تولستوي ومكارثي ومراجعة التاريخ

الأربعاء 02 كانون الأول 2020
تصميم ندى جفال.

منذ أيام مررتُ على مقطع ذُكر فيه مصطلح Revisionist أو «مُراجع» في سياق التأريخ والمؤرّخين. كان المتحدّث يتكلّم عن ترجمته لكتاب أحد المستشرقين، وفي سياق حديثه عن تشابهه مع المستشرق في الحرص على التفاصيل الدقيقة في العمل، ذكر أن ذاك المستشرق قد اشتغل كثيرًا على تدقيق المصطلحات، ولذا هو يصف نفسه بالمؤرّخ المُراجِع Revisionist، أي أنه يقف عند كلّ مصطلح فيعيد النظر فيه. ضرب المتحدّث المترجم مثالًا لتوضيح الفكرة، فقال إن ذاك المستشرق كان قد رفض استخدام مصطلح «الشرق الأوسط» لأنه مصطلح أوروبي لا يُعبّر عن الواقع.

ربّما من الغريب في هذا العصر أن نجد مدحًا غير مشروط لمستشرقٍ ما، بعيدًا عن مساهمات الاستشراق الأكاديمي في حفظ التراث العربي، فحتّى أكثرهم إنصافًا يكاد لا يخلو نتاجه من ملامح الاستشراق الثقافي. ورغم قصر المقطع، -فأنا لستُ أدري موقف المترجم من المستشرق بالضبط وإذا ما كانت له استدراكات عليه، إذ يبدو أنّ الكلام كان مدحًا من المترجم لنفسه أكثر من كونه مدحًا للمستشرق!-، إلا أنّ الموضوع الذي لن يتأثّر بقصر المقطع من عدمه هو موضوع «المؤرّخ المراجع».

إنّ تحرّي الدقّة في التفاصيل والمصطلحات مراجعةٌ بالمعنى المعجميّ أو إن شئت قُل العامّي، لكنّها بالتأكيد ليست مراجعة بالمعنى الاصطلاحيّ التاريخيّ. بعد أن أثار استغرابي صدور هذا الكلام من مترجم يترجم عملًا تاريخيًّا، تذكرتُ أن إحدى رواياتي المفضّلة، رواية «خط الدم»[1] (Blood Meridian) لكورماك مكارثي، رواية تُمثّل فكرة المراجعة التاريخية بمعناها الاصطلاحيّ. وأظنّ أن الحديث عن رواية «خط الدم» لا بدّ أن يبدأ -بالنسبة لي- من الحديث عن رواية أخرى من رواياتي المفضّلة: «الحرب والسلم» لتولستوي.

المراجعة التاريخية في رواية «الحرب والسلم» لتولستوي

قد تكون «الحرب والسلم» أعظم رواية كُتبت في القرن التاسع عشر، ولا خلاف على أنها من أعظم الروايات التي كُتبت في تاريخ البشريّة. الرواية الغنيّة عن التعريف مشهورةٌ بحجمها الضخم الذي يُخيف كثيرين فيصدّهم عن قراءتها (ولذلك تُصنّف من بين أكثر الروايات التي يزعم الناس كاذبين أنهم قرؤوها!). ومشهورةٌ بأسلوبها الغريب الذي يجمع بين الأدب المتخيّل والفكر، وهي مشهورةٌ أيضًا بصفتها إحدى أبرز نماذج الروايات التاريخيّة. لكن، ما معنى «تاريخيّة» رواية «الحرب والسلم»؟ من المعروف أن جنس الرواية الأدبي موضوع خلافيّ، وأنّ تولستوي نفسه قد تجنّب تصنيف الكتاب قائلًا إن «الحرب والسلم» «ليست رواية، ولا قصيدة، ولا هي سجل تاريخي»، هي ما رغب المؤلّف في قوله وما استطاع أن يقوله في الشكل الفنّي الذي استخدمه.[2] فما الذي كان يريد تولستوي أن يقوله عن التاريخ؟

يكتب تولستوي سردًا أكثر واقعيةً لمجرى الحرب، فيُسند نتائجها لمؤثّرات أشد تعقيدًا، كأخطاء تمركز القوات؛ صعوبة نقل المعلومات وتأخرها؛ صمود بعض الكتائب في مقابل فوضى أخرى.

من السهل جدًّا أن نقول إنها رواية تاريخية لأنها ببساطة تحكي أحداثًا متخيّلة مبنيّة على أحداث تاريخيّة حقيقيّة، وفيها شخصيات حقيقيّة مثل نابليون والقيصر والجنرال كوتوزوف. ولكن، هذا لم يكن كلّ ما أراد تولستوي قوله عن التاريخ، والدليل البسيط على ذلك أن الأدب المتخيّل (الفصول السردية) في الرواية لم يكن كافيًا لتولستوي؛ الذي كان يضع قلم الروائيّ ويرفع قلم الفيلسوف فيكتب بين الفصول السرديّة فصولًا فكريّةً فلسفيّة. فلسفة تولستوي عن حركة التاريخ لا تهمني الآن، ما يهمني هو فلسفة تولستوي المتعلّقة بتسجيل التاريخ: كيف كان تولستوي في «الحرب والسلم» «مراجعًا» للتاريخ.

لقد أمضى تولستوي أكثر من عشر سنوات في العمل على «الحرب والسلم»، حسب تقديري (وهذا مع استبعاد السنوات اللاحقة لنشر الرواية التي لم تخلُ من تعديلات ومراجعات). كان تولستوي قد بدأ العمل على الرواية حوالي سنة 1856 بعنوان «الديسمبريون». كان بطل الرواية سيصير ضابطًا روسيًّا من الضباط الذي شاركوا في انتفاضة ديسمبر سنة 1825، حيث تبدأ قصته بعد عودته من المنفى سنة 1856. لكي يفهم هذا الضابط، قرّر تولستوي أن يبحث في دوافعه وتكوينه، أن يبحث في التاريخ.

غزا نابليون روسيا في عام 1812، بعد سنوات من المفاوضات والمناوشات مع الروس، الذين كانت تقلقهم حروبه في أوروبا. أدّى الغزو، بطبيعة الحال، إلى تضامنٍ قومي، وإلى التفاف الروس حول حاكمهم ألكسندر الأوّل. ولقد كشفت الحرب الكثير من المشاكل في المجتمع الروسيّ، والهزائم التي تكبّدها الروس منحتهم هامشًا للنقد والمطالبة بالإصلاح. وهكذا بدأت موجةٌ إصلاحيّة تبنّاها ألكسندر الأوّل.

في السنوات التي عمل فيها تولستوي على الرواية أجرى بحوثًا كثيرة، حيث استعان بما يقارب 42 مرجعًا تاريخيًّا وعسكريًّا وأدبيًّا وفلسفيًّا، مازالت موجودة إلى اليوم في بيته الذي صار متحفًا.

كان بعض الضبّاط الروس، الذي حاربوا الغزو الفرنسيّ، من أبرز المساهمين في ذلك الحراك: فنادوا بتغييرات علميّة وثقافيّة، وطالبوا بحقوق الفلّاحين، وانتقدوا القيادات البيروقراطيّة، وتمسّكوا أيضًا بالهويّة الروسيّة الشرقيّة في مواجهة التأثيرات الأوروبيّة الغربيّة.  

في سنة 1825 عارض أولئك الضبّاط توّلي نيكولاس الأوّل حكم روسيا؛ لأنه يقف على النقيض من ذاك الحراك الإصلاحي الذي بدأ في عهد ألكسندر الأوّل. انتفض الضبّاط الروس في كانون الأول، رفقة بضعة آلاف من الجنود. هُزم الديسمبريّون، وانتهت انتفاضتهم بإعدام بعضهم، وسجنِ آخرين، ونفي بعضهم الآخر.

وهكذا، تغيّر محور القصة شيئًا فشيئًا. عاد زمنها من 1856 (رجوع البطل من المنفى) إلى 1825 (سنة الانتفاضة) إلى 1812 (غزو نابليون) إلى 1805 (دخول روسيا ساحة الحروب النابوليونيّة في أوروبا).

بدأ تولستوي في عام 1863 يكتب «الحرب والسلم»، التي كان عنوانها الأصلي: 1805. اكتملت الرواية في سنة 1869، لتبدأ أحداثها في سنة 1805 مع دخول روسيا حلبة الصراع ضدّ نابليون، وتنتهي سنة 1825، مع بدء تهامس الضباط الديسمبريين حول التنظيم والمعارضة. ثمة عبقريّة في هذه النقلة، ولكنني سأقاوم هوسي بتولستوي وأتجاوزها الآن!

في السنوات التي عمل فيها تولستوي على الرواية أجرى بحوثًا كثيرة، حيث استعان بما يقارب 42 مرجعًا تاريخيًّا وعسكريًّا وأدبيًّا وفلسفيًّا، ما زالت موجودة إلى اليوم في بيته الذي صار متحفًا. عنايته بالتفاصيل التاريخيّة الدقيقة جعلته يزور مواقع المعارك بين الجيشين الروسيّ والفرنسيّ، ودقّته التاريخيّة جعلته ينتبه إلى أخطاء في المراجع التاريخيّة العسكرية والخرائط التي تؤرّخ للمعارك. قد نظن للوهلة الأولى أنّ هذا هو تجسّد تولستوي المُراجع للتاريخ: الكاتب الذي بحث حتى راجع (فعليًّا) خرائط تاريخية وصحّحها. ولكن ليس هذا هو معنى المراجعة التاريخيّة، كما أفهمه.

يَظهر تولستوي المراجع التاريخيّ في رفضه السرديّات المعتمدة، التي رسّختها السجّلات التاريخيّة، والتي استقرّت أيضًا في مخيلة الشعوب (يفعل ذلك في الفصول السرديّة، برواية أحداث أكثر دقّة؛ وفي الفصول الفكريّة، بالردّ مباشرةً على بعض المراجع التاريخيّة).

يرفض تولستوي، مثلًا، السرديّات التي تُعلّق نتائج المعارك على عبقرية أو فشل شخص واحد، كأن تُنسب انتصارات الفرنسيين لعبقريّة نابليون، أو أن يُقال إن إخفاقاتهم في معركةٍ ما كانت بسبب إصابته بالزكام، كما قيل عن  معركة بوردينو بين الجيشين الفرنسيّ والروسيّ مثلًا (وهي معركة ما زال هناك خلاف حول نتائجها، سجّل الروس في تاريخهم انتصارهم، وفعل الفرنسيّون الشيء نفسه!). عوضًا عن هذه السرديّات، يكتب تولستوي سردًا أكثر واقعيةً لمجرى الحرب، فيُسند نتائجها لمؤثّرات أشد تعقيدًا، كأخطاء تمركز القوات؛ صعوبة نقل المعلومات وتأخرها؛ صمود بعض الكتائب في مقابل فوضى أخرى؛ كلّها عوامل تتشابك لتُحدّد مسار المعارك.

يَظهر تولستوي المراجع التاريخيّ في رفضه السرديّات المعتمدة، التي رسّختها السجّلات التاريخيّة، والتي استقرّت أيضًا في مخيلة الشعوب.

وقبل أن نظنّ أن تولستوي قد تعصّب لبلاده ومواطنيه، من المهمّ أن ننبّه أن السرديّات الروسيّة لم تنجُ من «مراجعة» تولستوي هي الأخرى. كانت السرديّات الروسيّة القوميّة تزعم، مثلًا، أنّ توغل القوات الفرنسيّة في روسيا كان مُخططًا إستراتيجيًّا لسحبها إلى الداخل ثم تدميرها شيئًا فشيئًا.

يُفكّك تولستوي هذه السرديّات القوميّة ويسخر منها بعنف؛ فالسياسة الروسية كانت منذ اليوم الأوّل ترفض منح الفرنسيين ولو شبرًا واحدًا من الأرض الروسية، انسحابات الروس كانت هزائم ولم تكن مخططات عبقرية. واجه تولستوي أيضًا سرديات سياسيّة منتشرة في زمنه تنسب العبقرية والفضل إمّا للقيصر، أو لهذا الجنرال الروسي أو ذاك. لقد فضح تولستوي هذه السرديات بكتابة دور القيصر المتخبّط وغير الخبير، وصراعات القادة العسكريين وتآمرهم على بعضهم، كما تحدّى أيضًا النقد السائد آنذاك للجنرال الروسي كوتوزوف، الذي يُعدّ تولستوي أحد أوائل من أعادوا له اعتباره.

هذه هي المراجعة التاريخية. إنها ليست تدقيقًا في معلومات ومصطلحات وحسب، وليست مجرّد بحث في المراجع والوثائق، هي محاكمة شاملة لسرديّات تاريخيّة منتشرة أو متفقّ عليها. هذه المحاكمة تجعلنا نتفهّم لماذا كانت الفلسفة والفكر من الأمور التي بحث فيها تولستوي بتعمّق أثناء عمله؛ فالموضوع يتجاوز مجرّد تحليل صحة أو خطأ مرجع تاريخي أو خريطة عسكرية، إنّه يتضمّن أيضًا تحليل الدوافع (المشاعر والأفكار) وراء إنتاج تلك السرديّات.

المراجعة التاريخية في رواية «خط الدم» لكورماك مكارثي

من هذا المنطلق، يمكننا أيضًا تقدير مشروع كورماك مكارثي للمراجعة التاريخيّة في روايته «خط الدم».

أظنّ أنّ أغلبنا قد شاهد الكثير من أفلام الكاوبوي، أو الويسترن[3] (Western)، ولربما انطبعت في أذهاننا صورة الكاوبوي الأمريكي الشهم؛ سريع الرمي بمسدّسه المربوط على فخذه، الذي ينقذ المرأة البيضاء الرقيقة من أيدي «الهنود الحمر» الهمج، أو ينتصر لشرفها في مواجهة كاوبوي آخر، الآخر الشرير (في الأغلب ملابسه سوداء ولديه شارب خفيف!). إنها أسطرة مألوفة لشخصيّة الكاوبوي. سرديّة ابتُذلت من كثرة ما يُعاد إنتاجها في الأفلام.

حتى نعرف قصة رواية «خط الدم»، دعونا نتخيل السيناريو التالي: فرقة من الكاوبوي، شخصيات غريبة عجيبة، ضابط سابق، قاضٍ سابق (ربّما)، قسيس سابق، مكسيكيون، مجرمون. أشخاصٌ منبوذون في العالم، وثمة إمكانية للتعاطف معهم: ذاك الضابط السابق يحبّ حصانه وكلبه، ذاك القاضي مثقّفٌ فصيح، هذا القسيس السابق مؤمنٌ ضائع، وفي وسط هذه الثلّة شابٌّ صغير يواجه قسوة العالم لأوّل مرّة.

إن المراجعة التاريخية ليست تدقيقًا في معلومات ومصطلحات وحسب، وليست مجرّد بحث في المراجع والوثائق، بل محاكمة شاملة لسرديّات تاريخيّة منتشرة أو متفقّ عليها.

هذه الفرقة الغريبة تقدِمُ على فعلِ شيءٍ نبيل: إنها تعبر الحدود الأمريكيّة إلى المكسيك، وبمبادئها الإنسانيّة والقانونيّة المتحضّرة وقدراتها المتفوّقة، تضعُ نفسها في مرمى النيران لتذود عن المدن المكسيكيّة المسكينة ضدّ الهجمات الهمجية العنيفة «للهنود الحمر». إنها حملةٌ نبيلة. بطولة أسطوريّة تذهب إلى ما وراء الحدود لتدافع عن الأبرياء.

لا أظنّنا نحتاج بذل مجهود كبير حتى نتخيل سيناريو كهذا، فالكثير من أفلام الويسترن استهلكت استخدام هذه الحبكة؛ ذلك أنّها السردية التاريخيّة المستقرّة في المخيّلة الأمريكية عن أسطورة الكاوبوي الشهم. يمكننا الآن أن نتحدّث عن رواية «خط الدم».

الرواية -كما ذكرتُ سابقًا- مشروعُ مراجعةٍ تاريخيّة. هل يعني هذا أن مكارثي أمضى عشر سنوات يكتب روايته؟ أنه تعلّم اللغة الإسبانيّة من أجل أن يكتب الشخصيات المكسيكيّة؟ أنّه أجرى بحوثًا طويلة في الوثائق والمراجع التاريخيّة لدرجة أن أبسط الإشارات عنده مستمدة فعلًا من تاريخ تلك الفترة؟[4] أيعني أنه زار كلّ الأماكن التي تحدّث عنها في الرواية؟ أنه بحث في الفكر والفلسفة والأديان أيضًا؟ أنه جالَ أيضًا في الروايات والأعمال الأدبية؟ كل هذه الأسئلة إجابتها: نعم. ولكن، مرّة أخرى، هذا لا يمتّ بصلة لفكرة المراجعة التاريخيّة. أن نقول إنّ «خط الدم» مشروع مراجعة تاريخيّة يعني أنّ مكارثي سعى في روايته هذه إلى تفكيك وتقويض السرديّة المتداولة.

فرقة الكاوبوي الشهمة في الرواية هي في الواقع فرقة مرتزقة. الضابط السابق الذي يحبّ حصانه ويعطف على كلبٍ شريد سفّاحٌ قاسٍ. القاضي رجلٌ يستخدم العلم والقانون والعقل لتبرير الإبادة والعنف والشر. «الهنود الحمر» في الرواية ليسوا همجًا شرّيرين عنيفين، بل هم السكان الأصليون الذين يتعرّضون للإبادة مقابل الذهب. فرقة المرتزقة هذه لم تعبر الحدود إلى المكسيك من أجل الدفاع عن الأبرياء، ولكن من أجل إبرام عقود مع حكّام المدن المكسيكيّة: فروة رأس مقابل الذهب. هذا الركض وراء الذهب يدفع فرقة المرتزقة إلى قتل الجماعات الهنديّة المقاتلة، ثم قتل قبائل مسالمة، ثم قتل قرى مكسيكيّة بأكملها، والفراء التي كانت تُجزّ كانت فراء أشخاصٍ ميّتين، حتى لو كان الميّت أحد رفاقهم.

السردية تُقوّض. الكاوبوي النبيل يصيرُ مجرمًا بشعًا، يُدان ولا يُمتدح.

مكارثي ليس أوّل من سعى إلى تقويض سردية الويسترن. هذه «المراجعة» انتشرت في أفلام وروايات الويسترن منذ الخمسينيّات والستينيّات، حتى صار لها اسم يدلّ على جنسها الفنّي: ضد-ويسترن[5] (Anti-Western).

من أبرز أمثلة ذلك فيلم «السبعة الرائعون» (The Magnificent Seven) سنة 1960 الذي لفت الانتباه إلى التشابه الكبير بين الأبطال والأشرار، وركّز على معاناة الفلّاحين من طبقة المقاتلين. لكن، فيلم السبعة الرائعون فيلمٌ آخر يصوّر كلّ الكاوبوي فيه على أنّهم شهام أبطال. إنّه فيلم عن مرتزقة يعبرون الحدود إلى المكسيك «لإنقاذ الأبرياء»! فكيف أدّعي إذن أنّ الفيلم يندرج تحت الأفلام ضد-الويسترن؟ أقول ذلك لأنه ضد-ويسترن بالمصادفة، بمصادفة اقتباسه من الفيلم الياباني «الساموراي السبعة» (Seven Samurai) سنة 1954.

أفلام الساموراي اليابانيّة أثّرت تأثيرًا عظيمًا في السينما الأمريكيّة، ليس فقط من حيث الإخراج والتصوير والإنتاج (مخرج فيلم «الساموراي السبعة»، أكيرا كوروساوا، يُلّقب من قبل مخرجي أمريكا «بالأستاذ الكبير»)، ولكنها أثّرت أيضًا في القصص. «مراجعة» السرديّات التاريخيّة لم تكن غريبة على الثقافة اليابانيّة حينئذ، وذلك بحكم التطورات التاريخيّة التي مرّوا بها. الكثير من الأفلام اليابانيّة كانت «تراجع» أسطورة الساموري ومبادئ البوشيدو.

لقد كان فيلم «الساموراي السبعة» أوضح في نقده الاجتماعي من فيلم «السبعة الرائعون» المقتبس منه، وكل الأشياء التي ذكرتها سابقًا عن الفيلم الأمريكي موجودة بقوة -بطبيعة الحال- في الفيلم الياباني.

فيلم (Hara-Kiri) سنة 1962 أيضًا (أحد أفلامي المفضّلة على الإطلاق!) من أشدّ الأفلام اليابانيّة نقدًا لأسطورة الساموراي وما تتضمنه من مشاكل طبقيّة وأكاذيب عن الشرف. تفكيك السرديات كان منتشرًا في السينما اليابانيّة تلك الفترة، حدّ أنها هي المسؤولة عن رواج مصطلح «راشومون» (Rashomon)، الذي يُستخدم لوصف القصص التي تُروى فيها حادثة معيّنة من عدّة وجهات نظر، أي بسرديات مختلفة. انتشر المصطلح بعد صدور فيلم بنفس الاسم لكوروساوا سنة 1950، مقتبس من قصة للكاتب الياباني ريونوسكي أكوتاغاوا، الذي يُعدُّ الأب الروحيّ للقصة القصيرة اليابانيّة.

قد لا تكون مراجعة أسطورة الكاوبوي قد جاءت جرّاء تفكير وبحث جادّ عند صانعي السينما الأمريكيّة في بدايات الأمر، إلّا أنّ التأثر بالسينما اليابانية والاقتباس منها، ولربما تجاوز ذلك إلى السرقة المباشرة،[6] كل ذلك كان سببًا في تسلّل وانتقال أفكار مراجعة السرديات التاريخية إلى أفلام الكاوبوي الأمريكية. هذا في المراحل الأولى، فقد بدأت الأفلام بعد ذلك تتعمّد تقويض السرديّات الدارجة، ولفت الانتباه إلى أنّ عالم أساطير الكاوبوي لم يكن عالم الأبيض مقابل الأسود والخير مقابل الشر. لقد أخذت السينما الأمريكية تدرك بشاعة العنف والقتال واضطهاد السكان الأصليين.[7]

 أما عالم الأدب، فقد كانت موجة ضد-الويسترن فيه أعمق بكثير منها في الأفلام. من أبرز أمثلة ذلك رواية «أومبري» (Hombre) للكاتب إليمور لينرد (التي أُنتج منها لاحقًا فيلم سنة 1967 من بطولة بول نيومن). في تقويضها لسرديّة «الهنود الحمر الهمج»، شدّدت الرواية على معاناة السكّان الأصليّين واستغلالهم في «المحميّات» التي يُفرض عليهم العيش فيها، فناقشت الإبادة من زاوية التهجير والحصار والتحكّم بالموارد والأغذية. رواية «معبر بوتشر» (Butcher’s Crossing) لجون ويليامز (الشهير برواية «ستونر») تُعتبر أيضًا من الروايات الطليعيّة ضد-ويسترن. كان مما هدمت رواية ويليامز أسطورة تحقيق الأحلام والنجاح في الغرب الأمريكي دون عواقب، وذلك من خلال التركيز على ثيمة الصراع مع الطبيعة وإبادة الثروة الحيوانية.

موجة ضد-الويسترن سابقة على مكارثي إذن، ولكنني أظن أنها بلغت ذروتها القصوى في رواية «خط الدم».

إنّ ما نجده في رواية «خط الدم» هو سردٌ حقيقيٌّ للتاريخ الأمريكي الغارق في الدماء والإبادة، وهو أيضًا سردٌ تاريخيٌّ للأفكار الغربية التي طالما رافقت هذه الجرائم الاستعماريّة والإمبرياليّة. جرائم الإبادة والعنف والجشع لم تأتِ وحدها، ولم تصدر عن مجرمين أمّيين لا يكادون يتحدّثون الإنجليزية (مثل غالبية أفراد عصابة المرتزقة في الرواية)، بل صدرت أيضًا عن ثلاثة أشخاص يمثّلون أركانًا مهمة في «الحضارة الغربية»: صدرت عن ضابطٍ سابق يُمثّل الانضباط والالتزام والشرف العسكري، وعن شخص يوصف دائمًا بأنه «قاضٍ» كثيرًا ما يستشهد بالقوانين والعلوم فيمثّل «العقلانية الغريبة»، وعن قسيس سابق يُمثّل العنصر الدينيّ في الثقافة الغربية التي كثيرًا ما يتمسّك أربابها بالهوية المسيحيّة والبروتستانتينية.

إن المراجعة التاريخية في حراك ضد-الويسترن بلغت قمتها في رواية «خط الدم»، لأنها كانت مراجعة شاملة ليس فقط لأساطير الكاوبوي ولكن حتّى لأساطير الحضارة الغربية.

القاضي هولدن (أحد أكثر الشخصيات الأدبية التي أثارت رعبي!) شخصٌ مُثقّف، متعلّم، يتحدّث عدّة لغات، ويستشهد بالقانون بسهولة عجيبة؛ بليغٌ فصيح، فماذا يفعل القاضي هولدن بكلّ تلك العقلانية والبلاغة؟ إنّه يُبرّر بها الشرور التي يرتكبها ورفاقه، مثلما يُبرّر شهوته لامتلاك العالم. شخصيته عجيبة، وتكاد تكون عجائبيّة، الأمر الذي دفع البعض إلى تأويل شخصيته على أنه الشيطان ذاته، أو شيطان ما، أو إله حرب أو حتّى أنّه شخصيّة أدبيّة تعرف أنها مُخلّدة في عالم الأدب.

شخصيًّا، تعجبني جدًّا فكرة أنّ القاضي هولدن يمثّل الإمبرياليّة الاستعماريّة. دعونا نُفكّر في الأمر قليلًا. القاضي هولدن رجلٌ عالميّ، له سفريات كثيرة ويتحدّث عدّة لغات، ولكنّه «غربيٌّ» جدًّا. على بندقيته نُقشت عبارة Et in Arcadia ego، عبارة لاتينيّة عن أسطورة أركاديا اليونانيّة، المنابع المزعومة «للحضارة الغربيّة» (مزعومة بمعنى أنهم يزعمون كونها المنابع الحصريّة). لا نعرف تاريخ القاضي هولدن فعلًا، ولكننا نعرف أنّ الجميع يُلقّبونه «بالقاضي» ونعرف أنه خبيرٌ مُحنّكٌ في القانون يستطيع الاستشهاد بالنصوص القانونيّة والسوابق القضائية في لمح البصر. نعرف أنه عالِمٌ هاوٍ أيضًا: يجلس قبالة موقد المخيم بدفتره، فيرسم فيه عظمةً ضخمةً وجدها ويُسجل أبعادها ويكتب ملاحظاته عنها بينما يجلس بقية رفاقه حول نفس النار ليسكروا وليبصقوا تبغهم في النار. نعرف أيضًا أنه فصيحٌ متفلسف يخشى الآخرون من مجادلته.

كلام جميل. ثقافات قديمة، قوانين، علم، عقل وفلسفة وبلاغة، أشياء دائمًا ما نسمع أنها مرتبطةٌ «بالحضارة الغربيّة». والآن، لنملأ الفراغات، أو بالأحرى لنرَ كيف ملأ مكارثي الفراغات.

تقول العبارة اللاتينيّة على بندقيته: «حتى في أركاديا ها أنا ذا». الموت هو المتحدّث هنا. إنه يقول: أنا موجود في كلّ مكان حتى في مدينة أركاديا المثالية الفاضلة. إذن فإنّ حتّى ذاك الارتباط بمنابع الحضارة هو ارتباط بالموت والدمار، وكأن «الرسالة الحضاريّة» الغربية هي رسالة موت ودمار. هل قلت «كأنّ»؟ أليست هذه هي الرسالة التي تلقّتها فعلًا كل الشعوب التي لاقت ويلات الاستعمار؟ كل الشعوب التي قيل لها نحن هنا لنجلب لك المدنيّة والتحضر والقوانين، ذات القوانين التي يستحضرها القاضي هولدن بسهولة عجيبة في مواقف يتحايل فيها لنيل مراده. الرجل المُلقّب بالقاضي سفّاحٌ من الدرجة الأولى. وظيفة القانون عنده هي منح المبررات. وطالما ذكرنا منح المبررات، يمكننا أن ننتقل إلى تفلسف القاضي هولدن.

يقول القاضي هولدن في أحد المقاطع، مخاطبًا رفاقه الجالسين في حلقةٍ حول النار، إن الحرب (التي يمكننا أن نلاحظ أنها لا تنفصل عن الاستعمار) هي «اللعبة والسلطة والتبرير»، فالحرب في نظره هي أنقى أشكال الألوهية: «الحرب هي اللعبة النهائية لأن الحرب هي في النهاية إكراهٌ للوجود على الوحدة. الحرب هي الرب». هذا الإكراه على الوحدة ألا يبدو شبيهًا بالنظرة الإمبرياليّة التي تسعى لاحتواء الوجود بجمعه كلّه تحت سلطتها حتى يتوحّد تحت هيمنتها؟ حين يعترض أحد الأشخاص في الحلقة على كلام القاضي هولدن، ويقول ببساطة إن القوة لا تعنى الصواب وإن الرجل الذي يفوز في معركةٍ ما لا يُبرّأ أخلاقيًّا، يرد عليه القاضي هولدن: «القانون الأخلاقي ابتكره البشر للإطاحة بالأقوياء لحساب الضعفاء. القانون التاريخي ينقضه دائمًا. وجهة النظر الأخلاقيّة لا يمكن أبدًا إثبات صوابها أو خطأها بأي اختبار». يتوسع القاضي في تفلسفه، ثم يبحث بين الحاضرين عمن يتابع مجادلته.

«بحث القاضي في الحلقة عن معارضين. قال ولكن ماذا يقول القسيس؟
رفع توبِن [القسيس السابق] رأسه. القسيس لا يقول.
قال القاضي القسيس لا يقول. [8]Nihil dicit. ولكن القسيس قال. القسيس وضع جانبًا رداء حرفته وأخذ بيديه أدوات ذاك النداء الأسمى الذي يحترمه كل الرجال. القسيس أيضًا لا يريد أن يكون خادمًا للرب ولكن أن يكون هو نفسه ربّا.
هزّ توبِن رأسه. لديك لسانٌ مهرطقٌ يا هولدن. وفي الحقيقة أنا لم أكن يومًا قسّيسًا ولكن راهبًا مبتدئًا فقط في الرهبانية.
قسيسٌ متجوّل أو قسيسٌ متدرّب، قال القاضي. رجال الرب ورجال الحرب بينهم تشابهات غريبة.
لن أؤيد أفكارك، قال توبِن. لا تطلب ذلك.
آه يا قسّيس، قال القاضي. ما الذي يمكنني أن أطلبه منك ولم تعطه لي أصلًا؟»[9]

مركزية الإنسان وماديته وعقلانيّته المزعومة والقانون التاريخي الدارويني (البقاء للأقوى) كلّها سمات الحداثة التي قال نيتشه إنها قتلت الرب، تمامًا كما يقول القاضي إن من يمتهنون «الحرب» يريدون أن يصيروا الرب. وهذا ليس كلّ ما في الأمر! نيتشه لا يظهر فقط في قتل الرب، ولكنّه يظهر أيضًا وبوضوحٍ كبير في داروينيّة القاضي هولدن، وفي نسبيّته التي تُميّع القيم. كما يظهر أكثر ما يظهر في كلام القاضي هولدن عن الأخلاق المبتكرة، الذي يكاد يكون منقولًا نقلًا مباشرًا من كتابات نيتشه الذي كان يرى أن الأخلاق ما هي إلا ابتكارٌ حاقدٌ غيورٌ من العبيد/الضعفاء، للانقلاب على الأسياد/الأقوياء، ما أسماه نيتشه «ثورة العبيد بالأخلاق».[10]

إنها الفلسفة الغربيّة (بشقّيها الحداثي وما بعد الحداثي) التي برّرت الشرّ الاستعماري الإمبريالي الغربي بمفاهيمها الماديّة والداروينيّة، جاعلةً كل تلك الإمبراطوريات الاستعماريّة إمبراطوريات مؤلّهة بحكم قوّتها، بحكم حروبها، بحكم نسبيّتها، مؤكّدةً بحكم «القانون التاريخي» وبحكم الداروينيّة أن امتلاكها للعالم حتميّ. وهذا يقودني إلى الدليل الأخير: العلم!

القاضي هولدن المهتم بالتدوين العلمي اللطيف في دفتره الصغير، كان كلّما فرغ من تدوين ملاحظاته عن شيء ما، يرميه في النار. لماذا؟ لماذا لا يحفظه؟ لماذا يُدوّن إن كان سيتخلّص من الشيء فورًا؟ ببساطة لأن لا شيء يمكن أن يُسمح له بالوجود دون موافقة القاضي هولدن: «أي شيءٍ في الخليقة يُوجد دون معرفتي يُوجد دون موافقتي». يضع القاضي هولدن يديه على الأرض ويقول بصراحة إنها ملكه «ومع ذلك في كل مكانٍ عليها توجد حياةٌ مُستقلّة. مستقلّة. من أجل أن تكون ملكي لا شيء يمكن أن يُسمح له بأن يحدث عليها إلا وفق إرادتي». إنه استعماريٌّ إمبرياليٌّ تقليديٌّ جدًّا: يريد التسجيل والتصنيف حسب شروطه، لا يهمّه «الحفظ» بقدر ما تهمه «السيطرة». ألا يُذكّرنا هذا بحديث إدوارد سعيد عن ظاهرة الاستشراق التي تهدف إلى الاحتواء وليس إلى التفهّم؟ التي تُسخّر العلم من أجل الاستعمار والإمبرياليّة؟ التي تهدف إلى خلق سرديّات متخيّلة خاصة بالغربي المستشرق من أجل الهيمنة فقط لا من أجل تمثيل الواقع؟

لكلّ هذا قلتُ إن المراجعة التاريخية في حراك ضد-الويسترن بلغت قمتها في رواية «خط الدم»، لأنها كانت مراجعة شاملة ليس فقط لأساطير الكاوبوي ولكن حتّى لأساطير الحضارة الغربية. فهي إذن رواية ضد-ويسترن بالمعنيين: معنى ضد-غربي نسبةً للغرب الأمريكي والكاوبوي، ومعنى ضد-غربي نسبةً للحضارة الغربية.[11]

تقاطعات «الحرب والسلم» و«خط الدم»

ولكن، إن اتفقنا أن مراجعة التاريخ ليست مجرد اهتمام بالتفاصيل أو تدقيق مصطلحات، فهل هي مجرّد تصحيح للسرديّات؟ إن كانت كذلك، لماذا يُتعب تولستوي نفسه في فهم دوافع ومشاعر وأفكار الناس والمؤرخين؟ لماذا يبحث تولستوي ومكارثي في الفلسفة والأفكار؟ لماذا يملأ الاثنان روايتيهما بكل تلك الأفكار بشكلٍ مباشر وغير مباشر؟ لماذا لا يُصحح تولستوي أو مكارثي السجل التاريخي فحسب، فنراهما يدينان السرديّات الكاذبة والأفكار التي برّرتها ورسّختها؟ ببساطة لأن التاريخ لا يعني «الماضي».

يقول جيمس بولدوين:

«إن التاريخ، كما لا يعرف أحدٌ تقريبًا، ليس فقط مُجرّد شيءٍ يُقرأ. إنه لا يشيرُ فقط إلى الماضي بصفته موضوعَه الوحيد أو حتى موضوعَه الأساسيّ. بل على العكس من ذلك، إنّ قوة التاريخ الهائلة تأتي من حقيقة كوننا نحمله داخلنا، ونخضع لتحكّمه بنا من عدة أوجهٍ دون وعينا بذلك؛ إن التاريخ حاضرٌ فعليًا في كل ما نفعله. من المستبعد أن يكون الأمر خلاف ذلك، ما دمنا نَدين للتاريخ بأُطُر مرجعياتنا، بهوياتنا، وبطموحاتنا».[12] 

بهذا المنطق نفهم إذن أن مراجعة التاريخ ليست مراجعةً للماضي فحسب. حين تعمّق تولستوي في فلسفة التاريخ وحركته وحرية الإرادة والجبريّة والخير والشر، وحين لحقه مكارثي ليتعمّق في نفس الأمور، بل وليستند إلى تولستوي نفسه (ملاحظات مكارثي أثناء تأليف «خط الدم» تشير مباشرةً إلى «الحرب والسلم» وفصولها الفكريّة)[13] لم يفعلا ذلك لتصحيح الماضي، بل فعلاه لإدانة ما حدث في الماضي من جرائم مستمرة حتّى في الحاضر. نحن، كما قال بولدوين، نحمل التاريخ داخلنا ونتأثّر به على نحوٍ مستمرّ.

فلننظر سريعًا في بعض ثيمات «الحرب والسلم» و«خط الدم». كلتا الروايتين تدور في النصف الأول من القرن التاسع عشر؛ «الحرب والسلم» ما بين 1805 و1825، و«خط الدم» في ثلاثينيّات ذات القرن (1830). كتب تولستوي روايته بعد تاريخ وقوع أحداثها بحوالي 50 سنة، وكتب مكارثي روايته بعد أحداثها بحوالي 150 سنة. الاثنان يناقشان بشاعة العنف والحرب، يناقشان القانون التاريخي الذي يُبرّر الحرب والعنف، يناقشان حركة التاريخ وحرية الإرادة والخير والشر. مسائل ما زلنا نناقشها إلى اليوم، ولكن، لننظر في مسائل أقلّ تجريديّة، أقل فلسفيّة.

مراجعة التاريخ إذن مشروعٌ فكريٌّ فلسفيٌّ ضخم. مشروعٌ يتعلّق بكلّ لحظةٍ نعيشها، يتعلّق بالآن، بهذه اللحظة والتي تليها والتي تليها. مشروعٌ يتعمّق في التجربة البشرية، في النفس والمشاعر والأفكار.

ناقشت «الحرب والسلم» التنازعات الثقافية بين الشرق (الروسيّ) والغرب (الأوروبيّ-الفرنسيّ) بين الاستلاب والرفض والتعايش، أمر ما زلنا نناقشه ونعيش آثاره إلى اليوم. ولنا في جدالات الحضور الفرنسي في السياسة اللبنانيّة وقضيّة رسومات الرسول عليه السلام، والمقاطعة خير دليل على استمرار الصراع بين الاستلاب والاستقلال.

ناقشت الرواية القوميّة وما تؤدّي إليه من تنويمٍ للأذهان، كما ناقشت خطورة البروباغاندا والأخبار الكاذبة وتزوير التاريخ. ولعلّ أبرز مثال معاصر على كلّ هذا نجده في موجة التطبيع المنتشرة بين حكوماتنا، والتي تعمل جاهدةً على تزوير التاريخ، فتصير التنازلات ويغدو التحالف مع احتلالٍ عنصريٍّ دمويّ «انتصارات وتحقيق سلام»، وتصير القضية شيئًا منبوذًا ومرفوضًا، وتتحفز بعض الفئات بقوميتها فتدافع عن حكوماتها في أسراب وأسراب من الذباب الإلكتروني!

أما رواية «خط الدم» فسبق أن عرضت تناولها وتقويضها للأساطير الحضاريّة الغربية، ولكن دعونا نعقد مقارنة سريعة قد تؤكّد رأيي في أن الرواية هي أفضل مراجعةٍ تاريخية لتاريخ الولايات المتحدة كلها.

القصة باختصار: فرقة مرتزقة تعبر الحدود إلى دولة أخرى تحت عذر «المساعدة»، وترتكب مذابح وجرائم إبادة، وفي مرحلة من المراحل تستقر الفرقة في معبرٍ نهريّ وتبدأ في ابتزاز العابرين ونهبهم. ألا يُذكّرنا هذا بالتاريخ المعاصر كلّه للولايات المتحدة؟ تدخّلاتها الساعية إلى «نشر الديمقراطية» وحماية «الحقوق الإنسانية» التي تنتهي بمذابح ومجازر وببقاء القوات الأمريكية لسنوات وعقود في تلك الدول؟ فيتنام؟ أفغانستان؟ العراق؟

هنا قد يكون مفيدًا أن نتذكّر أن «خط الدم» -مثل «الحرب والسلم»– مبنيّة على أحداثٍ حقيقيّة، فرقة المرتزقة تلك حقيقيّة وحملتهم البشعة في المكسيك حدثت. مكارثي لم يكن يحتاج لتخيّل التاريخ الأمريكي، «التاريخ حاضرٌ فعليًّا في كلّ ما نفعله».

مراجعة التاريخ إذن مشروعٌ فكريٌّ فلسفيٌّ ضخم. مشروعٌ يتعلّق بكلّ لحظةٍ نعيشها، يتعلّق بالآن، بهذه اللحظة والتي تليها والتي تليها. مشروعٌ يتعمّق في التجربة البشرية، في النفس والمشاعر والأفكار، فنحن نحمل التاريخ «داخلنا، ونخضع لتحكّمه بنا من عدة أوجهٍ دون وعينا بذلك». تولستوي ومكارثي وجيمس بولدوين وإدوارد سعيد وغيرهم يسعون، بمراجعة التاريخ، إلى تنشيط وعينا، إلى فتح أعيننا على تحكّم التاريخ بنا وتأثيره علينا وتأثيرنا عليه. في كثيرٍ من الأحيان يحتاج هذا إلى مجهودٍ تفكيكيّ عظيم يزيل كل الأساطير والسرديات الكاذبة المزورة.

هذه هي المراجعة التاريخيّة. أما الحرص على التفاصيل وتدقيق المصطلحات، فهذه مراجعة تحريريّة بدهيّة لا يستحقّ عليها أي مترجم ولا أي مستشرق المدح، تمامًا كما لن أستحقّ أي مدح إن راجعتُ مقالتي هذه للبحث عن الأخطاء الطباعيّة!

  • الهوامش

    [1] McCarthy, C. (2010 [1985]). Blood Meridian, or, the Evening Redness in the West. London, Pan MacMillan.عنوان الرواية تُرجم إلى العربية: «خط الدم أو حمرة الغسق في الغرب» (ترجمة عماد إبراهيم عبده، الأهلية للنشر والتوزيع 2007).  ترجمة «خط» لا تبدو لي دقيقة، فالعنوان الإنجليزي قد يشير إلى الغروب وحلول الظلام، وقد يشير إلى القمة أو أقصى نقطة، ولعلّه يشير إلى العود والتكرار الدائري؛ كلّ هذا لم توفّق ترجمة «خط» في إظهاره في رأيي، ولكنني استخدمت العنوان كونه الترجمة العربية الوحيدة حسب علمي.

    [2] Tolstoy, L (2010 [1869]). War and Peace (Louise & Aylmer Maude tr). London, Oxford’s World Classics. انظر/ي مقالة تولستوي Some Words About War and Peace (1868) الملحقة بالرواية.

    [3] Western تعني الغربي، في إشارة إلى الغرب الأمريكي حيث كانت تدور قصص ومغامرات الكاوبوي. تفاديًّا للخلط مع «غربي» نسبة إلى الحضارة الغربية فسوف أستخدم المصطلح الإنجليزي كما هو: ويسترن.

    [4] في بداية الرواية، حين تظهر شخصية المجرم تودفاين لأوّل مرّة، يصف الراوي ملامحه، ويشير إلى وشمين في وجهه. وشمٌ بحرفي HT ووشمٌ بحرف F. هذه المعلومة ترد مرّة واحدةً في الرواية ولا تُذكر مرّة أخرى. أثارت هذه الإشارة فضولي، وبحثتُ عنها، ووجدتُ أنها إشارة لقوانين عقوبات كانت سارية في ذلك الزمن، تسمح بمعاقبة المجرمين بوشم جرائمهم على وجوههم، فيوشم على وجه سارق الخيول Horse Thief حرفي HT، وقد يُوشم حرف F إشارةً فقط إلى مجرمٍ مُدان Felon.

    [5] تُسمى أيضًا Revisionist Western في استخدام مباشر لمصطلح المراجعة بمعناها التاريخي.

    [6] فيلم الويسترن A Fistful of Dollars لسيرجيو ليوني اقتباسٌ مباشر (يكاد يكون مشهدًا بمشهد) لفيلم الساموراي Yojimbo لكوروساوا، وقد أدّى الأمر إلى مقاضاتهم على هذا «الاقتباس». تجدر الإشارة إلى أن أفلام المخرج الإيطالي سيرجيو ليوني، التي تلقّب «بالسباغيتي ويسترن»، هي من بين الأفلام التي طوّرت جنس الضد-ويسترن.

    [7] من أبرز الأمثلة فيلم Butch Cassidy and the Sundance Kid 1969 الذي لم تكن صورة الشخصيّات فيه هي الصورة التقليديّة المرمسنة للكاوبوي، وأيضًا فيلم The Wild Bunch 1969 الذي صوّر العنف ببشاعة كبيرة وأيضًا صوّر الشخصيّات تصويرًا وضّح انتهازيتهم وقسوتهم.

    [8] عبارة لاتينية تعني حرفيًّا «لا يقول شيئًا»، وهي مصطلح قانوني يستخدم في حالات صدور حكم من المحكمة ضد متهم لم يقل شيئًا ولم يدافع عن نفسه.

    [9] المقطع بترجمتي الشخصيّة، وقد حاولت الإبقاء على أسلوب مكارثي المباشر التقليلي الذي يتجنّب علامات الترقيم.

    [10]  Nietzche, F. (2007). On the Genealogy of Morality (Diethe, C. tr). Cambridge University Press. pp17-19. للاستزادة حول موقف نيتشه من الأخلاق تمكن مراجعة كتابه الشهير أيضًا Beyond Good and Evil. 

    [11] لا بدّ أن أشير هنا إلى أن رواية أومبري فيها أيضًا مراجعة شبيهة. شخصية الدكتور فيبر في الرواية شخصية بيروقراطيّة برجوازيّة مثقّفة، يتحدث بالعقلانية والإنسانيّة والنظام، ويتضح في نهاية المطاف أنه مجرمٌ كبير استغل السكان الأصليين استغلالًا بشعًا.

    [12]  بولدوين، جيمس. ذنب الرجل الأبيض. ترجمة سارة مبارك وإبراهيم الشريف، جدليّة 19-6-2020. انظر/ي: https://www.jadaliyya.com/Details/41312 

    [13] أرشيف مكارثي، الموجود في جامعة تكساس، يحتوي على ملاحظاته أثناء تأليف رواية «خط الدم» والتي وردت فيها هذه الإشارات لتولستوي. انظر/ي: https://lithub.com/cormac-mccarthys-blood-meridian-was-almost-a-plain-old-western/ 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية