شيخة حليوى: فنّ الكتابة في العتمة

الثلاثاء 10 أيار 2022
تصميم محمد شحادة.

في عتمة «ذيل العِرْج»؛ القريّة البدويّة المُهجَّرة في قضاء مدينة حيفا، كانت حكايا القاصّة والشاعرة الفلسطينيّة شيخة حليوى تختبىءُ ليلًا في زوايا «أكواخ من الخشب والزنك»، وتُحكى نهارًا تحت أشجار اللوز والبلّوط، وقرب نبع الماء الذي سُمّيّت القرية بـ«الريّ» نسبةً له.[1] وبعد أن هدمَ الاحتلال الإسرائيليّ القرية عام 1990 وسلبَها حقّ الاعتراف، ماتت أشجارها، وسُيّجت أرضها، فباتت خاليةً إلا من ذكريات الحكايا البدويّة التي لم تُفلح كهرباء المدينة ولا صنابير مياهها أن تُغيّبها عن مِخيال شيخة حليوى الأدبيّ فيما بعد.[2]

التحقت شيخة بـ«مدارس الراهبات في حيفا»، ثم انتقلت للعيش في يافا. حصلت على الماجستير في اللغة العربيّة، وعملت عدّة سنوات في مجال التعليم والإرشاد التربويّ، كما عملت خلال السنوات الأخيرة في مشاريع تربويّة في مدارس القدس، وعملت محاضِرة في التمكين النسويّ والنسويّة العربيّة.[3]

صدر لها: «سيدّات العتمة» مجموعة قصصية عام 2015، و«خارج الفصول تعلّمت الطيران» نصوص شعريّة عام 2015، «النوافذ كتب رديئة» مجموعة قصصيّة عام 2016، فيما حازت مجموعتها القصصيّة الأخيرة «الطلبيّة C345» الصادرة عام 2018 على جائزة المُلتقى للقصّة القصيرة عام 2019-2020.

ورغم أنّ الحيّز الحكائي لدى شيخة حليوى تشكّل من وحي البيئة البدويّة في أولى أعمالها، إلّا أنّها استطاعت كذلك كسر القالب البدويّ والخروج منه إلى المدينة الفلسطينيّة المُحتلّة، ثمّ ما لبثت أن غادرت دائرتها المحليّة إلى عوالم سورياليّة غير محدّدة في مجموعاتها القصصيّة اللاحقة، لتختبر إمكانيّات فنّ القصّة القصيرة في معالجة التجربة الإنسانيّة وتوسيع مداركها، بمنظور ثاقب وأسلوب مُبتكَر.

في انتظار الضوء

هل تُهدي شيخة حليوى مجموعتها القصصيّة الأولى «سيّدات العتمة» إلى نفسها حين تُفصِح عند عتبة النص قائلةً: «إلى الطفلة المشاكسة التي خلّفتها ورائي تحت شجرة البلّوط في قرية «ذيل العِرْج». ماتت القرية وماتت الشجرة وبقيت هي تنتظر الضوء تحت أجنحة «سيّدات العتمة»»؟[4] أم أنّها مُهداةٌ إلى طفلة أخرى من بنات القرية البدويّة اللاتي تشابهت حكاياتهنّ وتقاطعت مصائرهنّ مع مصيرها؟

وإن لم نقرأ الإهداء هنا على أنّه محضُ عتبةٍ زائدة، فلنا أن نمشي في ضوئه عند قراءة قصص المجموعة، لدراسة أبعاد الخصوصيّة المكانيّة والعلاقة النصيّة والوظيفيّة التي يحملها بين طيّاته. إذ يُلمّح الإهداء بدايةً إلى علاقةٍ مُضطربة بين الطفلة المشاكسة المُتلهّفة إلى الضوء، وما يُمكن أن يحمله من دلالات المعرفة والاستكشاف أو حتى التحرّر، وبين من يحجب هذا الضوء عنها؛ ابتداءً من سيّدات القرية اللاتي يُمارسن بدورهنّ سلطة تراتبيّة على بنات يصغرنهنّ سِنًّا، فيحملن بذلك جزءًا من عبء السلطة التي كلّفهنّ بها ذكور القريةّ. وهنا تصيرُ العتمة، وما تشير إليها من دلالات التبعيّة والجهل أو حتى التجاهل والتظاهر بعدم المعرفة، سيّدةَ الموقف في معظم قصص هذه المجموعة.

بلهجة بدويّة متينة، وجديلة طفلة عنيدة، تفتتح قصّة «حيفا تغتال جديلتي» بداية المجموعة القصصيّة، حيث تبرز هنا سلطة الطبقة الاجتماعيّة وتأثيرها على أبسط قرارات طفلة بدويّة تُقرّر قصّ جديلتها الطويلة لتتحرّر من «إرث البداوة» الذي يُثقل كاهلها، حتى تُمسي أقرب من حيث المَنطِق والمظهر إلى «بنات حيفا»: «»شِنو؟ بنتش وِدْها تسوّي مثل بنات المِدِن؟» قالها أحد أخوالي وهو يحذّر أمّي من فتنة قادمة (..) أتبرّأ من بداوتي الأزليّة، يُطاوعي لساني ويتبرّأ هو الآخر من اللهجة البدويّة الفاضحة».[5]

تُراوح حليوى ما بين الفصحى واللهجة البدويّة في عدد من قصص المجموعة، فتضحي اللغة مفتاحًا تركيبيًا لمعادلة الضوء والعتمة؛ اللهجة البدوية التي حاولت الطفلة أن تتبرّأ منها صغيرة، تحت تأثير الضغط الاجتماعي، وتخفيها في العتمة، عادت لتتكشّف وتتّخذ أبعادًا أخرى في القصة، لتكون خيطًا مُلوّنًا ومميّزًا تنسجُ منه حكايتها الخاصة. في ضوء ذلك، يأتي صوت الساردة في القصّة عليمًا رصينًا وهو يُحلّل مظاهر الضغط الاجتماعي ودورها في نزع الأصالة عمّا هو «بدويّ» والتباهي بمظاهر التمدّن عوضًا عن ذلك، وإن كانت محض مظاهر زائفة أو مُصطنعة؛ مثل قَصّة الشعر أو طريقة الكلام.

تلعب حليوى على وتر اللغة مُجدّدًا في قصة «سأكون هناك»، وفي هذه المرة يكون الكذب، أو «التشذِب» كما يُقال باللهجة البدويّة، مُعادِلًا آخر لإخفاء الحقيقة في العتمة، وحبلًا للنجاة من سلطة الأم في البيت، وسلطة الراهبة البريطانيّة في المدرسة، وسطوة الاندماج في المدينة بعيدًا عن «وصم البداوة» والنظرة الدونيّة. وعليه، تُشرّح الكاتبة بوعيّ نسويّ ثاقب كيف تتقاطع السلطة الاجتماعيّة والدينيّة والاستعماريّة في تهذيب الطفلة أو «ترويضها» بمعنى آخر:

«الراهبة البريطانية وأمّي تفصل بينهما عصورٌ من النهضة وتلتقيان في ضرورة تهذيبي. الأولى تنعتني بالغجريّة كلّما خالفت قوانين المدرسة الصارمة، والثانية تخشى أن أصير غجريّة يومًا ما. أنجو من فخّ البداوة لأقع في فخّ الغجر (..) تلك الأوروبيّة رسولة المسيح، وتلك البدويّة رسولة الخوف، سيصبح الكذب عندي أكثر ضرورةً وحيويّةً. كي أتجاوزني وخوفي لا بدّ أن أكذب».[6]

تسير قصص حليوى على خطّ الضوء كاشفةً بعمق عن التناقض الكامن وراء السلوكيّات التربويّة الاعتباطيّة. هكذا، يصير الكذب الذي تُؤَنّب الطفلة عليه مرارًا وسيلةً عمليّةً بالنسبة لها للانعتاق من أساليب التربية والتوجيه الأبويّة القمعيّة. أمّا وضع الأم البدويّة التي تشعر بالخزيّ من تصرفات ابنتها ومظهرها، تحت سلطة الراهبة البريطانيّة فلا يكشف عن تراتبيّة السلطة النسائيّة التي تُمارسها النساء على بعضهنّ فحسب، وإنّما يذكّرنا كذلك بعنصريّة السلطة الاستعماريّة والتبشيريّة التي زعمت لنفسها دورًا أبويًا حينما اقتحمت البلدان «المُتخلّفة» لتهذيبها وتنويرها عبر نزع أصالتها، ثمّ الادّعاء بأنّ ذلك كلّه «لمصلحة» هذه البلدان المُستعمرَة في الدرجة الأولى، لا العكس!

وعبر تسليط الضوء على حياة البدو الفلسطينيين تحت سلطة الاحتلال الإسرائيلي، تُترجم حليوى لغة العنف مُتقاطعةً مع التمييز الطبقيّ والعِرقيّ والجندريّ في الوقت ذاته.[7] في قصّة «علي» على سبيل المثال، تتسع الدائرة السرديّة لقصّة تدور حول «جريمة شرف» ارتكبها أحد العمال البدو عندما اكتشف أنّ اسم زوجته «وضحى» كُتب على جذع شجرة إلى جانب اسم حبيبها «علي».

تأتي لحظة الاكتشاف وما يعقبها من ارتكاب الجريمة بعد أن تأخذنا الكاتبة في رحلة إلى عالم هذا العامل البدويّ الذي يكدّ ويتعب في «تل أبيب»، ويُمنّي نفسه كبقيّة العمال بالعودة إلى البيت بعد غياب أسبوع من أجل «اللقمة الطيبة، والأنثى الطيّعة». وفيما تسيطر «المرأة» على أحاديث العمّال وقت الاستراحات، نسمع أحدهم يقول مُتذمّرًا: «يا رجل، نبني لليهود فيلات يلتعن ديننا فيها، تسرح وتمرح فيها نسوان بيظ ناعمات، وتاليها شو؟؟ نرجع عبيوت مشحّرة ونسوان نصّ ميتات، وين العدل؟».[8]

يحلم العمّال الفقراء مخدوعين بميراثهم النظريّ من السلطة الذكوريّة، لتصطدم أحلامهم بالواقع الاستعماريّ والاستغلاليّ الذي يسحقهم بحقارةٍ كلّ يوم، فيدركون أنّ تلك السلطة الذكوريّة محض وعود خادعة؛ قسمة ضيزى لا ينالون منها سوى السيطرة على أجساد نسائهم «نصف الميّتات» ومسلوبات الإرادة في النهاية. وعندما يشعر ذلك العامل أنّ سلطته الوحيدة/ امرأته سُلِبت من بين يديه، تصير جريمة الشرف عُنفًا يسعى من خلالها لاسترجاع حصّته المنقوصة من السلطة الجائرة.

ومن هنا، فإنّ سرد القصّة بالتركيز على منظور العامل يُشير إلى أنّ حليوى لم تُقصِ منظور الرجل من قصصها النسويّة. يظهر هذا المنظور كذلك في قصّة أخرى بعنوان «ف ا ج ر ة»، حيث تُسرد القصّة بالتركيز على منظور شاب يظنّ الظنون بأخته ويتّهمها «بالفجور»، ليكتشف أنّ ما في رأسه مجرّد أوهام نبتت تحت تأثير الأفكار الأخلاقيّة المغلوطة، والضغط الاجتماعي الذي يُحمّل الشباب عبئًا ثقيلًا عندما يطالبهم بالمحافظة على «شرف العائلة».

وإن كان من المُحبّذ أن تتناول حليوى قصصًا أخرى من منظور الرجال الواقعين تحت تأثير الضغط الاجتماعي، إلا أنّها تُعتَبر نموذجًا لا بأس به في الكتابة النسويّة العربيّة الجديدة التي تعمد إلى توسيع مدارك وأدوات الكتابة، وتجاوز المنظور الضيّق لما يُطلق عليه النُّقاد مُسمّى «الأدب النسائيّ».[9]

في النهاية، ما تتيحه حليوى في مجموعتها القصصيّة الأولى عبر منظورها النسويّ التقاطعيّ هو بادرةٌ مُهمّة تُتيح إمكانيّة الرجوع إلى «جذور مشكلة القمع» وأشكال التمييز المتعدّدة، والكشف عن الطرق التي تخلق السلطة من خلالها «أجسامًا ومؤسسات وأيديولوجيّات» تؤثّر في الهويّة الفرديّة، وتجعلها «مُركّبة، ومُتعدّدة الأوجه».[10] وعليه، فإنّ ما تعالجه حليوى من تأثير القمع المُركّب في القصص يخلق عدّة استجابات نوعيّة لدى الشخصيّات؛ بعضها استجابات مُتمرّدة ومعظمها خاضعة لأنّها لا تملك خيارًا آخر.

أمّا «سيدات العتمة»، فهنّ كما تراهنّ حليوى، تَقَلّدن أعلى سُلّم الطبقات الاجتماعيّة النسائيّة في القرية بحكم العمر والتجربة، ومع ذلك فهنّ ما زلن لا يملكن خيارًا أفضل أمام الرجال، ولذلك يتّبعن فلسفة الصمت خيرًا، ويُفضّلن ألّا يُفكّكن المعرفة حتى لا يُحرَقن بنورها، ولأنّ «النور رديف المعرفة (..) سيّدات العتمة لا يعرفن. رأفةً بهنّ».[11]

الطيران بأجنحة غير مقصوصة

صدرت نصوص شيخة حليوى الشعريّة «خارج الفصول تعلّمت الطيران» في العام ذاته الذي صدرت فيه مجموعتها القصصيّة الأولى «سيّدات العتمة». فما الذي تقوله هذه النصوص الشعريّة ولم تقله القصص القصيرة في مجموعتها الأولى؟

وقعت النصوص في هذه المجموعة مُتاخِمةً للشعر المنثور وقصيدة النثر من ناحية، والخواطر والقصص القصيرة جدًا من ناحية أخرى. ورغم تشابه معظم ثيمات هذه النصوص مع المجموعة القصصيّة السابقة، يبدو إصرار حليوى على التحليق بعيدًا، عبر الكتابة المُتمرّدة وتجاوز الأجناس الأدبيّة والهويّة الواحدة، جليًا هنا.

وعليه، يُمكن قراءة هذه النصوص التي تُقسّمها حليوى إلى: «نصوص المكان»، و«نصوص النساء»، و«نصوص الكتابة»، و«نصوص الذات»، و«نصوص العائلة»، بمثابة كُتيّب أو دليل للاستخدام، وكأنّ حليوى تكشف عبره عن بعض أساليبها في الكتابة، وتُطلعنا على جزء من الأسرار التي تختبىء وراء القصص القصيرة في مجموعاتها السابقة واللاحقة.

تُمارس حليوى عبر هذه النصوص نوعًا من النقد الذاتيّ والداخليّ لأسلوبها الأدبيّ والثيمات المُتعدّدة التي تتطرّق إليها بطريقة حاذقة وغير مباشرة، ولا تكتفي بتحليل دوافع الكتابة لديها فحسب، بل تدلّنا على نبع الحكايا الأول الذي تنهل منه أفكارها، وعن كلّ النساء اللائي يختبئن وراءها في العتمة. تقول حليوى في أحد نصوصها بعنوان «كتابة»:

«وأنا أكتبُ لا يساندني جيشٌ من النساء وإنْ صفّقنَ لي عند النقطة.
ورائي امرأةٌ مكسورةٌ وأخرى خائفة وأربع أخريات يتناوبنَ
في دورِ عمودٍ وهميّ يصلُ مباشرةً إلى الجنّة».
[12]

أمّا في نصّ آخر بعنوان «أزمة نص» تمزج حليوى بين أسلوب الكتابة النثريّة والنقد الذاتيّ في الحديث عن أهداف مشروعها في الكتابة، وكأنّها تردّ على من يحاولُ حصر مفرداتها وأسلوبها «بالشاعريّة» قائلةً: «لا أملك الكثير من المفردات الشعريّة حقيقة. بعضُ عمري قضيته في بيئة صخريّة مفرداتها على شكل حجارة مدبّبة، وبعض عمري أقضيه في ترويض هذه الحجارة». وتختتمُ النصّ بأسلوب أقرب إلى قصيدة نثر مُكثّفة ومُقتصدة فتقول:

«هو مشروعُ حياة
الهمُّ فيه خارج القالب
الألمُ غير مُجنّس
والفرحُ تناصّ فحسب.
انتهت أزمتي مع النصّ».
[13]

يمتدّ مشروع الميتانص؛ أي الكتابة عن الكتابة في نصوص حليوى، ويخلق كذلك نوعًا من التناصّ مع مجموعتها القصصيّة السابقة، فتعود إلى ثيمة السلطة النسائيّة التي تُمارسها سيدات القرية البدويّة على «البنات العذارى»، في تلقينهنّ دروسًا صارمة في الطاعة والتزام الحدود. تقول حليوى في نصّ بعنوان «نساء العائلة»:

«وتعلّمت شيئًا من نساء العائلة لم يقلنه.
«إذا نبت للبنت جناح يجب قصّه قبل أن تدرك معنى الطيران والعين التي لا تُكسر تقفلها الرصاصة».
أدركتُ لاحقًا أنّ الأجنحة عادةً لا تنبتُ كالأشجار في المستنقعات. ولا تُسقى كالقرنفل.
والعيون المكسورة أصلًا ميّتة».[14]

ورغم انتقادها لنساء العائلة، تُحافظ حليوى على نظرتها المزدوجة، فلا تغفل عن الاحتفاء بعظمتهنّ وحُسن تدبيرهنّ، والتعاطف معهنّ في الوقت ذاته. ومع أنّها تدرك ذلك الشرخ الذي أحدثه التمرّد بين ذات الشاعرة وأمّها، فهي لا تُطالبها أن تكون «مُثقّفةً» وذات تفكير معقّد في المقابل، بل تحاول أن تكسر نمط الحياة المتعارف عليه، باحثةً عن حياةٍ بديلة لها ولغيرها من النساء، فيها سبل الراحة والإحساس بقيمة الذات بعيدًا عن السلطة الذكوريّة الجائرة. فهل على النسويّة أن تكتفي بحسن النوايا إذن، أم ينبغي لها أن تُبسّط من أسلوبها أكثر وتُبدّل خطابها لتكون أكثر شموليةً؟

تقول حليوى عن الأمّ في نصٍ بعنوان «سيزيفيّة»:

«هي أيضًا لا تسأل عن أسماء لا تُتقن لفظها أو تتعثّر بها.
تخجلُ أن أُصحّحها أو أضحكَ ثمّ أُصحّحها.
لا تحتملُ أن ينقضَ أحدٌ ما تعرفهُ

لا أقصدُ التعقيد. أريد لها أن ترتاح
أن تتركَ الصخرةَ تتهاوى ولا تتهاوى هي.
أريدُ لها ألّا تكون هي الصخرة أحيانًا».
[15]

في محاولة لكسر القالب الأدبيّ والفكريّ تخلق حليوى نمطًا جديدًا في الكتابة؛ تسعى جاهدةً في الابتكار حتى لا تُحصر في هويّة واحدة، ولا تُجنَّس نصوصها على نمط واحد، فتنجح أحيانًا كثيرة في ذلك، ولكنّها لا تنجو من الوقوع في فخّ الابتذال أحيانًا أخرى.

نوافذ يدخلها الضوء

عبر الابتعاد عن البيئة المحليّة والشخصيّة، تنطلق حليوى إلى عوالم أخرى في فن القصة من خلال عمليها اللاحقين «النوافذ كتب رديئة» و«الطلبيّة C345»، ملتفتةً نحو عجائب التجربة الإنسانيّة على اتّساعها دون تخصيص للمكان والزمان في معظم قصص المجموعتيْن.

وخلافًا للمجموعة الأولى التي ترتكز على أحداث شبه مألوفة، تعمد حليوى في هاتيْن المجموعتيْن إلى تطوير تقنيّاتها الفنّية عبر التركيز على عناصر مغايرة مثل تغريب الأحداث، والإغراق في تغريب الشخصيّة الرئيسيّة عمّا حولها، والاتّكاء على الرمزيّة العالية لإيصال رسائلها، ابتداءً من العناوين الغامضة وانتهاءً بالحبكة القصصيّة الغريبة، دون التخلّي عن منظورها النسويّ.

يتّكىء فنّ القصة القصيرة بحسب الناقد والقاصّ الإيرلندي فرانك أوكونور على ثلاثة عناصر رئيسيّة، وهي العرض، والنموّ، والعنصر المسرحيّ.[16] إذ يرى أوكونور أنّ هناك تفصيلًا يحمله صوتٌ مُنفرد في القصّة، يُحدّد القاص الزاوية الفريدة وكمّية المعلومات التي سيعرض من خلالها ذلك التفصيل. وحتى يتضخّم التفصيلُ إلى حدثٍ يستولي على مساحة القصّة، فإنّ على القاصّ أن يكون «أكثر من مجرّد كاتب، بل أقرب ما يكون إلى فنّانّ أو ربّما كاتب مسرحيّ»،[17] فمسرح القصّة على ضيقه يتّسعُ لدراما هائلة تنبثقُ من تفصيلٍ يُشاكس مخيال القاصّ ويأبى إلا أن ينفرد بالحدث حتى النهاية.

من هنا، تختار حليوى في مجموعتها القصصيّة «النوافذ كتب رديئة» تفاصيل أنثويّة نمطيّة ولكنّها تعرض لها بأسلوب مغاير للمألوف، وتتركها تتعاظم في حيّز القصّة إلى أن تستولي على الحدث تمامًا.
في قصّة «ثلاثة أشباح وقبر جديد» على سبيل المثال، توظّف القاصّة تفصيلًا مثيرًا للريبة وهو «دُمية سوداء» تحملها الأمّ التي تعمل في تنظيف البيوت أينما ذهبت، اعتراضًا على بياض بشرتها الذي كان سببًا لزواجها من رجل عنيف ومُدمن:

«كلّما زاد البياض في البشرة زاد عدد الليرات الصفراء في يد الأب أو الأخ الأكبر. لم تكتفِ بالأسود رسالة احتجاج غير واضحة للكثيرين، والأسود في الأريكة القديمة، والأسود في غطاء سريرها البالي، بل راحت تحضن دمية سوداء وجدتها بجانب حاوية القمامة (..) ششش اصمتوا أيّها الجاحدون. ألا يكفي أنّ أصابع يدي قد اهترأت من الكلور الحارق أنظّف به مراحيض الغرباء كي أطعمكم؟ هذه الدمية هي الحقيقة الوحيدة وسط هذا البياض. هل تنسون أنّني دُمية؟ دُمية آدميّة بيضاء. هي الوحيدة التي تستوعب سواد روحي».[18]

تستخدم حليوى الدُّمية التي تُعتبر تفصيلًا أنثويًا مألوفًا في حياة الإناث في حبكة رمزيّة وغامضة. فإذا كان السبب الذي يجمع بين المرأة مسلوبة الإرادة والدمية مفهومًا هنا، فما هو العنصر المشترك الذي يجمعُ بين دُمية سوداء في يد عاملة تنظيف بيضاء؟ تعود حليوى هنا للتركيز على شكلٍ آخر من أشكال القمع المُركّب في القصة، فلون البشرة البيضاء ليس كفيلًا بأن يَعِدَ بحياة كريمة، ما دامت السلطة الذكوريّة تُحدّد كيفيّة استغلاله تبعًا للمصالح الشخصيّة.

ورغم أنّ النوافذ تظهر بشكل فعليّ في بعض قصص المجموعة بحيث تراقب الشخصيات من خلالها الأحداث في الشارع، توظّف القاصّةُ النافذةَ بشكل رمزيّ في قصص أخرى؛ بحيث تكون منظورها إلى مسرح الأحداث في البيت والشارع، وكأنّها تنظر إلى البيت عبر النافذة لقراءة الأحداث في الداخل، وتنظر عبرها إلى الشارع لقراءة الأحداث في الخارج.

يمثّل البيت مسرحًا مُعتمًا لحياة العبوديّة في بعض القصص، بينما يحضر الشارع في قصص هذه المجموعة مسرحًا صادقًا وحُرًا للتجربة، وحيّزًا بديلًا للانتصار لهامشيّة المرأة وابتكار تجاربها الخاصّة، فنراها فخورةً بعلامات الصدمة التي تُخلّفها على وجوه الرجال الذين يتوقّعون منها التصرّف بخضوع ونمطيّة، ويظهر ذلك جليًّا على سبيل المثال في قصّة «دومينو الوجوه»، وقصّة «قبلة على خدّ شجرة عارية».

الرقص المُنفرد في العتمة

تأتي قصص المجموعة الأخيرة «الطلبيّة C345» أكثر نضوجًا من حيث التقنية الفنّية؛ فما يُتيحه فنّ القصّة القصيرة هو حريّة اختيار أشكال مُتباينة للمبنى الحكائي والأسلوب السرديّ، وذلك ما تسعى حليوى إلى تجريبه في هذه المجموعة. وبين صُنّارة البداية ودهشة النهاية، ثمّة رحلة قصيرة أو طويلة تسعى حليوى لاكتشاف نطاقها وأبعادها بخطوات واثقة، بعيدًا عن الأسلوب الحكائي الذي وظّفته في مجموعاتها السابقة، وإن عادت بعض الثيمات ذاتها للظهور هنا مرة أخرى.

ولأنّ القصة القصيرة كما يعتقد الناقد أوكونور تجتذب «جماهير الجماعات المغمورة على اختلاف الأزمنة كجماعات الشحّاذين أو الفنّانين أو المثاليين الذين يستشعرون بالوحدة أو الحالمين أو الفاسدين (..)»،[19] توسّع حليوى من دائرة القصص في هذه المجموعة، فتتعدّد الأصوات السرديّة، وتشمل فئاتٍ منبوذةً ومنسيّةً مثل أصوات الأطفال المُعنَّفين، والمرضى المُنهكين، والعَجزة فاقدي الأمل والذاكرة، وذوي الاحتياجات الخاصّة.

في قصة «الطلبيّة C345» التي تحمل اسم المجموعة، تصحبنا حليوى إلى العالم الخلفيّ لمصنع أطراف اصطناعيّة يشتريها الزبائن لتعويض سيقانهم المبتورة. وبين عنصر العرض ونموّ الحدث، تبدو المعلومات التي تزوّدنا بها القاصّة ناقصةً للوهلة الأولى، ممّا يدفعنا للبحث عن مزيد من المعلومات بين السطور، بعد أن ينتهي العنصر المسرحيّ في القصة، لنعرف ما الذي يجمع بين موظّفة المصنع مبتورة الساقين والشابّ الأصمّ الذي يعمل معها سوى رغباتهما التي لم تكتمل؟ إنّ تقنين حليوى من المعلومات والتراكيب الزائدة في القصّة يدفعنا للتكيّف مع المبنى الحكائي المبتور الذي يشبه شخصيّات القصّة، ومحاولتهم للتكيّف مع ما ينقصهم من أطراف وأعضاء.

تدعو حليوى الشخصيّات في قصص المجموعة للرقص فُرادى «امتنانًا للعتمة»،[20] وتخلق لهم عوالم مغمورة مُتردّدة ومُتمرّدة في آن، يستعيضون بها عمّا حُرموا منه في العلن، ممّا يُبرّر المُبالغة في توظيف الأساليب الفنّية في معظم قصص هذه المجموعة؛ فالحدث لغرابته أو تفاهته أو حتى سذاجته فاقدٌ للأهمّية معظم الأحيان، إلا أنّه شديد الحساسيّة والتأثير، في محاكاةٍ لذلك الجانب المُظلم والمُهمَل في حياة كلٍّ منّا.

رغم بحثها المُتلهّف عن الضوء، تُخبرنا حليوى بعد عناء أن لا غنى لنا عن العتمة.

إنّ تجربة الشاعرة والقاصّة شيخة حليوى هي تجربة فلسطينيّة أدبيّة فريدة؛ فنصوصها الشعريّة وقصصها القصيرة بمثابة أعمال فنّية بقيت رهينة العتمة طويلًا، وآن لها أن تُبصِرَ الضوء دفعةً واحدة.

  • الهوامش

    [2] المرجع السابق.

    [3] شيخة حليوى، ملحق المجموعة القصصيّة «الطلبيّة C345»، منشورات المتوسّط، ط2، 2020.

    [4] شيخة حليوى، سيّدات العتمة، دار فضاءات، 2016، ص5.

    [5] شيخة حليوى، سيّدات العتمة، دار فضاءات، 2016، ص11.

    [6] المرجع السابق، ص16.

    [7] تُرجع الناقدة والمُنظّرة النسويّة بيل هوكس أسباب العنف الذكوريّ لاختلال توازن القوى والامتيازات التي يُحرَم الرجال من الحصول عليها تبعًا للعرق أو الطبقة الاجتماعيّة التي ينحدرون منها، ممّا يُسبب لهم الغضب والإحساس بالدونيّة والخوف لأنّهم لا يتمتّعون بالامتيازات التي يتمتّع بها «الرجال الحقيقيون». وعليه، فإن أحاسيس الإحباط والاغتراب تدفعهم لاستخدام لغة العنف واضطهاد النساء، تعويضًا عن إحساسهم بالنقص والحرمان. للمزيد انظر/ي: hooks, bell. Feminist Theory from Margin to Center. South End Press, 2000. P.g. 75

    [8] شيخة حليوى، سيّدات العتمة، دار فضاءات، 2016، ص37.

    [9] رغم اعتراض بعض الكاتبات على استخدام النقّاد مصطلح «الأدب النسائي» لما ينطوي عليه من نظرة إقصائيّة ودونيّة، تذهب بعض الناقدات النسويّات إلى دراسة الخصائص المتشابهة والثيمات المُتكرّرة في الكتابة النسائيّة لبحث تأثير العلاقة بين الجندر والأسلوب الأدبيّ. انظر/ي أيضًا: غادة خليل، «المرأة في مراياها: قراءة في صورة المرأة في الرواية النسويّة في بلاد الشام»، الأهليّة، 2016.

    [10] Chavez, Karma. Queer Migration Politics: Activist Rhetoric and Coalitional Possibilities. University of Illinois Press, 2013, p.51-52.

    [11] شيخة حليوى، سيّدات العتمة، دار فضاءات، 2016، ص98.

    [12] شيخة حليوى، خارج الفصول تعلّمت الطيران، الأهليّة، 2016، ص 74.

    [13] المرجع السابق، ص77.

    [14] المرجع السابق، ص40.

    [15] المرجع السابق، ص 123.

    [16] فرانك أوكونور، «الصوت المُنفرد»، ترجمة محمود الربيعي، الهيئة المصريّة العامة للكتاب، 1993، ص 35.

    [17] المرجع السابق، ص32.

    [18] شيخة حليوى، النوافذ كتب رديئة، الأهليّة، 2016، ص 91-92.

    [19] فرانك أوكونور، «الصوت المُنفرد»، ترجمة محمود الربيعي، الهيئة المصريّة العامة للكتاب، 1993، ص (30-31).

    [20] شيخة حليوى، «الطلبيّة C345»، منشورات المتوسّط، ط2، 2020، ص49.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية