عبدالكريم غرايبة

سيرة عبد الكريم غرايبة: المؤرخ مقترحًا تاريخًا بديلًا

تصميم توفيق الضاوي.

سيرة عبد الكريم غرايبة: المؤرخ مقترحًا تاريخًا بديلًا

الأربعاء 04 كانون الثاني 2023

احتجّ الناس شماليّ الأردنّ على الانتداب البريطاني والحكومات الأردنيّة خلال عقديْ العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، للمطالبة بإلغاء عدة معاهدات انتقصت من سيادة البلاد مثل المعاهدة البريطانية الأردنية، وامتياز شركة بنحاس روتنبرغ الصهيونية لاستغلال مياه نهريْ الأردن واليرموك لتوليد الكهرباء، وخط نفط بغداد-حيفا.

ومع اندلاع الثورة الفلسطينية عام 1936 هاجمت المعارضةُ مؤسساتِ الانتداب والمقار الحكوميّة؛ أُلقيت القنابل على دار الحكومة في إربد وجرش، وقُطعت أسلاك البرق والهاتف، وفُجرّت خطوط النفط. لاحقت الحكومة شخصيّات المعارضة، وضعت بعضهم في إقامات جبرية وسجنت البعض الآخر، فيما فرّ البقيّة بشكل جماعي إلى دمشق، وكان بين الفارين محمود الخالد غرايبة الذي ترك خلفه ابنه البكر عبد الكريم ذي الـ13 عامًا.[1]

استقبلت دمشق المعارضين الفارين من قمع الحكومة الأردنيّة مثلما استقبلت إربد من قبل معارضين للانتداب من دمشق وبغداد.

شكّل هذا المشهد السياسيّ العامّ الوعي الأوّل للطفل عبد الكريم، بالإضافة إلى حمله إرثًا معنويًا آخر، إذ سميّ عبد الكريم تيمنًا بعبد الكريم الخطابي، أحد قياديي الثورة المغربية ضد الاستعمارين الإسباني والفرنسي. لذا، ولأكثر من ثلاثة أرباع قرن عاشها بعد تلك الأيّام وصار خلالها مؤرخًا، سيبقى وعيه محافظًا على صورته الأولى، فلم يكتب تاريخ دولة بعينها إذ لم يعرف هذه الحدود من قبل، وأطلق في كتبه على المنطقة نفس المسميّات التي أطلقها أسلافه عليها مثل: بلاد الشام، والجزيرة العربية، والمغرب العربي.

«نهتم بالشعوب لا بالسلاطين»

دخل غرايبة الجامعة الأمريكية في بيروت لدراسة الطبّ، لكنه ترك التخصص بسبب مرض أصابه في فترة الامتحانات للسنة الأولى، ثم تحوّل إلى دراسة التاريخ بعد أن أغرته أسماء مجموعة المفكرين والمؤرخين في القسم، وكان بينهم قوميّان هما قسطنطين زريق ونبيه أمين فارس، وآخرون مثل جبرائيل جبّور وأنيس فريحة و أنيس المقدسي.[2] من بين هؤلاء المدرسيّن هالته مقدرة زريق على تأويل الأحداث التاريخية العربيّة بأسلوب جديد، فتغيّرت نظرته لما يدور حوله إلى رؤية ناقدة، وشمل النقد أمير الأردن عبدالله الأوّل.[3]

تخرّج غرايبة من الجامعة الأمريكية وتوجه إلى جامعة لندن عام 1947 لإكمال دراسته العليا مبعوثًا من قبل وزارة التربية، وهناك تناول في رسالته للدكتوراه نوعًا من الشركات الإنجليزية العاملة في الشام خلال القرن الثامن عشر التي كانت سائدة بعد تقلص أهمية النقابات. ناقش الرسالة عام 1950، وكان من أوائل من اعتمد في كتابة جزءٍ من تاريخ المنطقة على الوثائق العثمانية ومراسلات التجّار المحفوظة في المتحف البريطاني.[4]

خلال فترة دراسته في لندن درّسه المستشرق الإنجليزي برنارد لويس، والتقى على طاولة عشاءات مساءات السبت أجاثا كريستي عن طريق زوجها ومدّرسه ماكس مالوان، وأخيرًا صادف أن التقى الملك عبد الله الأوّل إبان زيارته الرسمية إلى لندن صيف 1949، سأله الملك يومها بنوع من الامتحان: من هو السلطان العثماني الرابع عشر؟ فأجابه غرايبة، وهو -كما يقول- لا يقصد الإساءة: «في دراستنا نهتم بالشعوب لا بالسلاطين».[5]

عاد إلى الأردن أواخر العام 1950، والتزم بالعمل سنتين موظفًا في دائرة الآثار العامّة ثم مديرًا لها بالوكالة خلفًا لمفتش الآثار الإنجليزي لانكستر هاردنج، وخلال الأيّام الأولى له في الوظيفة سمع في الأخبار عن عثور عرب التعامرة على مخطوطات البحر الميت، وأن البعثات والسفارات الأجنبية تتنافس على شرائها بمبلغ 15 ألف دينار، فحصل على المبلغ من حكومة توفيق أبو الهدى وأخذ معه شاحنة صغيرة وعددًا من رجال الشرطة وتوجه إلى القدس، واستطاع الحصول على جزء منها والعودة به إلى عمّان. لعدّة أيّام حاول غرايبة حرق المخطوطات لكن محاولاته لم تنجح، وأفصح بعدها أنه كان سيحرقها لتكون كأنها غير موجودة، لأنه أراد أن يُنهي أي وجود لليهود في المنطقة، بل ذهب أبعد من ذلك حين صرّح في مرة من المرات أنه لو كان يمتلك السلطة لجرف جبل نيبّو عن بكرة أبيه ومحاه من الوجود.[6] هكذا، قرر غرايبة إيداع المخطوطات التي حصل عليها في متحف فلسطين للآثار في القدس، وترك دائرة الآثار بعدها بأشهر، متوجهًا إلى الشام للعمل مدرسًا في جامعة دمشق، واعتُبر فاقدًا لوظيفته.

عاد عام 1955 إلى الأردن للعمل في قسم التشريع والرأي في ديوان الموظفين (الخدمة المدنية حاليًا) إرضاءً لعائلته التي أرادته قريبًا منها، لكنه لم يكمل العام بسبب خلافات مع مدرائه، وانتقاداته لقائد الجيش البريطاني كلوب باشا. وكانت قد وصلت رسالة من السفارة السورية تفيد أن جامعة دمشق تطلب إعارته للعمل مدرسًا فيها، لكن الديوان أجاب على هذا الطلب فورًا ونسّب بأن لا مانع من استقالته، وأقر مجلس الوزراء هذا التنسيب، وهو ما اعتبره غرايبة مهينًا فغادر الأردن مرة أخرى إلى دمشق.[7]

كانت حياة غرايبة في الأردن خلال هذه الفترة عبارة عن محاولات غير مجدية لتلبية حلم العائلة في أن يبقى في وظيفةٍ حكوميّة وأن يتزوج فتاة من أسرة عمّانية للوصول إلى منصب رفيع في الحكومة، لكن طباعه وقناعاته عملت بخلاف هذا المسار.

مع الوحدة العربية ولد غرايبة المؤرخ

أمضى غرايبة الفترة بين عامي 1953 و1961 مدرسًا لمساق تاريخ العرب الحديث في جامعة دمشق. تقوم طريقة تدريسه للطلبة -كما يتذكّرها المؤرخ الأردني علي محافظة حين كان طالبًا عنده تلك السنوات- على عرض معلومات جديدة و فريدة وغريبة لم ينتبه لها المؤرخون، ومصدرها قصاصات من الصحف البريطانية وملاحظات كتبها بخط يده نقلًا عن وثائق أصلية يحملها في حقيبته اليدوية على الدوام، لتبدأ بعدها النقاشات المفتوحة معهم.

اختلف غرايبة مع طلبته الأردنيين في الجامعة في موضوعات مثل فهم دوافع ودور الثورة العربية الكبرى، واختلف كذلك من زملائه وطلبته البعثيين في فهم علاقة العرب بالأتراك، وهي أفكار قريبةٌ من أفكار الرئيس المصري جمال عبد الناصر، حيث كان معجبًا بشخصيته ويرى فيه زعيمًا غير عاديّ، خاصةً بعد قيام الوحدة العربيّة بين سوريا ومصر عام 1958. وقد واجه غرايبة انتقادات بعض البعثيين والأحزاب السورية للوحدة بموقف ثابت مفاده أن هذه الوحدة يجب التمسّك بها وعدم التخلي عنها بأي شكل من الأشكال، ومن يعمل بخلاف ذلك يرتكب «خيانة»، كما يقول محافظة لـ«حبر».

بعض قصاصات الورق التي كان يدون عليها عبد الكريم غرايبة بعض المعلومات. المصدر: أرشيف مكتبة الجامعة الأردنية.

يمكن عدّ السنوات الثلاث الأخيرة من فترة وجوده في دمشق فترة ولادة غرايبة المؤرخ، إذ كتب خمسة مؤلفات لم يتناول فيها تاريخ دولة عربية بعينها، ولم يؤرخ للأردنّ إلا كجزء من تاريخ بلاد الشام، باعتباره دولة داخلية لا تستطيع أن تنفصل عن جوارها، ولم يتناول التاريخ العربيّ كاملًا ولفترات طويلة، إنما ركّز على فترات مفصليّة فيه.[8]

يمكن الإشارة إلى كتابين كعلامات فارقة بين مؤلفاته لهذه الفترة، ويمكن من خلالهما كذلك قراءة آراءه السياسيّة وتوجهه في كتابة التاريخ، وهما كتاب «العرب والأتراك: دراسة لتطوّر العلاقة بين الأمتين خلال ألف سنة» الذي كتبه بهدف تصحيح تصورات أهل بلاد الشام عن علاقة العرب بالأتراك. إذ كان التصوّر -الذي لاحظه عند طلبته وزملائه في الجامعة- منقسمًا بين من يعتبر علاقة العرب بالأتراك علاقة عداوة تقليدية أو علاقة صداقةٍ تقليدية، ولاحظ أن تقييم التصوّرين عن هذه العلاقة ينطلق من فترة الأربعمائة سنة التي حكمت فيها الدولة العثمانية بلاد الشام. فيما كان غرايبة يرى أن هذه العلاقة أعمق من ذلك بكثير، وتمتد لأكثر من ألف سنة، ولا يمكن فهمها من باب الصداقة أو العداوة فقط.

ستخرج فكرة هذا الكتاب على الأرض لاحقًا وتساهم في إعادة فهم هذه العلاقة لدى الكثير من الباحثين الأردنيين والعرب، وستشمل كذلك علاقة العرب بالإيرانيين فيما بعد.

أما الكتاب الآخر فهو «تطور مفهوم النضال العربي ضد الاستعمار» الذي قدّم فيه -كمؤرخ- فهمًا عميقًا للحدث التاريخي في فترة نضال العرب ضد الاستعمار، وكان متأثرًا في هذا الكتاب بأفكار منظّرين في القومية العربية، مثل ساطع الحصري في كتابه «العروبة أولًا 1955» الذي يعتبره غرايبة «أحسن من كتب عن القومية العربية تاريخيًا»،[9] وميشيل عفلق في مقاله «في مسألة وحدة النضال العربي».[10] انتبه غرايبة في هذا الكتاب إلى التوزيع الطبقي للمشاركين في هذا النضال، بين أعيان ومثقفين وشعوب، وانتبه كذلك إلى اختلاف تجربة نضال عرب آسيا عن عرب إفريقيا.

بالإضافة إلى ذلك، مثّل هذا الكتاب الاتجاه الآخر لكتابة التاريخ في الأردن في تناول جزء منه دوافع ومصير الثورة العربية الكبرى، فقد كان فهمًا آخر لاتجاه رواية السلطة التي مثلّها سليمان الموسى في كتابه «تاريخ الأردن في القرن العشرين 1900-1959» الذي صدر سنة 1959، أي في نفس العام الذي صدر فيه كتاب غرايبة هذا.

المؤرخ علي محافظة متحدثًا عن معلمه في دمشق عبد الكريم غرايبة.

مع انتهاء تجربة الوحدة العربية بين مصر وسوريا في أيلول 1961 توقف غرايبة عن نشر الكتب، وظل كذلك لأكثر من عشر سنوات، وكأنّ مسألة الوحدة العربيّة التي طالما شغلته وآمن بها رافعته للكتابة، أصابه الإحباط على المستوى العام تلك الفترة، كما يصفه محافظة، وتحوّل إلى شخص يعبر عن الإحباط بالتنكيت والسخرية.

أعلن غرايبة لعائلته عن نيّته العودة والاستقرار في الأردن، ولم يرغب في العمل كموظف حكوميّ، لذا أعلن أنه سيعمل بالزراعة في قطعة أرض للأب في بلدة الكريمة بالأغوار الشماليّة كما يقول شقيقه فيصل غرايبة لحبر: «ما كان بده وظيفة حكومية، بده [يشتغل] أكاديمي، وما فيش جامعة هون». وحين تأسست الجامعة الأردنية عام 1962 التحق بها مدرسًا في قسم التاريخ.

المؤرخ في طريقة جديدة للكتابة

عارض بعض المسؤولين في البداية تعيين غرايبة في الجامعة الأردنية بسبب ماضيه في تقديم الاستقالات من الوظائف الحكومية التي شغلها سابقًا، بالإضافة إلى اعتباره شخصًا مشاكسًا ومصدر بلبلة، كما يقول شقيقه فيصل. لكن شخصيّة غرايبة مع عمله في الجامعة اختلفت عمّا كانت عليه فترة عمله في ديوان التشريع ودائرة الآثار خمسينيات القرن الماضي، إذ خفّت نبرة نقده للسلطة بالمقارنة مع الفترة السابقة.

ظلّ غرايبة مع استقلاليّة الجامعة عن الحكومة كفضاء أكاديمي إذ احتجّ على تعيين بعض المدرسين في قسم التاريخ مثلما حصل لمحافظة الذي جاء إلى القسم منتدبًا من وزارة الخارجية، باعتباره شخصًا جاء من قبل الحكومة وقريبًا من السلطة، بالإضافة إلى ذلك رفض طلبًا من شخصيّات حكوميّة لكتابة بعض أحداث تاريخ الأردن من وجهة نظر السلطة كما ألمح لشقيقه.

غرايبة مع أول رئيس للجامعة الأردنية ناصر الدين الأسد. المصدر: أرشيف علي محافظة.

تأكّدت صورة غرايبة لدى طلبته وزملائه في الجامعة كمؤرخٍ خارجٍ عن التصنيف المتعارف عليه، إذ كانت كتابة تاريخ الأردن سابقًا لا تلتزم بالقواعد الأكاديمية، فبعض الكتابات خلطت كتابة التاريخ بالأدب مثل كتابات روكس العزيزي وعيسى الناعوري كما تقول المؤرخة هند أبو الشعر. بالإضافة إلى ذلك كانت بعض الكتابات التي كتبها مؤرخون مثل سليمان الموسى تسرد الأحداث من وجهة نظر السلطة.

في بداية السبعينيات، اقترح غرايبة فكرتين لمشروعين ساهما في بروز كتابات جديدة لتاريخ الأردن وبلاد الشام لاحقًا، وهما تأسيس مؤتمر تاريخ بلاد الشام، ومركز الوثائق والمخطوطات في الجامعة الأردنيّة.

اقترح غرايبة فكرة المؤتمر ليكون انطلاقةً لإعادة كتابة تاريخ بلاد الشام من منظور علمي حديث ومن خارج القراءات السائدة للأحداث، وأمّن تمويله من القطاع الخاص في البداية، دُعي المؤرخون للمشاركة بأبحاثهم فيه بصفتهم الشخصيّة، ولم يدع ممثلون عن دول.

فيما شكّل مركز الوثائق والمخطوطات بالجامعة الأردنية القاعدة التي اعتمدها الباحثون مصدرًا لدراسة تاريخ بلاد الشام في العهد العثماني، إذ حوى المركز آلاف الوثائق ومصوّرات عنها أخذت من السجلات العثمانية في إسطنبول وأنقرة، وفرّها المؤرخ الأردني محمد عدنان البخيت الذي سيكون له الدور الأكبر في إدارة المركز وتوسيعه لاحقًا.

في الثمانينيات والتسعينيات برزت مجموعة باحثين أردنيين تأثّروا بطريقة غرايبة في نظرته للأحداث التاريخية التي تعتمد على الشكّ فيها ومن ثم تحليلها وتفكيكها، لإفساح المجال لسرديّات تاريخية بديلة، واعتمدت هذه المجموعة على وثائق المركز لكتابة تاريخٍ اجتماعي واقتصاديّ للأردن، وكان منهم: هند أبو الشعر، وعليان الجالودي، ومحمد الطراونة، وجورج طريف، ونوفان الحمود السوارية.

تقول أبو الشعر عن غرايبة لحبر: «لا أعتقد أن من الحكمة تصنيفه تحت أي مسمى أو مدرسة، لقد كان له فكره الخاص الذي لا يندرج تحت تصنيفات متعارف عليها، أعرف عنه كرهه للاستعمار، وحكم الغرباء، مهما كانوا، ولذلك لم تكن كتابة التاريخ عنده ترتبط بالسلطة أي سلطة كانت، سواء أكانت محلية أم غريبة عن الشعب».

غرايبة الثاني من اليمين مع مجموعة أساتذة لمناقشة رسالة لأحد طلبة الدكتوراه العراقيين في الجامعة الأردنية وبينهم علي محافظة. المصدر: أرشيف علي محافظة.

حتى عام 1980 لم ينشر غرايبة إلّا كتابًا واحدًا[11] وخلال فترة التوقف هذه توسّع فهمه لدور المؤرخ وطريقة كتابة الأحداث التاريخية وتأويلها، وتجلّى له ذلك عندما اندلعت الحرب الإيرانية العراقية سنة 1980، حيث وقف في حيرةٍ وعذاب ضمير وهو يرى كمؤرخ كيف اجترّ الجاران المسلمان التاريخ ليطلقا أسماء إسلامية وتاريخية على الحرب بينهما مثل بدر والقادسية وكربلاء.

وعندما نشر كتابه «تاريخ العرب الحديث» سنة 1984، لمّح في مقدمته إلى خطورة عمل المؤرخ في تغذية الحروب بالأحقاد التاريخية، وشعر أنه مسؤول جزئيًا على الأقل عن انتشار هذه الأحقاد، حينها طرح تساؤله على نفسه كمورخٍ: «هل أحمل مع غيري وزر تنمية الغرور وبناء أسوار الكراهية بين الشعوب؟ وهل ما كتبته وأكتبه سيساهم في بناء أسوار من الكراهية؟».[12]

هكذا أنهى غرايبة بهذا الكتاب طريقته في كتاباته الأولى في دمشق، واتخذ نهجًا جديدًا من الكتابة تحاول اقتراح حلول مستلهمة من التاريخ للمسألة العربية، فنشر كتاب «الأردن ثغرًا ورباطًا» عام 1991، مقترحًا فيه توطين العرب والمسلمين على طول الحدود الأردنية مع فلسطين وإقامة نظام الثغور على هذه الحدود جريًا على عادة العرب في حروبهم مع البيزنطيين، وفرض الجهاد ودعم الأردن كبلدٍ يضم المجاهدين (المثاغرين) من قبل منظمة عربية وإسلامية.

ونشر بحثه «نظرة تاريخية في حاضرنا: حديث المفاوضات وتخفيف الخُلطة» سنة 2011، الذي استلهم فيه من فتاوى فقهاء القرويين في المغرب العربي قبل قرنين سلاح مقاطعة العدوّ (تخفيف الخلطة معه) مقترحًا مقاطعة الغرب اقتصاديًا ووقف سياحتهم وبعثاتهم الآثارية في البلاد العربيّة، ومفاوضتهم بنفس طويل لكن شرط أن يشعر العدو أن مصالحه الاقتصادية معرضة للخطر.[13]

شكلًا، في كتبه الأخيرة مثل كتاب «نحن وأمريكا» 2008، صارت طريقة تأليفه كما يصفها الباحث المهدي عيد الرواضية «تقوم على التنقل السريع بين موضوعات مختلفة وأحداث متنوعة وأزمان متباعدة، حتى ليظن القارئ أن ليس ثمة ترابط بينها، غير أن فهم كنه الأخبار ومدلولاتها البعيدة تجعل مقالته وحدةً واحدة تتدافع فيها زبدة القول وتنصب إلى حيث الغاية وإيصالها للقارئ دون التصريح بذلك».[14]

في سنواته الأخيرة ترك غرايبة الجامعة الأردنيّة، ودخل مجلس الأعيان وغادره، اتصل بملوك الأردن ورؤساء وزراء مختلفين، وخلال حياته لم يفلح أحدٌ في تغيير قناعاته السياسية والفكرية، رغم أن نقده قد خفّ في سنواته الأخيرة، إذ ظلّ عنيدًا كما يصفه محافظة.

غادر غرايبة الحياة سنة 2014، وبقيت بعض كتبه مفقودة أو غير منشورة أو غير مترجمة مثل رسالته في الدكتوراه عن التجار الإنجليز في سوريا، وكتاب الأردن ثغرًا ورباطًا الذي أصدره مركز الرأي للدراسات ولا يملك نسخة منه، وكتاب «تطور مفهوم النضال ضد الاستعمار» المفقود كذلك، وقد أشار في مقابلة معه إلى وجود رواية له بعنوان: قصة انقلاب عسكري، لكن يصعب العثور عليها. كما يحتوي أرشيفه الموجود في جامعة العلوم الإسلامية أقراصًا ممغنطة عن مشاريع كان تمنّى أن ينجزها في حياته مثل كتابة التاريخ للأطفال.

قد تكون بعض أفكار غرايبة التي نشرها آخر سنواته خيالية وغير قابلة للتطبيق على أرض الواقع، لكن العزاء فيها يكمن في أنها خرجت من شخص ظلّ يفهم تاريخ المنطقة كما وعيه لأوّل مرة، دون استعمار وحدود مصطنعة، ودون أحقاد، إنما كتاريخ مشترك لشعوب المنطقة.

  • الهوامش

    [1] عصام محمد السعدي، الحركة الوطنية الأردنية (1921-1946) أزمنة، 2011، ص 296.

    [2] عبد الكريم غرايبة «د. عبد الكريم غرايبة. رحلة عمر» إعداد وتحرير سحر ملص، دار البيروني للنشر والتوزيع ط 3، 2015 ص 40.

    [3] عبد الكريم غرايبة، كتاب: عبد الكريم غرايبة مؤرخًا عربيًا، عبد المجيد شنّاق، منشورات الجامعة الإسلامية، عمّان، 2014 ص 113.

    [4] جورج فريد طريف، الأستاذ الدكتور عبد الكريم غرايبة: المعلّم والإنسان، مجلة أفكار عدد (305) حزيران 2014، ص 86.

    [5] عبد الكريم غرايبة، مقدّمة كتاب «عرب الماء والإنسان»، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2006، ص 18.

    [6] عبدالله العسّاف، الشيخ المعلّم عبد الكريم غرايبة «صورة من قرب»، مجلة أفكار، عدد (305)، ص 92 و 93

    [7] اعتمدت مقابلة عبد الكريم غرايبة التي أجراها عبد المجيد الشناق والمنشورة في كتاب: عبد الكريم غرايبة مؤرخًا عربيًا الصادر عن منشورات الجامعة الإسلامية في عمّان 2014 مصدرًا لمعلوماته الشخصيّة لهذه الفترة بالإضافة إلى كتاب «د. عبد الكريم غرايبة. رحلة عمر» إعداد وتحرير سحر ملص، دار البيروني للنشر والتوزيع، ط 3، 2015.

    [8] وهي: تطور مفهوم النضال العربي ضد الاستعمار 1959، مقدمة تاريخ العرب الحديث 1500-1918: العراق والجزيرة العربية 1960. دراسات في إفريقيا العربية في القرن العشرين(1918-1958) 1960، العرب والأتراك في التاريخ 1961، سورية في القرن التاسع عشر (1840-1876)، 1962.

    [9] عبد الكريم غرايبة، كتاب«عبد الكريم غرايبة مؤرخًا عربيًا» عبد المجيد الشناق، منشورات جامعة العلوم الإسلامية، 2014، ص 61.

    [10] مثل مقال الوحدة ثورة تاريخية 1958، وهو مقال ضمن كتاب الكتابات السياسية الكاملة: في سبيل البعث، ج، 1 ص 267.

    [11] الكتاب هو«قيام الدولة السعودية العربية» 1974، تناول فيه قيام الدولة السعودية بمراحلها الثلاث وعلاقتها بقبائل العراق وبلاد الشام والحجاز، والدولة العثمانية، وهو نتيجة عمله لعدة أشهر مدرسًا في جامعة الرياض.

    [12] عبد الكريم غرايبة، مقدمة كتاب تاريخ العرب الحديث، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت 1984، ص 9.

    [13] عبد الكريم غرايبة، نظرة تاريخية في حاضرنا: حديث المفاوضات وتخفيف الخُلطة ضمن كتاب، عبد الكريم غرايبة مؤرخًا عربيًا، عبد عبد المجيد الشناق، منشورات جامعة العلوم الإسلامية، 2014، ص 200 و 201.

    [14] المهدي عيد الرواضية، فكر الشيخ المعلم «محاولة للفهم»، مجلة أفكار، عدد(305)، حزيران 2014، ص 111.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية