صورة الفلسطيني المذعن في أعمال بانكسي

الإثنين 28 حزيران 2021
امرأة فلسطينية تقف مع طفل في زقاق بجوار نسخة عن جدارية «حارس الضفة الغربية» لبانكسي في مخيم العروب. تصوير حازم بدر. أ ف ب.

يمثّل كتاب غايتري سبيفاك، «هل يستطيع التابع الحديث؟»، نقدًا ما بعد استعماريٍّ للجهود الغربية في الحديث بالنيابة عن، أو تمثيل، المجتمعات المهمّشة، كما يناقش الكتاب مدى إمكانية ممارسة هذا الفعل دون الإبقاء على العلاقة الاستعمارية بين الذات والآخر، الفاعل والمفعول به، بين من يمتلكون قوة الهيمنة ومن لا يمتلكونها. يعدّ أخذ هذا الأمر بالحسبان إلزاميًّا عندما يسعى باحثون أو فنانون من الغرب إلى دراسة موضوع متعلق بالعالم الثالث، دون الاعتراف بالسردية الاستعمارية المهيمنة.

في حالة الفنان بانكسي، فإن أعماله الفنية على جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية محلّ نقد، خصوصًا تمثيله للمسيطِر والمسيطَر عليه؛ أي في هذا السياق الكيان الصهيوني في مقابل الفلسطينيين. من هنا، يسائل هذا المقال مدى نجاعة الثيمات الموجودة في أعمال بانكسي الداعمة لفلسطين في تمثيل المضطهَدين، وتحاجج بأنها، على العكس من ذلك، مجرّد مثال آخر على التمثيل المشوّه والخاطئ لهوية تابعٍ مهمَّش.

تستعمل سبيفاك إطارًا نظريًّا ماركسيًّا في وصفها للتابعين، باعتبارهم قد غُرّر بهم وأُكرهوا على أن يكونوا مضطهَدين، في تعارض مع رؤية مدرسة ما بعد البنيوية للتابعين، التي ترى أنهم «قبلوا» أن يصيروا مضطهَدين، بشكل أو بآخر. كيف لهم، دون امتلاك قوة الهيمنة أو القدرة على التواصل، أن يحيطوا علمًا بالقوة التي تضطهِدهم عن قصد؟ تقول سبيفاك في بحثها إن «التابع في سياق الإنتاج [الثقافي] الاستعماري لا يملك تاريخًا، ولا يستطيع الحديث».

يسعى بانكسي، أحد فناني النخبة، إلى التحدث بالنيابة عن الفلسطينيين التابعين من خلال أعماله في الضفة الغربية. تحليل استخدام بانكسي للرمزية، والمفارقة، والتركيب من خلال نظرية التابع لسبيفاك، سوف يمكّننا من تناول سؤال هذا المقال: كيف تفسّر أفكار غايتري سبيفاك عن التمثيل فعالية أعمال بانكسي في الضفة الغربية؟

في جميع أعماله في الضفة الغربية، يستخدم بانكسي الرمزية في سعيه لتمثيل النضال الفلسطيني ضد الاضطهاد. عندما يرمز بانكسي إلى طرفي الصراع برسومات عن الحرب والسلام، والحب والكراهية، فإنه يكشف عن الحقيقة وراء أعماله: تمثيل مشوّه وخاطئ لاضطهاد الشعب الفلسطيني يشبع عقدة المخلّص الجشعة لدى النخبة.

عادة ما يرسم بانكسي رموزًا للسلام ليشتبك مع ما يصوره عن دينامية الصراع الذي تغذّيه الكراهية، ويظهر فيها الصوت الفلسطيني مجبرًا على النزيف من أجل السلام في بيئة عدائية، رسومات مثل «حمامة السلام المدرّعة». حتى إن محاولاته لتعزيز السلام في أعماله قد تتضمن آثارًا سلبية نتيجة لتمثيله المضلل للصراع. يرسم بانكسي في «حمامة السلام المدرّعة» الهوية الفلسطينية التابعة على أنها حمامة؛ رمز عادة ما يُستخدم للإشارة إلى السلام. يجعل هذا الرمز الفلسطينيين يبدون كمجموعة ملزمة بأن تكون خاملة ومذعنة رغم الاضطهاد غير الإنساني الواقع عليها من قِبل الاحتلال الإسرائيلي. يحاول بانكسي أن يرسم الهيئة التي يجب أن يكون الفلسطينيون عليها، والنتيجة هي إسكاتهم أثناء مقاومتهم المشروعة ضد المضطهِد، واختزالهم في حمامة لا حول لها ولا قوة.

«حمامة السلام المدرّعة»

تظهر دينامية القوة بين الكيان الصهيوني والهوية الفلسطينية بوضوح لا غبار عليه في خيار بانكسي استعمال رمز للخنوع. يعدّ عمل بانكسي في الضفة الغربية الذي يحمل اسم «وثائق الحمار» مثالًا آخر على وجهة النظر المشوّهة التي تمنعه من التمثيل الناجع للفلسطينيين. يعتبر استخدام رمز الحمار نوعًا من أنواع الجناس، فهو يشير، بالنسبة للنخبة التي تتابع أعمال بانكسي، إلى عدة قصص وردت في الإنجيل، كما يمثّل رمزًا للعزيمة وقوة الإرادة. إلا أن امتيازات الفنان الغربية وعدم قدرته على فهم الثقافة الفلسطينية والمعاني التي يحملها الحمار في اللغة العربية جعلت من هذا الرمز مهينًا للتابع. هذا التضاد في المعاني الضمنية للعمل بناءً على اختلاف سياقات الفهم والتفسير يبرز تبعيّة الفلسطيني.

«وثائق الحمار»

في ذات الوقت، يوظّف بانكسي أشكالًا مختلفة من المجاورة (juxtaposition) في سعيه لتمثيل الاضطهاد في الصراع العربي-الإسرائيلي. هذه المجاورة تمكّن بانكسي من خلق تباين جليّ بين ثيمات الصراع، مثل الحرية والاعتقال، ورموز الحرب والسلام.

في أحد أعماله المرسومة على حائط الضفة الغربية، والذي يحمل اسم «مداخلة غير مرحّب بها»، يرسم بانكسي طفلين يلعبان في الرمال ببراءة وينظران إلى ثقب مطلّ على «الجانب الآخر» من حائط الفصل العنصري. في هذه الرسمة، يستعمل بانكسي المجاورة بعدة أشكال. هنالك تباين في شكل الوسائط المستخدمة في العمل نفسه؛ فالأطفال مرسومون بطلاء الرشّ والاستنسل بينما الشاطئ عبارة عن بوستر مشرق مسبق الصنع.[1] بل إن بانكسي يجاور ما بين جهتي الحائط؛ جهة تمثّل الاضطهاد والاعتقال بينما تمثّل الأخرى الحرية باستخدام رمزية الشاطئ. الأمر الذي جعل تأثير هذا العمل على الفلسطينيين تأثير الإبعاد والنفي.

«مداخلة غير مرحّب بها»

بالإضافة إلى ما سبق، فإن رسمة الشاطئ بحد ذاتها لا تمثّل نمط حياة من يعيشون على الجهة الأخرى من حائط الضفة الغربية. جهل بانكسي بالثقافة الفلسطينية يبدو جليًّا هنا: يريد الفلسطينيون أن يمارسوا أنماط الحياة التي تناسبهم دون العيش تحت الاضطهاد والخوف، وليس المرح على رمال شاطئ ما. استخدام المجاورة هنا يهدف لأن يوضّح أن الحائط يمنع الفلسطيني التابع من عيش حياة طبيعية، إلا أن العناصر المستخدمة في هذا العمل لا تمثّلهم بنجاعة، وإنما تؤكد نبذهم.

يمكن ملاحظة نفس التأثير في عمل آخر من أعماله على الجدار، والذي يحمل اسم «نافذة على الضفة الغربية». يسعى بانكسي إلى «تبييض (whitewash) كل ما هو قبيح بدلًا من تحدي القبح في طبيعته».[2] إنه يجمّل الحائط، رغم أن ذلك يتعارض مع رغبات الفلسطينيين الذين يكنّون أشد مشاعر الكراهية تجاه رمز الاضطهاد هذا.

«نافذة على الضفة الغربية»

مثلما استعمل بانكسي الرمزية في عمله «حمامة السلام المدرّعة»، فإنه يستعمل المجاورة في عمله «اغضب يا رامي الورود» ليرسم الهوية الفلسطينية التابعة على أنها شخص يجب أن ينزف دماءه من أجل السلام، بدل أن يقاوم الاضطهاد العنيف الذي يغلّف حياته. يرسم بانكسي شكلًا فلسطينيًّا في وضع يشير إلى رمي الحجارة، وهو شكل مقاومة شائع بين الفلسطينيين غير المحظيين، إلا أنه يستبدل الحجارة بباقة زهور يحملها الرجل، في رمزية تشير إلى الحب. يستخدم بانكسي هنا شباب المقاومة الفلسطينية ويفرض عليهم لغة السلام، وكأنه يحرمهم من حقهم في مقاتلة مضطهِديهم. وذلك لا يعدّ مجرد سوء تمثيل للتابع، وإنما يفرض عليه سردية السعي إلى الحب، بمعزل عن أن الجنود الإسرائيليين لا يسعون إليه.

«اغضب يا رامي الورود»

بالإضافة إلى ما سبق، تعدّ المفارقة سمة شائعة في أعمال بانكسي في الضفة الغربية. التعبير الذي يولّده وجود ثيمة معينة مقابل ثيمة أخرى غير متوقعة في سياق معيّن يُذكي التفكير عند متلقّي أعماله. أحد الأمثلة على اختيار بانكسي لإبراز المفارقة في أعماله يتمثّل في عمله «حارس الضفة الغربية».

تظهر المفارقة هنا في رسم فتاة بريئة وهي تفتّش جنديًّا في جيش الاحتلال، بينما الحال في الواقع عكس ذلك تمامًا. اختار بانكسي أن يرسم الجندي في وضعية خانعة ومذعنة، الأمر الذي يدعو للتهكّم (المفارقة) عند التفكير بقراره التغاضي عن الرعب الذي ينزله جيش الاحتلال في قلوب الفلسطينيين. من خلال عكسه لهذه الأدوار، يحاول بانكسي أن يظهر دينامية القوة بين المجموعة المسيطِرة والمسيطَر عليها. رغم ذلك، فإن الشكل الذي رسم فيه الجندي وهو مستسلم للطفلة يعد تمثيلًا خاطئًا لدينامية المضطهِد-المضطهَد، الأمر الذي يعزز دور الخضوع المنوط بالفلسطينيين في هذا الصراع.

«حارس الضفة الغربية»

يعدّ عمله الذي يحمل اسم «ندبة بيت لحم» مثالًا آخر على استخدام بانكسي للمفارقة، حيث يُعرَض مشهد ولادة المسيح مقابل ثقب سبّبته رصاصة. مرة أخرى، يُفرَض على الفلسطينيين دينامية السلام مقابل الاضطهاد. ربما يمكن ملاحظة أكثر الجوانب مدعاة للتهكم في سعي بانكسي للتمثيل عند النظر إلى عمله الذي يحمل اسم «التهرّب».

«ندبة بيت لحم»

يُظهر بانكسي في هذا العمل طفلًا يحمل فرشاة يرسم فيها سلّمًا للهروب فوق حائط الضفة الغربية، الأمر الذي يمثّل «وهم» تأمّل الفلسطينيين عودتهم إلى أراضيهم بعد أن صار ذلك مستحيلًا. تكمن المفارقة الحقيقية هنا في إسكات بانكسي السافر لأصوات الفلسطينيين. رُشَّ هذا العمل فوق عبارات رُشَّت سابقًا من قِبل فلسطينيين، تقول إحداها «الجدار لن يفصل بيننا». باعتباره أحد أعضاء النخبة المحظية، يرسم بانكسي فوق عبارات قوية مثل هذه دون أن يراعي أو يهتم بالفهم الصحيح للسردية الفلسطينية الحقيقية.

«التهرّب»

في المحصلة، يستعمل بانكسي الرمزية، والمجاورة، والمفارقة في سعيه لتمثيل صوت الهوية الفلسطينية التابعة المضطهدة في الصراع العربي-الإسرائيلي. لكن لأنه عضو في النخبة المحظية، فإن سرديته للنضال الفلسطيني عادة ما تكون مشوّهة وتحتوي على مضامين غير مقصودة تعزز وضعية الخنوع لدى التابعين.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية