منى السعودي

«ابنة الأرض»: عن حياة وفن منى السعودي

منى السعودي في مرسمها، بيروت.

«ابنة الأرض»: عن حياة وفن منى السعودي

الأحد 10 نيسان 2022

لفت الرحيل المحزن للفنانة الأردنية منى السعودي الشهر الماضي الانتباه إلى شح الأعمال النقدية أو التأريخية لفنها، باستثناء الكتاب الاستعادي «منى السعودي: أربعون عامًا في النحت»، والذي يرسل إشارات تحذير لأي مؤرخ فن كونه مكتوب ومنشور من قبل الفنانة ذاتها. يتكون الكتاب من سيرة ذاتية قصيرة تشكّل مركز ثقل الكتاب، بعنوان «أحيا لأنحت، وأنحت لأحيا»، كتبتها منى بضمير المتكلم، إضافة إلى كمية من الصور لها ولأعمالها، تتخللها مراجعات صحفية لمعارضها كانت قد صدرت في جرائد ومجلات بالعربية والإنكليزية والفرنسية، تعزف جميعها على وتر المديح والإعجاب. قد تبدو إذًا أي محاولة لاستعادة مسيرة الفنانة محكومة بإعادة تدوير ذلك النص بطريقة أو بأخرى (وهو ما قامت به أغلب المقالات النعائية، بل حتى الفنانة ذاتها في مقابلاتها)، لكن وبانتظار عمل بحثيّ معمق في حياة منى وفنها، قد يكون الحل هو القبول بالانطلاق من ذلك النص، بشرط مقارنته بعدد من المرجعيات التاريخية والفنية الأخرى وبأعمال الفنانة ذاتها.

ولدت منى في عمان عام 1945، من أم شامية وأب حجازي كانا قد هاجرا من دمشق إلى عمان نهاية القرن التاسع عشر. في سيرتها ومقابلتها العديدة، وصفت منى عائلتها كعائلة شامية تقليدية ومتدينة، باستثناء بعض إخوتها، خاصة أخوها الكبير فتحي، الذي كان المسؤول الأول عن فتح آفاقها على ثقافة أقل تقليديةً «قرأ لي «نبي» جبران خليل جبران، أخبرني عن احتلال فلسطين، وحكى لي قصة جلجامش».[1] توفي فتحي شابًا في عام 1956 عندما كانت منى بعمر العاشرة، تاركًا إياها في مساومة دائمة بين والديها وبدائل أكثر انفتاحًا بحثت عنها في كتابات أدباء حداثيين، مثل ت.س. إليوت وأدونيس، أو خارجًا في المدينة التي كانت آنذاك أقرب إلى قرية «صغيرة محددة الأبعاد ثقافيًا»[2] كما وصفتها.

هكذا عملت منى لبضعة أشهر في مرسم الفنان مهنا الدرة، أحد رواد الفن الحديث في الأردن، والذي كان قد عاد إلى العاصمة بعد إنهاء دراسته في روما عام 1958 (مما يجعلها هي بعمر الـ13 أو 14 آنذاك)، كما تذكر رؤيتها لأعمال الفنان الفلسطيني كمال بلاطة في عمان، والذي كان يأتي في الصيف من مكان دراسته، أيضًا في روما، «لعرض رسومه في المراكز الثقافية الأجنبية في عمان». لكن التصوير الزيتي لم يستهوها، بل استعادت لقاءها الأول بالنحت وسط الخرائب الأثرية لوسط عمان: «أول ما عرفت منها المنحوتات المبعثرة في ساحة المدرج الروماني في عمان، وكان ملعب طفولتنا. أما بيتنا، فكان جزءًا من الموقع الأثري المسمى «سبيل الحوريات»، الذي كان يشكل بأعمدته المنقوشة وأقواسه وينابيعه ساحة بيتنا الأمامية. لقد عشت طفولتي في مكان أسطوريّ، بين هذه الحجارة المنحوتة مسحورة بجمالها وديمومتها». تتذكر منى بتعابير مماثلة الطريق الذي قطعته يوميًا سيرًا على الأقدام نحو مدرستها «زين الشرف»: «تجولت طويلًا عبر الهضاب المحيطة بعمان، حيث كانت دارنا محاطة بآثار قديمة تعود لألفيات إلى عصر العمونيين، الأدوميين والأنباط، الذين كانوا جميعًا من نحاتي الصخور. شعرت ولا زلت أشعر أنني أنتمي إلى ذلك السلف، وإلى أمي الأرض».[3] 

يجب التعامل مع تلك الذكريات بشيء من الحذر، فالعمونيون والأنباط لم يتركوا أي آثار مرئية للعوام وسط عمان، بينما لم يستوطن الأدوميون أصلًا تلك المنطقة من بلاد الشام. والأغلب هو أن ذكريات منى الأولى تردد أصداء سرديات هوياتية تشربتها لاحقًا في الحقيقة. ربما لنفس السبب تُرجع الفنانة «أول وعي لها بالمأساة الفلسطينية» إلى زيارتها مع أمها لإخوانها المسجونين «لأسباب سياسية»، وذلك قبل أشهر، بحسبها، من نزوح عمتها وعائلتها من غزة إلى عمان عام 1948، أحداث تمت جميعها عندما لم تتجاوز هي الثلاثة أعوام. من الطبيعي أن يعم شيء من الغباش والإسقاطات اللاحقة هذا النوع من الشهادات، والتي لا تعطي إحداثيات تاريخية دقيقة بقدر ما تدل على الطريقة التي شكلت بها منى لاحقًا علاقتها بالتاريخ، علاقة يمكن اختزالها بثلاثة انتماءات ستشكل مركز فنها: انتماء إلى المشهد الثقافي المحلي، انتماء إلى القضية الفلسطينية، وانتماء إلى الطبيعة المشرقية والثقافة المتوسطية بحضاراتها القديمة.

«تجولت طويلًا عبر الهضاب المحيطة بعمان، حيث كانت دارنا محاطة بآثار قديمة تعود لألفيات إلى عصر العمونيين، الأدوميين والأنباط، الذين كانوا جميعًا من نحاتي الصخور. شعرت ولا زلت أشعر أنني أنتمي إلى ذلك السلف، وإلى أمي الأرض».

ترافق بلوغ منى مع إدراكها للمحددات المفروضة على النساء في وسطها الاجتماعي، وصار من الواضح أن رغبتها بالعمل في الفن لن تجد أدنى شرعية في عائلة لم يكن مسموح فيها للنساء بالذهاب إلى الجامعة أصلًا أو حتى العمل بأي شيء غير التدريس في المدارس، حسبما تروي. هكذا، لم تتأخر منى في إنهاء فترة المساومة بقطيعة مدوية عام 1963، حين هربت من منزل أبيها بعمر الـ17 في تكسي قادها نحو بيروت. بعد إكمالها دراستها الثانوية في المدرسة الوطنية الداخلية في عاليه، اندمجت في مختلف الأوساط الثقافية اللبنانية، فعاشت لقائها الأول مع النحت الحديث بزيارتها لقرية راشانا، مقر النحات ميشال بصبوص وعائلته، الذين حولوا القرية إلى متحف تماثيل مفتوح. كما يجدر بالذكر أيضًا أن بيروت آنذاك كانت مركزًا لعدد من الفنانات، منهن اللبنانية سلوى روضة شقير، والعراقية معزز روضة، التي تركت بغداد في العشرينات. عملت الاثنتان بالنحت، أقل الوسائط الفنية «أنثوية» آنذاك مقارنة بالرسم أو التطريز، بل وكانتا من رواد النحت الحديث في العالم العربي، بأعمال يطرح تشابهها (خصوصًا منحوتات معزز روضة) مع أعمال منى السؤال حول مدى وطبيعة التأثيرات المتبادلة بينهنّ.

أما الأثر الأكبر في تكوين منى الفكري، فربما جاء من علاقتها بمجلة «شعر» البيروتية، التي نشرت فيها وعاشرت كتابها يوسف الخال وأنسي الحاج، وخصوصًا أدونيس، الذي كان أيضًا قد هرب إلى بيروت بحثًا عن انفتاح لم ينجح بالعثور عليه في سورية. تميزت المجلة بميول فردانية وليبرالية، وبتباعدها المدروس عن التراث العربي الإسلامي، مقابل سرديات أسطورية عن مشرق ما قبل توحيدي موروث من أدبيات الحزب القومي السوري الاجتماعي، ومقابل أزليات مثل البحر والأرض والإنسان.[4] غالبًا ما رأت منى في تلك الميول مرآة لتجربتها المرّة مع انغلاق عائلتها، دافعةً إياها للحديث عن ذاتها بكلمات تذكر بأسلوب أدونيس: «كان لدي شعور عميق بأنني ابنة الأرض، لذا لم يمسسني التدين ولا التقاليد، كنت أنمو في حلم آخر، غامض وبعيد».

في عام 1963، نجحت منى في إقامة معرضها الأول في «مقهى الصحافة» الذي احتل الطابق الأرضي من مبنى جريدة النهار وشكل نقطة تجمع لمثقفي منطقة الحمراء. ساعدت مبيعات المعرض على جمع تكاليف السفر إلى باريس، حيث حلمت منى منذ سنوات بمتابعة دراستها. وبالفعل، وجدت الفنانة ذاتها عام 1964 على متن باخرة قادتها طوال سبعة أيام باتجاه الشواطئ الفرنسية. وبمجرد وصولها إلى العاصمة، ساعدها صديقها الفنان اللبناني حليم جرادق على تدبير أوضاعها والدخول إلى المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة، والتي كان قد تخرج منها منذ وقت قريب. بعد سنة قضتها كطالبة مستمعة، دخلت منى رسميًا صف النحات الفرنسي رينيه كولاماريني، وتذكر في سيرتها كونها الطالبة العربية الوحيدة في صف وصفته كـ«أممية من النحاتين» بتنوع جنسياته، ولو أن المصادر تشير إلى تزامن وجودها مع اللبناني ألفريد بصبوص (أخو ميشال)، الذي درس أيضًا في صف كولاماريني بداية الستينات.[5] 

أخذت منى عن كولاماريني حبّه للكتل المستديرة والمنحنية التي ارتبطت تاريخيًا -وخصوصًا في أعماله- بالجسد الأنثوي. لكن الأهم كان تبنيها لتقنية أستاذها في «الحفر المباشر»، أي الانطلاق من كتلة صخرية وحيدة والعمل نحو الشكل المطلوب بالاستئصال التدريجي، دون أي إضافات. عاشت تلك التقنية ذروتها في القرن التاسع عشر، بينما واظبت منى على العمل بها حتى الألفينات، بعد انقراضها شبه الكامل في الغرب، غير آبهة بوفرة التقنيات الجديدة التي ظهرت منذ بداية القرن العشرين، من تركيبات متعددة الوسائط أو مواد صناعية بلاستيكية أو قماشية أو أنواع التجهيزات المعاصرة. حافظت منى كذلك على باقي معطيات النحت الحداثي الأكاديمي، من تجنب إضافة الألوان ووضع التمثال على قاعدة وعلى كتلة موحدة ورصينة منغلقة على ذاتها، فكانت بذلك مثالًا على حداثة متأخرة تشبه حداثة إيتيل عدنان.

ساعدت باريس منى في تغذية شغفها بالحضارات المتوسطية القديمة: «كان يكفي أن أعبر الجسر إلى الضفة الأخرى لأصل إلى متحف اللوفر، حيث تسكن التماثيل العظيمة. هناك اكتشفت فنون حضاراتنا القديمة التي شعرت بانتماء عميق إليها، سحرتني المنحوتات السومرية والمصرية والأنصاب النبطية المنقوشة بالكتابات، رأس الملك «غوديا» مهندس مملكة سومر (..) أحببت المنحوتات الإتروسكية، والمرحلة اليونانية القديمة ومنحوتات سكان جزر المحيطات البعيدة». باكتشافها هذا، كانت منى، وبوعي كامل، تسير على خطا الفنانين الحداثيين لبداية القرن العشرين، من أمثال بيكاسو وبرانكوزي وزادكين (الذي قابلته عام 1967، سنة وفاته). اكتشف أولئك أيضًا في اللوفر وغيره من المتاحف الباريسية (والمعارض الاستعمارية) تركات حضارات «ما قبل كلاسيكية» كانت السبب الأول في نجاحهم بالخروج من القرن التاسع عشر وهوسه بالتصوير الحرفي للأشياء نحو ممارسات أكثر تجريدية.[6] 

من ذلك التقاطع ما بين تقنيات أستاذها المحافظة، وحداثة مدرسة باريس والتراثوية المتوسطية، ولدت أعمال منى الأولى مثل «أم/ أرض» (1965)، أو «العشاق» (تحية إلى برانكوزي) (1968-1972) المستوحى مباشرة من تمثال غالبًا ما رأته في باريس للنحات الروماني-الفرنسي. تعبر تلك الأعمال عن مرحلة منى الأولى التي ستدوم خلال فترة الستينيات والسبعينيات، والتي تتميز تماثيلها بسطوح مصقولة وبوضعيات بشرية تجريدية ورصينة، غالبًا ما تضمنت شكلًا دائريًا أو أكثر تلتف حوله تكوينات أكثر استطالة.

منى السعودي، «أم/ أرض»، 1965، المصدر.

سمح موقع منى كعربية في باريس بأن تعيش صدمتين مدويتين، هما نكسة حزيران عام 1967 وأحداث أيار عام 1968، التي عايشتها الفنانة في مهدها في «الحي اللاتيني»، فشاركت في إنتاج الملصقات وخرجت في المظاهرات الطلابية. بين عام 1967 الذي أدى إلى ولادة المقاومة الفلسطينية المسلحة وعام 1968 الذي جمّع طاقات اليسار الستيناتي حول العالم في مواجهة الحكومات المحافظة وسياساتها الإمبريالية، عاشت منى وفنها تسييسًا غير مسبوقًا، وقررت في خريف عام 1968 أن تعود إلى الأردن لتعمل عدة أشهر في مخيم البقعة حديث الإنشاء، والذي كان لا يزال آنذاك تجمعًا من الخيام. عملت منى هناك مع أطفالٍ تراوحت أعمارهم بين خمسة أعوام و14 عامًا، أعطتهم أوراقًا وألوانًا مشجعةً إياهم على رسم تجاربهم يومًا بعد يوم. في كتابها «شهادة الأطفال في زمن الحرب»، نشرت منى مجموعة من تلك الرسومات المذهلة برفقة نصوص كتبها آلاف الأطفال وصور توثيقية لهم وللمخيم بعدسة هاني جوهرية، مؤسس قسم السينما والتصوير في حركة فتح، والذي سيستشهد بعد ذلك ببضعة أعوام. في المقدمة تتذكر منى المناخ العنيف لحياة المخيم وازدراء الأطفال لها في البداية: «نحن لسنا للفرجة، روحوا اتفرجوا على شيء آخر».[7] 

صورة من كتاب «شهادة الأطفال في زمن الحرب»، 1970.

كان مطلع السبعينيات هذا وقتًا مشحونًا بالأحداث في حياة منى. ففي عام 1969، تناقلت الصحافة العربية خبر اعتقالها في كوبنهاجن أثناء التحضير لمعرض لها بتهمة محاولة اغتيال بن غوريون، وكانت بحسب حوار معها نشرته مجلة «الحسناء» تعمل بالفعل مع الجبهة الشعبية آنذاك، دون أن تتوافر الكثير من التفاصيل عن الحادثة أو خلفيتها. الأكيد هو أن منى عادت إلى لبنان بعدها هربًا من «ركود» الحياة الفنية والثقافية في الأردن بحسب قولها. في بيروت، عملت إلى جانب أدونيس في تحرير مجلة «مواقف»، كما نشرت كتابها «شهادة الأطفال في زمن الحرب» وديوانها الشعري «رؤيا أولى»، اللذين صدرا عام 1970. في العام ذاته، عادت الفنانة إلى باريس لتحصّل شهادة الماجستير من مدرسة الفنون الجميلة، متذكرةً اختيار إحدى منحوتاتها الرخامية للمشاركة في «صالون أيار» لعام 1972 في متحف الفن الحديث، ولو أن قوائم المشاركين المنشورة في كاتالوج ذلك المعرض لا تظهر أي ذكر لها أو لعملها.[8]

أمضت منى أول سنوات الحرب في بيروت و«غرقت أكثر فأكثر في النحت». تزوجت من الصحافي الفلسطيني حسن البطل، وبدأت أعمالها أواخر السبعينيات تدخل مرحلة جديدة فقدت فيها استقامتها البشرية لصالح تكوينات تكاد تكون جيولوجية، بخطوط غالبًا ما تسير بالتوازي مع تشققات الحجر، وحركات أكثر لولبية وتلميحات متزايدة إلى عناصر طبيعية كالبذور أو الشمس والقمر. ترافق ذلك باستمرار النفحة الأسطورية المشرقية التي غالبًا ما عززها نمو عالمي للأفكار النسوية «الأمومية»، التي بهرت بالأساطير الوثنية القديمة وبأساطير الخصب والأنوثة ما قبل التوحيدية (اهتمام عرف نظيرًا تأريخيًا في المنطقة ربما وصل ذروته مع صدور كتاب «لغز عشتار» لفراس السواح عام 1985).

اتخذت غالبية تماثيل منى عناوين مثل «أمومة»، «رحم»، «خصب»، وعاشت الفنانة بالتوازي مع ذلك تجربة قصيرة مع «الحروفية» وهو تيار فني قام من خلاله فنانون عرب آنذاك بالمزج بين الأحرف العربية وأسس الفن الحداثي الأوروبي، كما فعلت في عمليها «تنويعات على حرف النون» (1981) القابع في مبنى السفارة الفرنسية في عمان، و«شجرة النون» (1983)، حيث استخدمت الحرف كوحدة جمالية تجريدية بحتة. إضافة إلى ذلك، ساهمت منى أثناء إقامتها البيروتية الثانية هذه بمجموعة رسمات لأغلفة مجلة «شؤون فلسطينية» ولملصقات مختلفة لمنظمة التحرير والاتحاد العام للنساء الفلسطينيات، أعمال جرى توثيقها من قبل أرشيف ملصق فلسطين.

منى السعودي مع تمثالها «تنويعات على حرف النون»، 1981، رخام، ارتفاع 220 سم.

بعد اجتياح بيروت، عادت منى وابنتها ضياء إلى عمان عام 1983، وحاولت إنشاء مركز نحت يكون مكان إقامتها وعملها وملتقى إبداعيًا وثقافيًا ومعرضًا دائمًا لأعمالها في ذات الوقت:

«وجدت موقعًا جميلًا على طرف المدينة، في قرية عبدون، وكانت ما تزال خاوية من العمران، ما عدا بعض بيوت الفلاحين وخيام الرعيان. أقمت مبنى شاركت بهندسته وتصميمه ومن ثم بنائه حجرًا حجرًا في أرض فسيحة محاطة بأشجار صنوبر معمرة، في وسطها شجرة خروب. ما زلت أسمع صدى غناء الرعيان الأسطوري يتردد عبر التلال، وأرى حقول سنابل القمح الذهبية تتماوج مع النسيم، ولا شك أن المنطقة كانت مسكونة في العصور القديمة. بقايا الفخار تتناثر في كل الاتجاهات، بقايا أعمدة وقطع أثرية أيضًا. أخبرتني فلاحة تزرع التبغ عن بقايا منحوتات تحت البيوت القديمة».

منى السعودي، «يوم الأرض»، 1977، ملصق من إصدار قسم الفنون التشكيلية، الإعلام الموحد، منظمة التحرير الفلسطينية. المصدر.

ترافقت تلك الفترة بمجموعة تكليفات لأعمال صرحية في الفضاء العام، نفذت منها ثلاث منحوتات جرانيتية بطلب من بنك البترا، وضعت اثنتان منهما مقابل مبنى البنك (بنك القاهرة اليوم)، إضافة إلى «هندسة الروح» (1987) التي عرضت في باحة معهد العالم العربي في باريس، والنافورة المقابلة للمسجد الحسيني وسط عمان، التي صممتها بالتعاون مع المعماري وضاح العابدي. لكن وبعد سنوات من استقرارها في عبدون، اضطرت منى لترك المشروع «لإشكالات مادية واجتماعية»، وعادت عام 1995 بشكل نهائي إلى بيروت، لتجد بيتها في حي الوردية بحديقته وتماثيله متضررًا جراء القذائف. في سنوات نشاطها الأخيرة، أوائل الألفينات، درّست منى النحت في الجامعة الأميركية ودخلت أعمالها مرحلتها الثالثة والأخيرة، فأصبحت أكثر تسطحًا، بل بعضها أقرب لصفائح رقيقة ثنائية الأبعاد، مع ازدياد الخطوط المستقيمة والتكوينات المتناظرة كما في «بوابة الحياة» (2004).

منحوتات منى السعودي أمام بنك القاهرة عمان. تصوير مؤمن ملكاوي.

في العامين الأخيرين، صارعت الفنانة السرطان، قبل وفاتها الشهر الماضي ودفنها في مقبرة آل السعودي الخاصة في سحاب، تاركةً كمية مذهلة من الأعمال، وبيتًا لا تزال علامات الاستفهام تحيط بمصيره وبإمكانية تحويله يومًا ما إلى متحف يشهد على مسيرتها التي، وكما صار واضحًا بعد ذلك العرض الطويل، تتجاوز شخص منى السعودي وأعمالها، لتبلور قرنًا كاملًا من الحراك الفكري في بلاد الشام والعالم العربي.

نافورة المسجد الحسيني في وسط عمان من تنفيذ منى السعودي. تصوير مؤمن ملكاوي.

  • الهوامش

    [1] كل الاقتباسات، إن لم يذكر العكس، مأخوذة من سيرة الفنانة الذاتية المنشورة في «منى السعودي: أربعون عامًا في النحت»، بيروت، منى السعودي، 2006.

    [2] «النحّاتة منى السعودي: اقتصر عمري على صداقة الحجر لأنه سفر إلى اللامرئي وجسد للشعر (حوار استعادي)»، ثقافات.

    [3] «Mona Saudi Creates Poetry in Stone», interview by Jyoti Kalsi.

    [4] Robyn CreswellCity of Beginnings: Poetic Modernism in Beirut, Princeton/Oxford: Princeton University Press, 2019.

    [5] « Alfred Basbous, ou quand la matière se fait chair », L’Orient-le jour,‎ 17 septembre 2010.

    [6] Hal Foster, «The ‘Primitive’ Unconscious of Modern Art»October, vol. 34, Autumn 1985, p. 45-70.

    [7] منى السعودي، «شهادات الأطفال في زمن الحرب»، بيروت، منشورات «مواقف» بالتعاون مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، 1970.

    [8] Salon de mai 1972 : 28e salon, Salles New York. Paris. Du 4 mai au 4 juin 1972, Paris, Salon de mai, 1972.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية