جمال الغيطاني

تجربة الغيطاني في توظيف التراث: بين التعمير والترميم

تصميم محمد شحادة

تجربة الغيطاني في توظيف التراث: بين التعمير والترميم

الأربعاء 16 تشرين الثاني 2022

اللهم يَسّر وأَعِن

الحمد لله الذي فاوت بين العباد، وفضّل بعض خلقٍ على بعض، حتّى في الأمكنة والبلاد، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، أفصح من نطق بالضاد، وعلى آله وصحبه السادة الأمجاد. اللهم خُذ بأيدينا فقد عثرنا، واستر علينا فقد أعورنا، وارزقنا الأُلفة التي بها تصلح القلوب، وتنقّى الجيوب، حتّى نتعايش في هذه الدّار مصطلحين على الخير، مؤثرين للتقوى، عاملين شرائط الدين، آخذين بأطراف المروءة، آنفين من ملابسة ما يقدح في ذات البين، متزوّدين للغافية التي لا بدّ من الشخوص إليها، ولا محيدَ عن الاطّلاع عليها، إنّك تؤتي من تشاء ما تشاء.

وصلتني رسالتكم -ثبّت الله أركان الأدب بطول بقائكم- وقد غرقتُ في أمواج بدعها الزاخرة، وعجبتُ من اتّساق عقودها الفاخرة، وما فيها من تكريم وتفخيم، يقصر عنه اللئيم. وقد اتّقد الذهن بما فيها من استبيان، عن التراث في أعمال ابن غيطان، وقد أعملتُ الفكر في ما طلبتم -كبت الله عدوّكم وأدام رواحكم إلى الفضل وغدوّكم- وبعد تردّدٍ ومعاودة، وشكٍّ ومعارضة، ركنتُ إلى إجابتكم إلى ما رغبتم. وبعد قراءةٍ وبحثٍ غير قصير، كتبت لكم مقالةً أسأل الله -جلّت عظمته- أن يجعل كلّ حرفٍ منها شبح نور لا يمتزج بمقال الزّور. وإن جاز لي ترك السجع، على ما فيه من تكلّفٍ مرغوب وتبدّعٍ مطلوب، لأقول إنه من العجب والبديع أنّني كتبتُ هذه الحروف على ما في النفس من الحُرَق والأسف والحسرة والغيظ والكمد والومد، وكأنّي بغيركم إذا قرأها تقبَضت نفسه عنها، وأمرس نقده عليها، وأنكر علي التطويل والتهويل بها. وإنما أشرتُ بهذا إلى غيركم، لأنكم تبسطون من العذر ما لا يجود به سواكم. وهذه المقالة بين يديكم، فإن راقتكم فذاك عزمتُ بنيّتي وحولي واستخارتي، وإن تزحلقتْ عن ذلك فللعذر الذي سحبتُ ذيله وأرسلتُ سيله.

بداية المستغاث ونهاية الملتاث في توظيف التراث

حين عزمتُ على كتابة هذه المقالة ظننتُ أنني سأبدأ بالنظر في بعض أعمال الراحل جمال الغيطاني لأكتب عن «التراث» فيها. ولكن، كما يحدث غالبًا عندما نهمُّ بالكتابة، أدركتُ أن البداية التي يجب أن أنطلق منها أبعد قليلًا مما ظننت، وأنها تسبق النظر في أعمال الغيطاني ببضع خطوات. حين عدتُ إلى الوراء قليلًا وجدتُ أن أوّل سؤال يشغلني هو: ماذا ستقول وستقولين إن سألتكما عن معنى التراث؟

قد تفكّرين في الجاحظ، قد تتراءى لك صورة مسجد قديم، لعلّكما ستفكّران في ألف ليلة وليلة أو سيرة عنترة، ربّما الأزياء التقليديّة في بلادكما، أو الشعر الشعبي، أو الفقه وعلم الكلام والفلسفة، وربّما تبدآن في التساؤل عن الحدّ الزمنيّ الذي يتوقّف عنده التراث، قد تقول عند العصر العثماني أو على أقصى تقدير مع قدوم الاستعمار، وقد تقولين الأرجح عند نهاية عصر الإبداع ودخول عصور النسخ والتكرار والحواشي والشروح، ربّما تتناقشان (بعد إخراجي من الحوار كما يبدو!) حول ما يحقّ عليه وصف «التراث»، هل يدخل الطعام في الموضوع؟ هل لا بدّ من ارتباط ثقافي بالأمر؟ هل للأمر علاقة بهويتنا؟ هل يجب أن نُفكّر في الأمر من منطلق التراث في مواجهة الحداثة؟

لو كانت في هذه المقالة محاكاةٌ لرحلةٍ صوفيّة مثلًا، لعلي استطعتُ أن أدوخ وأدوّخكما معي بفتوحات تعريفيّة في التجلّيات التراثيّة حتّى تصيبنا لوثة من صراعات الجابري وجدعان وطرابيشي والعروي وأركون وحنفي، وندور بين أعمالهم كالدراويش (لتكتمل الصورة الصوفيّة!)، ولكن هذا ليس الحال. يكفيني الآن إقرار الخلاف حول «معنى» التراث.[1] ولذلك أظن أن أفضل ما يمكننا الاتفاق عليه الآن لتعريف التراث هو أن التراث يعني بالضبط ما تظن وما تظنين أنه يعنيه!

تعقيد «مفهوم التراث في الفكر العربيّ المعاصر» لا يتوقّف طبعًا عند الجدالات الفكريّة حول معنى التراث، ولكنه يمتد أيضًا -وإن خفّت وطأته- إلى دراسات حضور التراث في الأدب المعاصر (روايات، قصص، مسرحيات، شعر، إلخ) التي تُحدّد أنماطًا (تاريخيّة وأدبيّة ودينيّة وشعبيّة، إلخ) لتوظيف التراث، وتبيّن عناصر توظيفه من شخصيّات ولغة ونصوص وأشكال.[2] دراسات كثيرة نحن في غنى عن ذكرها في المتن الآن ولكن قد نستفيد من ذكر نماذج للتوظيف الذي تناولته، ولعلّ أحد أبرز هذه النماذج نجده في رواية «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» لإميل حبيبي.

تُشكّل رواية «المتشائل» منعطفًا في الرواية العربيّة حسب وصف رضوى عاشور،[3] ظهر منه إميل حبيبي بتجربةٍ فريدة في الجمع بين أشكال الرواية الحديثة (الغربيّة) والسرد التراثي (العربي). بمجرّد أن نقرأ العنوان ثم نفتح الصفحة الأولى نرى فورًا توظيف إميل حبيبي للتراث توظيفًا «شكليًّا» باستخدام شكل الرسائل وخلطه اللغة الحديثة بالتراثيّة. ولم يقف إميل حبيبي عند هذا الحدّ بالطبع، لقد استلهم فنون السرد والأخبار والنثر الساخر اللمّاح، وضمّن نصّه أمثالًا وأشعارًا وأساليب تلاعب بلاغيّة، ولعلّ من أبرز ما يُشار إليه، من توظيفٍ تراثي، توظيفه للحكايات التراثيّة، مستندًا (مثل كثيرين!) إلى مخزون «ألف ليلة وليلة». ولكنه لم يقتبس أو يشاكل فحسب، لقد طوّع الحكاية التراثيّة لأحداث الواقع المعاصر، لعب بعناصرها وأسقطها على وقائع تجارب فلسطينيّة في بيئة ألف-ليليّة، تصير فيها الوقائع المعيشة حكايا عجائبيّة،[4] فما فعله أميل حبيبي حسبما أرى أنه استحضر التراث من الماضي وأعاد قولبته ليحتوي موضوعات معاصرة، دون أن يفقد في أي لحظة هويته الأصيلة، رغم كلّ التلاعب والتغيير (الذي سأتهوّر وأصفه بأنه «جويسيّ»!).[5]

ولا بدّ عند ذكر ألف ليلة وليلة أن نذكر «ليالي ألف ليلة» لنجيب محفوظ. وإن كان أميل حبيبي قد ركّز على توظيف «قالب الحكاية» (بعد تطويعه)، فإن نجيب محفوظ وظّف مع قالبها الشكلي موضوعها أيضًا، انطلاقًا من بدء روايته حيث تنتهي ألف ليلة وليلة، ومن ثم تقسيم الرواية إلى قصصٍ (أو ليالٍ) توازي قصص الليالي. ولكن الأستاذ الكبير لم يتوقف عند هذا التناص الموضوعي، فإن قصّصه تقابل قصص ألف ليلة وليلة وتعاكسها في آن؛ فكلّ قصّةٍ تسير على نسق قرينتها من حيث البناء لكنها تخالفها في سردها (في عقدة حبكتها، وحلّها، وقيمها الفكريّة والأخلاقيّة). إضافةً إلى ذلك فإن محفوظ هو الآخر يُطوّع «موضوع الحكاية» الذي ركّز عليه، فبينما يجعل أميل حبيبي الموضوع معاصرًا لزمن السارد (حاضر القضية الفلسطينيّة)، فإن محفوظ يجعل الموضوع معاصرًا لزمن السرد (حاضر أحداث ألف ليلة وليلة، على عكس رواية أحداث وقعت قبل حاضر السرد كما هو حال الليالي).[6]

هذا بالطبع عرضٌ مختصر يقصر عن بيان عبقرية هذين العملين. ولكن ما أريده من هذين النموذجين هو بيان أن التوظيف الفنّي الموهوب للتراث لا يتوقّف عند عتبة توظيف الشكل أو استلهام اللغة، وحتى التناص أو «التعالق» مع نصٍّ معين. إن مثل هذا التوظيف الإبداعي يتعمّق في فهم خصائص التراث الفنيّة، ما قاله وما يمكن أن يُقال عبره، فيطوّعه ليعبّر به عن هموم معاصرة ومواقف سياسيّة وأخلاقيّة، وليست «السياسة» كلّ ما في الأمر، ففي مثل هذا التوظيف استكشافٌ لحدود التعبير الأدبي واختراقٌ لها بهذا المزج والتغيير والتطوير. لقد تحدّى إميل حبيبي ونجيب محفوظ، في هذين المثالين، الشكل الروائي الحديث والتقليد السردي التراثي، وفي هذا التحدّي الفنّي ظهر أيضًا اشتباكهما مع مفاهيم الهوية والحقيقة والخير والشر.

ومع هذه المقدمات أظننا تزودنا ببعض ما يُخفّف حيرتنا حول معنى التراث، وإن لم يغلق باب الخلاف، ولمحنا تجربتين فريدتين (على سبيل المثال لا الحصر طبعًا)، وهكذا أظنني أستطيع عبور العتبة إلى موضوع المقالة: التراث في أعمال جمال الغيطاني.

مغني المحتاج من فتاوى الغيطاني في التراث

حين نبحث عن الغيطاني، سنجد أعماله نماذج أساسيّة في أغلب الدراسات التي تُعنى بتوظيف التراث في الأدب المعاصر،[7] وسنجد أنه عُدّ من رواد «توظيف التراث» منذ أن صدرت مجموعته القصصيّة الأولى «أوراق شاب عاش منذ ألف عام»، التي احتوت على تجارب جديدة في أساليب السرد العربية، مبنيّة على التراث. وقبل التوقف مع بضعة أعمالٍ للغيطاني للنظر في توظيفه، لعلّنا نعود لمعنى التراث وتوظيفه، ولكن هذه المرّة لن نحتاج إلى الخلاف أو إلى تعقيد الدراسات أو النماذج السريعة، سنقرأ مواقف واضحة من الغيطاني نفسه!

ينظر الغيطاني للتراث نظرةً شمولية تعتني بظروف البيئة والثقافة، وتعترف بالخصوصيات، وتحرص على أن تبرز الأشكال الفنيّةُ الهويّةَ الثقافيّة في معمارها.

في مقدمة كتابه «منتهى الطلب إلى تراث العرب» يُعرّف الغيطاني التراث -حسب نظرته له- فورًا في أوّل صفحة: «التراث كامن داخلنا، في سلوكنا، في حياتنا اليومية. وأعني بذلك التراث بمفهوم شامل لا يقصره على حقبة معينة، أو اتجاه معين. أعني التراث العربي المكتوب، والشفاهي، العمارة، الرسم، سائر الفنون. عوامل عديدة عمّقت إحساسي بالتراث؛ منها طبيعة نشأتي في حيٍّ عتيق، عريق، ما زال التاريخ القديم سيّالًا حيًّا فيه، لا يتمثل فقط في الآثار المعماريّة، مساجد كانت أو أسبلة أو بيوتًا أو مزارات، إنما يشمل العلاقات الإنسانيّة بالناس».[8] إنها نظرة شمولية، تتقاطع بطبيعة الحال مع بعض التعريفات الفكريّة للتراث، ولكن من الواضح تمامًا أن الغيطاني يستمد هذه النظرة من حياته وبيئته، ومن «استمراريّة» التراث التي لمسها في بعض العناصر الحيّة المستمرة (لا سيّما في الثقافة المصريّة)؛[9] فالتراث عنده شاملٌ وممتد حتّى إلى علاقات الناس، حيٌّ ومستمر.

ولكن مع هذه النظرة، فإن الغيطاني لا يُغفل طبعًا وقوع قطيعةٍ مع هذا التراث، انفصالٍ عن امتداده وابتعادٍ عنه لحلول بدائل «عالميّة» محله. ولهذا فهو واعٍ بأنه، بوصفه كاتبًا، يسعى نحو «ابتكار أشكال جديدة من التعبير» باستعادة هذا التراث، وهو واعٍ أيضًا، بصفته محبًّا لهذا التراث، بأن جهود استعادة التراث في المجال الأدبي/الإبداعي ترنو إلى «إعادة التئام الفجوة التي حدثت بين القديم والحديث، بين السابق واللاحق، بين ما تعلمته وترسّب في وجداني من تراثٍ عالمي، وتراثٍ عربيّ أصبح مهجورًا».[10]

هذه النظرة وهذا الوعي يجتمعان في فلسفة الغيطاني في الكتابة، فهو يرى أن العمارة، التي طالما شُغف بها ونشأ في كنفها (العربيّ الإسلاميّ)، هي «أقرب الفنون إلى الرواية»، وهي «ألصق الفنون بحياة الإنسان»، فهي «امتدادٌ للبيئة، جزء من الواقع نفسه، ولكلّ واقع عمارته، ومفهومه الخاص لهذا الفنّ الناتج من الواقع، من المناخ، من التقاليد الاجتماعيّة، من المواد المحلية المتاحة. وقد كانت العمارة العربية نابعة من الواقع نفسه، تتكيّف معه وتخضع لخصائصه».[11] هذا الحديث عن العمارة نقرأ فيه نظرة الغيطاني الشمولية للتراث، التي تعتني بظروف البيئة والثقافة، وتعترف بالخصوصيات، وتحرص على أن تبرز الأشكال الفنيّةُ الهويّةَ الثقافيّة في معمارها.

فهل سنستغرب إن وجدنا هذه الشموليّة وهذه العمارة في أعمال الغيطاني؟ لا أظن ذلك!

النوادر الإبداعيّة والإشراقات الغيطانيّة

حين نشر الغيطاني مجموعته الأولى «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» لفت الانتباه إلى أسلوبه الجديد، كما سبق وذكرنا، وأُدرج اسمه في قائمة رواد التوظيف التراثي. في هذه المجموعة خطا الغيطاني خطواتٍ واثقة في تأسيس مشروعه التراثي، فعلى ما في هذه المجموعة من تجريب نرى بوضوح الأساسات الراسخة التي وضعها، وأوّلها وأبرزها ارتباطه الحميم بالمؤرّخ المصري ابن إياس، الذي يحضر (بذاته، وبتأثيره) في القصص الثلاث التي وظّف فيها الغيطاني التراث بوضوح في هذه المجموعة. كما نرى أيضًا تشكّل أسلوب الغيطاني المعماري/الشكلي -إن جاز لنا التعبير- على الأقل في هذه الأجزاء.

لقد جاءت قصص الغيطاني وفق نسق معماري «تراثي»، حاول أن يتماهى فيه مع مهندسٍ تراثي ويتّبع منطلقاته وتصاميمه كما فهمها.

إن بدأنا من «المعمار»، فإننا نرى في قصّة «هداية أهل الورى لبعض مما جرى في المقشرة»[12] توظيفًا لشكل الرسائل يأتي على هيئة عرض مخطوطة (ناقصة) عُثر عليها وحُققت ويعرضها لنا مُحققها؛ وفي قصّة «كشف اللثام عن أخبار ابن سلام»[13] نرى استعارة تصاميم كتب الأخبار، بتقسيماتها وعناوينها الفرعيّة وأسلوبها في سرد الأحداث؛ وأما في قصّة «المقتبس من عودة ابن إياس إلى زماننا»[14] فإن الغيطاني يأتي بابن إياس ذاته إلى القاهرة المعاصرة ويُهندس وفق نمطه فقرات تقلّد أسلوبه ولغته. ولا يغفل الغيطاني إبراز ملامح هذه العمارة التراثيّة؛ فهو حين يستلهم ابن إياس يحاكي لغته محاكاةً دقيقة حتّى تكاد القصص الثلاث المذكورة تتناص تمامًا مع كتاب «بدائع الزهور في وقائع الدهور» لابن إياس[15] وفي القصص الثلاث طبعًا تصويرٌ لعادات العصور الماضيّة وثقافتها وملامحها (حتّى في قصّة «المقتبس» التي تدور في قاهرة الستينيات، نرى الماضي في انطباعات ابن إياس وتحسّره على ما ضاع ومقارنته بما يراه).

لقد جاءت قصص الغيطاني وفق نسق معماري «تراثي»، حاول أن يتماهى فيه مع مهندسٍ تراثي ويتّبع منطلقاته وتصاميمه كما فهمها، وهذا الارتباط بابن إياس مهم في تكوين نصوص الغيطاني، فنحن نرى فيه فهمه الشمولي/المعماري للتراث، فهو يحاكي لغة ابن إياس وأسلوبه ويحرص على اقتفاء أثره في تدوين حياة الناس وتفاصيلها وعاداتهم واستخدام لغاتهم العاميّة، معبّرًا بذلك عن نظرته لشموليّة التراث وكذلك نظرته لاستمراريّته التي يراها في بعض جوانب الثقافة.[16] وجديرٌ بالذكر أن هذه «الاستمراريّة»، أو محاولة إعادة الصلة بالماضي، نراها أيضًا في توظيف «التاريخ»؛ ففي قصّتي «المقشرة» و«ابن سلام» يوظّف الغيطاني أحداثًا ووقائع تاريخيّة ويضيف إليها بعض الخيال ليروي أحداثًا عن السجون والقمع والدول المخابراتيّة والمعارضة السياسيّة. إنها مواضيعُ لو أسقطناها على الحاضر لتماهت معه وطابقته.[17] وأظن أن «راهنية التاريخ» مدخلٌ مناسب إلى الرواية التي بلور الغيطاني فيها توظيفه المعماري للتراث، حسبما أظن.

نصب السرادقات في ما روي عن الزيني بركات

تدور أحداث هذه الرواية الشهيرة في القاهرة، ما بين سنتي 912 ـ و922 هـ، العقد الأخير من العصر المملوكي، قبل سقوط المماليك وانتهاء حكمهم بدخول العثمانيين إلى مصر. راهنية التاريخ واضحةٌ وضوح الشمس في هذه الرواية. عالمها عالمٌ متحوّل، قلِق، مترقّب، متردّد بين الأمل واليأس: «سعيد يرقب ما تجيء به الأيام بحذر، لا يخفي أبدًا فرحته بزوال هذا الظلّ الثقيل، لكن ماذا تأتي به الأيام؟ بل ماذا يخبئ اليوم نفسه؟ ربّما انتهى الأمر بفتنة بين الأمراء تروح فيها رقاب، تسيل دماء أبرياء لا حول لهم ولا شأن، تغلق أبواب وطيقان، تشعل حرائق في البيوت، تهدم مساجد وزوايا، من يدري؟ ربّما جاء من هو أعتى وأقسى؟».[18] يأتي المسؤولون -مثل الزيني بركات- بوعود كبيرة عن إقامة العدل والإنصاف، يفرح بهم الناس ويدعمونهم، وسرعان ما تتكشف حقيقة أولئك المسؤولين وتنقلب الآمال إلى خيبات: «مولانا أنا صحبت الزيني إلى دارك، مشيت أمامه في موكبه كأي ركبدار، بشّرت به، تحمست له، أنا الآن أشك فيه، أتضرر منه…»[19] الدولة دولةٌ استخباراتيّة حتّى الصميم، رئيس البصّاصين يتمنى يومًا يكون فيه كلّ المواطنين وشاةً ومخبرين: «لنجعل غايتنا وهادينا في دنيانا وهدفنا تحويل البشر أجمعين إلى بصّاصين»(!)[20] 

لقد برهن الغيطاني على خبرته في فنون العمارة التراثيّة، وأشكالها وملامحها التي أبرزها وعلا نجمه بتوظيفها. ولكن، مما قد يُقال عن النجوم أنها تبدو في إشراقها عالية، لكنها أيضًا في مواقعها عالقة.

مشاهد السجون والتعذيب في الرواية واقعية إلى حدّ الفزع، وعزم المخابرات على تشويه البشر بشتى أساليب التعذيب والابتزاز وثقتها في قدراتها يؤكّدها واقعنا المؤسف: «وكما قلت ما من إنسان في الدنيا يستعصي أمره على التغيير والتبديل… هذا ما نعيه هنا، ونؤصّله عندنا، ما من مخلوق يظلّ على حاله، ما من زهرةٍ تبقى متفتحة، ما من شجرةٍ تظلّ سامقة…»[21] ومع أنّ رمزية الرواية الواضحة جدًّا في عكسها للواقع المصريّ المعاصر لزمن كتابتها ما بين سنتي 1970 و1971 (الزيني بركات جمال عبد الناصر، والخطر العثماني الكيان الصهيوني، وهزيمة المماليك نكسة 1967، والمخابرات، والسجون، والتعذيب)،[22] إلا أن كلّ موضوعاتها يمكن -للأسف!- إسقاطها على دول كثيرة في المنطقة وعلى حقب كثيرة.[23]

سأضع التوظيف التاريخي جانبًا (فقد تحمست له!)، وأعود لتوظيف التراث وأقول إن الغيطاني بلور بوضوح أسلوبه المعماريّ التراثيّ في هذه الرواية، تقسيم الفصول ذاته وعناوينها (السرادق) تشي بهذا المنهج المعماري الذي برع الغيطاني في الإتيان بأنماطه المتنوّعة: ففي فصول نقرأ رسائل ومراسيم مملوكيّة تراثيّة، وفي فصول نقرأ نداءات رسميّة بلغة مصريّة مملوكيّة، وفي فصول نرى مقتطفات وشذرات تبدو أحيانًا كأنها منقولة من كتب الأخبار وفي أحيانٍ أخرى كأن باحثًا معاصرًا جمعها، وفي فصولٍ نقرأ لغة تيار الوعي الحديثة، وفي فصول نقرأ لغةً صوفيّة، وفي فصول كلام رحّالة مستشرق (وفي أحد هذه الفصول يقتبس الرحّالة الإيطاليّ أو بالأحرى ينقل الغيطاني مباشرةً من ابن إياس،[24] الذي يُقلّده الغيطاني أصلًا كثيرًا في الكتاب). ولم يكتفِ الغيطاني بهذا البذخ الشكلي/الفنّي، فقد حرص أيضًا على أن يملأ كلّ ذلك العمران بتصاوير ذلك العصر: نظام الحكم، والطبقيّة الاجتماعيّة، واللغة المحكية، والملابس، والعادات والتقاليد، والمساجد والبيوت والمقاهي والسجون، والطعام والشراب، والمهن والحرف الباقية منها والمندثرة، والبصّاصين والمخابرات، لقد صوّر كلّ شيء، من الصراعات السياسيّة الإقليميّة والداخليّة إلى البسبوسة والسحلب!

لقد برهن الغيطاني على خبرته في فنون العمارة التراثيّة، وأشكالها وملامحها التي أبرزها وعلا نجمه بتوظيفها. ولكن، مما قد يُقال عن النجوم أنها تبدو في إشراقها عالية، لكنها أيضًا في مواقعها عالقة.[25] فما حال نجم الغيطاني في سماء توظيف التراث؟

الساق على الساق في اقتعاد الإشراق

لقد انتقل الغيطاني بضع نقلات في توظيفه التراثيّ، فبعد الارتباط بابن إياس، انتقل إلى حلقات ابن عربي في رواية «التجلّيات»، ونهل أيضًا من المقريزي في «الخطط الغيطانيّة»، وحرص على الوفاء لنظرته الشموليّة للتراث فوظّف التراث الشعبي في «وقائع حارة الزعفراني» (أعماله كثيرة وأساليبه متعدّدة، وما هذه إلا أمثلة). ولكن هل تحرّك الغيطاني من موقعه؟

لا بدّ أولًا من الإقرار بأنني لا أنكر أبدًا أن الغيطاني خبيرٌ معماريٌّ حريص، برعُ في هندسة أعمالٍ تراثيّة، ولكن أظن أنّ فهم الغيطاني للتراث والعمارة فهمٌ وصفيٌّ إلى حدٍّ ما.[26] فماذا أعني؟ إن نظرته الشموليّة للتراث تكاد تكون نظرة وصف وحفظ، سيذكر البسبوسة وصانعها المحترف في رواية «الزيني بركات» لتصويرها وذكر كيفية بيعها وتزاحم الناس عليها، وهي صورةٌ تستحضر صورًا معاصرة، لكنها تبقى صورًا جامدة في رأيي. سيستخدم الأشكال السرديّة التراثيّة (الرسائل، كتب الأخبار، متون الصوفيّة، إلخ) لكن دون أن يتفاعل معها، دون أن يتحداها فيقوّض فيها ما يرى بوجوب تركه ويسترجع منها ما يرى بضرورة بقائه، فحتى تقليده الكثير لابن إياس لا نجد فيه عنايةً مثلًا بخلق نصٍّ موازٍ يستحضر القالب والموضوع ليطوّعهما ويُطوّرهما، كما فعل نجيب محفوظ مثلًا في «ليالي ألف ليلة» حين تماهي مع الليالي، فحتى إن لمسنا في تقليد الغيطاني لابن إياس محاولات لاستبقاء شجاعة النقد السياسيّ والعناية بأحوال الناس العاديين، فإنه مجرّد تقليد، تقليد على براعته ودقّته لم أرَ فيه تطويعًا للشكل (لا بمشكلته ونقضه، ولا بتبني روحه والاستحواذ عليه!)؛ فالأمر -لكي يصل إلى ما افتقدته في أعمال الغيطاني- لا يكفيه أن يبدأ بمقدمة تراثيّة أو بديباجة رسالة (مثلما فعلتُ أنا في هذه المقالة دون أي عمق!)،[27] بل إنني لم ألمس في ما قرأته من أعمال الغيطاني حتّى توظيفًا سرديًّا لهذه الأشكال، بمعنى أن تكون الرسالة أو كتاب الأخبار مثلًا جزءًا من الحبكة.[28] دعونا نأخذ مثال الرسائل لتوضيح هذه الملحوظة.

تتخلّل رواية الزيني بركات عدّة رسائل، لكنها لا تضيف شيئًا إلى الحبكة سوى الشكل، فالغيطاني يخبرنا مثلًا أن زكريا بن راضي قرّر أن يرسل رسالتين، رسالة إلى الزيني بركات يداهنه فيها ورسالة إلى السلطان يطعن فيها في الزيني. ثم يرينا الغيطاني هاتين الرسالتين. لا تتقدم الحبكة بنصوص هاتين الرسالتين، وما كانت ستتأثر إن لم تردا، كلّ ما في الأمر زخرفةٌ في جدار! في كتابيه «رسالة البصائر والمصائر» و«رسالة في الصبابة والوجد» لا يضيف شكل الرسالة شيئًا، خاصّةً في «رسالة البصائر والمصائر» التي لا يؤدي فيها شكل الرسالة شيئًا سوى أنه يُقدّم لها ويختمها،[29] مدخلٌ شرقي ومخرجٌ غربي! في «رسالة في الصبابة والوجد» لشكل الرسالة أثرٌ على لغة الراوي، فهو فيها يوظّف استدراكات المُرسل وتعذّره عن الإفضاء والإطالة والتماسه التفهّم، كما نجد في الكتابات التراثيّة أحيانًا. ولكنه أثر شكليٌّ وحسب؛ ففي حين أننا نجد أن مثل هذا التوظيف في «المتشائل» يساهم في بناء شخصية الراوي فيكشفها لنا ويُشكّكنا فيها، فإنني لم أشعر أنه أضاف شيئًا في «رسالة في الصبابة والوجد» إلى شخصية الراوي، فهذا راوٍ لا إمساك عنده، بل استغراقٌ طويلٌ (مزعجٌ في بعض الأحيان)، وتكرارٌ لمشاعره وأفكاره، وعرضٌ لبعض الأشياء يُفرغها من أي أهمية، فلا يمنحنا فرصةً للتفكير في شيء أو الشعور بالفضول إلى معرفة تفاصيله، فتأتي تلك الملامح المرتبطة بالرسائل التراثيّة سطحيّةً في تقليدها الشكليّ.

لا غرابة إذن في أن أشعر بأن في أعمال إميل حبيبي ونجيب محفوظ التراثيّة قممًا لم تطلها أعمال الغيطاني وأعماقًا قصرت عن ولوجها؛ فشتان في نهاية المطاف بين من يُعمّر فعلًا ومن يتصور أنه يُعمّر.

وفي الحقيقة، فإن «رسالة في الصبابة والوجد» فيها نموذج آخر لما أريد أن أقوله الآن. لقد بدأ الغيطاني تجربته الصوفيّة (حسب علمي) في «الزيني بركات»، في شخصية الشيخ أبو السعود وخاصّةً في الفصول المعنونة «كوم الجارح» التي استخدم فيها لغةً صوفيّة غامضة. لن أتطرق لتجربة «التجليات» لأنني لم أقرأها (ضخمة!) ولكنها تجربة استند فيها إلى نصوص صوفيّة كثيرة، مستخدمًا لغة الصوفيّة ورمزية رحلاتهم الاستناريّة. ووفق بعض ما قرأته عن التجليات[30] فإن رواية «رسالة في الصبابة والوجد» تبدو نسخةً مُصغّرة من تجربة «التجليات» الصوفيّة. يكتب الراوي المعاصر (المعماري!) رسالةً إلى صديق يروي له أحداث رحلةٍ مضى فيها مع وفد من المعماريين والباحثين إلى آسيا لزيارة معالم معماريّة قديمة، وفي هذه الرحلة يلتقي بفاليريا، دليلة إحدى المجموعات، ويقع في حبّها، ويتوق إليها، ويحاول التقرّب منها، والاتحاد بها، والذوبان فيها، وأظن أن الفكرة وصلت! تستحضر الراوية التراث الصوفي بدءًا من عنوانها وتقليد كتابة الصوفيين عن الحبّ والعشق، وتستخدم لغة الصوفيّة بمصطلحاتها العقائديّة وأشواقها العشقيّة، وتقولب الأحداث في رحلةٍ فيها اقترابٌ وابتعاد، بل وتستحضر ابن عربي نفسه في اقتباس بعض كلامه من الفتوحات.[31] ومع ذلك، فالرواية وإن استحضرت للذهن «العمارة الصوفيّة» فإنها لا تستحضر روح ذلك البناء، لا غموض صوفيّ فيها، لا تلميح وإيماء، بل حتّى عشق الراوي فيها يسقط أحيانًا في متاهات الرغبة الجسديّة (وإن حاول الراوي -أو الغيطاني- تبرير ذلك أو نفيه بكلامٍ مستغرقٍ في الأشواق الصوفيّة).

يبدو لي أن الغيطاني ارتقى في السعي نحو التراث حتّى بلغ موضعًا استقر فيه، رأى فيه التراث شاملًا لكلّ شيء وقرنه بالعمارة، ولكنه ما تجاوز مبلغه هذا في توظيفه ما رآه من التراث. ظلّ معلّقًا في فضائه لا يمس تطويرًا أو ربّما لا يرومه. فكأن توظيفه للتراث لم يرتقِ فوق وصفه وحفظه، وممارسته للعمارة انحصرت في الترميم لا البناء والتصميم. وأظنني وقعتُ على وصفٍ مناسب للغيطاني: مُرمّم. ففي العمارة فنون دقيقة تقتضي مواهب فريدة، ومع أنني قرنت الغيطاني بوصف المعماري كثيرًا لهوسه بالبناء الشكلي، إلا أنني أظن أنه لم يمتلك موهبةً تتجاوز موهبة التقليد، والتقليد فيه وصلٌ لما انقطع وربطٌ للماضي بالحاضر، هذا صحيح، ولكنه وصلٌ عن طريق الحفظ لا الإحياء، ترميمٌ للقديم يحفظه، وهذه طبعًا فائدة جليلة وللترميم فنونه ومواهبه، ولكن حين يكتفي الترميم بالحفظ دون أن يتجاوز ذلك إلى الإحياء وإعادة التأهيل، يتجمّد التراث، وهذا هو الترميم الذي رأيته في أعمال الغيطاني، ترميمٌ لا يتقدّم، تراثه المرمّم لا يعيش ويتحرّك بيننا، إنه يقبع في متحف لصورٍ قديمة، أو هو مبنىً عتيق مُرمّم يُسيج ويُفصل عن الحياة لنراه دون أن نعيش فيه.

لقد بنى إميل حبيبي ونجيب محفوظ روايتيهما المذكورتين سابقًا بهندسةٍ تراثيّة، بل إن محفوظ استنسخ هندسة الليالي بدقّة (موازيًّا القصّص والشخصيّات وبعض الأحداث)، ومع ذلك فنحن نرى في روايتيهما بناءً جديدًا، فيه ملامح التراث وأساساته ولكن فيه أيضًا إبداعات الحاضر، توظيف التراث عندهما يرافق فيه الإحياء الترميم والهدم البناء، فيه تفاعلٌ حقيقيّ نستطيع أن نرى في تفاصيله الفنيّة توجهات فكريّة وأساليب فنيّة ومقاصد شتّى. أما الغيطاني، فيبدو لي أنّه كان أكثر «حذرًا» في تعامله مع التراث. لعلّه أجلّه حتى خشي أن يأتي إليه بأي شيء سوى أدوات المُرمّم الرقيقة وعنايته، أو لعلّه قدّره حتى قيّد نفسه بالتمجيد فعجز عن تجاوز التقليد، أو لعلّ قوله باستمراريّة بعض ملامح التراث جعله يركن إلى افتراض «حياته وسيلانه» فلا حاجة لإعادة إحياء أو تفاعل يتجاوز نقل الصورة. إنّها «لعلّات» فيها ما فيها من حيرة لأن ما وصلتُ إليه من «ترميم» الغيطاني ووصله الماضي والحاضر بالوصف والتجميد يتعارض مع كلامه عن التراث ومواقفه منه، فهو لا يبدو من الممجدين المجمّدين (فكما مرّ بنا سابقًا أراد الغيطاني ابتكار أساليب جديدة واعترف بالتراث العالمي وسعى إلى وصله بالتراث العربي)، ومع ذلك فترميمه تجميد؛ وهو لا يبدو أيضًا من التاركين المنسلخين (ولا حاجة للتدليل على ذلك!) ولكنه لا يُشرك التراث فعلًا في الحياة، لا ينزل به إلى الشارع وإنما يتركه محفوظًا ولكن مقصيًّا في المتحف.

ولعلّنا بالعودة إلى كلام الغيطاني ذاته، نجد دلائل لما وصلتُ إليه في كلامه عن معنى التراث وربطه إياه بالعمارة، العمارة التي يقول إنه نشأ «في ظلال جدرانها، وانطبعت تفاصيلها على الصفحات الأولى» من ذاكرته، التي يؤكّد أنها «من ألصق الفنون بحياة الإنسان، إذ إنها الإطار الذي يقضي فيه حياته، سواء في بيته أو عمله، أو عند تأدية شعائره الدينيّة»، وقوله الذي اقتبسته سابقًا عن كون العمارة جزءًا من الواقع.[32] قد نجد مصداق فهمي لتجربة الغيطاني في هذه الكلمات، فلعلّه -ربّما دون وعي- استنسخ تجربته الحياتيّة في أعماله، فكان التراث فيها عمارةً يعيش في ظلها الأدب دون أن يحتك بها فعلًا، يظهر فيها كأنه صور تنطبع على الذاكرة دون أن نراها أمامنا، لعلّ التراث كان عنده إطارًا مزخرفًا يحيط بأعماله دون أن يمتزج بها.

فلا غرابة إذن في أن أشعر بأن في أعمال إميل حبيبي ونجيب محفوظ التراثيّة قممًا لم تطلها أعمال الغيطاني وأعماقًا قصرت عن ولوجها؛ فشتان في نهاية المطاف بين من يُعمّر فعلًا ومن يتصور أنه يُعمّر.

نجزت المقالة والحمد لله ربّ العالمين، وقد سعينا إلى استقصاء معاني التراث، لعرضها على من له بها اكتراث، ونقّبنا في توظيفه وتوصيفه، وتتبعنا ما أُقيم فيه ورُمّم من المباني، لا سيما في أعمال الغيطاني، رحمه الله وتجاوز عنه وحمانا وإياكم من مغبّة الاستلاب ومذلة الانقلاب. وأرجو ألا تنكر الإطالة عليّ، فإن الخالص من النُّضَار العين، طالما اشتُري بأضعافه في الزّنة من اللّجين، فكيف إذا كان الثمنُ من النُّميَّات، يوجدن في الطريق مرميّات؟ وإني أكرّر اعتذاري من طول هذه المقالة، هذا وكان ظنّي في أوّلها أنّها تكون لطيفة خفيفة، يسهل انتساخها وقراءتها، فماجت بشجون الحديث، وروادف من الطيب والخبيث، فاقبلوا حاطكم الله هذا العذر الذي قد بدأته وأعدته، ونشرته وطويته، على أنكم لو علمتم في أي وقت ارتفعت هذه المقالة وعلى أي حال تمّت لتعجّبتم، وما كان يقلّ في عيونكم منها يكثر في نفوسكم، وما يصغر منها بنقدكم يكبر بعقلكم. والله أستعين على كل ما هم النفس، ووزع الفكر، وأدنى من الوسواس، إنه نعم المعين على أمور الدنيا والدين، والحمد لله رب العالمين، وصلواته على نبيه المصطفى محمد وآله الطيبين، والطاهرين أجمعين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

  • الهوامش

    [1] ثمّة من يرى أن التراث من الماضي البعيد حصرًا، وثمّة من يرى أنّه من الماضي البعيد والقريب. وثمّة من يرى أن حدود التراث الزمنيّة مرتبطة بأشياء أخرى مثل الفرق بين الإبداع والإنتاج. وفي هذا السياق، فما يدخل في تعريف التراث أصلًا يُختلف فيه، هل هو «الجانب الفكري في الحضارة العربية الإسلاميّة: العقيدة، الشريعة، واللغة والأدب والفن، والكلام، والفلسفة، والتصوّف» حسب تعريف محمد عابد الجابري؟ أم إنه يضمّ أيضًا الجانب الاجتماعي (كالعادات والتقاليد) والجانب المادي (كالعمارة) حسب تعريف فهمي جدعان؟ وهل نُدخل تقسيم الخاصّة والعامة بطبقيته لتحديد التراث؟ وهذا كلّه كوم، و«مفهوم التراث في الفكر العربي المعاصر» كوم ثان! وتداخلاته مع مفاهيم النهضة والأصالة والحداثة والهوية والقطيعة التاريخيّة تفتح أبوابًا لا آخر لها. انظر/ي لعرض سريع حول المسألة: توظيف التراث في الرواية العربيّة المعاصرة. محمد رياض وتار. اتحاد الكتاب العرب. دمشق. 2002. ص21-26.

    [2] من أبرز الدراسات التي بحثت في أنماط وعناصر التوظيف دراسة مراد عبد الرحمن مبروك في كتابه «العناصر التراثيّة في الرواية العربيّة في مصر: دراسة نقديّة (1914-1986) (دار المعارف، 1991)، لمطالعة عرض وجيز للكتاب، انظر/ي: العناصر التراثيّة في الرواية المصريّة: دراسة نقديّة. جمال نجيب التلاوي (مجلة القاهرة، العدد 101، 15 نوفمبر 1989). ثمّة دراسات تتعمّق في دراسة هذا التفاعل بين التراث والأدب المعاصر، وتحدّد أنواع «تعالقه» مع النصوص من محاكاة أو محاورة مثلًا، انظر/ي: الرواية والتراث السردي: من أجل وعي جديد بالتراث. سعيد يقطين (المركز الثقافي العربي، 1992). عناصر التوظيف واضحة، شخصيات ولغات ونصوص وأشكال أدبيّة مستمدّة من الماضي، أما أنماط التوظيف فيمكننا ضرب أمثلة عليها بأعمال الأستاذ نجيب محفوظ: «أولاد حارتنا» نمط دينيّ لتناصها مع الموروث الديني؛ «ليالي ألف ليلة» تجمع بين النمطين الأدبي والنصّي في استلهام «ألف ليلة وليلة»، وأيضًا النمط الشعبي في استلهام الحكايات الشعبيّة؛ «رحلة ابن فطومة» تجمع بين النمطين الأدبي والنصّي هي الأخرى لتماهيها مع كتب الرحلات؛ وهكذا. للمزيد انظر/ي: توظيف التراث في روايات نجيب محفوظ. سعيد شوفي محمد سليمان (ايتراك للنشر والتوزيع، 2000).

    [3] من المفيد أيضًا أن أذكر هنا (من أجل الضمير) بقيّة كلام رضوى عاشور عن إميل حبيبي، حيث قالت بعد أن أثنت على روايته ثناءً كبيرًا: «ومن المحزن والمؤسي أن السنوات الأخيرة من عمر هذا الكاتب العظيم قد شابها الارتباك والتعثّر، وربّما شعورنا بالضيق والاستفزاز من تصريحاته ومواقفه يرجع تحديدًا إلى شعورنا بقيمته كاتبًا كبيرًا ورائدًا في مجال الصمود العربي داخل دولة الاحتلال الإسرائيلي. والآن بعد أن ذهب إميل حبيبي سوف تثيرنا نصوصه، وهي التي ستبقى في نهاية المطاف». المتشائل: منعطف في الرواية العربيّة. رضوى عاشور. مجلة مشارف. العدد 9. 1 يونيو 1996. ص99.

    [4] توظيف التراث في الرواية العربيّة المعاصرة، ص 55-59.

    [5] نسبة إلى جيمس جويس.

    [6] المرجع السابق، ص43-54.

    [7] أعمال الغيطاني محوريّة في كتابي مراد عبد الرحمن مبروك وسعيد يقطين المذكورين في هامش سابق، وكذلك في كتاب «توظيف التراث في الرواية العربيّة المعاصرة». نضيف إلى ما سبق كتابين خُصّصا لدراسة التراث في أعمال الغيطاني وهما: جمال الغيطاني والتراث: دراسة في أعماله الروائيّة (مكتبة مدبولي، 1992)، وحداثة النصّ الأدبيّ المستند إلى التراث العربيّ: دراسة لفنيات الموروث النثري وجماليات السرد المعاصر في أدب جمال الغيطاني (الأوائل، 2008)، هذا بالإضافة إلى فيضٍ من المقالات والبحوث التي تناولت ذات الموضوع.

    [8] منتهى الطلب إلى تراث العرب. جمال الغيطاني. دار الشروق. القاهرة. ط1. 1997. ص5.

    [9] انظر/ي المرجع السابق، ص6، وأيضًا ما كتبه عن استمراريّة الثقافة المصريّة، منتهى الطلب إلى تراث العرب، ص17-32.

    [10] منتهى الطلب إلى تراث العرب، ص5-6.

    [11] المرجع السابق، ص11-12.

    [12] أوراق شاب عاش منذ ألف عام. جمال الغيطاني. الهيئة المصريّة العامة للكتاب. القاهرة. دون طبعة. 1998. ص61-70. يجد باحثٌ مخطوطًا لرئيس سجن المقشرة المفزع، يُقدّم للنص بمقدمة علمية قصيرة ويذيله بخاتمة يرجو فيها متابعة البحث عن هذه المخطوطات ودراستها. يُوظّف الغيطاني تقريبًا كلّ العناصر سابقة الذكر، وكذلك النمط الأدبي، ولكن يُضاف إليه النمط التاريخيّ.

    [13] المرجع السابق، ص71-78. تُروى أحداث متخيّلة عن الماضي تعكس الحاضر (معارضة ابن سلام للزيني بركات، الذي استقبله الناس بأمل في صلاحه ثم اكتشفوا فساده، وإعدام ابن سلام). من جديد كلّ عناصر التوظيف حاضرة: الشخصيات، اللغة، النص (في الأغلب ابن إياس مرّة أخرى)، الشكل (تقسيم القصّة مثل كتب الأخبار والتاريخ). الأنماط هنا مرّة أخرى تاريخيّة وأدبيّة وشعبيّة.

    [14] المرجع السابق، ص21-34. يجد المؤرّخ المصري ابن إياس نفسه في القاهرة المعاصرة، ويُسجّل بعض انطباعاته عما يحدث في البلاد. الغيطاني هنا يستخدم كلّ عناصر التوظيف التراثي (شخصية ابن إياس، لغته، نصّه «بدائع الزهور»، وشكل النص بعناوينه الفرعيّة وتقسيماته). النمط الأساسي هنا هو الأدبي، مع لمحة من الشعبي (في لغة ابن إياس).

    [15] قصّتا «المقتبس» و«ابن سلام» محاكاة مباشرة تقريبًا لأسلوب ابن إياس، وفي قصّة «المقشرة» لمحات من ابن إياس أيضًا، أوّلها نجدها في أن المخطوطة الخياليّة تبدأ بعبارة «ربّ يسّر وأعن» (أوراق شاب عاش منذ ألف عام، ص61)، التي يبدأ بها ابن إياس فصول كتابه «بدائع الزهور» (انظر/ي مثلًا: بدائع الزهور في وقائع الدهور. محمد بن أحمد بن إياس الحنفي. تحقيق: محمد مصطفى. الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة. 1984. ط3. الجزء الخامس ص3)، وهي بالطبع ذات العبارة (مع اختلاف اللفظ) التي استخدمتها في بداية هذه المقالة، لكنني أثرتُ أخذها من شخصٍ تربطني به علاقة خاصة، فأخذتها عن أبي العلاء الذي يفتتح بعبارة «اللهم يسّر وأعن» رسالة الغفران، وقد افتتحت بها الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) مقدمتها للطبعة العاشرة من تحقيقها للرسالة (انظر/ي: رسالة الغفران. أبو العلاء المعري. تحقيق وشرح عائشة عبد الرحمن. دار المعارف. القاهرة. ط11. 2008. ص7، 129).

    [16] في مقالةٍ للغيطاني عن ابن إياس يذكر بعض ما اتصفت به كتابته في «بدائع الزهور» من شجاعة في نقد الحُكّام وعناية بأحوال الشعب وأحداثهم اليوميّة، وهي صفات نرى تأثّر الغيطاني بها في كتاباته المبكّرة هذه (في المجموعة القصصيّة المذكورة وفي رواية «الزيني بركات» أيضًا). انظر/ي منتهى الطلب إلى تراث العرب. ص148-158.

    [17] وهناك ارتباطات فنيّة، أو ميتا-أدبيّة بالحاضر يمكن أن نجدها في القصص أيضًا. قصّة «المقتبس» تدور في زمنٍ معاصر، يتجوّل ابن إياس في قاهرة الستينيات، فهذا ارتباطٌ مباشرٌ (وعجائبي) بين الماضي والحاضر. أما قصّتي «المقشرة» و«ابن سلام» فهما تدوران في الماضي، ولكنهما مرتبطتان بالحاضر من وجهين: الوجه الأوّل شكلي، فقصّة المقشرة تأتي في هيئة عرض مخطوط عثر عليه أحد الباحثين (وهذا ارتباط واضحٌ بالحاضر)، وقصّة ابن سلام تأتي في هيئة كتاب أخبار (وهنا قد يكون ثمّة ارتباط بالحاضر، ولكن القارئ المعاصر هنا مجهول، على عكس مُحقّق المخطوط في قصّة المقشرة).

    [18] الزيني بركات. جمال الغيطاني. دار الشروق. القاهرة. ط2. 1994. ص23.

    [19] المرجع السابق، ص124. الكلام على لسان سعيد الذي استبشر خيرًا بالزيني بركات ودعم صعوده، ثم صُدم بحقيقته.

    [20] المرجع السابق، ص229.

    [21] المرجع السابق، ص231. الكلام على لسان زكريا بن راضي، كبير البصّاصين.

    [22] من أعاجيب الدهر أن يكون الغيطاني، صاحب رواية «الزيني بركات»، الذي لم يلتئم جرح سجنه، والذي اقتفى أثر أستاذه ابن إياس في نقد الحكّام والنظام، من أعاجيب الدهر أنه أتبع استقامة الحقّ باعوجاج الباطل، فداهن بعد أن جاهد، ومدح بعد أن صدق. هل حار في مصيره ومصير الناس الذين كتب عنهم؟ وكيف حار في تفسير ما حلّ مِن ظلمات مَن ألّف «الزيني بركات»؟! كيف تحوّل من معارضٍ ناطقٍ بالحقّ إلى يائسٍ طاوٍ ثم انقلب إلى ضارب دفوف سلاطين جائرين أفسدوا البلاد وأرهقوا العباد؟! فأي منقلبٍ هذا؟!

    [23] ما فيها من قلق وترقّب يمكن أن يُسقط على كلّ فترات التحوّلات السياسيّة، ما بعد الاستعمار، الانقلابات، الربيع العربي وما بعده من انهيارات. رمزية الصدام الوجودي مع «إسرائيل» وانقلاب المسؤولين من تأييد المماليك إلى خدمة العثمانيين يمكن إسقاطه على النكبة والنكسة ومراحل التطبيع المخزية المختلفة. أنا الليبي أستطيع إسقاط الرواية على أحداث ليبيّة، على القذافي وثورة فبراير والحروب الأهليّة الأخيرة، على الدولة الاستخباراتيّة ونكتة أن ثلث الشعب أمن وثلثهم مخبرون وثلثهم في السجن، على قصص التعذيب التي رواها لي أقاربي ومعارفي، على المشانق التي نصبها القذافي في شوارع مدينتي بنغازي، وعلى التمثيل بالجثث في الشوارع والمقابر الجماعية في حروب السنين الأخيرة، وعلى تقلّب الأعداء والحلفاء في الساحة، وعلى خيبات «المنقذين»، لقد ظهر الزيني بركات مائة مرّة في تاريخ ليبيا المعاصر!

    [24] الزيني بركات، ص 219-220، والكلام منقولٌ من بدائع الزهور، الجزء الخامس، ص41-42.

    [25] هذه ليست مقولة مبنيّةً على بحث علمي ونظر كوني، ولكن على أغنية لجوني ميتشل في كلماتها الحوار التالي: «أنا ثابتٌ مثل نجمة الشمال / أتقصد أنك دائمًا في الظلمات؟» وأيضًا بإلهام من عنوان أحد فصول «الزيني بركات»: شروق نجم الزيني بركات، وثبات أمره، وطلوع سعده، واتساع حظه. الزيني بركات، ص71.

    [26] هذه الآراء مبنيّة على أعماله التي اطّلعتُ عليها لكتابة هذه المقالة: أوراق شاب عاش منذ ألف عام، والزيني بركات، ورسالة في الصبابة والوجد، ورسالة البصائر والمصائر، وإتحاف الزمان بحكاية جلبي السلطان.

    [27] لقد أقحمتُ مقدمة وخاتمة من الواضح أنهما لا تمتزجان مع المقالة فعلًا، وإنما فقط تؤطّرانها في محاكاة شكليّة (سطحيّة) للأعمال التراثيّة. ومن باب الأمانة الأدبيّة، فأنا أقصر عن الكتابة بهذا الشكل وبتلك اللغة (على عكس الغيطاني!)، ولذلك لم يكن لي بدّ من السطو على رسالة الغفران لأبي العلاء، ورسالة الصداقة والصديق لأبي حيان التوحيدي، وأيضًا «بدائع الزهور» لابن إياس!

    [28] ربّما الاستثناء الوحيد لهذا نجده في قصّة «المقشرة» في مجموعة «أوراق شاب عاش منذ ألف عام»، ففيها ثمّة انقطاعات في النصّ أو أجزاء مفقودة تقفز بالحبكة بين حينٍ وآخر إلى الأمام.

    [29] انظر/ي توظيف التراث في الرواية العربية، ص195-196.

    [30] انظر/ي على سبيل المثال: مدرسة توظيف التراث في الرواية العربية. محمود طرشونة. مجلة فصول. العدد 1. 1 يوليو 1998. ص27-39. وهي مقالة فيها عرض وافٍ لكتاب بشر القمري الذي تناول رواية التجليات بالدراسة: شعريّة النصّ الروائي: قراءة تناصيّة في كتاب التجلّيات (البيادر للنشر والتوزيع، 1991).

    [31] ينقل الراوي عن الفتوحات المكيّة دون إشارةٍ للكتاب أو لابن عربي، وإنما يستحضر العَلَم الصوفيّ وكأنّه شيخٌ للراوي والراوي امتدادٌ لمدرسته الصوفيّة: «كما حدّث ذلك الشيخ الجليل، عن حاله، قبل عدّة قرونٍ زمنيّة، إذ قال ما نصّه يا أخي: «وقد بلغ بي قوّة الخيال أن كان حبي يجسّد لي محبوبي من خارج لعيني…»». رسالة في الصبابة والوجد، ص142.

    [32] منتهى الطلب في تراث العرب، مرجع سابق، ص11-12.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية