صورتان في واحدة: التصاور فخًا وسلاحًا

السبت 05 كانون الأول 2020

نادرًا ما وُجّه هذا الكم من الكاميرات إلى البقعة ذاتها، كما في نيويورك صبيحة 11 أيلول عام 2001. مئات الصور التُقطت يومها، مئات الزوايا المختلفة واللحظات والتفاصيل المركزية والجانبية، ومع ذلك، لم تصعد إلا بضعة قليلة السلّم الإعلامي ليجري نشرها على الصفحات الأولى. «وفرة من الصور المختلفة، والإحساس برؤية ذات الشيء كلّ الوقت».

هكذا طرح الباحث البصري كليمنت شيرو المشكلة في العام 2007،[1] مستنتجًا أن ذلك الزهد لم يأت فقط نتيجة الاحتكار المتزايد لبث الصور من قبل بضعة وكالات عالمية. فالصورة هذه مثلًا، التي تُظهر ثلاثة رجال إطفاء يرفعون العلم الأميركي وسط ركام مركز التجارة العالمي، تحولت في أقل من 24 ساعة إلى أيقونة وطنية تناقلتها الغالبية الساحقة للصحف على صفحاتها الأولى، حتى أن عمدة نيويورك آنذاك، رودي جولياني، صرح بكونها «إحدى أهم الصور التي رآها في حياته».

إن كانت الصحافة قد سارعت إلى انتشال الصورة من بين آلاف أخرى وتحويلها إلى رمز تختصر به الحدث، فذلك، بحسب شيرو، لأنها ذكّرت الجميع بصورة كانت محفورة في أذهانهم سلفًا، تلك التي تعود إلى الأشهر الأخيرة للحرب العالمية الثانية عام 1945، والتي تظهر ستة جنود مارينز يثبتون العلم الأميركي على جزيرة إيوجيما اليابانية.

يدعم شيرو نظريته بمجموعة أدلة تُظهر ربط الصحافة لصورة 2001 بسابقتها من عام 1945، سواء بعرض الصورتين جنبًا إلى جنب أو عبر تعليقات ضمنية أو علنية. العملية نفسها طالت التمثيل الأشهر للحدث، حيث يظهر البرجان عن بعد من ذات الزاوية، لحظة انبثاق الغمامة النارية منهما، صورة نشرها الإعلام أيضًا بالترافق مع صور مشابهة للاعتداء الياباني على بيرل هاربور عام 1941.

التصاور، باختصار، يصف أي صورة تستحضر، عن قصد أو دون قصد، شبح صورة سابقة لها، بحيث يشعر الناظر بأنه يرى صورتين في صورة واحدة.

لوصف تلك الظاهرة، استعار شيرو مصطلح «التناصّ» (Intertextuality) من الدراسات الأدبية وصاغ منه مرادفًا بصريًا (Intericonicity)، والذي سأترجمه على نسق شبيهه العربي بـ«التصاور». في مقدمة ملف بحثيّ فرنسيّ صدر عام 2015،[2] اختصرت ماتيلد آريفيه تعريفات مجموعة باحثين للتصاور بأنه يضم «سائر ظواهر الحركة والانتقال والحوار بين الأعراف البصرية المختلفة». بكلمات أسهل، يمكن القول بأن الظاهرة تشمل كافة أنواع التهجين بين صورتين مختلفتين، سواءً بالنسخ أو التقليد أو الاقتباس أو حتى التشابه العابر والمعارضة (Pastiche) والسخرية.

التصاور، باختصار، يصف أي صورة تستحضر، عن قصد أو دون قصد، شبح صورة سابقة لها، بحيث يشعر الناظر بأنه يرى صورتين في صورة واحدة.

يختلف أثر التصاور طبعًا باختلاف الثقافة البصرية لكلٍّ منّا، وهو ليس ظاهرة نادرةً، بل شيء اعتدنا العيش معه، ويؤسس لعلاقتنا مع الصور في جوهرها، فمن المستحيل أصلًا لأي منا أن يرى ويفهم صورة ما دون الاعتماد على صور سابقة رآها وتعامل معها.

لكن ذلك لا يعني أن التصاور هو مجرد تشابه شكليّ أو لعبة بلاغية، بل عملية رمزية واجتماعية لها تداعياتها كما تؤكد آريفيه. في حالة 11 أيلول مثلًا، يقدم لنا شيرو مثالًا مثيرًا للاضطراب: تذكار سياحي رخيص انتشر في نيويورك بعد الاعتداء، يمثل الإطفائيين الثلاثة من الصورة المذكورة على هيئة تمثال بلاستيكيّ، لكنهم -ويا للمفاجأة- لا يتخذون وضعيتهم الأصلية كما وردت في صورة عام 2001، بل وضيعة الجنود في صورة إيوجيما من عام 1945. تظهر «زلة اللسان» هذه أن البعض قد أكمل أوتوماتيكيًا عملية التهجين التي مهّد لها الإعلام، ومزج فيزيائيًا، وبالكامل، بين الصورتين.

تتبخر جميع الاختلافات التاريخية والتباعدات السياسية بين الصورتين، لصالح تشابه سطحي ولد بمحض الصدفة.

لم يكن من الصعب تفريغ الصورتين من سياقهما، فالغالبية العظمى من الأميركيين لم تعش الحدث الأول ولا الثاني إلا على شكل صور، تمامًا كما عاشت سابقًا أي فيلم أكشن على الشاشة (يشير شيرو إلى استخدام الإعلام الأمريكيّ لتأثيرات هوليودية في نقله 11 أيلول بهدف اللعب على هذا الوتر).

النتيجة في حال التذكار السياحي، كما في مخيلة الكثيرين، هي صورة هجينة لا مرجع تاريخيّ محدد لها، جرعة مجانية من الحمية الوطنية الصرفة، يمكن حقنها في السياق المرغوب. في حال 11 أيلول، اختصرت الصحافة الأميركية الطريق على الجماهير بتصاور بسيط لتريهم أن الحدث ليس إجراميًا أو إرهابيًا كغيره، بل إعلان حرب على الديمقراطية، تمامًا مثل الاعتداء الياباني في الأربعينات، وبالتالي مبرر للرد والدخول في حرب.

يختلف أثر التصاور باختلاف الثقافة البصرية لكلٍّ منّا، وهو ليس ظاهرة نادرةً، بل شيء اعتدنا العيش معه، ويؤسس لعلاقتنا مع الصور في جوهرها.

قبل التسرع بإرجاع التصاور هذا إلى جبروت الآلة الإعلامية الأميركية (الشيء الذي يلمح إليه شيرو أحيانًا)، يجب التذكير بأن هذه الظاهرة ليست وليدة القرن، ففي منتصف القرن الأول قبل الميلاد، قلّدت البورتريه الرسمية للقائد الروماني بومبيوس تسريحة شعر تماثيل الإسكندر المقدوني، خصوصًا «الآناستوليه»، تلك الغرة الشعثاء التي اشتهر بها الاسكندر. عبر هذا التهجين البسيط، دفعت الصورة مشاهدها الروماني إلى رؤية بومبيوس كشبيه للاسكندر، أو أحيت في نفسه على الأقل صورة جاهزة اعتاد ربطها بالبطولة والإباء.

في سياق مشابه، رسم جاك لويس دافيد جثة جان بول مارا، صديقه المقتول عام 1793 وأحد أبرز قادة الثورة الفرنسية، معطيًا إياه جلدًا رخاميًا أبيض يشع نورًا، ووضعية مستوحاة من تماثيل المسيح بذراعه المتدلية ورأسه المحنيّ، محولًا إياه إلى أيقونة شبه دينية، إلى رمز للشهادة والتضحية يعلمن المشاعر الكاثوليكية المتأصلة لدى الفرنسيين ويوجهها باتجاه بديل دنيوي جمهوري.

في كل صورتين تتساكنان، تقوم القديمة منهما مقام شرح مفردات للجديدة، توجه معناها، تأخذ المشاهد في مسار إجباري عبر سلسلة من القيم والأحكام الموروثة تصعّب عليه النظر إليها كصورة معاصرة. في تصميمه لملعب زيبلين في نورينبرج عام 1933، تقصّد ألبيرت شبير، المعماري الرسمي للرايخ الثالث، التلميح إلى مذبح بيرجامون اليوناني، المعلم الأثري المبهر الذي تبجحت ألمانيا باقتنائه. من غير المهم أن يكون عامة الألمان آنذاك قد ربطوا بشكل مباشر بين الملعب والمعلم الأثري، فالتصاور هنا لا ينتظر نظرةً خبيرةً أو عارفةً، بل يفعّل ذاته أوتوماتيكيًا كقطعة في منظومة ثقافية متكاملة. ففي نفس الفترة مثلًا، لعبت المخرجة ليني ريفنشتال في تصويرها للألعاب الأولمبية على التصاور بين تمثال رامي القرص اليوناني وبين رياضي ألماني معاصر مشدود الجسم. تذوب الصورتان في بعضهما، وتولد صورة ثالثة مركبة تقدم للمشاهد الألماني مرآة يرى فيها ذاته كوريث جيني لعرق أبيض متفوق جسديًا وفكريًا. ملعب زيبلين أو رياضيّ ريفنشتال ليسا حالات فردية إذًا، بل جزء من أجندة هتلرية احترفت التصاور بين حاضر نازي وماضي يوناني وهمي (لم تحظ به ألمانيا أساسًا)، أجندة جرى تمريرها إلى الحشود بالتكرار والتأكيد المستمرين لذات الربط، عبر سائر الوسائط البصرية (وغير البصرية).

يمكن أن يكون التصاور أداةً إيديولوجية للتلاعب بالجماهير، كما يمكن أن يكون أيضًا استراتيجية فنية تدفعنا إلى مساءلة ما نراه، والتفكير به بشكل جديد.

توهمنا الأمثلة المذكورة حتى الآن بأن التصاور ليس إلا أداةً إيديولوجية للتلاعب بالجماهير، لكنّه يمكن أن يكون أيضًا -ولحسن الحظ- استراتيجية فنية تدفعنا إلى مساءلة ما نراه، والتفكير به بشكل جديد. هكذا كان حال أوليمبيا، لوحة إدوارد مانيه التي تسببت بفضيحة لدى عرضها عام 1865 في باريس، لا بسبب عري الفتاة في اللوحة، وهو عري مؤدب مقارنة بإباحية لوحات أخرى عرضت في ذات المكان دون أن تسبب أدنى مشكلة. فضيحة أوليمبيا جاءت جزئيًا من كونها تعيد تأويل لوحة أقدم منها بقرون، فينوس أوربينو (حوالي 1538) للإيطالي تيسيان، والتي تظهر إلهة الحب الرومانية فينوس في تكوين مطابق، تنظر عاريةً من سريرها إلى المشاهد. فبينما ظل العري الأنثوي مقبولًا في الفن الغربي طالما جاء في سياق تاريخي أو أسطوري (كما لدى تيسيان)، أي طالما كانت الفتاة العارية غير حقيقية، أثار مانيه سخط الجمهور بتأكيده على أن الفتاة في صورته هي فتاة فرنسية معاصرة، حيث استبدل قصر فينوس بغرفة معاصرة مشبوهة، والكلب الوديع عند قدميها (رمز الإخلاص الزوجي) بقطة سوداء مشرئبة، ملمحًا إلى أن الفتاة غير متزوجة، بل -وكما أشار اسم أوليمبيا بالفرنسية آنذاك- عاهرة.

أتى التصاور في أوليمبيا كاتّهام علنيّ لنفاق الذوق الذكري البرجوازي وازدواجية معاييره، حيث شجع العري الأنثوي طالما قُدم تحت غطاء الثقافة والتاريخ، وقبل التحرر الجنسي من شخصية أسطورية مثل فينوس، بل واعتبره فنًا، بينما رفض الشيء ذاته من بنت عصره. بمجرد تجريد لوحة تيسيان من ديكورها الأسطوري، لم يتبق للمشاهد إلا مرآة لشهوته الحقيقية، مجرد فتاة هوى يجري تشييئُها واستخدامها لإرضاء تعطشه البصري.

من هنا تأتي حداثة مانيه (وغيره من الواقعيين)، من إصرارهم على تمثيل الطبقات المسحوقة والصامتة من المجتمع ووضعها -حرفيًا- في المكان المخصص عادةً للشخصيات الأسطورية والتاريخية. فإن كان التصاور في نسخته الرسمية المؤدلجة أداة لخلق التسوية بين صور متباعدة ومختلفة، فهو بين يدي مانيه والفنانين الحداثيين أداة لبث الإضطراب، حيث لا تعيش الصورتان علاقة انسجام بل علاقة نشاز علنية، تصعق جمهورها وتدفعه للتساؤل عن الفرق بين اللوحتين وعن طبيعة نظرته إليهما، تدفعه، باختصار، إلى تطوير وعي نقدي. يمكن قول الشيء ذاته عن تأويل ناجي العلي للصور المسيحية في سياق فلسطيني، أو عن تركيب جيمس روزينكويست صور دعائية من الطرقات من أجل الحديث عن حرب فيتنام.

بموازاة الأجندة التحررية تلك للفن الحديث، كرّس مفكرون مثل أدورنو وبارت وفوكو اهتمامًا متزايدًا بالصور، فقد أدركوا أن السلطة والتسلط لا يقومان فقط على امتلاك وسائط الإنتاج كما ظنّ ماركس، بل على امتلاك منظومة من التمثيلات السائدة التي تعشش في حياتنا اليومية. أن نفهم التصاور اليوم هو أن نفهم أن تلك التمثيلات البصرية ليست مكملًا ثانويًا للاقتصاد أو السياسة، بل آلة إيديولوجية مكتفية ذاتيًا، تصنع معانيها بمراكمة الصور داخل بعضها، ودون المرور بالخطاب اللغوي بشقوقه السياسية والاقتصادية. أن نفهم تلك الآلة ونعطيها حقها هو أن نتّخذ خطوة أولى نحو تفكيكها وإعادة تملّكها كسلاح نقدي.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية