عبد الله غيث: وجوه متعددة للبطل المقهور

الإثنين 13 آذار 2023
عبد الله غيث
رسم منى راغب. المصدر: صفحة الفنان عبد الله غيث على فيسبوك.

عقب حفل افتتاح كأس العالم الأخير، قلت لصديقي إن صوت مورغان فريمان وطريقة إلقائه باستطاعتهما إضافة عمق إلى أي كلام مهما كان بسيطًا أو ساذجًا، وتحويله إلى كلامه يحتاج إلى تأملًا وتدبرًا، يبدو صوته حكيمًا وكأنه يأتي من السماء. ثم تساءلت مَن مِن ممثلينا المصريين يملك هذه الميزة والمقدرة، فاكتشفت أن الصوت رغم كونه أداة أساسية من أدوات الممثل، إلا أن الاهتمام به بات أقل من المفترض في السنوات الأخيرة.

عدت إلى الماضي، فتذكرت أن البعض أشار إلى محمود ياسين وقال إنه أم كلثوم التمثيل، محمود المليجي أيضًا له صوت عميق، كما لا يمكن أن ننسى زكي رستم. ولكنني أوقفت سيل الأفكار والأسماء وقلت: عبد الله غيث؛ عبد الله غيث بحنجرته القوية المتلونة، بلغته المتمكّنة، بأدائه المفعم بالحماسة، بحضوره الطاغي وبتعملقه على خشبة المسرح؛ عبد الله غيث هو الإجابة.

فلاح ممثل، ممثل فلاح 

بدأت نجومية عبد الله غيث عبر شاشة التلفزيون من خلال مسلسل «هارب من الأيام» المأخوذ عن رواية لثروت أباظة. لم يكن العمل الأول له غير أنه كان المحطة الفاصلة في حياة غيث. أُنتج المسلسل عام 1962، بعد عامين من افتتاح التلفزيون العربي -كما كان اسمه وقتها- واختار المخرج نور الدمرداش فريد شوقي ليقوم بدور البطولة. بدأت البروفات بالفعل، إلا أن فريد شوقي تردد ثم تراجع، إذ كان تصوير المسلسلات وقتها يتطلب تسجيل الحلقة بشكل متواصل دون توقف، لو أخطأ ممثل أو فني في اللحظة الأخيرة يعاد الأمر برمته. اعتذر فريد متحججًا بأن هذا العمل شاق جدًا، وربما خاف أيضًا أن يؤثر تواجده بشكل يومي عبر شاشات التلفزيون على قيمته كنجم سينمائي. قرر الدمرداش أن يحل عبد الله غيث محل فريد ويقوم بدور «كمال الطبال» في أول بطولة له، فتحول بين ليلة وضحاها إلى نجم تعرفه الجماهير وتميزه الأنظار. 

برهن غيث من خلال هذا الدور على موهبته بشكل مبكر، استغل الفرصة وقبض عليها من خلال شخصية صعبة ومتلونة؛ فلاح ساذج -أو هكذا يبدو- يتحول إلى رجل عصابات، وجهان مختلفان لشخصية واحدة، كما أنه غارق في محبة إحدى فتيات القرية، مما أضفى للشخصية ملمحًا آخر، واستطاع غيث أن يتنقل بين أطيافها المتعددة برشاقة ومرونة.

ساعدته نشأته على التمكن من الدور، فكأنما فُصّلت هذه الشخصية له خصيصًا، حيث نشأ غيث في بيئة ريفية بقرية في محافظة الشرقية، كما قضى فترات من طفولته ومراهقته بين أحياء الحسين والأزهر حيث أقام مع خاله، أحد علماء الإسلام، فخرج معجونًا بالطباع المصرية الريفية والشعبية. انجرف غيث بعد تعثره في التعليم إلى حياة أشبه بحياة أولاد الليل وكاد أن ينغمس فيها حتى انتشله أخوه الأكبر حمدي، موجهًا إياه إلى طريق المسرح الذي انتهجه من قبله.

مثّل فيلم الرسالة نقطة تحول في حياة غيث، فبعد انحسار الأضواء عنه وقلة أعماله غير المسرحية في السنوات السابقة، أتى فيلم الرسالة ليضعه في المقدمة من جديد.

حقق «هارب من الأيام» نجاحًا مدويًا، وأصبح أول مسلسل تلفزيوني مصري يلقى تلك المتابعة الشعبية. تحول ميعاد عرضه إلى موعد لاجتماع أسري أمام الشاشات، ودشن المسلسل تلك الظاهرة التي ستخلفه فيها مسلسلات «الساقية» و«القط الأسود»، وعشرات الأعمال الأخرى على مر السنين.

انتبهتْ السينما فورًا إلى الوجه الجديد واجتذبته إليها، نادته نداءها الذي لا يمكن مقاومته. ظهر غيث في العام التالي في دورين سينمائيين صغيرين، ثم صعد في العام اللاحق إلى موقع البطولة عبر فيلم «أدهم الشرقاوي»؛ فلاح مرة أخرى ولكنه ثائر ومناضل في هذه المرة. كان من المتوقع أن يحقق الفيلم نجاحًا كبيرًا بعدما استطاع رمسيس نجيب إقناع عبد الحليم حافظ بغناء مواويل الفيلم وأغانيه. وافق حليم على الفكرة على خلفية صراعه مع محمد رشدي الذي غنى المواويل من قبل في المسلسل الإذاعي المستوحى من القصة نفسها. رشح الكاتب سعد الدين وهبة غيث للدور الرئيسي ووافق حسام الدين مصطفى، فكانت بطولته السينمائية الأولى أمام كل من لبنى عبد العزيز وشويكار وسميحة أيوب، إضافة إلى عبد الوارث عسر وتوفيق الدقن، ولا ننسى صوت عبد الحليم. عُرض الفيلم عام 1964 في سينما ريفولي ولكنه لم يحقق النجاح الباهر الذي انتظره صانعوه، كما عُرض في العام نفسه عدد من المسلسلات التليفزيونية التي قام غيث ببطولتها، وأدى في أغلبها دور الفلاح أيضًا.

فى السنة اللاحقة قام غيث ببطولة فيلمين، الأشهر والأهم هو فيلم «الحرام» من إخراج هنري بركات عن رواية يوسف إدريس، وأمام نجمة بحجم فاتن حمامة، مقدمًا شخصية الزوج عامل التراحيل، «الأُجري» الذي يعتمد على يوميته حتى يصيبه المرض ويتملك منه، فيفقد القدرة على العمل ويصبح مثارًا للشفقة وعبئًا على أسرته. بدا عبد الله غيث وكأنه يضيف صورة جديدة للمعرض الذي أقامه لصور الريفيين المتباينة بسماتهم المختلفة، المظلوم بجوار المجرم، والثائر بجانب المريض البائس. عُرض الفيلم في مهرجان كان وقوبل بحفاوة بالغة من النقاد والمختصين، كما اختير كخامس أفضل فيلم في مئوية السينما المصرية، غير أنه لم يلق نجاحًا جماهيريًا كبيرًا. 

أما الفيلم الثاني الذي عرض في العام ذاته، فهو «ذكريات التلمذة» مع آمال فريد، حيث خلع فيه غيث جلباب الفلاح، وقدم فيلمًا دراميًا بمسحة رومانسية كوميدية، إلا أن الفيلم فشل جماهيريًا، وهنا بدأ منحنى نجومية عبد الله غيث في الهبوط وانحسرت عنه الأضواء بشكل متسارع. ربما ساهم في هذا التراجع إصرار المنتجين والمخرجين على حصره في دور الفلاح الذي أراد أن يتحرر منه، غير كاره أو ناقم، ولكن سعيًا منه إلى التنوع وإشباع رغباته كفنان قادر على تقديم الشخصيات المتباينة. 

لم ير غيث نفسه إلا ممثلًا أو فلاحًا، لم يتخيل نفسه في أي منصب تنفيذي أو وظيفة نظامية. فهو محب للحرية، كاره للقيود، عاشق للتغيير وللعيش على السجية وبشكل فطري، سواء في الاستوديوهات أو على خشبات المسارح أو في الحقول والأرياف، وفي الحالتين يرى الكون متسعًا أمامه دون حدود ودون نهاية.

خلال عشرة أعوام كاملة، لا نجد لعبد الله غيث أدوارًا سينمائية ذات قيمة باستثناء دوره المميز في «السمان والخريف» المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ، إضافة إلى مشاركته في بطولة جماعية في فيلم «ثمن الحرية». ظلت السينما تدير ظهرها له، حتى عندما رشحه عبد الرحمن الشرقاوي لدور «عبد الهادي» في الفيلم المأخوذ عن روايته «الأرض»، كان ليوسف شاهين رأي آخر واختار عزت العلايلي بدلًا منه.

بعد السنوات العشر العجاف، صالحته السينما وردت له اعتباره بدور بات إيقونيًا: حمزة بن عبد المطلب في الفيلم العالمي «الرسالة» للمخرج مصطفى العقاد، بينما أدى الدور في النسخة الإنجليزية أنتوني كوين، الذي اعتبره غيث أهم ممثل عالمي -مع مارلون براندو- إذ يراه يمتاز عن باقي الممثلين الأجانب بروح شرقية مشتعلة بالحياة. كانت مفاجأة سارة لغيث أن يجتمع مع نجمه المفضل في مكان تصوير واحد، فاستغل الفرصة لمد خيوط الصداقة بينهما.

مثّل فيلم الرسالة نقطة تحول في حياة غيث، فبعد انحسار الأضواء عنه وقلة أعماله غير المسرحية في السنوات السابقة، أتى فيلم الرسالة ليضعه في المقدمة من جديد. حظي الفيلم بانتشار واسع بسبب موضوعه وإنتاجه الضخم، كما أن غيث قدم أداء ممتازًا، وصورة جذابة وغير مفتعلة للفارس العربي المعتد بنفسه؛ صورة تليق بشخصية حمزة، وهو ما سيلقي بظلاله على باقي مشواره، لتُفتح أمامه استوديوهات المسلسلات التاريخية عن آخرها. سيتحرر أخيرًا من سجن الفلاح ولكنه سيحبس في سجن الفارس، إلا أنه سجن أكثر براحًا وبه مساحة أكبر للتنوع والتلوين.   

لعل أشهر قصة عن عبد الله غيث هي طلب كوين منه أن يبدأ تمثيل أول مشهد قبله حتى يتسنى لكوين مشاهدته والاستفادة من أدائه لتفاصيل الشخصية العربية وانفعالاتها. ارتبك غيث من المفاجأة ولكنه سرعان ما تمالك نفسه وتلبسته روح حمزة وأدى المشهد، فانبهر كوين والفنيون الأجانب بأداء غيث وظلوا يحيّونه على براعة تمثيله للمشهد. يتذكر المصريون تلك القصة بفخر وكأننا في حاجة دائمة للاعتراف العالمي كي نعترف بأنفسنا، خاضعين للعوامل الغربية في الحكم والاختيار، ومتناسين أن كثيرًا من الفنانين المصريين لم يحظوا بهذه العالمية رغم تفوقهم موهبة وحضورًا على آخرين وصلوا لقمتها.

«عملاق» على الخشبة

كانت خشبة المسرح هى ساحة عبد الله غيث المفضلة، تدب قدمه عليها بثقة ويحفظ أبعادها عن ظهر قلب. انبهر غيث بعالم التمثيل منذ كان في السادسة من عمره، حين اصطحبه أحد أقاربه، مع أخيه الأكبر حمدي، إلى مسرحية «مصرع كليوباترا» لأحمد شوقي وبطولة حسين رياض وزكي رستم وأنور وجدي وزينب صدقي، سحرته لمعة عين حسين رياض وظلت عالقة في ذهنه بعدما عادوا إلى المنزل، وباتت مصاحبة له عبر السنين، تبهره وترشده إلى الطريق.

بعدها أصبح يوسف وهبي بطل غيث المفضل ومثله الأعلى، حتى إنه حضر عرضًا خاصًا لأحد أفلامه وهو صبي في الحادية عشرة، وبعد انتهاء العرض اندفع بين الجموع ليصافح يوسف بيك ويمسك بيده وكأنه ينهل من موهبته. إضافة لرياض ووهبي، كان زكي رستم ومحمود المليجي وحمدي غيث هم النماذج الملهمة والمؤثرة في شخصيته التمثيلية، وبدا الحظ كريمًا معه في هذا الشأن فعمل معهم جميعًا. غير أن ما يؤخذ عليه أحيانًا هو الإفراط في الانفعال متأثرًا بأداء أساتذته القدامى. سيظهر هذا الملمح في بعض المشاهد التلفزيونية المتفرقة في النصف الثاني من حياته، في مسلسل «الكتابة على لحم يحترق» مثلًا، فهل كان هذا اختيارًا واعيًا أم مجرد آفة تسللت إليه بمرور الزمن؟ 

إذا نظرنا إلى مشوار غيث سنجد الكثير من الكتاب الكبار والمؤلفين المعروفين، مصريين كانوا أم عالميين، وقد وهبهم غيث صوته العميق، حتى بات النص هو بطل حياته الحقيقي. 

كانت بدايات غيث المسرحية على يد المخرج كمال ياسين الذي اختاره لدور في مسرحية «المحروسة» لسعد الدين وهبة، ثم أسند إليه أول بطولاته في مسرحية «الدخان» لميخائيل رومان، كما ساهم كرم مطاوع بوضوح في مسيرة عبد الله غيث عندما قدمه في مسرحيتي عبد الرحمن الشرقاوي «الفتى مهران» ثم «ثأر الله» عن نصي «الحسين ثائرًا والحسين شهيدًا». تتسع قائمة مسرحيات عبد الله غيث لتضم مأساة جميلة ودنشواي الحمراء وماكبث وفيدرا والمخططين ومصرع كليوباترا ومرتفعات ويذرينج والعباسة وغيرها. إلا أن أغلب هذه المسرحيات للأسف إما لم تسجل أو لم تعرض تلفزيونيًا، كما أن مسرحية «ثأر الله» التي جسد فيها غيث شخصية الحسين مُنعت من العرض بقرار تداخل فيه الشأن الديني مع الشأن السياسي. كتب الشرقاوي المسرحية في أعقاب النكسة، وكان بها ما بها من إشارات وإسقاطات سياسية، ثم تحمس كرم مطاوع لإخراجها عقب زيارة قام بها لكربلاء. وبعد إجازة الرقابة للنص المسرحي، إذ بتغير يطرأ على مواقف المسؤولين. أدرك مطاوع أن ثمة مشكلة تلوح في الأفق، ولجأ للتحايل على قرار المنع حيث سمح للجماهير بحضور البروفات. عرضت المسرحية لأسبوعين تحت مسمى البروفات قبل أن ينفذ القرار وتتوقف المسرحية التي لو اتيحت لنا لكانت من أهم ما أنتج المسرح المصري على الإطلاق، سواء بسبب موضوعها التاريخي أو لتوافر العناصر الفنية شديدة التميز في العرض.

تقول سميحة أيوب إنه رغم أداء عبد الله غيث المميز في التلفزيون، فإن أداءه في المسرح مختلف تمامًا: «على المسرح أشعر أنه يزداد طولًا، يصبح عملاقًا كبيرًا جدًا، يتحول إلى كائن شفاف وغريب، لم أشعر بهذا إلا أمام قلائل، على رأسهم عبد الله غيث وشفيق نور الدين». 

شاركته سميحة أيوب بطولة عدد كبير من الأعمال، منها مسرحية «الخال فانيا» عن نص لأنطوان تشيخوف، حيث استضاف المسرح القومي مخرجًا سوفيتيًا اسمه لسلى بلاتون لإخراج المسرحية. شاهد الفنان السوفيتي عددًا كبيرًا من ممثلى المسرح القومي لاختيار أبطال عرضه، وإذا به يختار عبد الله غيث، الشاب حينها، ليؤدى دور «فانيا» المقبل على الخمسين من عمره، بل إنه من المفترض أن يبدو أكبر سنًا بمعايير زمننا. أشار إليه وقال إن هذا هو الممثل المناسب للدور رغم تباين السن بينه وبين الشخصية، لم يخذل غيث المخرج الوافد واستطاع أن يجسد شخصية الكهل المحبط، العاشق بلا أمل، الغاضب، الساخط على مجتمعه ومحيطه، بشكل لافت، إلى حد إقناعك أنه كهل روسي في مطلع القرن الماضي. 

ابتعد غيث عن المسرح لاحقًا لفترة وصلت إلى عشرة أعوام أو يزيد، ثم عاد في الثمانينيات ومع سميحة أيوب مرة أخرى في المسرحية الشعرية «الوزير العاشق» لفاروق جويدة. تميزت المسرحية بنقد واضح للحكام العرب وإسقاط سياسي صريح -لا يمكن أن نرى مثله اليوم- محققة نجاحًا غير متوقع، طافت على إثره دول العالم العربي، فعُرضت في الأردن والجزائر وتونس وسوريا، وترددت عليها الجماهير وكأنها مرثية للعالم العربي نفسه، لا للأندلس.

استحضار التاريخ 

مطلع الستينيات، حضر الشاب حديث التخرج محفوظ عبد الرحمن مسرحية «المحروسة»، وفي منتصف العرض أمسك بالكتيب الدعائي الذي أخذه على بوابة المسرح وبحث عن اسم الشاب الذي يؤدي دور الفلاح، عبد الله غيث. لم يكن الاسم معروفًا بعد، إذ كان ذلك قبيل «هارب من الأيام». اعتبره عبد الرحمن منذ ذلك الحين نموذجًا للممثل الذي يحبه ويعبر عنه، كما سيتبين في لاحق الأعوام اتساق همومهما ومواقفهما السياسية.

بعد عدة سنين، شرع عبد الرحمن  في كتابة التمثيليات وشارك غيث في بعضها، إلا أن نقلة كبيرة ستحدث لهماما ولعلاقتهما في منتصف السبعينيات مع مسلسل «سليمان الحلبي» الذي مثل بداية لمشروع ممتد، يقوم على أضلاع ثلاثة، عبد الرحمن وغيث والمخرج الأردني عباس أرناؤوط. بعدها قدم الثلاثي مسلسل «عنترة»، حيث أدى غيث دور شيبوب، خاطفًا الأنظار من بطل المسلسل أحمد مرعي. لم يُصوِر المسلسل شيبوب في شكل هازئ كما فعل سعيد أبو بكر في العمل السينمائي، ولكنه بدا فارسًا صعلوكًا، يملك القدرة على المنازلة والقتال، ولكنه يسخر من كل شيء، محب للحياة رغم قسوتها، وكأنه زوربا العربي، ويبحث عن مواطن المتعة في حياته البائسة دون أمل في مستقبل أفضل، فسخريته لاذعة ولا تخلو من المرارة.

يمثل عبد الله غيث نموذجًا للفنان الملتزم بأفكار وقضايا وأشكال فنية معينة، لم يحد عنها إلا نادرًا جدًا، ربما في بعض أفلامه الأخيرة فقط. التزم بالخط الفني الذي اختاره لنفسه وتمسك به.

فى نهاية السبعينيات، وعقب زيارة السادات لـ«إسرائيل» واتفاقية كامب ديفيد، كتب عبد الرحمن ونفذ الثلاثي مسلسل «ليلة سقوط غرناطة» عن لحظة تسليم «عبد الله الصغير» آخر ملوك غرناطة مفاتيح مدينته للقشتاليين بعدما عقد معهم الاتفاقات، العلني منها والسري. مُنع المسلسل من الدخول إلى مصر، لم يعرض على القنوات المصرية حتى يومنا هذا، ولم يلق الحفاوة المناسبة عربيًا إلا بعد ثلاثة أعوام، عندما تسابقت القنوات العربية على عرضه عقب غزو لبنان. جسد غيث دور موسى الغساني، القائد والمحارب المصر على القتال حتى آخر رمق، مخالفًا أوامر عبد الله الصغير، وربما مخالفًا العقل والمنطق. كانت هذه الشخصية ملازمة لغيث في أغلب مسلسلات محفوظ عبد الرحمن، البطل المقهور والمتمرد، رمز المقاومة المستمرة، الفارس المكسور الذي يقاوم رغم تلاشي الأمل. ويبدو في تلك المسلسلات وكأنه شخص عابر للأزمان، فموسى الغساني هو امتداد لشخصية السيد في «سليمان الحلبي»، وحمدان في «الكتابة على لحم يحترق» هو امتداد لكليهما. 

رأى عبد الله غيث أن محفوظ عبد الرحمن لا يكتب تاريخًا مجردًا، بل يختار منه لحظات معينة ويكتب من خلالها مسلسلًا عصريًا بفكر مناسب للزمن الراهن بعدما يلبسه عمامة التاريخ. سيختلف عبد الرحمن مع هذا التفسير، وسيبتسم غيث ابتسامة ماكرة. امتدت مسلسلات الثلاثي فضمت «مصرع المتنبي» و«الكبرياء تليق بالفرسان» و«الفاتح»، كما جسد غيث شخصية شلش الحلواني في العمل الاستثنائي «بوابة الحلواني» لعبد الرحمن أيضًا ولكن من إخراج ابراهيم الصحن.  

تعددت أعمال غيث التاريخية في هذه الفترة وكأنه يكتب ملخصًا لتاريخ العرب والمصريين عبر وجهه مميز القسمات، فهو الحسين وحمزة وخالد بن الوليد والمتنبي وعمرو بن كلثوم وابن تيمية وابن زيدون وابن عمار وموسى بن نصير وأبو جعفر المنصور وحرب بن أمية وموسى الغساني والحكيم آني وآخرون. لم تكن كل أعماله التاريخية في مستوى أعماله مع عبد الرحمن، تأرجحت بطبيعة الحال، غير أن بعضها كان مميزًا أيضا مثل مسلسل «موسى بن نصير» في التجربة التاريخية الوحيدة للكاتب محمد جلال عبد القوي.

تخللت هذه السنين بعض الأعمال الاجتماعية، أدى غيث في أغلبها دور الفلاح، ولكنه ظل يتوق إلى التلوين في الأدوار، وما يلبث أن يتحمس للشخصيات التي لا ترتدي عمة التاريخ أو جلباب الريف، مثل دور العميد رشدي في «وتوالت الأحداث عاصفة» الذي اشتهر بجملة «أنا البرادعي يا رشدي»، وكذلك دوره في واحد من مسلسلات أسامة أنور عكاشة المبكرة وهو «عابر سبيل».

فى بداية التسعينيات، بدا أن الحظ سيعاود الابتسام لغيث ويعيده إلى مصاف النجوم الجماهيريين من جديد مع دوري عباس الضو وعلوان البدري في مسلسلي «المال والبنون» و«ذئاب الجبل»، إلا أن القدر لم يمهله وفارق الحياة قبل أن يكمل تصوير مشاهد المسلسل الأخير. 

وجوه للالتزام

يمثل عبد الله غيث نموذجًا للفنان الملتزم بأفكار وقضايا وأشكال فنية معينة، لم يحد عنها إلا نادرًا جدًا، ربما في بعض أفلامه الأخيرة فقط. التزم بالخط الفني الذي اختاره لنفسه وتمسك به، كان يسخر بمرارة من الأعمال التافهة وما تحققه من نجاحات. فإذا نظرنا إلى مشوار غيث سنجد الكثير من الكتاب الكبار والمؤلفين المعروفين، مصريين كانوا أم عالميين، وقد وهبهم غيث صوته العميق، حتى بات النص هو بطل حياته الحقيقي. 

ورغم أن غيث في حياته لم يكن مشاكسًا كما يبدو في أدواره، لا يحب الصدام أو الجدال بل يهرب منهما، إلا أننا نجد أن اختياراته لم ترق للسلطات في كثير من الأحيان، حيث عانى من قيود الرقابة التي عطلت مسيرته، فأوقفت مسرحيته «ثأر الله» ثم منعت عرض فيلم «الرسالة»، ومسلسل «ليلة سقوط غرناطة». وكثير من أعماله التي لم تمنع رقابيًا توارت بفعل الإهمال أو الجهل أو تعمد التغييب، كمسرحياته التي لم تسجل أو لم تذع، أو كمسلسلاته المهملة المنبوذة. 

يبدو أن ثيمة البطل المقهور والفارس المكسور لم تقتصر على أدوار عبد الله غيث في أعمال محفوظ عبد الرحمن فقط، ولم تمتد إلى أدوار الحسين وأدهم الشرقاوي وحسب، بل شملت مسيرته الفنية ومشواره الشخصي، حتى بدا وكأنه هو نفسه بطل مقهور بوجوه متعددة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية