيث يتطور وعيهم نحو إطاعة الأوامر المفروضة عليهم بالدرجة الأولى.

وتمكن فريري في الوقت الذي قضاه في تشيلي من إنهاء مسودة كتابه الأول «التعلم كممارسة للحرية»، الذي نشر عام 1967 في ريو دي جانيرو، كما تمكّن من كتابة مسودة كتابه «تعليم المقهورين» بناء على تجاربه في البرازيل وتشيلي. وقد نشر «تعليم المقهورين» بالإسبانية أولًا عام 1968، ولكن نظرًا للمناخ السياسي في البرازيل، كان على الكتاب أن ينتظر حتى عام 1975 حتى ينشر بالبرتغالية. وحتى ذلك الحين كان «تعليم المقهورين» قد ترجم إلى الإنجليزية والإيطالية والفرنسية والألمانية.

تلقى فريري عام 1968 دعوات من جامعة هارفرد ومجلس الكنائس العالمي في جنيف في سويسرا. فاتفق على الذهاب إلى هارفرد أولًا ثم جنيف. وغادر تشيلي عام 1969 ليقيم في كامبردج، ماساتشوستس، من نيسان 1969 إلى شباط 1970. وقد درّس في مركز دراسات التغيير والتطور الاجتماعي في هارفرد، حيث عمل أستاذًا زائرًا، وألقى محاضرات ومؤتمرات. كذلك نشر «عملية تعلم الكبار كعمل ثقافي من أجل الحرية» و«العمل الثقافي والتوعية» في «هارفرد إديوكاشنال ريفيو». وقد تم نشر البحثين الأخيريْن كدراسة واحدة تحت عنوان «العمل الثقافي من أجل الحرية» في عام 1972.

أتاح الوقت الذي قضاه فريري في الولايات المتحدة له أن يختبر العنصرية والتمييز مباشرة وهو يشاهد الناس تتدبر أمورها في إسكانات ذوي الدخل المتدني والغيتوهات في مدينة نيويورك، مما أضاف إلى تجاربه البرازيلية، إلى جانب تلك التي عاينها مع الفلاحين في تشيلي، ووسع رؤيته بخصوص نضالات المقهورين. وأدرك أن تصنيفات العالم الثالث والعالم الأول ليست واضحة المعالم، بل إن الفقر والقهر يمكن أن يتواجدا في الدول المتطورة أيضًا.

عاش فريري في سويسرا بعد انقضاء وقته في الولايات المتحدة، وذلك ما بين عام 1970 وحتى عودته إلى البرازيل عام 1980. وعمل كمستشار لمجلس الكنائس العالمي في مكتب التعليم وإصلاح التعليم الشعبي. قام عام 1971 -بالتعاون مع منفيين برازيليين آخرين- بتأسيس معهد العمل الثقافي في جنيف، والذي كان يهدف إلى تحقيق ممارسة تعليمية تنشر الوعي بالأبعاد السياسية للتعليم. وقد سافر وعمل في أمريكا الجنوبية والوسطى وإفريقيا وأستراليا والشرق الأوسط وآسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية خلال عمله مع مجلس الكنائس ومعهد العمل الثقافي. 

وصول باولو فريري إلى غينيا بيساو. المصدر: مجموعة صور باولو فريري عن mst.org.

نظرًا لاهتمام فريري العميق بالدول المستعمرة وتعاطفه معها، تابع عن كثب النضالات التحررية في الدول الإفريقية، ومنها على وجه الخصوص، الموزمبيق وأنغولا وجمهورية الرأس الأخضر وساو تومي وبرينسيب وغينيا بيساو. وقد دعته حكومة غينيا بيساو، المشكلة حديثًا عام 1975، لمساعدتها في تنظيم حملة لمحو الأمية. والمعلوم أن البرتغال قد استعمرت غينيا بيساو منذ عام 1440، وفي عام 1975 ووصل معدل الأمية فيها بين الكبار إلى 90%. 

العودة إلى البرازيل

عاش باولو فريري في المنفى قرابة 16 عامًا، وذلك منذ عام 1964 وحتى عام 1980. وقد تابع عمله كمعلم بعد عودته إلى البرازيل حتى وفاته عام 1997. فعمل ما بين 1980 و1990 في جامعة دي كامبيناس وكأستاذ في برنامج الدراسات العليا في الجامعة البابوية الكاثوليكية في ساو باولو. وأعيد تعيينه عام 1987 كأستاذ كبير في جامعة بيرنامبوكو الفيدرالية؛ إلا أن فريري تقاعد مباشرة من هذا المنصب كي يفسح المجال للأجيال الشابة من الأساتذة الجامعيين. فأصبح حينذاك أستاذًا فخريًا في الجامعة. 

ساهم فريري عام 1980 بشكل وثيق في تأسيس حزب العمال، الذي تحدى الحكم العسكري وعزز الديمقراطية إلى البرازيل. وقد قبل فريري الدعوة لمنصب سكرتير التعليم في مدينة ساو باولو عام 1989، وكان عدد سكان المدينة آنذاك 12 مليون نسمة، من بينهم 720 ألف طالب في 654 مدرسة، من الروضة وحتى الثانوية. وقد عمل في هذا المنصب مدة عامين، حتى أيار 1991. بدأ فريري يعمل في تلك الأثناء لتحسين الظروف الهيكلية للمباني التي تضم المدارس. كما قام إلى جانب البنى المادية للمدارس بإصلاح المناهج المدرسية لينتقل إلى خلق مناخ مدرسي يُسعد فيه الطلبة بالتعلم ويُشجّع المدرسون على تقدير خلفية الطلبة وثقافتهم وقيمهم واهتماماتهم ولغاتهم. كان فريري حساسًا جدًا فيما يتعلق بالتحيز اللغوي، وقد عمل على خلق مناخ لا يشعر فيه الأطفال بالاغتراب نتيجة حديثهم باللكنات البرتغالية غير النموذجية، ولا يحاكمون بناءً على طرق نطقهم وتركيبهم للجمل. تابع فريري مشاريع الكتابة بعد تقاعده من العمل كسكرتير التعليم، وعاود التدريس في برنامج الإشراف ومناهج الدراسات العليا في الجامعة البابوية الكاثوليكية في ساو باولو.

توفيت إلسا، زوجة فريري ورفيقته على مدى 42 عامًا، في تشرين الأول من عام 1986، بسبب فشل في القلب. وقد تأثر بشدة لخسارتها وصارع الحزن والاكتئاب. لكنه بدأ في العام التالي بمعاودة الاندماج في عمله، وشرع في العمل كمستشار لليونسيف، واستأنف واجباته التدريسية في الجامعة البابوية الكاثوليكية في ساو باولو. كما حضر ندوةً في لوس أنجلوس للاحتفاء بذكرى إلسا، حيث التقى بميليس هورتون، المعلم والناشط الاجتماعي، الذي تعاون معه في تأليف كتاب «نصنع الطريق من خلال المسير: نقاشات حول التعليم والتغيير الاجتماعي» عام 1990. وقد أتاح له التعاون مع هورتون في هذا الكتاب معاودة الاندماج في الكتابة، وخفف عنه آلام فقدان زوجته.

تزوج فريري بعد سنتين من وفاة زوجته إلسا من أنّا ماريا (نيتا) وهي ابنة ألويزيو أراوخو، مدير مدرسة أوسوالدو كروز الثانوية، الذي سمح لفريري بالدراسة فيها بأقساط مخفضة عندما كان يافعًا. وقد عرف فريري ونيتا بعضهما البعض منذ ذلك الحين، كما عمل فريري بعد سنوات كأحد مستشاري نيتا في رسالة الدكتوراة في الجامعة البابوية الكاثوليكية في ساو باولو. وكونها أكاديمية ضليعة، أسهمت نيتا بشكل ملحوظ في أعمال فريري اللاحقة واستمرت في احتضان رؤيته، حيث نشرت عددًا من كتاباته بعد وفاته. عاشت نيتا وفريري معًا، وأحبا بعضهما وعملا بسعادة، حتى وفاة فريري بقصور في القلب في الثاني من أيار عام 1997، عن عمر ناهز 75 عامًا. 

  • مراجع وقراءات متعمقة
    • Collins, Denis. Paulo Freire: His Life, Works & Thought. New York: Paulist Press, 1977.

    Excellent short introduction to Paulo Freire’s life and philosophy.

    • Bakewell, Peter. A History of Latin America: Empires and Sequels 1450- 1930. Malden,  MA: Blackwell Pub-lishers, 1997.

    Latin American history, from colonization through independence.

    • Finn, Patrick J. Literacy With An Attitude: Educating Working-Class Children in Their Own Self-Interest. NewYork: SUNY Press, 2009.

    Example of the banking model of education in the U. S. A.

    • Fonseca, Sérgio C. «Repercussões das ideias de Anísio Teixeira na obra de Paulo Freire.» Travessias, 2 (2008) 3-15.

    Examination of Anísio Teixeira’s influence on Paulo Freire’s philosophy.

    • Freire, Ana Maria Araujo and Donaldo Macedo. The Paulo Freire Reader. New York: Continuum, 2000.

    Presents Paulo Freire’s main ideas with an introduction written by Nita Freire.

    • Freire, Paulo. Education for Critical Consciousness. New York: Seabury Press, 1973.

    Re-publication (in English) of Paulo Freire’s first book Education, the Practice of Freedom together with Extension orCommunication.

    • Freire, Paulo. Education, the Practice of Freedom. London: Writers and Readers  Publishing Cooperative, 1976.

    Paulo Freire’s first book, where he develops the banking model of education versus critical pedagogy.

    • Freire, Paulo. Extensión o Comunicación. Colombia: Editorial América Latina, 1974.

    Paulo Freire discusses the better and worse methods to communicate between agronomic engineers and farmers.

    • Freire, Paulo. Letters to Cristina: Reflections on My Life and Work. New York: Routledge, 1996.

    Series of autobiographical letters written to his niece discussing the events in his life and his philosophy.

    • Freire, Paulo. Pedagogy of Freedom: Ethics, Democracy and Civic Courage. Lanham, Rowman & LittlefieldPublishers, 1998.

    One of the last books that Paulo Freire authored, offering his most mature and insightful reflections. Also contains aninformative and incisive foreword written by Donaldo Macedo.

    • Freire, Paulo. Pedagogy of the Heart. New York: Continuum, 2007.

    Written toward the end of Paulo Freire’s life. Here he takes a look back at his work while still developing nuances to hisconcept of conscientização.

    • Freire, Paulo. Pedagogy of Hope: Reliving Pedagogy of the Oppressed. London:  Bloomsbury Academic, 2014.

    This book is the «sequel» to Pedagogy of the Oppressed, where Paulo Freire explains the context and further elucidatesthe concepts he developed in Pedagogy of the Oppressed.

    • Freire, Paulo. Pedagogy of the Oppressed. New York: Continuum, 1970.

    Paulo Freire’s most read book, where he develops the concepts of banking versus critical education.

    • Freire, Paulo. Teachers as cultural workers: letters to those who dare teach. Boulder: Westview Press, 1998.

    Paulo Freire addresses teachers and encourages us to commit ourselves to continue being caring and open-minded.

    • Freire, Paulo. «The Adult Literacy Process as Cultural Action for Freedom.» Harvard Educational Review. 40:2(1970) 205-225.

    Paulo Freire’s article published in the U. S. A. during the time he taught at Harvard. Here he articulates the essence ofPedagogy of the Oppressed to the American academic audience.

    • Fromm, Erich. The Heart of Man: Its potential for good and for evil. Mexico: Fund, University Press, 1967.

    2021/ 9/ 8 Paulo Freire | Internet Encyclopedia of Philosophy /https://iep.utm.edu/freire 26/26

    • Erich Fromm develops the biophilic and necrophilic concepts that influenced Paulo Freire.
    • Hooks, Bell. Teaching Community: A Pedagogy of Hope. New York: Routledge, 2003.

    Critical pedagogy in the current U. S. American context.

    • Kirylo, James D. Paulo Freire the Man from Recife. New York: Peter Lang Publishing, Inc., 2011.

    Excellent and thorough biography of Paulo Freire.

    • Martínez, Eusebio Nájera. «Paulo Freire – Fragmentos testimoniales de una praxis 3,» Online video clip.YouTube, 20 February 2010. Web. 28 August 2015.

    Three-part documentary on Paulo Freire and his work.

    • Valenzuela, Angela. Subtractive Schooling: U.S. – Mexican Youth and the Politics of Caring, Albany: State Uni-versity of New York, 1999.

    An example of the banking model of education in the U. S. A.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية