محمود صبري، فن، العراق

التشكيلي العراقي محمود صبري: سيرة موجزة

محمود صبري، بتصميم محمد شحادة

التشكيلي العراقي محمود صبري: سيرة موجزة

الأربعاء 17 آب 2022

إن كان معظم الفنانين العراقيين الروّاد قد تلقوا تعليمهم في كليات الفنون الأوروبية، فإن محمود صبري -على خلافهم- قد درس في بريطانيا العلوم الاجتماعية، وهناك طوّر موهبته الفنّية من خلال تلقي دورات في الرسم، ليتوّج ويعترف به فنانًا عراقيًا رائدًا من خلال معرض أقيم في العاصمة البريطانية في نيسان 1949، رفقة فنانين آخرين، بينهم جواد سليم وحافظ الدروبي.

دراسة صبري للرسم بالاعتماد على نفسه، كما يقول الكاتب والفنان يحيى الشيخ، لم تحرّره فقط من النزعة الشكلانية والمدرسة الفنية الأوروبية التي تركت بصمتها على العديد من الفنانين العراقيين، ولكن سمحت له كذلك بأن يطوّر أدواته الفنية ورؤاه بالتوزاي مع قناعاته الفكرية ومزاجه الروحي.[1] مضيفًا أن صبري «كان واحد من القلائل جدًا، إن لم يكن الوحيد، الذي نسج أسلوبه من خامة ذاته، ومن ذات المجتمع، على نول الواقع التاريخي، وعلى إيقاع شروطه».

يستعيد هذا المقال، وفي الذكرى العاشرة لرحيله، تجربة المثقف العضوي والفنان العراقي الفريد محمود صبري، ملقيًا الضوء على تجربته في خضمّ النضال الفكري والسياسي داخل العراق وخارجه. مستذكرًا أهميته في الحياة التشكيلية والثقافية العراقية والعربية.

محمود صبري: سيرة موجزة

ولد محمود صبري عام 1927، في منطقة الفضل، وهي إحدى المناطق الشعبية في بغداد القديمة. وقد عُرِف مبكرًا، وهو المنحدر من عائلة متوسطة الحال، بذكائه واجتهاده وحسه المرهف اجتماعيًا وسياسيًا.

حتى إنه في الثامنة عشر من عمره، شارك مع زملاء له في تأسيس نادٍ لمكافحة الأمّية، وساهم في تعليم عشرات القراءة والكتابة، كما يروي رفيقه وصديق طفولته حمدي التكمجي، كما أسس مع أصدقائه مكتبة الطريق، والتي عملت على نشر وتوزيع الكتب التقدمية.[2] 

ابتعث صبري للدراسة الجامعية في إنجلترا، حيث درس العلوم الاجتماعية في كلية لوڤبرا، وفي الأثناء تلقى دروسًا خاصة في الفن، وشارك في معرض فني مع عدد من الفنانين العراقيين، لتتواصل بعدها مساهماته الفعالة في الحياة الفنية والثقافية العراقية، ولعل أهمها حينذاك تأسيس مجلة «الثقافة الجديدة»، عام 1953، التي كان أحد كتابها.[3] 

بعد عودته إلى بغداد، عُيِّن صبري موظفًا في مصرف الرافدين، واستمر في عمله هذا بين الأعوام 1950 و1960، واختير من قبل الموظفين بعدها مديرًا للبنك، لكنه آثر الاستقالة، والعمل مديرًا عامًا لمصلحة المعارض في الحكومة التي جاءت بها ثورة 14 تموز 1958، التي أطاحت بالنظام الملكي.

وفي العام 1953 تزوج صبري من ابنة عمه برسيا، واستقرّ في منطقة الصليخ، وبات بيته ندوة مفتوحة لمثقفي العراق وفنانيه وشعرائه، بينهم بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري والمعماري رفعت الجادرجي، والمسرحي يوسف العاني. يستذكر العاني تلك الأيّام بالقول إن «بيت محمود كان بيتًا ثانيًا لي، أنجزت فيه أحلى أعمالي الفنية من كتابة مسرحية إلى نقد سينمائي».

محمود صبري وزوجته برسيا في الخمسينيات في بغداد

في البداية، كان صبري يمارس الفنّ على سبيل الهواية، يقول المعماري العراقي رفعت الجادرجي، لكنه ومع الوقت شغف به، حتى بات الرسم يحل مكان الفعاليات الأخرى في حياته، قبل حياته الخاصة والعامة حتى، وكان يواصل «الرسم بلا انقطاع في الأمسيات، واستمر فيه إلى وقت متأخر من الليل حتى تنهك قواه» ما قاد لتطور تكنيكه.

وفي تلك الحقبة، بدأت أعمال صبري ومواقفه تؤثّر في زملائه من الفنانين، «من حيث يعلمون أو لا يعلمون، وأخذ يقودهم إلى قناة جديدة من فن يعكس حياة اجتماعية ذات واقعية معينة، بل ذات صبغة خاصة هي صبغة الثورة العمالية الفلاحية، كما يتصورها محمود نفسه»، يقول الجادرجي.[4]

تأثر محمود صبري في بداية حياته الفنية بعدد من الفنانين الأوروبيين، منهم الفنان أوسكار كوكوشكا، وبالتعبيرية الألمانية عمومًا. كما تأثر بالاتجاهات الفنية الأوروبية التي عكست أعمالها المعاناة التي عرفتها الفئات الاجتماعية الضعيفة جرّاء ما أصابها خلال الحرب، من فقر وجوع وبطالة.[5] تأثّر صبري أيضًا بالفنان المكسيكي اليساري دييغو ريفيرا «الذي جسد النزعة الأسطورية للفكر الشعبي عبر جداريات تمجد العمل والثورة»، كما تقول الناقدة العراقية فاطمة المحسن.[6]

في وقت مبكر من مسيرته الفنية (1953) كتب صبري مقالة يمكن القول إنها تكاد تكون غير مسبوقة في العراق عن «الأزمة الراهنة في الفن المعاصر»، حيث أرجع هذه الأزمة إلى ابتعاد الفن عن الجماهير، فاللوحة حسب تعبيره «ليست كوكبًا في السماء تتطلب منظارًا خاصًا لرؤيته، إنها نتاج اجتماعي». وهكذا فإن صبري، كما تقول الكاتبة فاطمة إسماعيل، كان شديد الالتزام بأمرين: كيف تقدم مواضيعه واقع الناس ونضالاتهم ضد الفقر والاستبداد، ثم ما يمكن أن يضيفه على هذه المواضيع من أساليب حديثة ومبتكرة».[7]

الفن في العراق: تيّاران رئيسان

خلال خمسينيات القرن الماضي هيمن على الحياة التشكيلية العراقية تياران رئيسيان، أولهما «جماعة بغداد للفن الحديث»، التي كان عرابها الفنان جواد سليم، وكان له موقف واضح ملخصه أن «الفن يجب أن يكون بعيدًا عن السياسة»، كما ينقل عنه رفعت الجادرجي، فهو «لا يرى ضيرًا في أن يكون للفن طابع عراقي شرط أن يبتعد عن الرسالة الاجتماعية وإلا أصبح سياسيًا، وفقد وظيفته الفنية وصار عبارة عن ممارسة سياسية». واستند بعض أفراد جماعة بغداد على جماليات الموروث الشعبي، ليبلور منها اتجاهًا فنيًا حديثًا، فيما ذهب بعض ممثلي هذه الجماعة إلى تصعيد الموروث الشعبي فنيًا إلى مستويات من التجريد «أفقدها تاريخها وأُلفتها، ما أبعدها عن الحياة والواقع»، حسبما يرى الفنان والباحث يحيى الشيخ.[8]

أمّا التيار الثاني فقد تمثل في «جماعة الرواد»، الذي عمل على تصوير البيئة العراقية والواقع الاجتماعي، باعتبارهما موضوعيْ الجمال الأكثر غنى في الحياة، حيث كان «الإنسان والحركة الاجتماعية» في مركز أعمال هذا التيار. وكان محمود صبري في قلب هذه الجماعة والمنظر الرئيسي للفن الذي أنتجه ممثلوها، حيث حياة الفقراء والمحرومين كانت حاضرة بقوة في أعماله، وبدلًا من الانكباب على رسم «الشناشيل»،[9] كما فعل عدد من جماعة بغداد للفن الحديث، أو الانشغال برسم المناظر الطبيعية أو البورتريهات أو الطبيعة الصامتة، كانت أعمال صبري وجماعة الرواد مليئة بالنماذج الشعبية الفقيرة.[10]

لوحة بعنوان «أم الشهيد» لمحمود صبري. تعتبر هذه اللوحة واحدة من أبرز أعماله في الخمسينيات

أعمال صبري المبكرة: بؤس الناس وثوراتهم

بين عامي 1950 و1962 أنجز محمود صبري مجموعة أعماله الأهم، والتي تعكس اتجاهه الفني «الواقعي التعبيري»، وهو الاتجاه الذي ترجم من خلاله فلسفته الفنية. يقول صبري عن نفسه في تلك المرحلة:

«لقد تطلعت في فني دائمًا نحو [إظهار] المتناقضات التي تكتنف مجتمعنا، مستهدفًا التعبير عن الثورة التي كانت تجيش في نفوس الأفراد، والتي كنت أحس بها شخصيًا. لقد كان الصراع صفة ملازمة لمجتمعنا، في كل شيء، في وجوه الجماهير الشعبية، وفي الأغاني الحزينة، وفي المزارع والسهول والصحارى، وفي الهواء والماء. لقد كان من المستحيل على الفرد أن يحس ببهجة الريف وغنائيته حتى في الربيع، لأن (..) بؤس الفلاحين كان يضفي على الريف تعاسة أزلية (..) وأنا كفنان ثوري لم آت بشيء جديد مطلقًا، لقد كنت مجرد مرآة عكست روح هذا المجتمع المناضل».[11]

بالفعل عكست أعماله المبكرة سنين الصراع الدامي الذي عرفه العراق، خلال عقد الخمسينيات، فصور حياة الفلاحين البائسة وانتفاضاتهم، والمظاهرات الشعبية في المدن وصدامها الدامي مع السلطات، كما هو حال أعماله: «دفن الشهيد»، «الشهيد»، «موت طفل». وقد طغت المأساة على أغلب لوحاته، كما في لوحة «أم وطفل»، «عائلة فلاح»، و«فتاة»، وجميع هذه الأعمال تعود لعام 1950. لكن، من ناحية أخرى، فإن أبطال لوحات محمود صبري كانوا يواجهون مصائرهم بصلابة، كما تظهر ذلك تعابير وجوههم ولغة أجسادهم.

لوحة بعنوان «جنازة شهيد» لمحمود صبري 75*120 سم. أنجزت اللوحة خلال الستينيات في براغ

وحظي موضوع «الشهداء» باهتمام خاص لدى محمود صبري، وقد استلهم لوحته «جنازة شهيد» من تشييع جنازة السجين السياسي نعمان محمد صالح في بغداد، عام 1951، واستغرق العمل عليها عدة سنوات.

لوحة بعنوان «جنازة نعمان صالح» لمحمود صبري، 80*90 سم. قتل نعمان صالح في الخمسينيات وجرى تشييعه بمظاهرة كبيرة

وإلى جانب الحضور القوي للواقع الاجتماعي السياسي العراقي في أعماله، عكست هذه الأعمال أيضًا اهتماماته بالأحداث والتطورات على الصعيد القومي، كما هو حال الثورة الجزائرية التي كرس لها أكثر من عمل فني، مثل «ملحمة الجزائر» والتي أعيدت تسميتها بـ«ثورة الجزائر»، وقد أثرت هذه اللوحة بجيل كامل من الفنانين العراقيين. وفي مراحل لاحقة تناول محمود صبري المجازر التي تعرضت لها المخيمات الفلسطينية في لبنان.[12] كما تفاعل مع الشعب التشيلي في محنته بعد انقلاب الجنرال بينوشيه على الرئيس التشيلي سلفادور أليندي عام 1973. وأنتج أعمالًا وتخطيطات فنية عدة عنها.

محمود صبري في مرسمه في بغداد، وتظهر خلفه لوحة «ملحمة الجزائر»

ثلاث سنوات في موسكو

في عام 1960 سافر محمود صبري إلى الاتحاد السوفيتي، للعمل على تنفيذ جدارية «وطني»، التي كان يأمل أن تحتل مكانًا ما في ساحات بغداد، بعد أن نفذ التخطيطات النهائية لها. وفي موسكو بدأ صبري بالتعرف على الأعمال الجدارية والأيقونات السوفياتية، والتحق «بمعهد سوريكوف للفنون»، حيث تركزت دراسته بصورة أساسية على رسم الجداريات.[13]

مأساة شباط 63- تخطيط

يقول عبدالله حبة، المترجم العراقي للأدب الروسي، والذي عايشه أثناء إقامته في العاصمة السوفيتية، إن صبري الذي لم يتلق مثل غيره من الفنانين الكبار دراسة أكاديمية للفنون، وجد المجال للتعويض عن هذا النقص من خلال عمله الدائب في معهد سوريكوف في موسكو، كما اكتسب الكثير من المهارة التقنية من أستاذه ألكسندر دينيكا، الذي كان أحد البارزين في رسم اللوحات الجدارية. ما مكنه من استكمال مشاريع اللوحات التي كان قد بدأها في بغداد.

تخطيط آخر لفهد مؤسس الحزب الشيوعي العراقي وسكرتيره الأول، وقد أعدم عام 1949.

عودة محمود صبري ناشطًا سياسيًا

أدى انقلاب شباط 1963، الذي قاده ضباط بعثيون، إلى قطع المسار الذي شقه صبري في المجال الفني والفكري، وأعاده دفعة واحدة إلى تصدر النشاط السياسي المناهض للانقلاب. ففي موسكو انضم صبري إلى الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، وعبد الوهاب البياتي وغائب طعمه فرمان وطيف واسع من مثقفي العراق، الذين قاموا بتشكيل لجنة للدفاع عن الشعب العراقي. منغمسًا في صياغة بيانات وبرقيات اللجنة المذكورة وتنظيم أعمالها.

بعد أشهر من الانقلاب عقدت لجان الدفاع عن الشعب العراقي، المنتشرة في مناطق مختلفة من العالم، مؤتمرًا لها في براغ، عاصمة تشيكوسلوفاكيا، حيث تقرر تشكيل «لجنة عليا للدفاع عن الشعب العراقي»، برئاسة الجواهري وسكرتارية محمود صبري. وهكذا اضطر صبري إلى مغادرة بيته وحياة الفنان والمثقف في موسكو، ليستقر في براغ، وليلعب دوره مناضلًا سياسيًا لسنوات عدة لاحقة.

ورغم أن هذا النشاط السياسي استهلك وقتًا طويلًا من حياته اليومية، إلا أنه لم ينقطع عن الرسم، ففي ستينيات ومطلع سبعينيات القرن الماضي أتم رسم عشر لوحات جدارية، كل منها بطول خمسة أمتار، وقد حملت اسم «وطني»، وقصد منها تجسيد ملاحم النضال الذي خاضه الشعب العراقي في تاريخه المعاصر. وكان يتطلع إلى وضع هذه الجداريات خلف جدارية جواد سليم الشهيرة، في ساحة التحرير، وسط بغداد. وقد عرضت هذه اللوحات الجدارية في عدة مدن أوروبية.

لوحة بعنوان «طفل مع أمه» لمحمود صبري. زيت على قماش 70*100 سم، 1962، موسكو

كما كرّس صبري وقته أيضًا لتخليد أصدقائه الشهداء من الحزب الشيوعي العراقي، في ألبوم فني من 12 لوحة، ضمت رسومًا لكل من فهد وسلام عادل ومحمد عبللي وجمال الحيدري وغيرهم من المناضلين الذين أعدموا في عام 1949، أو سقطوا قتلى جراء انقلاب شباط 1963.

من «الواقعية التعبيرية» إلى «واقعية الكم»

بعد مراجعات جذرية لمنطلقاته الفكرية والأيدولوجية، شملت نظرته للفن وعلاقته بالمجتمع، انتقل محمود صبري من الواقعية التعبيرية نحو تبني ما سيطلق عليه واقعية الكم.

الترجمة العربية لكتاب الفن والإنسان (1980)، دراسة في شكل جديد من الفن، واقعية الفن، وقد صدرت الطبعة الإنجليزية منه عام 1975

خلال النصف الثاني من الستينيات ومطلع السبعينيات، وهي السنوات التي شهدت القمع السوفياتي لـ«ربيع براغ»، عام 1968، حيث كان يعيش صبري، وظهور بدايات التفكك على المعسكر الاشتراكي، والانقسام الصيني السوڤياتي، وبروز النزعة الاستقلالية للأحزاب الشيوعية الأوروبية، كان صبري يحول اهتمامه نحو الجانب المعرفي من الفن. وفي هذا الصدد كتب إلى صديقه حمدي التكمجي:

«الفن لم يعد بالنسبة لي مسألة تعبيرية وتقنية (أعنى رسم صورة كتعبير وتمثيل لظواهر وأحداث، إلخ)، بل أصبح الفن بدرجة رئيسية يمثل في مضمونه وموضوعه، مضمون وموضوع الفلسفة والدين والعلم مجتمعة. أي تناول الوجود الإنساني -الاجتماعي- الطبيعي بكامله، ووفقًا للمعرفة الأكثر معاصرة أو حداثة. (..) توحيد هذه الميادين الثلاثة لا يمكن أن يتم بتجميع خارجي اعتباطي، بل ينبغي أن يكون توحيدًا من الداخل، وفقًا لمبدأ جوهري (..) مستمد من الطبيعة ذاتها التي هي المصدر النهائي لكل شيء، وبالتالي تكون له قوة القانون الطبيعي».

في الرسالة ذاتها يحيل صبري صديقه حمدي التكمجي إلى مراجعاته النقدية للماركسية، والتي نشرت في عدة مجلات يسارية. في هذه المراجعات اهتم محمود صبري باستبدال المفهوم المادي للتاريخ، والذي يقول بأولوية المادة على الفكر، بمفهوم جديد هو «تكافؤ المادة-الفكر».

انغمس محمود صبري أكثر فأكثر، في مقالاته ومحاضراته المنشورة خلال العقود الأخيرة من حياته بإيضاح «المبدأ الجوهري الطبيعي الذي يقوم عليه عمله، والذي يعتبر المجال الكهرومغناطيسي جوهر هذا الكون ونمط وجوده الأساسي».[14]

ما هي واقعية الكم (Quantum Realism)؟

في محاضرة له، ألقاها في معهد تاريخ الفن في براغ عام 1972 عرف محمود صبري «واقعية الكم» بأنها فن الإنسان العلمي، وكان وصف مذهبه الفني هذا في بيان عام 1971، بأنه «فن جديد لعصر جديد».

إحدى لوحات محمود صبري التي تعكس اتجاهه الجديد نحو «واقعية الكم»

يقول صبري إن واقعية الكم «شكل جديد من الفن يصوّر المستوى الجديد من الواقع الموضوعي، الذي كشف عنه العلم والتكنولوجيا الحديثان: الواقع الذري. إنها فن يستبدل النظرة والفكر الغيبي بآخر علمي، أو هي فن مجتمع يطلب من الفنان خيالًا متحررًا من الغيبية والسحر»، و«تتجاوز الواقعية التقليدية التي تفهم الطبيعة ككيان من الأشياء الجاهزة، بينما تنظر واقعية الكم إلى الطبيعة ككيان من العمليات».[15]

قدم محمود صبري مذهبه الفني الجديد من خلال معرض فني لأعماله، في براغ، أواخر العام 1971، وضمّ 120 لوحة، وأردفه ببيان يشرح نظريته الفنية الجديدة عن «واقعية الكم»، وقد شكل المعرض نقطة انعطاف حادة في مساره الفني والفكري.

وصف صبري معرضه بأنه «بحث أو تجربة»، ودعا زوار المعرض «إلى عدم النظر إليه كمعرض فني بالمعنى المألوف»، وأنه بالأحرى بحث أو تجربة تمزج بين مفهومين أساسيين لعصرنا هما المفهوم الذي عبر عنه إنجلز بقوله إن العالم كيان من العمليات وليس كيانًا من أشياء جاهزة. والمفهوم الذي بلورة آينشتاين في معادلته عن أن الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء. وهذا يعني أن الطاقة والكتلة شكلان من أشكال وجود المادة وأنهما لهذا، قابلان للتحول المتبادل».

يصف الصحفي العراقي مفيد الجزائري، والذي شهد افتتاح المعرض ورصد ردود الفعل عليه نقطة التحول الذي مثلها هذا المعرض بقوله: «منذ سنوات والفنان المفكر محمود صبري يبحث عن صيغة فنية، تشكيلية موضوعية جديدة تخرج فن الرسم بالذات من الحلقة المفرغة التي يدور فيها منذ حقبة غير قصيرة، تجدد شباب هذا الفن وتعيده للإنسان (..) وترفع الفن نفسه إلى عالم الإنسان الجديد، الواقف على أعتاب العصر التكنو- نووي». ويضيف الجزائري بأن محمود صبري «خرج من اعتكاف السنوات الست، الذي لا يماثله غير اعتكاف الرهبان في سالف العصور واعتكاف العلماء في عصرنا، ليخرج منه بمعرضه الحالي».[16]

غلاف كتاب «بيان واقعية الكم» باللغة العربية، براغ، 1971 

انقسم مشاهدو المعرض بين من رآه بعيون الإعجاب الممزوج بالدهشة وبين من شاهدوا المعرض بعيون الحيرة والرغبة في الفهم، كما يصف مفيد الجزائري.

محمود صبري يزور بغداد

في النصف الأول من عام 1973، استضافت بغداد المؤتمر الأول للاتحاد العام للفنانين التشكيليين العرب. وقد دعي محمود صبري للمشاركة في أعمال المؤتمر، حيث ألقى فيه محاضرة تحت عنوان «ملاحظة حول دور الفن في القضايا المصيرية». وكان النظام العراقي، قد عقد منذ مطلع السبعينيات مصالحات مع الحزب الشيوعي والأحزاب الكردية وغيرها من التشكيلات السياسية المعارضة. وتشكلت في حينها «الجبهة الوطنية التقدمية» كمظلة لهذه المصالحة.

ورغم أن وزير الثقافة العراقي حينذاك، شفيق الكمالي، استقبل الفنان محمود صبري واحتفى به، إلا أن الأخير لم يتلقَ عرضًا من النظام العراقي للاستقرار في بلده. فعاد إلى براغ، بعد أن التقى في بغداد بأصدقائه ورفاقه.

ساهم المناخ السياسي في عراق الأربعينيات في بلورة ميول محمود صبري السياسية، ولكن دراسته في إنجلترا، ورؤيته للبؤس والفجوات الطبقية التي خلفتها الحرب العالمية الثانية عمّقت هذه الميول.

على أن محمود صبري تأثر أكثر ما تأثر بالاستقبال الفاتر لأطروحاته الجديدة، وخاصة من قبل قادة وكوادر ومثقفي الحزب الشيوعي العراقي، الذين لم يستوعبوا هذا الانقلاب الفني الهائل عن أعماله التي تصوّر الواقع والناس ومعاناتهم، وانتقاله إلى أعمال قائمة على خطوط لونية وأشكال مجردة، مستمدة من معادلات علمية وتراكيب من وحدات الطاقة».[17]

واصل محمود صبري الدفاع عن «واقعية الكم» حتى وفاته عام 2012، من خلال العديد من الأبحاث والكتب التي أعدها باللغتين العربية والإنجليزية. وفي الوقت نفسه لم يتردد كتاب ومفكرو الجيل الجديد من الشيوعيين العراقيين، وكذلك الفنانون التشكيليون، في محاورة محمود صبري، لفهم مذهبه الفني الجديد، وللتوصل إلى قراءة أعماله الفنية التي تترجم فلسفته وأسلوبه التشكيلي الجديد.

على أن الاجتهاد الذي جاء به محمود صبري في طرحة لواقعية الكم لم يكن أمرًا جديدًا على عالم الفن التشكيلي. يقول رودولف خدربا، الباحث العلمي في معهد نظريات وتاريخ الفن التابع لأكاديمية العلوم التشيكوسلوفاكية، إن هذا النوع من الرسوم جاءت بها أولًا جماعة «دي ستيل» الهولندية في عام 1920، كما أن أسلوب صبري يذكر أيضًا بأسلوب أحد مؤسسي تلك الجماعة: تيوفان دوبسبرغ. لكن الأساس النظري لأعمال كل منهما مختلف تمامًا، فأعمال صبري ترتبط مباشرة باكتشافات علم الطبيعة، فيما كانت نظرية «دي ستيل» ترتبط بالتأملات الفلسفية التي تنقل إلى صورة عن طريق الحدس والتخمين.

ويلاحظ أن بذور نظريته «واقعية الكم» بدأت تظهر في ثنايا مقالاته المبكرة نسبيًا، قبل أن تتحول إلى موضوعه الأول والأثير في كتاباته الأخيرة.[18]

محمود صبري مفكرًا ومنظرًا يساريًا

تعود العديد من مصادر قوة محمود صبري كفنان إلى تمتعه مبكرًا بقدرات فكرية وثقافية فنية موسوعية، سمحت له باحتلال مواقع متقدمة في الحركة التشكيلية العراقية، إلى جانب كبار رواد التشكيل، مثل جواد سليم وفائق حسن وحافظ الدروبي.

كان محمود صبري ماركسيًا، وظّف معرفته بالفلسفة الماركسية في بناء معمار نظري متكامل حول علاقة الفن بالمجتمع. ورغم أن محيطه الاجتماعي والمناخ السياسي السائد في العراق، في أواخر الأربعينيات، كانا مسؤوليْن عن تبلور ميوله اليسارية مبكرًا، إلا أن دراسته في إنجلترا ومعرفته الجيدة باللغة الإنجليزية قد مكنته من مراقبة الأوضاع السائدة في أوروبا بُعيد الحرب العالمية الثانية، والتي عمقت الهوة بين الطبقات الاجتماعية وساهمت بانتشار البؤس والفقر والبطالة، ونمو الحركات السياسية العمالية واليسارية.

المكانة التي تحققت لمحمود صبري كواحد من الرواد التشكيليين تعود إلى قدراته الفكرية وقدرته على السجال دفاعًا عن معتقداته الاجتماعية والفنية، إلى جانب ريادته في التبشير بفن واقعي ثوري، وبفن يعكس هموم مجتمعه وبيئته السياسية.

ومن ناحية أخرى فقد أتاحت دراسته للعلوم الاجتماعية في بريطانيا، وباللغة الإنجليزية، فرصة تطوير قراءاته للماركسية عبر مراجع أوفر، ومن ثم التعمق في دراسة القضايا العلمية المعقدة، وهكذا، وبخلاف زملائه من الرواد، كان محمود صبري «قارئًا للفكر والفلسفة الغربية، ومطلعًا على النظريات العلمية، إضافة إلى شغفه بالفيزياء ومتابعة نظريات الفن وتاريخه، ما يسمح بوصفه بالمثقف الموسوعي»، كما تقول فاطمة المحسن.

ويمكن القول إن المكانة التي تحققت له مبكرًا كواحد من الرواد التشكيليين تعود إلى قدراته الفكرية وقدرته على السجال دفاعًا عن معتقداته الاجتماعية والفنية، هذا طبعًا إلى جانب ريادته في التبشير بفن واقعي ثوري، وبفن يعكس هموم مجتمعه وبيئته السياسية.

ومن الإرث الذي تركه صبري وراءه نصوص «الأزمة الراهنة في الفن المعاصر» في مجلة الثقافة الجديدة، 1953. وعن «مشكلة الرسم العراقي المعاصر»، في العام 1956، وعاد ليشير إلى ما أسماه «مشكلة الفنان العراقي» والعوامل التي تكيف وتوجه إنتاجه (1958). كما تناول مسألتي «التراث والمعاصرة في الفن» (1973) و«دور الفن في القضايا العربية المصيرية» (1973)، و«الدور الاجتماعي للفن» (1976).

تراجع الحلم الثوري

عند النظرة إلى سيرة محمود صبري، لا بد وأن يطرح سؤال حول أسباب وخلفيات تحوّله عن معتقداته الفكرية السابقة ونهجه الفني الذي حقق له مكانة مهمة في المشهد التشكيلي العراقي.

في تقديري، فإنه وبعكس سنوات الخمسينيات والستينيات التي كانت سنوات نهوض وتوثب لحركات التحرر في العالم الثالث، بما في ذلك العراق وبقية البلدان العربية، وكانت حافلة بالانتصارات والنجاحات التي حققتها شعوب آسيا وأفريقيا في كفاحها من أجل الاستقلال والتحرر والتقدم، فإن البيئة السياسية التي عاشها محمود صبري في منفاه، منذ منتصف الستينيات وما بعد، كانت تعمل على إطفاء جذوة التفاؤل التي قادته إلى إنجاز أعماله السابقة، أي الأعمال التي تمجد بطولة العمال والفلاحين والفقراء وتحيي ذكرى الشهداء السياسيين. وهكذا وجد أن ما بشّر به من فن واقعي ثوري قد استنفد أغراضه، وبات جزءًا من الماضي، شأنه شأن المدارس الفنية الأخرى.

كان العالم الاشتراكي الذي بمثابة الجدار الذي استند إليه صبري، والذي مدّه بذلك الشعور باليقينية والصواب، قد أخذ يتفسخ شيئًا فشيئًا أمام ناظريْه، كما أشرنا سابقًا، سواء بعد ربيع براغ أو مع الانقسام السوڤيتي الصيني.

وفي العالم العربي تراجعت موجات التحرر القومي بدل أن تترسخ، ففي العراق وسوريا تعاقبت الانقلابات العسكرية، وجاءت حرب 1967 بنتائجها المفجعة لتضع حدًا لصعود التيارات القومية، ولتفتح الباب، لاحقًا، أمام صعود الإسلام السياسي.

أخيرًا

رغم أن أعمال محمود صبري التشكيلية، المبنية على أطروحة «واقعية الكم»، لم تحظ بالقبول من قبل الأوساط الفنية والثقافية العراقية، وربما من الدائرة الأوسع للحركة التشكيلية، إلّا أن خوضه هذه التجربة لم يزعزع مكانته، كأحد رواد التشكيل العراقي ولا انتقص من دوره في بلورة اتجاه فني تميز بطابعه الاجتماعي وانحيازه للفقراء والكادحين والجموع المناضلة من أجل العدالة، كما عكست ذلك أعماله المنجزة في الخمسينيات والستينيات، بل إن طرحه لنظرية «واقعية الكم» ساهمت في تحريك «المياه الراكدة» في الفضاء التشكيلي، وأثارت نقاشًا واسعًا حول مستقبل الفن وعلاقته بالمجتمع في زمن الثورة الرقمية. ولقد نظر الكثير من الفنانين والنقاد إلى أطروحة محمود صبري باعتبارها اقتراحًا مفتوحًا للنقاش والتطوير، وإن بدت لأول وهلة بمثابة «قفزة فنية في المجهول» أو حتى «هروبًا للأمام»!

لطالما أثار العديد من الكتاب والنقاد التساؤل عما إذا كان محمود صبري فنانًا بالدرجة الأولى ومفكرًا بالدرجة الثانية، أم أنه على العكس كان مفكرًا أولًا وفنانًا ثانيًا، ورغم تضارب الآراء في هذا الأمر، فإن الأمر المؤكد هو أن محمود صبري قد بدأ فنانًا تشكيليًا بالدرجة الأولى، لكنه انتهى في الشطر الأخير من حياته مفكرًا، منشغلًا بمسألة «الوجود الإنساني- الاجتماعي- الطبيعي بكامله».[19] 

  • الهوامش

    لإنجاز هذا المقال، عدت بشكل كبير إلى كتاب الراحل الدكتور حمدي التكمجي، والذي حمل عنوان «محمود صبري حياته وفنه وفكره»، وهو كتاب يقع في 352 صفحة من القطع الكبير، وثق الكتاب 12 بحثًا ومقالًا لمحمود صبري في مجالات الفن والفكر والفلسفة، و34 مقالة حول الفنان وأعماله، بما فيها مقالات تناولت «واقعية الكم». كما ضمّ نصوص ومقتطفات رسائل الفنان محمود صبري إلى التكمجي. وأغتنم هذه الفرصة لتحية جهود التكمجي الذي قام بجمع وتوثيق كل هذه المادة الثمينة في مجلد ضخم، صدر مباشرة بعد وفاة الفنان محمود صبري، عن مطبعة دار الأديب، عمان- الأردن.

    يذكر أن حمدي التكمجي حاصل على شهادة الدكتوراه في الهندسة الميكانيكية، وكان مثل محمود صبري، قريبًا من الحزب الشيوعي العراقي وصديقًا للعديد من قادته. وقد قضى العقود الأخيرة من حياته في العاصمة الأردنية، وتوفي فيها يوم 17 حزيران 2020.

    [1] يحيى الشيخ، «محمود صبري وحكمة الفقراء (1975) في حمدي التكمجي (إعداد وتقديم)، محمود صبري… حياته وفنه وفكره. دار الأديب، عمان، الأردن، الطبعة الأولى 2013.

    [2] المصدر السابق، مقدمة معد الكتاب، (ص12).

    [3] لم تستمر المجلة حينذاك طويلًا، إذ صدرت منها أعداد قليلة.

    [4] المصدر السابق، (ص 161)

    [5] انظر/ي مقالة عبد الباسط النقاش، في المصدر السابق، (ص 162)

    [6] انظر/ي فاطمة المحسن، صحيفة الرياض، العدد 16012، الصادر في 28 نيسان/ أبريل 2012.

    [7] المصدر السابق.

    [8] انظر/ي مقالة يحيى الشيخ، في كتاب محمود صبري حياته وفنه وفكره، (ص 155)

    [9] الشناشيل هي الواجهات المعمارية للبيوت البغدادية الثرية، وقد اشتهر يهود العراق ببناء واجهات بيوتهم على هذا الطراز في العمارة في مختلف مناطقهم. والشناشيل مبنية من الخشب والزجاج، فيما تبنى بقية المنازل بالآجر، المعرف باسم الطابوق. وبالنظر إلى تآكل هذه المباني فقد تحولت الشناشيل في أزقة بغداد القديمة إلى رمز للهوية الجمالية للعمارة التقليدية، حيث أكثر الرسامون من رسمها.

    [10] يحيى الشيخ، المصدر نفسه، (ص155).

    [11] يحيى الشيخ، المصدر نفسه، (ص 156)

    [12] أنجز محمود صبري تخطيطات وأعمال فنية لكل من تل الزعتر، ولصبرا وشاتيلا.

    [13] انظر/ي عبدالله حبه، في «محمود صبري حياته وفنه وفكره». مصدر سابق، (ص 187)

    [14] انظر/ي مقتطفًا من رسالة محمود صبري إلى حمدي التكمجي (نيسان 2002) في المصدر السابق نفسه. (ص 27)

    [15] انظر/ي بيان واقعية الكم (1971). في حمدي التكمجي، مصدر سابق، (ص 40/ 44)

    [16] انظر/ي مفيد الجزائري، مصدر سابق، (ص 212/ 213)

    [17] أشار محمود صبري بمرارة في عدة رسائل إلى حمدي التكمجي إلى الاستقبال الفاتر لطروحاته أثناء زيارته لبغداد عام 1973.

    [18] لمح محمود صبري إلى مذهبه الفني الجديد في: «ملاحظة حول دور الفن في القضايا العربية المعاصرة»، 1973. والنص منشور في كتاب حمدي التكمجي، مصدر سابق، (ص 48/ 49).

    [19] هذا ما قاله الفنان محمود صبري عن نفسه في رسالته إلى حمدي التكمجي. في نيسان 2002، المشار إليها آنفًا، (ص 27).

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية