فنون رقمية

«أركيولوجيا المستقبل»: عن تاريخ وحاضر الفنون الرقمية

صورة/ عمل فني مولدة رقميًا معتمدة على عمل هانس جين آرب، ولّدتها الكاتبة عام 2022، من خلال موقع كروماتا.

«أركيولوجيا المستقبل»: عن تاريخ وحاضر الفنون الرقمية

الإثنين 23 كانون الثاني 2023

يشيع اليوم في ازدياد مطرد استخدام الفنون الرقمية، وبخاصة الرموز الفنية غير القابلة للاستبدال (NFTs)، ومنصات المعارض الفنية الرقمية، وعوالم الميتا (Metaverse)، مع تحول شركات كبرى إلى الاستثمار في هذه العوالم، ومنها شركة ميتا (فيسبوك سابقًا). استقدمت الرموز الفنية غير القابلة للاستبدال لتوفير طريقة لا مركزية للفنانين لتسويق وبيع أعمالهم، تدرّ عليهم ربحًا من دون وساطات أو مباركة «حراس البوابة»، فالنظام الفني التقليدي القائم لديه العديد من المحددات المفروضة على الفنان في سبيل رفده بشرعية ما، تسمح له ببيع أعماله. يجري الحصول على هذه الشرعية عن طريق خطوات تبدو واضحة، من الحصول على الشهادة الأولى والثانية، ثم المعارض الجماعية والإقامات الفنية والمعارض الفردية، ونيل انتباه نقاد معروفين للفنون، والعمل مع قيّمي معارض مرموقين، والعرض في معارض وبيناليات عالمية، وأن تصبح أعمال الفنان جزءًا من مجموعات ثابتة لمؤسسات فنية مهمة، وأن تبلغ أسعار أعماله مستوى عالمي ثابت. ولكن هذه الخطوات ليست مؤكدة ولا تحتكم للمنطق الموجود في الصناعات الأخرى، وعدد ضئيل من طلاب الفنون يتجاوز أول مرحلتين أو ثلاثة منها.

على أي حال، برزت الرموز الفنية غير القابلة للاستبدال كمكان يستطيع الفنانون من خلاله تجاوز عقبات النظام الفني التقليدي في مصلحة الفنان. لكن بالطبع، تنبهت دور المزادات الفنية والمؤسسات الفنية التقليدية لذلك، واستطاع النظام الفني القائم استملاك هذا المفهوم بما يتناسب مع «حراس البوابة» والرعاة التقليديين. فمثلًا، طُرِحَت الرموز الفنية غير القابلة للاستبدال للفنان الأمريكي الأبيض بيبل (Beeple) للبيع في مزاد كريستي عام 2021، وقد حققت 69 مليون دولار، رغم أن الفنان لم يكن مشهورًا أبدًا في الأوساط الفنية التقليدية مسبقًا حتى طرحه أعماله كـ«إن إف تي». كنت أتابع أعمال بيبل منذ عام 2011 على منصة تمبلر، ولم تكن أعماله حينها أكثرمن منشورات عادية على المنصة، صورًا لعوالم غريبة بلمسة من الخيال العلمي، تجد مثلها الكثير على تمبلر أو على منصة DeviantArt، والتي كانت رائجة أيضًا في ذلك الوقت للفنانين، ويعيد نشرها جمهور تمبلر من الجيل ما بين المراهقة ومنتصف العشرينيات.

فمن أين جاءت الفنون الرقمية، وكيف تطورت، وكيف كانت مناوئة للنظام القائم، رغم تمكنه بشكل مستمر من تقنينها؟

جذورٌ فنية

رغم التطور التكنولوجي الذي أدى إلى بدايات صناعة الحاسوب في الأربعينيات، إلا أن ثورة الإنترنت لم تتبلور حتى بداية التسعينيات، قبل أن تلحق بها ثورة السوشال ميديا. أثّرت هذه الثورة الرقمية على كل المجتمعات حول العالم، ولم تكن الفنون استثناءً. لم تتطور الفنون الرقمية كوسط مستقل بعينه أو في الفراغ، لكنها جاءت مُكمّلة لإرث طويل من الحركات والمجموعات الفنية، وبخاصة الدادائية وفكرتها حول «العشوائية المضبوطة» (controlled randomness)، ومجموعة فولوكس (Fluxus)، والفن المفاهيمي، وبخاصة الاهتمام بالتركيز على المفهوم أو الفكرة، ومشاركة الجمهور، والحدث كوسيط فني. أحد المفاهيم التي جاءت بها الدادائية هو أن الفن يمكن أن يكون «مرحًا» ولا يحتكم إلى قوانين فنية كما قبله من الحركات، وأن المدخلات العشوائية واللعب بإمكانها أيضًا أن تنتج فنًا. فمثلًا، في أحد الأعمال المبكرة للفنان الدادائي هانس جين آرب عام 1933، والمعنون «بحسب قوانين الصدفة» (According to the Laws of Chance) يمزق الفنان قطعًا صغيرة عشوائية من الورق ويلقي بها على سطح ورقي ومن ثم يلصقها كعمل كولاج. 

بحسب قوانين الصدفة، هانس جين آرب، 1933.

صورة/ عمل فني مولدة رقميًا معتمدة على عمل آرب، ولّدتها الكاتبة عام 2022، من خلال موقع كروماتا.

إن كان يمكننا تقريب هذه الطريقة لفنون رقمية استلهمت روح الدادائية العشوائية، فيمكن ربط ذلك بالفنون التوليدية (Generative Art) اليوم. والفنون التوليدية هي أعمال فنية تم توليدها بأكملها أو جزء منها عن طريق نظام مستقل، وهذا النظام هو نظام غير بشري عادةً، ينتج العمل الفني بشكل مستقل عن الفنان. ويمكن استخدام الحاسوب أو التطبيقات أو مواقع الإنترنت لتوليد هذه الفنون العشوائية. فكما استخدم آرب نظامًا عشوائيًا خارجيًا (وهو نثر الورق) لتوليد فنون الكولاج خاصته، يتم استخدام النثر الرقمي للذكاء الاصطناعي والجمل البرمجية لتوليد فنون مشابهة. وبالطبع الفنون التوليدية موجودة في الموسيقى أيضًا، في تجارب برايان إينو على سبيل المثال. 

سيكون من المجحف الحديث عن الفن الرقمي دون ذكر الفنان مارسيل دوشامب، والموسيقي جون كيج وتأثيرهما على مفهوم هذا الفن، وبخاصة أفكارهما حول «الوصول العشوائي للمعلومات كطريقة لتحليلها وترتيبها»، وهي تشبه مفهوم الصدفة، أو العشوائية المضبوطة في الدادائية. فمثلًا في موسيقى جون كيج الطلائعية، والتي يصفها بـ«غياب الأصوات المقصودة» نرى استخدامه للضجيج المحيطي لقاعة الحفل وترتيب الضجيج لخلق موسيقى ما. أما مارسيل دوشامب فيأتي الوصول العشوائي في أعماله المفاهيمية الحركية التي تتغير بتغير الرائي، أي أن الجمهور بتفاعله مع العمل المفاهيمي يولد فنًا مختلفًا في كل مرة. أحد الأمثلة على أعماله العمل التفاعلي المعنون بـ«ألواح زجاجية دوارة» أو «بصريات دقيقة» عام 1920، وهو عمل مفاهيمي يعمل بالكهرباء، يقوم الجمهور بتشغيله، فينتج عن دوران الألواح تأثير بصري وهمي، يتغير شكله بحسب مكان ومسافة وقوف الرائي. 

يمكن الآن رؤية صلات واضحة مع فنون الإنترنت، وأنواعها مثل فنون الويب التي تتخذ الموقع الإلكتروني كوسيط يتفاعل معه المستخدم فينتج تفاعلًا مختلفًا في كل مرة، أو الفنون الرقمية التي تتخذ البرمجيات شكلًا لها، يحملها الجمهور على أجهزته وتأخذ أحيانًا طابع لعبة إلكترونية، أو حتى الفنون التوليدية الرقمية وربطها بما سبق. أي أن عاملي: العشوائية والاعتماد على المستخدم موجودان في كل من الدادائية والفنون الرقمية. ويشار لعاملي ذاتية المستخدم والنسبية كأحد عناصر ما بعد الحداثة وثقافتها الشعبية، ومن ضمنها الإنترنت.

عمل فني دادائي حركي تفاعلي للفنان مارسيل دوشامب بعنوان: «ألواح زجاجية دوارة»، 1920.

البدايات

في عام 1966، أُنشِئ الجسم غير الربحي «تجارب في الفن والتكنولوجيا» وعرف اختصارًا بـEAT. أسس هذا الجسم المهندسان بيلي كلوفر وفريد وفالدهاور والفنانان روبرت راوشنبرغ وروبرت ويتمان. وقد كانت هذه التجربة من أوائل محاولات مزاوجة التكنولوجيا بالفنون في الزمن الحديث. كانت مجموعة المؤسسين قبل إنشاء الجسم جزءًا من مشروع تعاوني دُعي إليه 30 مهندسًا من مختبر بيل التقني (الذي عرف لاحقًا بمختبر شركة نوكيا للاتصالات) للتعاون مع فنانين طلائعيين في المسرح والأداء والرقص وتصميم الرقصات، للعمل على إنتاج فني يوظف التكنولوجيا في ممارسة الفنانين. وكان من بين الفنانين المشاركين جون كيج، وديبورا هاي، وعدد من الفنانين الأمريكيين. ولّد هذا التعاون الإنتاجَ الفني «تسع أمسيات: مسرح وهندسة»، الذي احتوى على عدد كبير من التقنيات تقدم لأول مرة في سياق الفن الأدائي والمسرح، ومنها الإسقاط التلفزيوني (projection)، وأجهزة تترجم الحركة إلى صوت وغيرها. بعد تأسيس «تجارب في الفن والتكنولوجيا»، صممت المجموعة جناح بيبسي في معرض أوساكا الفني في اليابان عام 1970. والجناح عبارة عن بناء كروي الشكل، مقتبس من أعمال المعماري باكمنستر فولر، داخله مغطى بالمرايا التي تسمح برؤية انعكاس الأجسام من جميع الجهات، مؤسسة لما يشبه الهولوغرام في مرحلة لاحقة.

ثم، في عام 1977، شهد العالم حدثًا فنيًا كبيرًا، غيّر شكل الفنون الرقمية إلى الأبد. هذا الحدث هو معرض دوكومنتا السادس في مدينة كاسل بألمانيا، والذي جرى فيه لأول مرة، توظيف الرقمنة، والاتصالات، وتكنولوجيا العصر في حدث فني، كما كان أول حدث فني يستخدم الاتصال اللاسلكي التلفزي (ستالايت) لبث عروض الفنانين الأدائيين إلى شاشات تلفاز 25 دولة ببث مباشر، قبل أن تصبح هذه التقنية منتشرة ومستخدمة للعموم. وكان هؤلاء الفنانون الأدائيون الطليعيون هم: نام جون بايك، دوغلاس ديفيس، وجوزيف بويس، وهو فنان مفاهيمي ألماني.

بعد دوكومنتا السادس بعامين، أي عام 1979، تم اختراع جهاز المودم، الذي يسمح بنقل الإشارات الرقمية عبر خطوط الهاتف، ليصبح ركنًا أساسيًا في شبكة الإنترنت، التي أصبحت ساحة لعب، وأداة إنتاج، ونظام توزيع واستهلاك للفن الرقمي حتى اليوم. يشير موقع متحف تايت إلى أن مصطلح «فن رقمي» استُخدم لأول مرة عام 1980، عندما استخدم الفنان هارولد كوهين برنامجًا حاسوبيًا للرسم ابتكره وسماه AARON. استخدم الفنان البرنامج لخلق صور فنية أصيلة باستخدام الحاسوب. وتعد الأعوام بين 1980 و1990 حقبة برامج الرسم، حين بدأ التركيز على تطوير برامج حاسوبية خاصة بالرسم للاستخدام خارج مختبرات الجامعات وتسمى برامج الرسم المساندة حاسوبيًا أو CAD. في عام 1982 على سبيل المثال، تم تأسيس وتطوير شركة أوتوديسك، الشركة الأم المطورة لبرنامج أوتوكاد، وهو أشهر برامج الرسم الهندسي المعماري حتى اليوم وأكثرها استخدامًا.

في تلك الحقبة تم العمل على تطوير آليات المسح الضوئي أيضًا وإدخال الصور الممسوحة للحاسوب. كما شهدت أعوام الثمانينيات تجارب رقمية لفنانين مشهورين، ركزت عليهم السردية الغربية لتأريخ الفنون دون آخرين، ومنها تجارب آندي وورهول عام 1985، التي أنتجها بصفته سفير تسويق حاسوب أميغا 1000 كنوع من الدعاية لهذا الجهاز، وأنتج حوالي 28 عملًا فنيًا رقميًا، من أشهرها عمل فني رسم فيه مغنية البوب الأمريكية ديبي هاري، عضوة فريق بلوندي، باستخدام برنامج يدعى ProPaint على حاسوب أميغا 1000 المذكور. جدير بالذكر أنه في الحقبة نفسها، إن لم يكن قبل وورهول، قامت الفنانة الفلسطينية سامية حلبي بتجارب رقمية مهمة باستخدام نفس الحاسوب المذكور، وقد اشترته حلبي من خلال عرض مخفض على الحاسوب في نيويورك. جربت حلبي في تلك الفترة سلسلة تجارب فنية رقمية أطلقت عليها الفن الحركي (Kinetic Art) من خلال تعلمها لغات برمجية مثل لغة سي، لتوليد فنون رقمية تتكون من أربعة عناصر: اللون، والشكل، والصوت، والحركة. 

عمل مولد عبر الحاسوب، سامية حلبي، 1987.

اليوم، تعتبر الفنون الرقمية توجهًا واسعًا تنضوي تحته العديد من وسائط الفنون، فمنها التي تستخدم التكنولوجيا الرقمية لإنتاج فنون معتادة، مثل الفوتوغرافيا الرقمية، أو الفنون التي ولدت رقميًا (digital-born) والتي تنتج وتوزع وتحفظ في العالم الرقمي، وربما أيضًا الفن المعروض في الفضاء الرقمي، والذي يسمى فن الوسائط الجديدة (new media)، ومنه مثلا فنون البرمجيات وفنون الإنترنت. عند التفكير بالفنون الرقمية وفنون الوسائط، فإن أهم صفة مرافقة لها هي التغير والتطور الدائم بسرعة فائقة. وليس هناك أدنى شك حول أهمية التكنولوجيا والبرمجيات في تشجيع الطلاب على توظيف البيئات التفاعلية الرقمية في أعمالهم.

تحديات راهنة

تثير عملية رقمنة الفنون والإنسانيات العديد من التحديات والأسئلة النقدية المرتبطة بها، ومنها الهالة (aura) ووجودها من عدمه أو شكلها في الفنون الرقمية بالمعنى البنياميني، وتحديات الحفظ الرقمي، والعمالة الرقمية وتعويضها، والملكية الخاصة والعامة وحقوق الاستخدام والنشر، وغيرها. 

الهالة بالمعنى البنياميني، هي الخاصية المميزة للعمل الفني، والتي تضفي عليه نوعًا من التفرد والتميز وتجعله مميزًا عن غيره من الأشياء، كونه وحيد وفريد من نوعه وموجود في مكان واحد محدد لغرض رؤيته، وهو أشبه بإضفاء هالة من القداسة على هذا العمل. فمثلًا، لا يمكننا رؤية الموناليزا إلا في متحف اللوفر، وفي سياق مقدس واحتفائي، ومن خلف حمايات. تحدث بنيامين في مقالته الشهير «الفنون في عصر النسخ الميكانيكي» حول فقدان هذه الهالة نظرًا لإمكانية إعداد نسخ لا محدودة من العمل الفني ذاته، منفصلة عن السياق الأصلي الذي أعطى هذه الهالة. إذ يمكننا اليوم رؤية الموناليزا مطبوعة بأي مكان، ومجردة من هالتها القدسية في سياق عرضها في متحف، كذلك الأمر بالنسبة للوحة أصيلة وجدت حصرًا داخل كنيسة ما. 

أما في وقتنا المعاصر، فإن بوريس غرويس يبني على فكرة الهالة البنيامينية ويطبقها على الفنون الرقمية. يقول غرويس إنه في في الوقت المعاصر فإن الفن والصورة الرقمية لا يعاد إنتاجهما ميكانيكيًا فحسب، بل بالأساس -في الكثير من الحالات- ينتجان رقميًا وليس بشكل ملموس كاللوحة، فالأمر تجاوز إعادة الإنتاج إلى اختلاف الوسيط. يقول غرويس إن الصورة أو المنتج الرقمي يتم تداولهما في عدد لا نهائي من الوسائط والدوائر، فمثلًا نفس مقطع الفيديو من فيلم ما، يمكن أن يضيفه شخص على موقعه الإلكتروني الشخصي، ويعرضه آخر في مؤتمر أكاديمي، بينما يستخدم ذات المقطع في معرض ذو سياق مختلف في متحف أو غاليري ما. خلال هذه العمليات المختلفة، يتحول المقطع في برمجيات متنوعة، وأطر عرض مختلفة، ووسائط نقل مختلفة وسياقات وبيئات مختلفة، وبناءً على ذلك يتساءل غرويس إن كان العمل الفني الرقمي هو ذاته أصلًا في كل مرة: هل هو نسخة عن أصل، أم أنه أصل جديد؟ 

برأيي هو نسخة ليس لها أصل، وفي كل الحالات هو نسخة منزوع الهالة الأصيلة منذ البداية، كون الهالة في حديثي بنيامين وغرويس هي هالة مادية، أي أن نزع الهالة في الحالة الرقمية ليس بسبب النسخ، بل هو نزع جوهري متصل بأسلوب إنتاج العمل الفني ووسيطه، أي الوسيط الرقمي. وهنا أتحدث عن الفن الرقمي بشكل عام، لا المصكوك بطريقة إن إف تي، التي تعبر كل نسخة منها أصل مستقل. فغاية فنون الإنترنت هي الانتشار والدمقرطة منذ البداية، والتواصل مع الآخرين وإعادة التفاعل مع الجمهور، لا التفرد. فهي تعيش على النظام البيئي الخاص بالإنترنت وتعمل بقواعده ومصادره المفتوحة. وهنا أتحدث عن جل فنانين الميديا ممن يشكلون «المادة المظلمة» للفنون الرقمية، لا نموذج «الفنان الإنتربرونر»، أو الريادي، وهذا ما توصلت إليه عبر مقابلات مع فنانين رقميين خلال بحثي لرسالة الماجستير، فالكثير من الفنانين الرقميين ليس لديهم أجندة تجارية مبيتة. 

بعض الفنانين الرقميين يتوجهون لما هو حرفيًا نقيض هالة القدسية، ومنها مثلًا ضم أعمالهم الرقمية تحت رخصة CC0 الإبداعية، والتي تسمح لأي شخص بإعادة استخدام العمل الرقمي وتعديله والإضافة عليه ونشره. وقد يجادل البعض أن الرموز غير القابلة للاستبدال هي مكافىء الهالة المادية للأعمال عصية النسخ، وأن نوعية المنصة التي تعرض هذه الرموز هي من تعطيها هالة الكنيسة مثلًا، وأن كل إن إف تي أصل بذاته يمكّن نموذج «الفنان-الإنتربرونر» من تكرار النظام البيئي للفن التقليدي داخل الفن الرقمي، واتّباع الدرب التجاري كهدف نهائي. لكن ماذا يحدث عندما يجري صكّ إن إف تي «مزورة» تحوي عملًا فنيًا لهذا الفنان؟ يبدو هذا الحدث مثيرًا للسخرية، وهو ما حدث فعلًا مع إن إف تي ادُّعي أنها تعود للفنان بانكسي بيعت بمبلغ 336 ألف دولار، وقد قام هذا البائع أيضًا باختراق موقع بانكسي ووضع إعلانًا عن الإن إف تي وعرضها للبيع على موقعه الرسمي، والأمثلة كثيرة.

أما بخصوص الحفظ الرقمي، فإن أكثر ما يؤرق المؤرخين الفنيين حاليًا هو سؤال: كم من الزمن تستطيع التسجيلات الرقمية الصمود؟ وماذا يعني أن نفقد جزءًا كبيرًا من تاريخنا، الفني وغير الفني مستقبلًا، كون التكنولوجيا الحالية التي تقوم بحفظه هي تكنولوجيا حساسة ومتغيرة ومن السهل أن تتلف؟ إن السحب التخزينية والسيرفرات من السهل أن تتلف أو أن تُقرصَن، مما يهدد وصول الأجيال القادمة لأرشيفنا الحالي. تمتلك الفنون الرقمية نظامًا بيئيًا خاصًا بها يتضافر فيه الفنانون والقيمون ومنصات الإنترنت وخدمات الاستضافة وخبراء التكنولوجيا والجامعون للأعمال الفنية الرقمية سوية للحفاظ على استقرار النظام وديمومته، وهذا سيؤدي إلى تغير الطرق والقوى البشرية التي توظفها المؤسسات الفنية. فقد بدأت مؤسسات كمتحف الفن الحديث في نيويورك مثلًا بتعيين موظفين لتدريب آخرين حول كيفية جمع وحفظ وتنسيق وأرشفة وعرض ورقمنة وحماية الفنون الرقمية وإدارتها.

على أي حال، فإن عددًا من الفنانين الذين ينتجون فنونًا رقمية قد اختاروا هذا الوسيط تحديدًا للحياد عن الفنون التقليدية ونظام الفن التقليدي القائم بمؤسساته ومواضيعه وطرق حفظه للفنون، مما يصعب مهمة حفظ هذه الفنون عندما تقودها المؤسسة الرسمية. أبسط الأمثلة على ذلك أن الفنون التي تتخذ المواقع الإلكترونية كوسيط مؤقت للتفاعل معها قد لا تهتم بتجديد دفع رسوم استئجار نطاق الموقع الإلكتروني (domain) السنوية، لذا قد يتعطل الموقع بعد الانتهاء من هدف العمل الفني أو فترة عرضه، كون هذه الأعمال تهدف لخلق تفاعل وتجربه قصيرة لا «الخلود» كاللوحات الفنية، ويصبح معه الولوج إلى الموقع مستحيلًا من أجل توثيقه لغرض تأريخ الفنون أو حفظها. وما زالت الأبحاث قيد التطوير حول آليات الحفاظ على الأصول الرقمية فترات طويلة جدًا. لعل ذلك يتضح في هذا الاقتباس من نص «هل يستطيع تاريخ الفن هضم فنون الإنترنت» للناقد الماركسي جوليان ستالابراس: «إن فنون الإنترنت هي أركيولوجيا المستقبل، التي تنطلق من ماضي الحداثة وتنتج تفاعلًا معقدًا من طاقات كامنة لهذا الماضي -لم يكتب لها التحقق- واليوتوبيا». 

في المنطقة العربية، تأسست عدة مؤسسات رائدة خاصة لحفظ وأرشفة الصورة الرقمية والمرقمنة، كالمؤسسة العربية للصورة في بيروت، ومشروع الرقميون العرب، الذي تعمل عليه منصة الآركيلوغ، وهو تاريخ مختصر للعمارة المنتجة رقميًا في العالم العربي في التسعينيات. أما في فلسطين، فهناك عدة مشاريع رقمية أرشيفية، منها أرشيف مؤسسة خزائن، ومشروع الأرشيف الرقمي الفلسطيني في المتحف الفلسطيني، ومشروع أرشيف «يُرى» التابع لمؤسسة حوش الفن الفلسطيني، وأرشيف مؤسسة الدراسات الفلسطينية الرقمي والذي نشر حديثًا، وتنحصر هذه الممارسات مؤسساتيًا في فلسطين حاليًا في الأرشفة، إلا من بضعة مشاريع فنية رقمية تجريبية يقودها أفراد. 

نظرة للمستقبل

يمكننا القول -بناءً على كل ما سبق- إن الرقمنة والفن الرقمي قد غيرا فكرة «القطعة الفنية» (art object) إلى الأبد. كما تحررت الفنون الرقمية من قواعد الجماليات النخبوية الفنية التي تتخذ من الإنتاج الفني «الراقي» مسطرة واحدة تقيس بها الفنون وشكلها وأهميتها ورداءتها من جمالها، وتصبغ بصبغتها المعولمة حاليًا كل ما هو مختلف، وتحدد مسطرتها كبطاقة مرور عبر حراس بواباتها. تضرب الفنون الرقمية بهذه الجماليات عرض الحائط، ولا تحتفي بها، ولا تحاول مغازلتها، ولا تخجل من أن تظهر اختلافها (لا بل بشاعتها أحيانًا) بل تخلق جمالياتها الخاصة أو تصادف هذه الجماليات. إنه الهامش يخلق له مراكز بعيدة وجديدة، لا الهامش المستضاف من المركز كنوع من اللطف وسياسات التمثيل.

من منظور أوسع، بات ممكنًا منذ الولوج إلى مرحلة الويب 3.0 تطوير بنى بيئية واقتصادية تتكامل مع الفنون الرقمية، مثل تقنية البلوكتشاين، والعملات الرقمية، والإن إف تي، ومنصات المعارض الرقمية. لقد تحولت الفنون الرقمية من وسيط آخر مختلف عن الفنون الأخرى، كما كانت في مرحلة التسعينيات، إلى نظام بيئي فني متكامل آخر، مختلف عما يحدث في سوق الفنون ومؤسساته التقليدية، يتم فيه إنتاج الفنون، وبيعها، وتوزيعها، والاطلاع عليها، وتخزينها، والتفاعل معها، وإعطائها معانٍ وجماليات، بشكل مستقل تمامًا عن سوق الفن الحالي وعناصره من أدوات إنتاجه، وشرعنته، وعرضه، وبيعه، وتعلمه. 

بعض هذه التجارب قد بدأت التبلور والنجاح في المنطقة العربية، أذكر منها منصة «وزارة» الفنية وهي «أول منصة فنية عربية مقامة على نظام «البلوكتشين» أنشأها فنانون من أجل الفنانين» لعرض وتوزيع وتسويق الفنون الرقمية، وداو DAO «تكسير» وهي مبادرة بحثية وإعلامية لتبني تقنية البلوكتشاين في الوطن العربي بما يتضمن أيضًا توظيفاته في الإنتاجات الثقافية المختلفة، من الفنون والموسيقى، ومنصة «أويسس» الفنية اللبنانية التي تهدف لخلق استقلالية اقتصادية للفنانين عن طريق خلق نظام بيئي متكامل من الميتافيرس، والفنانين، والمقتنين، والعاملين بشكل حر، وبناة العوالم الرقمية، وقد جاءت ردًا على حجب السلطات اللبنانية لموقع «أوبن سي» الخاص ببيع الإن إف تي، وحرمان عدد كبير من الفنانين اللبنانيين من فرصة استخدامه كمصدر دخل، خاصةً خلال الازمة الاقتصادية الحالية. 

هنالك الكثير من الأبحاث حول الويب 3.0 وعلاقته بمستقبل العمل، والإنتاج الفني، بالإضافة للإمكانات الكامنة في الويب 3.0 لسماحه بتوليد القيمة من اللعب، وأمثلته الألعاب الإلكترونية المرتبطة بالعملات الرقمية، كمثيلتها من منصات ويب 2.0 للألعاب مثل «Twitch»، التي تعطي مستخدميها تعويضًا ماديًا لقاء بث اللاعبين للعبة الفيديو باستخدام المنصات. على أي حال، لننتظر ونرى ما يخبئه المستقبل عن تطبيقات ذلك وإمكانيات حيادها عن النظام القائم.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية