وثائق منمنمة: من تاريخ الطوابع البريدية في الأردن

الثلاثاء 08 كانون الأول 2020
طوابغ بريدية من ألبوم فكري قعوار. تصوير روان بيبرس.

بشكل أنيق، تصطف الطوابع الملونة في صفحات ألبوم فكري قعوار، نائب رئيس جمعية هواة جمع الطوابع والعملات الأردنية. وبينما يقلب صفحات ألبومه المنظّم بتروٍّ وحرص شديديْن، يعرض علينا إصدارات الطوابع البريدية منذ تأسيس إمارة شرق الأردن حتى يومنا هذا؛ إصدارات تشكل ما يشبه شريطَ حياة البلد في مربعات مبوّبة، توثق أبرز المحطات والأحداث المحلية والإقليمية.  

منذ ظهور الطوابع عام 1840 وحتى الحرب العالمية الأولى، كانت تصاميم الطوابع البريدية «كلاسيكية» وكان الهدف منها وظيفيًا بحتًا، حيث كانت تُستخدم رسومًا لنقل الإرساليات البريدية والرسائل.[1] وكغيرها من دول العالم مرّت طوابع الأردن بنفس المرحلة. فبعد تأسيس إمارة شرق الأردن، اعتمدت مؤسسة «مصلحة البريد والبرق العام» القوانين العثمانية، واستخدمت طوابع حكومة فلسطين التي كانت واقعة تحت الانتداب البريطاني. وقد وُشّحت الطوابع التي كانت تحمل عبارة «خالص الأجرة» بـ«شرقي الأردن» حتى عام 1927.[2] بعد ذلك صدرت طوابع طُبعت خصيصًا للأردن تحمل صورة الأمير عبدالله الأول.

طوابع شرق الأردن 1920. المصدر: موقع التراث الملكي الأردني.

التفتت الدول بعد ذلك لأدوار أخرى يمكن للطوابع البريدية أن تلعبها. فالطوابع الملصقة على المظاريف البريدية وسيط واسع الانتشار. حتى تصل الإرساليات من المرسل إلى المرسل إليه، لا بدّ أن تمر على العديد من الحلقات ونقاط التوزيع وأن تتناقلها عشرات الأيدي. لذلك راج استخدام الطوابع كوسائل لنشر البروباغاندا، خصوصًا في زمن الحرب العالمية الأولى والثانية. صحيح أن التركيز في ذلك الوقت كان على وسائل إعلامية أخرى مثل الإذاعة والصحافة، إلا أن الدور الذي لعبته الطوابع كان فريدًا. إذ كانت وسيلة إعلامية تتعدّى النطاق المحلي لتعكس ثقافة البلد وقيمه وشخصياته السياسية والوطنية على مستوى أوسع. وصارت تصاميمها تمزج بين الرموز والشعارات، والصور والرسوم بالإضافة إلى الشعارات الرنّانة والاقتباسات بحيث توصل رسالة لكل من تقع عيناه عليها. [3]

بالإضافة إلى الدعاية السياسية، استخدمت الدول الطوابع وسيلةً للاحتفاء بالثقافة والفنون، وتعزيز الروح القومية على المستوى الوطني. فشاع تكريم الموسيقيين العالميين والأدباء والفنانين. كما باتت بعض الدول تستخدمها طريقةً للترويج لأبرز المعالم السياحية والأثرية، وتسويق صناعاتها المحلية ومحاصيلها. فاشتهرت دول أمريكا الجنوبية، على سبيل المثال، بإصداراتها التي كانت تحمل صور المناجم ومزارع الموز والقطن والقهوة والتبغ وقصب السكر، والتي كانت موجهة بشكل خاص إلى الدول الأوروبية.[4]

كما أصبح للطوابع البريدية دور اقتصاديّ كمورد لخزينة الدول. حيث تُشترى الطوابع البريدية رسومًا للمعاملات الحكومية والإرساليات البريدية، كما أن هناك أيضًا جمهورٌ يسعى لاقتنائها وجمعها والاحتفاظ بها. وبعد أن بدأت هواية جمع الطوابع بالانتشار، صار هناك توجه للاعتناء بالقيمة الفنية للطوابع البريدية وجعلها جذابة لهواة جمع الطوابع.[5]

في الأردن عام 1929، كان باز قعوار، موظف البريد المعيّن من حكومة الانتداب، أول من التفت لهذا الأمر وأحدث نقلةً في الطوابع البريدية الأردنية. إذ أعلن في الجريدة الرسمية عن نية الحكومة إصدار طوابع تحتوي على مناظر من الأردن، وطلب من هواة التصوير الشمسي تقديم أحسن الصور للأمير عبد الله، والأمير طلال وبعض المعالم الأثرية والطبيعية في الأردن.[6] وبناءً على ذلك، وابتداءً من عام 1933، بدأت إصدارات الطوابع الأردنية تعكس مواضيع مختلفة.[7]

توظيفات الطوابع في الأردن

بعد التصميم الوظيفي الذي يحمل عبارة «خالص الأجرة»، بدأت الطوابع البريدية الأردنية تُوثّق للأحداث التاريخية باستخدام «التوشيح» الذي يعني طباعة عبارات خاصة فوق التصميم الأساسي، والذي كان في ذلك الوقت صورة الأمير عبد الله بن الحسين. فوثقت الطوابع عام 1928 صدور أول دستور لشرق الأردن، وفي العام 1930 وثّق إصدار الجراد للكارثة الطبيعية التي أثرت على سكان الإمارة واقتصادها.

وبعد مبادرة باز قعوار، صدرت أول مجموعة طوابع تذكارية لمناسبة وطنية عام 1946 بمناسبة الاستقلال، وثاني مجموعة عام 1947 بمناسبة تأسيس المجلس النيابي.[8] بعد عام 1946، أصبحت الإصدارات الأردنية تحمل عبارة «المملكة الأردنية الهاشمية». ومنذ ذلك الوقت، وحتى يومنا هذا، توثق الطوابع، بالإضافة إلى المواضيع المتغيرة من عام لآخر، أبرز المناسبات المتعلقة بالنظام الملكي مثل التتويج والزواجات الملكية وغيرها.

ذكرى اعتلاء الملك حسين للعرش، إصدار عام 1953. المصدر: موقع التاريخ الأردني.

يمارس فكري قعوار هواية جمع الطوابع البريدية منذ زمن طويل. ويرى أن الطوابع البريدية وثائق تاريخية تُثبّت بعض الوقائع وتَحول دون تزوير التاريخ؛ فهي إثبات على توجهات الحكومات في أزمنة سابقة، وتوثيق لعلاقات دبلوماسية أو مواقف رسمية تجاه بعض القضايا. في مجموعة قعوار، كان ملفتًا تواجد عدة إصدارات تجمع الملك حسين وشاه إيران، كما في إصدار 1959 الذي يوثق لزيارة الشاه للأردن، ومجموعة عام 1973 التي تحتفي بذكرى مرور 2500 عام على تأسيس الإمبراطورية الإيرانية وإنشاء مملكة فارس. وذلك، بحسبه، دليل واضح على تقارب العلاقات بين البلدين في ذلك الوقت. تقاربٌ آخر وُثّق بإصدار بريدي أردني خاص لمحمد علي جناح، مؤسس دولة باكستان، والذي يربطه البعض بزواج الأمير حسن بن طلال بالأميرة ثروت ابنة أول وزير خارجية لحكومة باكستان. 

طوابع أخرى احتفت بما كان يُنظر إليه كإنجازات وطنية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، مثل إنشاء ميناء العقبة ومصفاة البترول وافتتاح المدينة الرياضية وغيرها.

إصدار زيارة شاه إيران للأردن 1959. المصدر: موقع Hipstamp.

مئوية ولادة محمد علي جناح، مؤسس دولة باكستان.

ذكرى افتتاح مصفاة البترول الأردنية 1960. المصدر: موقع جبال البلقاء الإخباري.

وكان لفلسطين حضور كبير في إصدارات الطوابع البريدية الأردنية. فظهرت في إصدار وحدة الضفتين عام 1951 صورة البتراء رمزًا للضفة الشرقية وصورة قبة الصخرة رمزًا للضفة الغربية. لحق ذلك العديد من الإصدارات في ذكرى النكبة والنكسة، وتوثيق لبعض المذابح والانتهاكات كإحراق المسجد الأقصى وغيرها.

لا تقتصر مواضيع الطوابع البريدية الأردنية على المناسبات المحلية، بل تتعدى ذلك لتشمل مناسبات وشخصيات إقليمية وعالمية. كالطوابع التي وثقت الاهتمام العالمي بالفضاء في الستينيات، والإصدار الأردني الخاص برواد الفضاء الروس. كما أن هناك إصدارات توثق الألعاب الأولمبية ومؤتمرات القمة وغيرها من الفعاليات.

لكن من يقرر مواضيع الإصدارات البريدية، ولماذا توثّق بعض المواضيع والأحداث دون غيرها؟

يجيب على هذا السؤال، أحد أعضاء اللجنة الموكلة بهذه المهمة، رمزي شويحات. يمثل شويحات جمعية هواة جمع الطوابع والعملات، ويجتمع سنويًا مع ممثلين من شركة البريد والديوان الملكي، ومندوبين من وزارات المالية والسياحة، والاقتصاد الرقمي والريادة (وزارة الاتصالات سابقًا). تجتمع اللجنة المكونة من ستة أشخاص نهاية كل عام، لتحديد مواضيع الإصدارات البريدية للعام التالي. وتستوحي اللجنة المواضيع من الأحداث الراهنة، وتقوم بالتنسيق مع هيئات دولية كالاتحاد البريدي العربي لعمل إصدارات مشتركة.

ينبثق الاتحاد البريدي العربي عن الاتحاد البريدي العالمي ويتبع جامعة الدول العربية. من بين وظائف هذا الاتحاد تنسيق الإصدارات المشتركة، كأن تتفق مجموعة من الدول العربية على تغطية الموضوع نفسه على مستوى عربي مثل إصدارات 2007 للتضامن مع الشعب الفلسطيني.

مثال آخر على إصدار مشترك هو إصدار «بيوت أورومتوسطية» عام 2018. انضمت الأردن لمجموعة من الدول مثل تونس ولبنان والمغرب ومصر وتركيا واليونان وغيرها من دول المتوسط في إصدار مجموعة طوابع بريد لنفس الموضوع.

بيوت أورومتوسطية 2018. المصدر: philarz.net.

بعد الاتفاق على المواضيع، تطرح وزارة الاقتصاد الرقمي والريادة عطاءً توضح فيه المواضيع المختارة والمواصفات المطلوبة. بعد ذلك تجتمع اللجنة لتقييم التصاميم المتقدمة واختيار الأنسب. وسبب تكرار حصول بعض الأسماء مؤخرًا على العطاءات، يقول شويحات، مردّه لقلّة عدد الطلبات المتقدمة، ولذلك يتم التغاضي أحيانًا عن جودة التصاميم في سبيل تنفيذ الطوابع. وأضاف أن اللجنة تحب التجديد وتشجع المصممين والفنانين من مختلف الخلفيات على التقدم بتصاميمهم في العطاءات القادمة.

الجائحة في الطوابع البريدية

إذا كانت مواضيع الإصدارات البريدية مستوحاة من الأوضاع الراهنة، فلا شك أن جائحة فيروس كورونا المستجد ستكون موضوعًا مُتفقًا عليه عالميًا. يقول شويحات، رئيس جمعية هواة جمع الطوابع والعملات الأردنية، إن الأردن سيأتي متأخرًا نسبيًا على توثيق هذا الحدث. فمن المقرر أن يكون هذا الموضوع ضمن عطاء هذا العام، لتصدر المجموعة التي ستغطي موضوع فيروس كورونا عام 2021.

خلال العام 2020، صدرت عدّة مجموعات، من دول مختلفة حول العالم، لتوثيق الحدث الاستثنائي. هدف بعضها لتكريم العاملين في القطاعات الطبية والقطاعات الحيوية، ولإيصال رسائل توعية على غرار ارتداء الكمامة والتباعد الاجتماعي، وتوثيق بعض الشراكات والاتحادات بين الدول والهيئات الأممية والدولية لمكافحة الفيروس.

كانت إيران الدولة الأولى التي أصدرت طوابع عن فيروس كورونا عام 2020. كرمت فيها «أبطال الوطن» من العاملين في القطاع الطبي في الصفوف الأولى، تلتها إصدارات في الصين وفيتنام وسويسرا وأندونيسيا وغيرها.

إصدارات عالمية عن فيروس كورونا 2020. المصدر: philatelicpursuits.com.

كما أصدرت الإدارة البريدية للأمم المتحدة مجموعة خاصة موضوعها التضامن العالمي في هذه الجائحة، وفيها ست رسائل توعوية عن التباعد الاجتماعي، وغسل الأيدي، والامتناع عن نقل الشائعات. 

مستقبل هواية جمع الطوابع

مع تراجع دور البريد، يتوقع كثيرون انحسار الطوابع البريدية واختفاءها بشكل تدريجي. يختلف العديد من هواة جمع الطوابع مع هذا، بل على العكس، يروْن في الأيام القادمة فرصة لازدهارها. فبعض المواقع الإلكترونية مثل إي باي (ebay)، ومواقع أخرى متخصصة أتاحت عرض وتبادل وبيع وتقييم الطوابع البريدية على نطاق واسع. كما أصبح الحصول على معلومات متعلقة بالإصدارات البريدية القديمة والحديثة متاحًا من خلال المنتديات والمدونات وحسابات مواقع التواصل، الأمر الذي يسهّل على من يمارسون هواية جمع الطوابع البريدية التعرّف على أشخاص آخرين حول العالم لديهم نفس الاهتمام.

ورغم أن استخدام الطوابع البريدية تناقص مع الاعتماد على البريد الإلكتروني والهواتف الذكية للتواصل، إلا أن ذلك، بحسب شويحات، أمر جيد للهواية. فندرة الطوابع البريدية تجعلها ملفتة أكثر وتزيد من قيمتها المادية والمعنوية. والهواية «المكلفة»، بحسب أعضاء جمعية هواة جمع الطوابع والعملات الأردنية، لا يمارسها أصحابها لأنها سهلة أو منتشرة، بل لأنهم يحبّونها ويهتمّون بها. فقد كانت لزمن طويل نافذة لهم على العالم الخارجي، أثارت فضولهم وعرّفتهم على تراث بلدان بعيدة من خلال تصويرها لمبانٍ أثرية وأطباق تقليدية وأزهار برية وشخصيات أدبية وفنية وغيرها قبل أن يكون ذلك متاحًا بكبسة زر.

عمل فني للفنان بين بلايل من شارع الرينبو في عمّان، تصوير روان بيبرس. 
  • الهوامش

    [1] «بروباغاندا الطوابع البريدية»، كارلوس ستوتزر، 1953
    Carlos Stoetzer, Postage Stamps as Propaganda, Public Affairs Press, Washington D.C, 1953 (
    http://davidsaks.com/sitebuildercontent/sitebuilderfiles/propaganda.pdf)

    [2] سعد أبو دية، البيئة السياسية وتطور أعمال البريد في الأردن، الأردن، منشورات لجنة تاريخ الأردن، 1993 (https://www.alkutba.gov.jo/readPdf.php)

    [3] «بروباغاندا الطوابع البريدية»، كارلوس ستوتزر، 1953
    Carlos Stoetzer, Postage Stamps as Propaganda, Public Affairs Press, Washington D.C, 1953 (
    http://davidsaks.com/sitebuildercontent/sitebuilderfiles/propaganda.pdf)

    [4] المرجع السابق

    [5] المرجع السابق

    [6] من بين المعالم الأثرية والطبيعية التي أشار لها قعوار قلعة الربض والملعب والجسر الروماني (يقصد المدرّج الروماني) وقلعة الكرك وهيكل الشمس في جرش وغيرها من المعالم.

    [7] البيئة السياسية وتطور أعمال البريد في الأردن، سعد أبو دية، 1993

    [8] موقع الحكومة الإلكترونية، البريد الأردني (الرابط)

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية