من عبد الناصر إلى بليغ حمدي: شخصيات تبحث عن مؤلف

الخميس 02 شباط 2023
شخصيات روائية
تصميم محمد شحادة.

في المسرحية الشهيرة «ست شخصيات تبحث عن مؤلف» للإيطالي لويجي بيراندلو، يقتحم ستة أشخاص بروفة لإحدى المسرحيات ويعرّفون أنفسهم إلى المخرج بصفتهم شخصيات مسرحية، ويرجونه أن يعرضوا عليه حكايتهم التي بالتأكيد ستناسب أحد عروضه، إلا أن الطرفين، المخرج من ناحية والشخصيات من ناحية أخرى، يختلفان في وجهات النظر، الأول يريد أن يَحبِك مسرحيته بشكل درامي منضبط، يخدع به الجمهور ويوهمه، بينما تريد الشخصيات أن تُعرَض قصتها كما حدثت وعاشتها بالضبط، دون تغيير أي كلمة أو تفصيلة، مما يدفع المخرج للاشتباك مع الأب، أكبر الشخصيات، في حوار لا يخلو من الفلسفة والنظرة العميقة لفكرة «الحقيقة»، بينما يحاول كل منهما إثبات صحة رأيه.

أعتقد أن صراعًا داخليًا مشابهًا يدور داخل عقل الكاتب عندما يتصدى لقصة تاريخية ويشرع في خطها كرواية، يدور هذا النقاش داخله بين الشخصية الحقيقية التي تدافع عن ضرورة سرد تاريخها بدقة وبين المخرج –أو في حالتنا الروائي- الذي يميل إلى التخييل والتلاعب بالأحداث.

راجت في السنوات الأخيرة الروايات العربية التي تتناول سير بعض الشخصيات المعروفة، أو ظلالها، عبد الناصر ويوسف إدريس وبليغ حمدي ونجيب سرور ومي زيادة وكفافيس ومحمود سعيد وابن سينا وابن الهيثم. لكن ما السبب وراء هذا الانفتاح المفاجئ على ذلك اللون الأدبي، هل ثمة حنين إلى الماضي مدفوع بغضب من الحاضر وقسوته؟ هل هي لعبة روائية للكتابة عن الواقع دون الإشارة له هربًا من أعين الرقابة وقبضة رجال السلطة؟ هل يختار الكتاب قناعًا لهم أم أقنعة مضادة؟ أم هو مزيج متفاوت من كل ما سبق؟

«1970»: التاريخ مهمّشًا الروائي

رغم تنوع الفترات التاريخية التي تتلصص عليها تلك الروايات، إلا أن حضورًا واضحًا للفترة الممتدة من الخمسينيات وحتى السبعينيات يظل ملحوظًا. ففي عام 2020 صدرت رواية «1970» للكاتب الكبير صنع الله إبراهيم، والتي يستعرض فيها مذكرات العام الأخير من حكم عبد الناصر، لاجئًا إلى صيغته الروائية الأثيرة، الكولاج بين الحكي والتوثيق، حيث يعرض عناوين الصحف ومانشيتاتها ومزيج من الأخبار الفنية والإعلانات، ليرسم صورة كاملةً لمصر في هذا العام الفاصل، مستحضرًا بصمته الخاصة في تحويل رواياته إلى مرآة لعصر ومكان معينين. ولكنني أعتقد أنه أفرط هذه المرة في مساحة التوثيق حتى طغت على الرواية، كأن يذكر قوائم بأسماء الشهداء الذين فقدوا حيواتهم في الحروب ضد العدو الإسرائيلي، وكأنه اختار تأدية دور المؤرخ حتى لو أزعج ذلك الروائي الذي هو أصل وجوده.

أمّا الجزء الآخر القائم على السرد والحكي وربما التحليل فكُتب بصيغة المخاطب، وكأنه يحاكم عبد الناصر ويحاسبه على أفعاله. لوهلة تصورّت أن عبد الناصر هو الراوي والمروي عنه في آن واحد، أي أن عبد الناصر يحاكم نفسه، يواجهها بشفافية في نهاية المطاف، إلا أنني تبينت مع مرور الصفحات أن الراوي هو الكاتب نفسه، الذي أوقف عبد الناصر أمامه، وأشار إليه بسبابته موجهًا إليه تحليلاته ونقده وثناءه أيضًا. يعود الراوي في أكثر من (فلاش باك) ليستعرض محطات ومقتطفات متفرقة ودالة من حياة عبد الناصر، ولا يلبث أن يتسلل إلى ضميره ويواجهه بالأشياء التي دارت في خلده وداخل صدره.

لا توجد صيغة محددة وصارمة للحد بين الحقيقة والخيال، فهذا أمر لا يحسمه إلا الروائي ونظرته وضميره، الذي لا بدّ أن ينبهه أن هذه شخصيات حقيقية في نهاية الأمر، كانت تملأ الدنيا صخبًا في يوم ما

فكّر صنع الله في الأمر لأول مرة عندما كان في موسكو، يدرس في معهد السينما، قال لصديقه المخرج السوري محمد ملص إن عبد الناصر شخصية درامية من الدرجة الأولى، ومن الممكن أن يُكتب أو يُجسد في أفلام سينمائية. ظلت الفكرة حاضرة في ذهنه على مر السنين، لكنه كان يشعر أن وقتها لم يحن بعد، فبات يجمع كل ما يخص ناصر ويحتفظ به، حتى أصبحت لديه مادة وثائقية، استخدمها في الرواية عندما بدت له الرؤية مختمرة في عقله.

ترتكز رواية 1970 بشكل شبه كامل على الوقائع التاريخية وكتب السير الذاتية والمذكرات طبقًا لرؤية وانتقاء صنع الله، دون اللجوء إلى التخييل إلا قليلًا، فيبدو الكتاب واقعًا في مساحة بين الرواية وبين كتب التاريخ، حيث يقدم صنع الله من خلال روايته رؤيةً مركبةً وقراءةً تحليلية لشخصية ناصر دون أن يقع في فخيْ الشيطنة والتقديس، إلى أن نصل إلى الفصل الأخير، فتبدو نظرته أكثر وضوحًا، حيث يبدأ بجملة «فقدنا عبد الناصر، انهد الركن الذي كانت الأمة العربية تلوذ به» وينتهي الفصل، وكذلك الرواية، بجملة قاسية «خذلت نفسك وخذلتنا ثم ذهبت، وذهبت معك مقدرات الأمة وآمالها… إلى حين».[1]

«الزوجة المكسيكية»: تعدد الأصوات الروائية والأزمنة

قبل رواية 1970 بعامين، صدرت رواية «الزوجة المكسيكية» للكاتب إيمان يحيى، والتي تدور جلّ أحداثها في الخمسينيات، حيث تقوم الرواية على المزج بين قصتين متقاطعتين في زمنين مختلفين. يتمثل الخط الأول في علاقة تجمع بين أستاذ أدب عربيّ وطالبته الأجنبية سامانثا، حيث يدعوها لكتابة بحث عن أدب يوسف إدريس. تولي الطالبة رواية «البيضاء» اهتمامًا خاصًا وتكتشف في أثناء بحثها زيجة غير مشهورة ليوسف إدريس من فتاة مكسيكية اسمها روث ريفييرا. ومن هنا ينتقل صوت الراوي إلى زمن بعيد ويستعيد صوت إدريس نفسه تارة، وصوت روث تارة أخرى، ثم يعود إلى الأستاذ المعاصر، وهكذا في رحلة من تعدد الأصوات وتعدد الأزمنة.

بدا الخط الأساسي الخاص بيوسف إدريس وروث جاذبًا، سواءً لكشفه عن صورة واسعة بانورامية للقاهرة في الخمسينيات، سياسيًا واجتماعيًا، أو لمحاولته تتبع مسار رواية (البيضاء) وكتابة نص على نص طبقًا لوصف جابر عصفور. غير أن قصة الأستاذ وسامانثا، القصة المعاصرة الموازية، لم تمثل في رأيي إضافة حقيقية لمتن الرواية ورؤيتها، بل أثقلتها بقصة تعلّق تقليدية بين مصري وأجنبية، عقد الكاتب عبرها مقارنةً سياسية بين عصرين، كما أراد أن يطلعنا من خلالها على رحلة البحث عن زيجة يوسف إدريس المجهولة، مشيرًا إلى مصادره وتطور بحثه، حتى تفاصيل البحث على جوجل وتضارب المعلومات بين المصادر المختلفة، كل شيء مذكور بشكل مفصّل، وكأن الكاتب لم يستطع كبح جماح الباحث داخله لصالح الروائي عندما كان الأمر يحتاج لذلك. والسؤال هنا هل كان هذا التفنيد ضروريًا، أو على الأقل هل كان يستحق هذه المساحة الروائية الواسعة؟

يستهل إيمان يحيي فصول روايته بفقرات من رواية البيضاء التي نشرها إدريس في نهاية الخمسينيات وأثارت ضجة واسعة في حينها لما تحمله من انتقادات للحركة الشيوعية التي انتسب إليها إدريس سابقًا، كما أن الرواية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بعلاقته بروث. يعلق الراوي/ الأستاذ الجامعي على رواية البيضاء قائلًا: «أحسب أن هذه الرواية عجيبة وفريدة، الخيال فيها واقع حقيقي والواقع فيها غارق في الخيال، ينمحي الحد الفاصل بينهما، فلا تعود تعرف أيهما هذا وأيهما ذاك».

كذلك حاول إيمان يحيى أن يقوم بعمل مماثل فمزج ما وصل إليه بحثه عن الزيجة المجهولة بالأحداث السياسية آنذاك، ثم خلطهما ببعض أحداث رواية البيضاء، ليبعث شخوصها من جديد، وعلى رأسهم يحيي طه، الذي استخدم اسمه بدلًا من اسم يوسف إدريس نفسه ليلعب الكاتب معنا لعبة مزج الخيال بالواقع، وينتج رواية تحمل بعضًا من حقيقة حياة يوسف إدريس وبعضًا من خيال إدريس نفسه، ولكن لم يكن الحد الفاصل ممحوًا تمامًا، فمن المتاح للقارئ أن يتبين الفارق بين الواقعي الذي دأب الروائي على ذكر مصادره، وبين الخيالي المبني على رواية إدريس أو المستلهم منها.

«سرور» و«بليغ»: عندما تضيع حدود الخيال

ليست «الزوجة المكسيكية» الرواية العربية الوحيدة التي تتبعت أسلوب تعدد الرواة واختلاف الأزمنة عند التعرض لسيرة علم معروف، فقد انتهج طلال فيصل الأسلوب ذاته من قبل في روايتيه «سرور» (2013) و«بليغ» (2016). ورغم أن اللعبة ذات أصل واحد في الروايات الثلاثة، إلا أن الخط الروائي المعاصر عند طلال بدا أكثر روائية من نظيره في «الزوجة المكسيكية»، كما أنه مد أحبال لعبته إلى أقصى مدى، وسمّى بطلي الروايتين في الجزء المعاصر منهما باسمه نفسه، طلال فيصل. غير أن العارف بشخصية الروائي الحقيقية سيدرك أن هاتين الشخصيتين ليستا هو تمامًا، وليستا منفصلتين عنه أيضًا، كما ثمة مزجٌ بين الحقيقي والمتخيل في السيرة شبه الذاتية التي يرويها لنا، أو ربما لا يعرف هو نفسه أين يقع الخط الفاصل ويظن أن بعضًا مما نسجه خياله قد حدث فعلًا. وإذا كان الأمر كذلك فيما يخص شخصه هو نفسه، فما بالك بما يفعله مع نجيب سرور وبليغ حمدي، اللذين تدور حولهما الروايتان؟

يجيب الكاتب على شيء من سؤالنا هذا في رواية «بليغ» عندما يقول الراوي: «حتى لو سلمنا أن هناك شيئًا ما ينبغي أن أسعى إليه بحثًا في سيرة الرجل، لن تعدو كونها مجرد آراء لأصحابها، ذكريات أو ذكريات للذكريات، كيف نمسك شيئًا ما ونقول بيقين هذا هو بليغ، وهذا ما يريد قوله. لدينا الإنترنت، لدينا الخيال، وهو أقوى من المعرفة، ثم لدينا العقل والذي هو أهم من كل ذلك».

يستهل الكاتب الروايتين ببيت شعر واحد لأبي العلاء المعري، «لا تظلموا الموتى وإن طال المدى، إني أخاف عليكمو أن تلتقوا»، وكأن الكاتب يُذكّر نفسه بألا يتمادى في خياله الروائي إلى حد يظلم أو يضر شخصياته، إلا أننى أعتقد أن طلال وقع في الفخ في روايته «سرور» عندما قرر أن يصوّر الأمر كله، الحقيقي منه والمتخيل، على أنه واقعي جدًا دون ترك مساحة للشك، وكأن كل شيء في متن الرواية هو نتاج مجهود بحثي لا خيال فيه، وصولًا إلى ذكر وثائق ومصادر مختلقة واعتبار ذلك جزءًا من اللعبة الروائية. فمثلًا يتوسط الرواية فصل بعنوان «نجيب محفوظ*» حيث تشير هذه النجمة فوق اسم محفوظ لهامش في أسفل الصفحة ينص على أن هذا الفصل نشر في مجلة الإذاعة والتليفزيون «عن شخصية تبدو قريبة تمامًا من نجيب سرور، والعجيب أن نجيب محفوظ لم يضم هذا النص إلى رواية «المرايا» عندما نشرت في كتاب فيما بعد».

هذا الهامش يغلق دائرة الإيهام ويجعل للأمر صورةً حقيقية جدًا، موثقة ومؤرخة، رغم أن هذا كله خيال روائي، فالفصل المشار إليه لم يكتبه محفوظ ولم ينشره رجاء النقاش في المجلة التي ترأس تحريرها، لكن طلال تمادى في لعبته أو تلاعبه هنا، بشكل لن يتبينه أغلب القراء، وكذلك فعل في العديد من فصول الرواية، ثم عاد ومارس لعبة الوثائق والهوامش مرة أخرى في «بليغ»، غير أنه في هذه المرة بث بعض الشك في نفس القارئ، مشيرًا بين حين وآخر إلى أننا بصدد رواية وليس كتابًا بحثيًا، ولكن هل أضافت هذه الهوامش أي إضافة فنية للرواية؟ وهل يجوز اعتبار الهوامش جزءًا من متن الرواية أم أنها خارج العالم الروائي المتخيل ولا بدّ من الالتزام فيها بالواقع؟

ربما لا تعجبك كل الأصوات التي يستدعيها الكاتب في «بليغ»، وقد تعتقد مثلي أن بعض الاستخفاف وجد طريقه إلى الصوت الذي اختاره الكاتب للشخصية التي تحمل اسمه، غير أنك هنا أمام رواية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، يفسح طلال لنفسه فيها المجال ليحكي عن حياته وشخصه شبه المتخيل، وعن واقع مصر السياسي المعاصر، بالتفاتات قليلة إلى التاريخ، وحتى هذه الالتفاتات في أغلبها تعبر عن آراء الراوي، طلال، حيث كان بليغ منصرفًا عن كل هذا، «لن تجد له أغنية واحدة عن ناصر بشكل صريح، ولا عن أي مفردة من مفردات المرحلة، الاشتراكية أو القومية أو غيره، ولم يعرف عنه أبدًا الانخراط في نشاط حزبي أو ثقافي عام. كانت مشاركته في كل ذلك الزخم السياسي الدائر مشاركة حذرة، متمسكة بمنطقها وبحكمتها، حكمة الهشك بشك الخالصة».

«كان صرحًا من خيال»: الإخلاص للخيال الروائي

أما هذه الرواية فهي مختلفة بعض الشيء عما سبق، حيث صدرت بالفرنسية في التسعينيات، وهى رواية اللبناني سليم نصيب عن أم كلثوم، والمعنونة بالفرنسية بـ«أم»، ترجمها بسام حجار إلى العربية وغيّر اسمها إلى «كان صرحًا من خيال».

كُتبت الرواية على شكل مذكرات متخيلة للشاعر أحمد رامي، حيث يوجه فيها جل اهتمامه لسبر أغوار مشاعره تجاه أم كلثوم وما دار بينهما في علاقة فريدة من نوعها، مستعرضًا على خلفيتها أحداث حياتها منذ تعارفهما في منتصف العشرينيات وحتى وفاتها في 1975. اختار الروائي اسم «أم» لأنه الاسم السائد لأم كلثوم في فرنسا، إضافة إلى سبب آخر يذكره على لسان رامي في الرواية: «قلة تعرف أن أصل الكلمة هو (أمَّا) وهو في الآرامية يعني الحادث فجأة أو عرضًا، والبداية، والقيادة. ومنها يشتق عدد من العبارات: الأُمّة، الإمام، الأَمة، وسواها. بالنسبة لى يعني الاسم ذلك الشعور الذي استبد بنا قرنًا من الزمن بأكمله، ومفاده الانتماء إلى رحم يستحيل هجرانه».

يطلق الكاتب لخياله العنان مستندًا إلى أرضية من الواقع، فالرواية ذاتها صرح من خيال مبني على أعمدة من الحقيقة، ينسج من حولها الروائي ما يتصوره عما حدث خلف الأبواب الموصدة، ويبدو هذا واضحًا لنا كقراء، فالكاتب يتسلل إلى النفوس وإلى حجرات النوم وإلى غرف البدروم السرية، ويتطرق إلى حكايات متداولة دون مصدر توثيقي. يجنبنا سليم نصيب اللغط البحثي وتضارب المصادر والوثائق، ويختار ما يراه مناسبًا ويكمل الصورة من خياله، يعيد خلق أم كلثوم كما يتصورها، دون أن يغلق دائرة الإيهام ودون أن يكسره، فنفهم ذلك دون حاجة إلى شرح عبر صفحات الرواية، إلا أنه يسعى إلى الاستيثاق من عدم الخلط، فيكتب في نهاية روايته أنها «مستوحاة من قصة أحمد رامي، غير أن تلك المذكرات مجرد خيال».

كان سليم نصيب مخلصًا للروائي داخله فغلبه على الباحث والمؤرخ، وكأن ثمة اتفاقًا ضمنيًا غير معلن بين الكاتب وقارئه أن هذا لا يمثل الواقع بحذافيره وإنما نظرته له، كأن يشير الروائي إلى ميل أم كلثوم للنساء مستندًا إلى قصص شعبية متداولة وجد فيها ما يناسب رؤيته، «لقد فتحت عينيها على عالم حيث الرجال، كل الرجال، يشبهون والدها، بالطغيان نفسه والعناد نفسه، وبحس التملك نفسه، فبحثت عن الأمان في جنسها هي».

الرواية ذاتها صرح من خيال مبني على أعمدة من الحقيقة، ينسج من حولها الروائي ما يتصوره عما حدث خلف الأبواب الموصدة، ويبدو هذا واضحًا لنا كقراء، فالكاتب يتسلل إلى النفوس وحجرات النوم والحكايات المتداولة دون مصدر توثيقي.

وعلى عكس بليغ حمدي، فمسيرة أم كلثوم متداخلة جدًا مع الحياة السياسية، وعلاقة المطربة الأشهر بالسلطة ممتدة ومعقدة، وهو ما تطرق له سليم نصيب على لسان بطله، معبّرًا عن وجهة نظر مركبة، فهو يُقدّر –وربما يحب- عبد الناصر، ولكنه يلمس أخطاءه ويراها جلية، لذا بدت شخصية أحمد رامي منزعجة من سيطرة الضباط على كل شيء ومن عسكرة المدينة، رغم إعجابه بالكثير من منجزات الثورة، «انقلاب هائل يوازي كل ما حلمنا به منذ الاستقلال، غير أن هذا لا يبرر اضطرارنا للعيش محاطين بالجنود».

تتدفق الرواية بلغة شاعرية حساسة تناسب شاعرًا متيمًا في قصة حب مستحيلة، أو هكذا أرادها هو، هل هذا بفضل سليم نصيب نفسه أم أن لبسام حجار يدًا في هذا الشكل النهائي؟ على كل حال فالرواية حجر زاوية في كتابة هذا النوع من الروايات، أو كما كتب الروائي محمد المنسي قنديل «إنها درس بليغ في كيفية إعادة كتابة الحقيقة، فليس هناك حقيقة مطلقة، ولكن هناك حقائق خاضعة دومًا للتفسير، وتحتاج إلى الإيضاح. هذا هو جوهر الفن، تنظيم كل ما هو مبعثر، وإضفاء هالة على كل ما هو عادي، والنتيجة هي رؤية كل ما تمت رؤيته من قبل ولكن بصورة مغايرة».

في هذا النوع من الروايات، ليست الشخصية تاريخية تمامًا، فهذه أم كلثوم سليم نصيب، فيها قدر من أم كلثوم الحقيقية، وفيها أيضًا قدر من سليم نصيب، ولا توجد صيغة محددة وصارمة للحد بين الحقيقة والخيال، فهذا أمر لا يحسمه إلا الروائي ونظرته وضميره، الذي لا بدّ أن ينبهه أن هذه شخصيات حقيقية في نهاية الأمر، كانت تملأ الدنيا صخبًا في يوم ما. من الوارد أن ترتكب جرائم تأريخية تحت اسم التخييل الروائي، وفي المقابل من الممكن أن تذهب بخيالك إلى أبعد مدى، إلى حدّ الفانتازيا وتتجنب الوقوع في هذا الفخ. وهذه ليست معضلة عربية خاصة، فعندما أصدر جابرييل جارسيا ماركيز روايته «الجنرال في متاهته» عن سيرة سيمون بوليفار، واجهته العديد من الاتهامات بتشويه رمز لاتيني وتحطيم صورة قائد تاريخي، فعلق ماركيز قائلًا: «أنا لم أحاول تحطيم شيء، بل إظهار الرجل، كل التبجيل والاحترام اللذان يلقاهما كأسطورة سيصبحان أعظم إذا ما نظر إليه كإنسان».

  • الهوامش
    [1] ليست هذه هي الرواية الوحيدة التي جسّدت عبد الناصر أدبيًا، فقد سبقتها رواية «البكباشي والملك الطفل» للروائي جلبيرت سينويه، كما أن الكاتب بكر الشرقاوي استحضر عبد الناصر في روايته «وقائع ما حدث في يوم القيامة بمصر» التي نشرها في الثمانينيات متخيلًا أن عبد الناصر ظهر من جديد، كقديس أو ولي من أولياء الله، لينقذ مصر مما ذهبت إليه من مصائر على يد خلفائه.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية