عن المرأة في التراث: نساءٌ في الخدورِ، ونساءٌ كنعاجِ الرّمل، ونساءٌ يرتكبْن الرّكوب

لوحة «موكب الصحراء» للمستشرق البريطاني جوزف أوستن بنويل، مصر، 1874.

عن المرأة في التراث: نساءٌ في الخدورِ، ونساءٌ كنعاجِ الرّمل، ونساءٌ يرتكبْن الرّكوب

السبت 12 كانون الأول 2020

يكاد أصحاب التفاسير أن يتّفقوا على أنّ النعجة في الآية الثالثة والعشرين من سورة «ص»: {إنّ هذا أخي له تسعٌ وتسعون نعجةً ولي نعجةٌ واحدة} تكنيةٌ عن المرأة.[1] لربّما كان استخدام العرب هذه التكنيةَ سببًا في تلك الإحالة، رغم أنّ الآية جاءت في سياق قصّة داود مع الملكين اللذين زاراه مُدّعِيَيْن نزاعًا ليحكم بينهما. وهو إذ يفعل، يتنبّه إلى خطأ كان قد ارتكبه في حكمٍ أمضاه يفصلُ فيه بين رجلين اختلفا حول زوجاتهما – حسب إحدى روايات الحكاية –، فيخرّ ساجدًا لربّه ويتوب عن زلّته.[2] لم يكن صعبًا على داود أن يُدرك الدّرس ويعرفَ موطنَ خطئه، فلم يفعل الملَكان أكثر من أنّهما أعادا مشهد المحكمة مع تغيير في عنصر السرد الأساسيّ؛ النساء! – لو صحّت الحكاية وصحّ معها مدلول التكنية –. وبما أنّ التمثيل هو الشّكل الذي اتّخذته الرسالة لإيصال الوعظ السماويّ، كان مفهومًا ألا تأتي المحاكاة تامّة التماثل. شأن التمثيل أن يقرّب دون أن يقول الشيء صراحةً، ولهذا ربّما كان النزاع على نعاج في الرسالة التمثيليّة.

لكن، كيف نقرأ استبدال النعاج بالنسوة في الحكاية التي يقرّها المفسّرون؟ أهو استبدال عشوائيّ ليبقى عنصر المُشاكلة الناقصة موجودًا في التمثيل؟[3] أم أنّ تكنية المرأة بالنعجة كانت مألوفة في عرف بني إسرائيل؟ وإذا كانت كذلك فما سبب التكنية عندهم؟ يبدو أنّ جمعًا من علماء التفسير لم يهتمّوا كثيرًا بهذه الأسئلة، وقفزوا منها إلى تكنية العرب للنساء بالنّعاج، رغم اختلاف السياقين. ولنقل إنّنا لو قبلنا قول المفسّرين في الآية، فذلك لأنّ القرآن نزل بلسانٍ عربيّ مُبين، والعربُ تكنّي عن المرأة بالنّعجة. فلماذا؟ في أيّ شيء تشبّه العربُ المرأة بها؟ وما المقصود بالنّعجة في كلامهم الذي كان معظم ما وصلنا منه شعرًا؟

في تفسير القرطبيّ للآية، نجده يستشهد بقولٍ ينسبه للنحويّ أبي جعفر النحّاس يفسّر فيه وجه الشبه بين النعجة والمرأة:

«والعرب تكنّي عن المرأة بالنّعجة والشاة، لما هي عليه من السّكون والمَعْجَزة وضعف الجانب. وقد يُكنّى عنها بالبقرة والحجرة والناقة؛ لأنّ الكلّ مركوب».[4]

هرعتُ إلى مكتبتي أبحث عن مادّة (نعج) في لسان العرب فور قراءتي اقتباس القرطبيّ؛ ذلك أنّ ذاكرة محفوظاتي الشعريّة انهالت عليّ بصورٍ ذات دلالاتٍ مُغايرة، لكنّني حاولتُ إرجاء التفكير بها لأرى ما يقول ابن منظور، وما إذا كان للاقتباس الذي يُثبِته القرطبيّ في التفسير وجه حقّ فيما ادُّعيت نسبته إلى العرب.

«نعج: النّعجة: الأنثى من الضّأن والظّباء والبقر الوحشيّ والشاء الجبليّ، والجمعُ نعاجٌ ونعجات، والعربُ تُكنّي بالنعجة والشاة عن المرأة. ونعاجُ الرملِ: هي البقرُ، واحدتها نَعجة. والنّعجُ: الابيضاضُ الخالصُ، ونعجَ اللَّونُ الأبيضُ يَنْعَجُ نَعَجًا ونُعوجًا، فهو نَعِجٌ: خَلَص بياضُه. وامرأةٌ ناعجةٌ: حسنةُ اللّونِ. وجملٌ ناعجٌ: حسنُ اللّونِ مُكرّم، والأنثى بالهاء».[5]

عمودٌ ونصف في اللسان لمادّة (نعج) قرأته ثلاث مرّات بحثًا عن أيّ إشارةٍ للضعف والعجز في سياق تكنية المرأة، فلم أجد. ووجدتُ أنّ كلّ الصفات المُلحَقة بالجذر تحملُ طابعًا إيجابيّا؛ فالنواعجُ من الإبل حسانُ الألوان، والأرض الناعجة المستويةُ السّهلة المُكرمة للنبات، ونعج فلانٌ إذ سمن. إن كان ثمّة دلالة يشترك فيها ما تقدّم فهي دلالة خير وجمال. وإن عدنا لذكر المرأة تحديدًا، فربطُ جذر الفعل بها جاء من قبيل المدح صراحةً: «وامرأةٌ ناعجةٌ: حسنةُ اللّونِ». ولو سمحنا لأنفسنا الآن بتذكّر معايير جمال المرأة العربيّة في الشعر – بصرف النظر عن قبول المعيار من عدمه لأن المناقشة هنا معنيّةٌ بدلالات الجذر وفقًا لاستخدامه – لَتَمثّلت صفتان أثبتهما المعجم في مادّة (نعج): امتلاء الجسدِ وبياض اللّون. في المعجم الوسيط – وهو معجمٌ حديث –، نقرأ: «وكانوا يقولون: نساءٌ كنعاجِ الرَّمْل: جميلاتٌ واسعاتُ الأعين». كانوا يقولون. كانت العربُ تقول: حسنٌ وجمال. المعاجم تؤكّد.

سكونٌ ومَعْجَزةٌ وضعفُ جانب

حسب الاقتباس المذكور عند القرطبيّ، تشتركُ النساء مع النّعاج في العجز والمفعوليّة (وأقصد بالثانية قوله إنّها مركوبةٌ كالدّابة، وفي ذلك دلالة على سلب الفاعليّة). يُبدأ بمقدّمة تُغري بالتسليم: «والعربُ تكنّي»، حتى توهمَ المتلقّي بأنّ ما سيأتي في وصف المُكنّى عنه لا يعدو كونه مشتركًا ثقافيًّا محمولًا في الذاكرة الجمعيّة. إنّ بنية الجملة تحيلنا على الكيفيّة التي تُسرَد بها أخبار العرب؛ فكثيرًا ما تمرّ علينا استهلالاتٌ مشابهة غايتها إحداثُ الأثر في المتلقّي بدغدغةِ انتمائه الجمعيّ. إنّها مصادر للمعرفة التاريخيّة؛ تُساق منها الشواهد اللغويّة والأدبيّة، وتكاد تكون روايتها لتأكيد فكرةٍ ما، من الأدلّة المُتواطَأ على التسليم بصحّتها.[6] لعلّي لا أجانبُ صوابًا لو قلتُ إن تاريخ الكلمة قبل كتابتها يختلف عن تاريخها بعد تضمينها نصًّا ما. ذلك أنّ الفكرة في طريقها إلى التدوين تغدو ملتبسةً بأفكار المدوّن الذي يتخيّر من الحقيقة أو الخبر أو الواقعة ما يعزّز به خطابه المنشود.

عليّ الاعتراف أنّ شكًّا قد ساورني في نسبة القول إلى النحّاس، شكًّا ارتقى إلى الظنّ بعد القراءة في المعاجم. أن يُخطئ عالمٌ في اللغة والنحو في تحديد دلالة استخدامٍ عربيّ لصورة تتكرّر كثيرًا في الأدب والشعر، فهو أحد أمرين؛ أن يكون قاصدًا للتشويش، أو أن تكون نسبة القول إليه تقوّلًا متعمّدًا. ورغم أنّ ما خالجني لم يكن أكثر من توجّسٍ متردّد، لم أرَ ضررًا من النّظرِ في تفسير النحّاس آيةَ داود، ففعلت. تصفّحتُ «معاني القرآن»، و«إعراب القرآن» بحثًا عن الاقتباس فما وجدتُ أكثر من إثبات التكنية عن المرأة بالنعجة وشاهد لغويّ من شعر الأعشى في سياق التشبّب. [7] عدتُ إلى القرطبيّ أتأكّد من الاسم، فكان هو؛ النحّاس. اعتدلتُ في جلستي وأخذتُ نفسًا عميقًا تهيُّؤًا للدخول في مغامرة لغويّة.

كانت فرضيّتي أنّ الاقتباسَ للقرطبيّ نفسه وأنّه ما ألصق القولَ بالنحّاس إلا تلمّسًا لسلطة القول، فالنحّاس إمامُ العربيّة العلّامة حسب وصف الذهبيّ[8]. لكنّني قبل البتّ في الأمر تابعتُ البحث، فوجدتُ تعليل التكنية المذكور في تفسير القرطبيّ بألفاظه وتركيبه عند القاضي أبي بكر بن العربي في كتابه «أحكام القرآن» دون إسناده للنحّاس.[9] بين ابن العربيّ – إمامِ الحديث والفقيه الأندلسيّ – وأبي جعفر النحّاس النحويّ مئتا سنةٍ تقريبًا، وبين القرطبيّ – إمام التفسير والقراءات – وابن العربيّ قرابة القرن.[10] فأيّ الرجلين أقربُ زمنيًّا للقرطبيّ؟ تثبتُ المصادرُ تأثّر القرطبيّ بكلا الرجلين وبقراءته لما دوّناه في تفسير القرآن. وإذا كان القرطبيّ في تفسيره يستشهد بكليهما ويكثر نقله عنهما، فما تبريرُ الخطأ في نسبة القول هنا؟

ها قد ازداد الأمرُ تعقيدًا، وقد يكونُ من المريحِ أن أقول إنّ القرطبيّ أخطأ سهوًا في النسبة. لكنّني أفضّلُ أن أثق بذكائه، فإنّ تحديد معاني أو أغراض تشبيهات العرب ومقاصد أقوالهم تصير أقربَ للصدقِ وأكثر موثوقيّة حين يثبتها اللغويّ العلّامة الآخذ عن الأخفش والمبرّد، لا الفقيه المحدّث. في مقدّمة «الكتابة والتناسخ»، يقول كيليطو: «في الثقافة العربيّة الكلاسيكيّة، لا يكفي لقولٍ ما أن يتوفّر على «انتظامٍ خاصّ» كي يعتبر نصًّا؛ ينبغي فضلًا عن ذلك، أن يصدر عن، أو أن يُرقى به إلى، قائلٍ يقعُ الإجماع على أنّه حجّة. حينئذٍ يكون النصّ كلامًا مشروعًا ينطوي على سلطة، وقولًا مشدودًا إلى مؤلّف حجّة».[11] وفي النقل عن العرب، من الحجّة هنا؟ اللغويُّ شارحُ أبياتِ سيبويه أم الفقيه المحدّث؟

ينحلُ القرطبيّ للنحّاس ما نِسْبَتُه لابن العربيّ، لأنّ الحجّة في «المنحول» أثبت وأدعى للتسليم بها حين تصدرُ عن عالم اللغة والنّحو. لو صدق ترجيحي لوعي القرطبيّ بإبدال القول،[12] فإنّ سؤالًا آخر قد يتبادر إلى الذهن. أما خشي القرطبيّ أن تُكشف عمليّة الانتحال هذه؟ فيما اطّلعت عليه من تفاسير لاحقة، لا يبدو أنّ أحدًا ممّن أثبت التكنية عن المرأة بالنعجة في الآية قد تطرّق للمسألة. ولا غرابةَ في ذلك، لأنّ نسبة رأي لغويّ دلاليّ إلى علّامة في اللغة والنحو أمرٌ بدهيّ. فحتّى لو انتبه أحد إلى تدوين ابن العربيّ له لن يغيّر ذلك من أصالة نسبة القول إلى النحّاس، فهذا الآخر «ينطوي كلامه على سلطة» لا تتأتّى للأوّل: الأصلُ أن النحّاسَ معروفٌ ببراعته اللغويّة والنحويّة، بينما ابن العربيّ مشهورٌ بتحديثه وفقهه. فإذا أردْت أن تُقنع باللغة، قلتَ إنّ أهل اللغةِ قالوا! ومن أجل كلّ ذلك، سأواصل تأمّلي مُدركةً مكانة النحّاس بين اللغويّين، وموقع كلٍّ من القرطبيّ وابن العربيّ من الثقافة المتسيّدة.

 إسباغُ السرديّة العالِمة – متمثّلة هنا بابن العربيّ والقرطبيّ – دلالَ الضّعف والعجز على وصف المرأة بالنّعجة، أو حصرها دلالة الخِدر في التواري والانزواء في البيوت، أمران يتّسقان مع ما نشهده من نموذج للمرأة في الخطاب الرسميّ.

يصدقُ على القرطبيّ وابن العربيّ وصفُ التمويه. في مادّة (موه) عند ابن منظور، نجد «ومَوَّهَ الشيءَ: طَلاهُ بذهبٍ أَو بفضةٍ وما تحت ذلك شَبَهٌ أَو نُحاسٌ أَو حديدٌ، ومنه التَّمْوِيهُ وهو التلبيسُ، ومنه قيل للمُخادِع: مُمَوِّه. وقد مَوَّهَ فلانٌ باطِلَه إذا زَيَّنه وأَراه في صورةِ الحقّ».[13] وإذا استفززنا المخيّلة على التصوير، فإنّ أوّل ما ستستدعيه هو شكل الماء. والماءُ عائمٌ وسائلٌ وضبابيٌّ؛ يشوّشُ ما وراءه ولا يحجبه تمامًا. ابنُ العربيّ والقرطبيّ يموّهان بخلطهما بعض الحقيقة بالافتراء؛ يُكنّى عن المرأةِ بالنعجة عند العرب، هذا صحيح وإنكاره سذاجة وجهل، إلّا أنّ ما أورداه من تعليلٍ للتكنية لا يمكنُ أن يُفهم خارج نسق الخطاب الرسميّ، أو «العالِم» حسب لغةِ ناجية الوريمي.[14] أي أنّه لا يحيدُ كثيرًا عمّا نجده عادةً في أمّهات الكتب. هذا فضلًا عن تمويه القرطبيّ بإسناده تعليلَ ابن العربيّ إلى النحّاس في سبيلِ شرعنة الحكم. إذن، إذا كان ابنُ العربيّ قد مرّر فكرة مَعْجَزَةِ المرأة حين قال «يُكنّى عنها» بكذا، فإنّ القرطبيّ موّه مرّتين؛ الأولى بإدراجه القول المُمَوِّه، والثانية بإسناده إياه لعلّامة في اللغة.

إنّ في تدوين ابن العربيّ للجملة في تفسيره، وفي إثبات القرطبيّ لها – بصفتها شاهدًا لغويًّا مسنودًا إلى النحّاس – إعادةَ إنتاجٍ لصورة ارتبطت عند الشاعر العربيّ بمعانٍ لا تمتّ إلى «المَعجَزة» بصلة. ما أثبتاه من وجه شبهٍ بين النّعجة والمرأة هو وصفٌ يتّسقُ مع نموذج «امرأة الخدور» في الخطاب الرسميّ، الفقهي منه والسياسيّ والتاريخي.[15] إنّها امرأةٌ مُنزوية ومستترة دائمًا وراء الحُجُب أو يرُاد لها ذلك. ولا أظنّها مصادفة معجميّة أن تجتمع خِدْرٌ وخَدَرٌ في ذات الجذر، فإنّ هذي الأخيرة تشي بالاسترخاء والفتور. أوليست كلتا الإشارتين متّصلةً إلى حدّ بعيدٍ بمعاني الضعف والعجز؟ يعترينا التّعب فتفترُ أجسادُنا وتضعفُ حركتُها، ونحتاجُ إلى الرّاحة، فنلزمُ البيت ونُسدل السّتار عن العالم. هذا دخولٌ اختياريٌّ في الخِدْر. لكنّ خِدْرَ المرأة في الخطاب العالِم ليس مؤقّتًا؛ إنّه مكانُها الذي تُلازمه تتوارى فيه عن الأعين فلا رائية ولا مرئيّة. تقرّ فيه غيرَ مفارِقة؛ لأنّ ضعفها أصيلٌ حسب الخطاب إيّاه. هذا خِدْرٌ يختلفُ عن خِدْر عُنيزة (هودجها) الذي يدخلهُ امرؤ القيس ويصوّر لنا حوارهما بعد الكشفِ وتدلّلها عليه، ورجاءَه ألّا تحرمه قُربَها أو تبعدَه عن «جناها المعلّلِ»، فهي تعرفُ أنّها مهما تأمر القلبَ يفعلِ. خِدْرٌ لا يشبهُ أيضًا خِدْر ليلى مشتبِهًا بخدورٍ أخرى تحجّ البيت الحرام، يدورُ ابنُ الملوّحِ محتارًا بينها، باحثًا فيها عن معشوقتِه؛ قلبِه الذي في الرَّكْب. يدفعُه حبٌّ مجنون: إنّي لأجدُ ريح ليلى لولا أن تُفنّدون. الخِدْرُ في شعر قيس رمزٌ لاستحالة بلوغ المعشوقة الواحدة؛ في عرفه لا بدّ أن تبقى ليلى قريبةً بعيدةً أبدًا، كالآلهة. إنّه خِدْرُ الاستعارة.

وحتّى أقتربَ أكثر ممّا بدأتُ به، أقول: إنّ في إعادة الإنتاج بعضًا من ميلٍ وانحراف: الفرق بين موَه وموَّه تضعيفُ عين الفعل، وفي التضعيف تكلّفٌ وبذلٌ واعٍ. ونحن حين نُعيدُ سرد القصّة نُبَعثِرُ عناصرها الأولى، وقد نُسقِطُ بعضها ونعيد تشكيلها وفقًا لأكثر نقطة أثارت إعجابنا أو انتباهنا فيها، فنُمَحْوِرُ الحكاية حولها. نفعلُ ذلك – فرادى – أحيانًا دون وعيٍ منّا. لكنّ الأمر يختلف حين يكون الحديث عن عمليّة إنتاج خطابٍ يسعى لطبع صورة تتّسق مع الهُويّة المُراد تصديرها؛ في هذه الحالة نشهدُ اطّرادًا غير بريء في السرديّات الرسميّة. إسباغُ السرديّة العالِمة – متمثّلة هنا بابن العربيّ والقرطبيّ – دلالَة الضّعف والعجز على وصف المرأة بالنّعجة، أو حصرها دلالة الخِدر في التواري والانزواء في البيوت، أمران يتّسقان مع ما نشهده من نموذج للمرأة في الخطاب الرسميّ. وكلاهما مثالٌ على ممارسة التمويه بالاقتراب بعض الشيء ممّا كان أو قيل.

ما ينبغي أنّه كان

يذكّرني الأمر بمصطلح «التحبيك» (Emplotmentعند أرسطو، لأن فيه معنى إعادة الرواية أو صياغة الحبكة من مجموعة أحداث متنافرة تُرتَّب وتُنسَّق وتُحوَّل إلى حكاية متآلفة ومنسجمة. وبرأيي، مثلما تُجمع الأحداث المتناثرة، يُتخيّر كذلك من الأقوال والأخبار ما يوضع في صيغةٍ سرديّة تخلق دلالة معيّنة. هذا ما يفعله الخطاب الرسميّ في كثيرٍ من كتب التفسير والفقه والحديث حين يدوّن في شؤون النساء ومكانتهنّ؛ إنّه يسردُ الأخبار والوقائع إمّا منقوصةً أو مُضافًا عليها؛ يعدّلها، يحذف منها، يتجاهل بعضها، يمرّ عبورًا ببعضٍ آخر، يموّهها، وأحيانًا يُسقط من التدوين ما لا يتسق وفكرة «امرأة الخدور» المتخفيّة عن الأنظار في بيتها، وقد يصف بروزها بالخطيئة الموجِبة للتوبة.[16] 

بهذا المعنى، تضحي عملية «إعادة الإنتاج» فعلَ تذكّرٍ انتقائيّ للماضي، أو «غير عفويّ» مثلما يصفُ بيير نورا. الذاكرة هنا ظاهرة معنيّة بما يحدث الآن. هي – بكلمات نورا – «حبلٌ يصلنا بالحاضر الأبديّ».[17] يدلّنا على ذلك قابليّتها للخضوع لفعل التخيّر: انتقاء ما يناسب أجندة مشروعٍ ما، والمشروع عملٌ مرتبطٌ بالحاضر. الحاضر أبديّ لأن الماضي – الذي يُتطلّع من خلاله إلى تأسيس هويّة جماعيّة متسيّدة وعابرة للأزمان غالبًا – وجودُه مرهونٌ بعمليّة التذكّر، والتذكّر فعلٌ يحدث «الآن» دائمًا، أي في الحاضر. وهكذا، فإنّ «إعادة الإنتاج» بصفتها فعل تذكّر وتخيّر لا تولي الماضي اهتمامًا من جهة «ما كان» قدرَ اعتنائها «بما ينبغي أنّه كان». أي إنّها تطوّعُ الماضي للحاضر، والمستقبل (أو نقول الحاضر الأبديّ؟)، إنها تمويهٌ مُتقَن؛ أو هي الكذب والصدق مختلطان اختلاط اللّبن بالماء.

تاريخيًّا لطالما كانت عمليّة التذكّر أداةً لخلق هويّة مشتركة بين أفراد جماعةٍ ما تميّزها عن غيرها من الجماعات وتصيرُ مع مرور الزمن – أي الهويّة – مستعصيةً على المساءلة، حتى أنّ بنديكت آندرسن اختار «الجماعات المُتخيَّلة» (Imagined Communities) عنوانًا لكتابه الذي يشرح فيه كيفية نشأة القوميّات. ورغم بُعد موضوع كتابه عمّا أتأمّله هنا، إلا إنّ فعلَ التخيّل الذي – حسب آندرسن – يُنتج سرديّة جماعيّة تتداخل مع السرديّات الفرديّة، يشبه في آليّته ما نراه في صناعة العُلماء – العلم بالمعنى الفقهي – للخطاب الموجّه للمرأة وعنها. لا بدّ أن يقومَ التخيّلُ على معطياتٍ واقعيّة من التاريخِ المُشتَركِ حتى يُحدث أثره وتتبنّاه الجماعة، وهنا يأتي دور التذكّر «غير العفويّ» للماضي، التذكّر الذي يمحو ويكتب، ويُسهب في، ويصمت عن. إنّها آليّات ماكينة صناعة الحقيقة.

هذا استطرادٌ يرجعني بالضرورة إلى كلام بيير نورا مرّة أخرى، إذ يجادل أنّ الذاكرة تتّسع فقط لتلك الحقائق التي تناسبنا. إنّها تتغذّى على ذكرياتٍ ضبابيّة ومتداخلة، وانطباعات عامّة، وتفاصيل رمزيّة. ولذا، فهي عُرضةٌ للتّلاعب، والرقابة، والإسقاطات. إنّ عُضويّة الجماعة تُعبّئ الذاكرة بما تحتاجه لتشجّعَ أفرادها على استدعاء أحداثٍ محدّدة ونسيان أخرى.[18] ولعلّ السؤال هنا: حسب ماذا تتم عملية الاستدعاء والشطب؟  لا بدّ من أُطُر ومعاييرَ وقواعدَ اجتماعية سابقة على عمليّة التذكّر – غير العفويّ المختلطِ بالتخيّل والخلق – أُطُر «تحدّد طريقة أو كيفيّة استخدام الذاكرة في مجتمع دون آخر».[19] ولا بدّ أن تخضع هذه الأُطُر لنسق ثقافيّ يكون مسؤولًا عن ضبط السلوكيّات الفعليّة واللفظيّة للجماعة. إذن، هكذا يصيرُ استدعاءُ تكنية المرأة بالنعجة عند العرب تذكّرًا غير عفويّ في سياق التفسير، ويغدو ربط هذه التكنية بضعف الجانب والسكون استجابةً للمعايير الثقافيّة للمؤسّسة العلميّة الكاتِبة أو المدوِّنة والتي قد حدّدت بخطابها أنّ الأصل في المرأة ضعفها الذي يحصرُ مهامّها بالطاعة وملازمة الخِدْر.

الذاكرة تُمَوْضِع التذكّر في سياقٍ مقدّس[20]

منذ عهدٍ ليس ببعيد، وبينما كنتُ أقرأُ في التراث الفقهيّ عن بعض شؤون المرأة، وقعتُ على عملٍ لابن الجوزيّ يجلّي علاقة التذكّر غير العفويّ بترسيخ خطاب «امرأة الخدور»؛ عنوانه «كتابُ أحكامِ النساء». اتّساق الكتاب مع الخطاب المقصود تمثّل لي في القدرة على صناعة الحبكة من مجرّد فعلِ التنسيق والترتيب؛ أي في الشّكل الذي قُدّم من خلاله الكتاب للقارئ/ة. يضع ابنُ الجوزيّ كتابه في مئة بابٍ تقريبًا، وأبوابه جميعها معنونةٌ بجمل تحملُ تحذيرًا ونهيًا للمرأة أو تذكُر واجبًا عليها. أمثلة ذلك: «في تحذير النساء من الخروج»؛ «في بيان أنّ أجود ما للمرأة ألا ترى الرجال»؛ «في التحذير من مجالس القصّاص وما يجلب من المحن ومؤاخاة النساء للرجال»؛ «في الأمر بتزويج البنت إذا بلغت»؛ «في جواز ضرب الرجل لزوجته»؛ «في أدب المرأة عند الجماع»؛ «في ثواب خدمة المرأة في بيتها»؛ «في ثواب المرأة إذا استغنت عن الأزواج بعد موت زوجها بتربية الأبناء».  

تبدأ أغلب الأبواب بتعليق مُقتَضبٍ من المؤلّف مردوفٍ بأقوال عن الرسول كثير منها ضعيف ومنكر، كما يبيّن محقّق الكتاب[21] – وهذي ملاحظة ليست ذات أهمية بالغة لأنّ عمليّة إنتاج الخطاب كما قلنا معنيّة بالذي ينبغي أنّه كان لا بما كان –. تأتي الأحاديث في الكتاب مشفوعةً بآثار عن الصحابة أحيانًا، رغبةً في تثبيت الحجّة/الخطاب. ورغم ذلك، نلحظُ غيابَ السياق التاريخيّ التفصيليّ لهذه الأحكام والمواعظ. ولا ريبَ أنّ نزعَ السياق إيغالٌ في التجريد؛ كلّما جرّدنا اقتربت اللغة من الكليّات وسَهُلَ ادّعاء السموّ والمثاليّة، فصار الامتثالُ لازمًا والتسليمُ حتميًّا! ينطبق الأمرُ كذلك على تدوين فكرة تكنية العرب للنساء بالنعاج في التفسير دون سوقٍ لأمثلة تؤيّد معاني الضعف واللا فاعليّة من كلام العرب وشعرها. جرّد ابن العربيّ الفكرة من سياقها ومن محيط تداولها، مما قرّبها من العموميّات، إلا إنّ نسبتها إلى العرب، أي أخبار العرب، ترتقي بالفكرة التي ذُكرت عبورًا إلى مستوى المشترك الثقافي. ابن العربيّ تذكّر تذكّرًا غير بريء؛ القرطبيّ باقتباسه المُموِّه ونسبته القول إلى علّامةٍ لغويّ يوغلُ في ترسيخ الخطاب الموجّه إلى المرأة وعنها. الماضي في كلا المثالين تمّت موضَعَتُه في سياقٍ جليلٍ أو مقدّس: كلام العرب والأحاديث النبويّة.

لا بدّ أن يقومَ التخيّلُ على معطياتٍ واقعيّة من التاريخِ المُشتَركِ حتى يُحدث أثره وتتبنّاه الجماعة، وهنا يأتي دور التذكّر «غير العفويّ» للماضي، التذكّر الذي يمحو ويكتب، ويُسهب في، ويصمت عن. إنّها آليّات ماكينة صناعة الحقيقة.

يمكنُ لقراءة متسلسلة لأبواب «كتاب أحكام النساء» أن توصلنا إلى فكرته دون أن نتكبّد عناء الربط والتحليل: النساء خادماتٌ للرجال؛ خروجهنّ فتنة حتى في طلب العلم؛ «يغلب الهوى عليهنّ بالطبع»؛[22] لا يعرفن تدبير شؤونهنّ؛ محتاجاتٌ إلى التأديب، إلى غير ذلك من نتائج نخرج بها حين تصفّح الكتاب تدفع جميعها إلى فكرة «مَعجَزة» المرأة و«ضعف جانبها». بل حتى إنّ ابن الجوزي يضمّن أبوابه مسائل تتعلّق بالفرائض الإسلامية المشتركة للجندرين؛ مثل بيان كيفيّة الوضوء، وذكر صفة التيمّم، وآداب الخلاء، وذلك رغم الخصوصيّة النسائيّة المباشرة في العنوان. ماذا يكون ذلك غير تأكيدٍ لفكرة الكتاب التي تدفع باتجاه وجوب ملازمة المرأة بيتها؟ وكأنّني به يقول: سنُملي عليكِ تعاليم دينك، لا حاجة لك بالخروج والسؤال.

 لكنّ الخطاب إلى جانب كونه ناقلًا للسلطة ومُنتجًا لها وفارضًا إيّاها، يمكنه أيضًا أن «يفضح زيفها ويجعلها هشّة»، وفقًا لفوكو.[23] صحيحٌ أنّ تخيّر الخطاب لما يُقال يعني تعمّده حجبَ حقائق معيّنة يحاول أن يواريها التراب، إلا إنّ الإظهار المتخيّر المنظّم يدلّ على ما لا يُقال. بمعنى آخر، قد يُستدلّ من إنشاء ابن الجوزيّ لكتاب أحكام النساء على وضع نسوة القرن السادس الهجريّ. إنّه يقول بشكلٍ ما إنّ النسوة كنّ كثيرات الخروج والسؤال والاختلاط بالمجتمع وما يدور فيه، ولهذا دعت الحاجة إلى الكتابة لهنّ؛ لإرجاعهنّ إلى محيط الخاصّ، إلى الخدور. آليّته في ذلك – كما أقرأها – تمثلُ في فعل تذكّر المقدّس، وهي آليّة تتكرّر في الخطاب العالِم.

أيمكننا إذن أن نفكّر بالطريقة نفسها إزاء قول ابن العربيّ واقتباس القرطبيّ؟ أي أنْ نفكّر أنّ حصر دلالة تكنية العرب عن النساء بالنّعاج في الضّعف والعجز آليّةٌ تُنتج معنىً ضمن إطار الخطاب العالِم، إلا إنّها تشيرُ في الوقت ذاته إلى المُهملِ من معانٍ أخرى قصدتها العرب من التكنية؟ يقول فوكو إنّ الحقيقة شيءٌ يُعمَل على إيجاده في المجتمعات (فلنستعِدْ حديث بيير نورا عن آلية التذكّر وعلاقتها بالخلق!)، وإنّ حق تصدير المعرفة أمرٌ مرتبطٌ بالسلطة المنتجة للخطاب، إلا إنّ هذا الخطاب تتصارع داخله لغاتُ خطابٍ متعدّدة:[24] يحمل الخطابُ المُنتِج لحقيقة ما القوّةَ على هدم تلك الحقيقة ومقاومتها. حقيقةُ سببِ تشبيه النساء بالنّعاج تدخل في صراع مع حقائق متمايزة عنها، أنتجتها اللغة ذاتها في مواضع أخرى. فلمَ لا نختبر مقصود النعاج وأسباب التكنية في بعض «كلام العرب» الذي كان الشّعر حلّته وحُليّه؟

سأخلعُ نعليّ وأدخل وادي عبقر لأسمع الحكايةَ

والعربُ تُكنّي . . .

طلع الصباحُ على الشاعر الجاهليّ فتذكّر وجه محبوبته الذي بوضاءته كان كما لو أنّ الشمس ألقت رداءها عليهِ نقيّ اللّونِ لم يتخدّدِ. وحين غابت أرخى الليلُ سدوله بأنواع الهموم عليه، وتطاول حتى قال الشاعر: ليس بمُنقضِ. وإذا عاد النّهار، عاد يرقبُ محبوبته، فإذا هي في الحيّ كأنّها أحوى ينفضُ المَرْدَ شادنٌ يتحلّى بعقدٍ من لؤلؤ وزبرجد. شبّهها بالغزال في ثلاثة أشياء: كحل العينيين، وسمرة الشّفتين، وجمال الجيد. وآهٍ من ولعه بالجيد! إذ يشبّهه أخرى بجيد الرئم الذي ليس بفاحشٍ ولا كريه المنظر، فإذا هي نصّته ورفعت عنقها انتشى الشاعر بمرأى الحليّ عليه، فهو ليس بمعطّلِ. وإذا خلَت المحبوبة بنفسها وأمنت عيونَ الأعداء الكاشحين، تكرّمت على الشاعر فأرته أكثر من ذلك: ذراعين ممتلئين كذراعي عيطلٍ أدماء حامل لم تلد بعد. ذراعان كذراعيْ ناقةٍ سمينة طويلةِ العنق بيضاء. تركَ الشاعرُ محبوبته وارتحل، فاشتدّ شوقه إليها وتعاظم، وحزن حزنًا يشبه حزنَ الأمّ التي ألقت ابنها في اليمّ؛ اغتمّت رغم يقينها بأنّه رادٌّ إليها. بل إنّ وجده لفراقها – كما يصوّره – وجدٌ لم يبلغه حزن أمّ سقْبٍ أضلّت ولدها فرجّعت الحنينَ؛ وجدٌ يفوق وجدَ ناقةٍ أضاعت ابنها الصغير فردّدت صوتها مع تألّمها في طلبها.

يرتحل الشاعرُ راكبًا فرسه أو ناقته، مع زمرةٍ من صحبه وقومه، يقطعون الفيافي ويرقبون حيواناتها ووحوشها، ويتأمّلون نجومها وتعاقب الليل والنهار عليها. وبينما هم سائرون بركبهم، فإذا بسربٍ يعنّ لهم، قطيع من نعاج هي إناث بقر الوحش، حسب الزوزنيّ شارح المعلّقات. يرى الشاعر السِّرب في حركته وأوصافه فيتذكّر الفتيات العذارى وهنّ يطفن حول الدّوار؛ الحجر الذي كان يُنصب ويُطاف حوله حين النأي عن الكعبة. مشهدُ النّعاج هذا يذكّر الشاعر بطقسٍ دينيّ لا يخلو من جمال. تتبدّى له نِعاجُ السّربِ كأنها فتياتٌ يطُفْن حول حجرٍ مقدّس، وكأنّ أذيالها وطول شعرها ملاء العذارى أو أثوابهنّ وقد أُطيلت أذيالها وأُرخيت. تتبخترُ المها في مشيها تبختُرَ العذارى إذن! يا لِخيال الشاعر! تتبادل النّعاج والنساء الأدوار والحسنُ ثالثهما الثابت.[25]

يرى الشاعر في صحرائه شادنًا أو ناقةً أو ظبية أو بقرةً وحشيّة فيتذكّر فتنته بسعة عينيّ محبوبته، أو بطول جيدها، أو بامتلاء جسدها، أو بإسباغها شعرَها، فينظمُ الشِّعرَ مُلهمًا، ويصوّر محبوبته كأفضل ما يكون التصويرُ مستمدًّا لغته ممّا يرى ويتأمّل ويختبر. يمرُّ به سربُ نعاجٍ فتصير مرجعيّته في الجمال صورة العذارى يمشين مرَحًا؛ يؤخِّرُ الفرعُ الأصلَ لأنّ البهاء في الفرع أبلغُ حسب الشاعر الذي قضى عمرًا يشبّه محاسن المرأة بمحاسن نعاج الرّمل. «إنّك لا تكادُ تجدُ شيئًا من ذلك إلا والغرضُ فيه المبالغة»[26] يقول ابنُ جنّي عن غلبة الفروع على الأصول.

ينتقل الشاعر العربيّ إلى المدينة بعد أن يلزم الصحراءَ حينًا من الدّهر، يخالطُ فيها الأعراب وهو ما يزالُ طفلًا، فتكتسبُ لغته فصاحةً بدويّة، وقد يعود إليها مُرتَحِلًا عابرًا، كالمتنبّي، فتبقى صور الغزل الصحراويّ حتى لو غاب حضور التّقليد – الذي تسبّب في تشكّل تلك الصور – بعض الشيء. فينشِدنا قائلًا:

لولا ظبـاءُ عديّ ما شُغِفـتُ بهـم   ولا بِــرَبـرَبــِهـم لولا جآذِرُه
    من كــلّ أحــورَ في أنيابـهِ شنبٌ   خَمرٌ يخامِرها مِسْكٌ تُخامِرُه
    نَعْــجٌ محاجِـرُه دُعــجٌ نـواظِــرُه   حُمْـرٌ غفائِـرُهُ سـودٌ غدائِـرُه

بلغةٍ لا يُرتاب في بداوتها يصف الشاعرُ جمال نسوة قبيلة عديّ اللاتي لولاهنّ، لولا ظباء القبيلة بسوادِ أعينهنّ، وابيضاض أسنانهنّ، ولولا جآذرها – من ربربها – بيضُ المحاجر سودُ الضفائر، ما اضطرّ المتنبّي أن يجامل رجالَها. لولا الشابّات المليحات لم يكن ليشقى بهم. ما ذكرَ الشاعر النساء صراحةً، لكنّه كنّى، والعربُ تكنّي. كنّى بالظباء والبقر الوحشيّة عن النساء، وعند العرب – كما يؤكّد الواحديّ في شرحه – «يكُنّى بهذه الأشياء عن النساء الحسان».[27] والمتنبّي الذي يقدّر الجمالَ المطبوع من غير تكلّف، والحسنَ غيرَ المجلوبِ، يعرف أن التكحّل في العينين ليس كالكحلِ! ولذا إن صادفها وقَع الشاعرُ في شركها وتغزّل بها: عيونُ المها بين الرّصافة والجسرِ/جلبْن الهوى من حيث أدري ولا أدري. هذا شاعر عبّاسي آخر؛ عليّ بن الجهم، سليلُ قريش وابنُ فصاحة لهجة قومٍ يختارها القرآنُ مرجعًا، يستعيرُ لعينيّ الحسناء عينيّ البقرة الوحشيّة التي يُضربُ بها المثلُ في الحُسن. ونساءٌ كنعاجِ الرّمل: جميلاتٌ واسعات الأعين. يُقال إنّ ابن الجهم قد أُلهَم هذه القصيدةَ وهو في دار جميلة تطلّ على نهر دجلةَ في بغداد، ورغم ذلك لم تتخلّص لغته من تقليدها البدويّ في الوصف، والعربُ تكنّي.

وعلى الضدّ من شاعرينا العبّاسيَيْن، قد يُخلصُ الشّاعر في بداوته، فلا يفارق العيش في الصحراء حتى بعد قيام دولة الخلافة وترامي أطرافها وازدهار مدنها. وابن الرمّة هو مثال هذا الشاعر الذي قضى حياته «في أكثبة الدّهناء في اليمامة ولم يخرج منها إلا لحاجة ثم لا يلبث أن يعود إليها».[28] للشاعر الأمويّ قصيدةٌ رائعة في معشوقته ميّ، لا تخلو من وصفٍ حسّي يمتدّ نسبه إلى شاعريّة الجاهليّين. في «ما بالُ عينيك منها الماءُ ينْسكبُ»، يقول متغزّلًا بها: كَحلاءُ في بَرَجٍ صَفراءُ في نَعَج / كَأَنَّها فِضَّةٌ قَد مَسَّها ذّهَب. تقليدٌ يتكرّر في التشبيه حتى صار وجه الشّبه ممّا لا يُحتاج معه إلى عودةٍ إلى المصادر للكشف عنه. عينا ميّ جميلتان واسعتان، وجسدها ممتلئٌ أبيضُ مشوبٌ بصُفرة. وامرأةٌ ناعجةٌ: حسنةُ اللّون، والنّعج: السمنة، والعربُ تكنّي!

ما الذي قالته العرب إذن؟
ضعف جانبٍ ومعجَزة أم حسنٌ وجمال وتشبّب؟

لأنّ الكلّ مركوب . . .

تقول السّالفة إن عبد الله بن رشيد أحد أمراء حائل، اختلف مع بني عمومته آل علي في بدايات القرن التاسع عشر، فاضطر إلى الرحيل مُمعِنًا في صحراء نجد قاصدًا شمال شبه الجزيرة العربيّة. ولأنّه أراد الخروج هربًا طلب من زوجته منيرة أن تبقى في أهلها وألا تعرّض نفسها لمشاقّ البادية التي سيقطعها راجلًا، فلم توافق، وأصرّت على مرافقته. خرج ابن رشيد وزوجته وخويّه حسين (رفيقه) ليلًا، دون أن يرتديَ خفّين يستران قدميه حتى لا يُسمع وقعُ رجليه، وكذلك فعلت منيرة وكانت حبلى تكاد أن تضع.

في الطريق اشتدّت قسوة الصحراء وأدمت أشواكها قدميّ الأميرة، فأبطأت اللّحاق بزوجها، وكان قد طلب من حسين أن يرافقها في المشيّ، وأن يقتل المولود ذكرًا كان أم أنثى لأنّه في الحالتين سيموت في قيظ نجد وهم لا مستقرّ لهم يطئونه بعد. جاءها المخاضُ ولم يكن من رطبٍ جنيّ ولا نخلة تهزّها، فأعانها حسين ومزّق من ثوبه خرقةً لفّ بها المولود، وأخرى غطّى بها قدميّ منيرة، ثم حملهما ولحق بابن رشيد.

ينظرُ الأميرُ إلى زوجته راكبةً ظهر رفيقه، وابنه محمولٌ بين ذراعيه، فيخجلُ حسين من الموقف. كان عند منيرة حين لم يكن. ولّدها، ولم يقتل جنينها، وفوق ذلك حملهما معًا إلى ابن رشيد. أتى صاحبه مركوبًا.

تنبّه الأمير إلى خجل صاحبه فقصدَ قائلًا:

ارمِ النّعل لمغيزل العينِ يا حسين
واقطع لها من رِدْن ثوبك لِيانه
يا حسين والله ما لها سبتِ رِجلين
يا حسين شيّب بالضمير اهكعانه
وإن شلْتها يا حسين ترْ ما بها شين
ترى الخوي يا حسين مثل الأمانة

يطمئن ابن رشيد صاحبه، ويومئ إلى أنّه كان سيطلبُ منه الاعتناء بزوجته وحملها لو عانت من تشقّق قدميها: وإنْ شلتها يا حسين ترْ ما بها شين! لا سوءَ ولا ضرر في أن تحملَ زوجتي حين تعذّرت الدابّة، ولا ناقة تركبها أو فرس تحملها إليّ.

زوجته التي وصفها بأنّها «مغيزل العين» تشبيهًا بعينيّ الظبي، منيرة التي يحبّها حبًّا لا يماثله إلا ثقته بصاحبه الذي «شالها»، المشهد بكلّ تفاصيله وبساطته، الحكاية التي ما زال البدو يتداولونها في شبه الجزيرة، الشهامة والحبّ اللذان خلّدهما الشعر، كل ذلك، كلّه ذكّرني باقتباس القرطبيّ المُمَوِّه في تفسيره آية داود يقول إن المرأة تُكنّى عند العرب بالبقرة والناقة والحجرة لأن الكلّ مركوب!  

الكلّ مركوبٌ، لكنّ «خير نساء ركبن الإبل نساءُ قريش».[29] الكلّ مركوبٌ، لكنّ عائشة خرجت راكبةً متزعّمة فريقها يوم الجمل. الكلّ مركوبٌ، لكنّ خولة بنت الأزور شاركت على فرسها في القادسيّة فحازت إعجاب الرجال الذين تأخّروا عن تفوّقها في الفروسيّة. الكلّ مركوبٌ، لكنّ عُنيزة كانت تتدلّل على امرئ القيس وهي على ناقتها في هودجها. الكلّ مركوبٌ، لكنّ امرأة بدويّة في عهدٍ ليس ببعيد تركبُ ظهر صاحبِ زوجها حين تعذّر مشيها حافية بين الأشواك في باديةٍ لا ترحم.

قد يكون الاستحواذ على اللغة بحسنِ التحبيك وبراعة التمويه وجودة التكرار ممكنًا، لا سيّما إن كان المؤلّف حاذقًا في صنعته، حائزًا على اعترافٍ مؤسّسي، كالقرطبيّ وابن الجوزيّ مثلًا. لكن، إذا كانت اللغة بهذا الاستخدام أداة إيصال ساعية إلى الإخضاع أكثر منها أداة تواصل، فإنّها أيضًا آلة تفكير يمكن أن ندخل عبرها في حوار مع سلطة المؤلّف. حينها، يصبح من شأن اللغة أن تقاوم ما يُراد له الثبات، فتفضح زيف الدلالات الأحاديّة الكليّة، وتكشف هفوات السرديّات المُضلّلة. وما دامت اللغةُ منطقة تنازع، فماذا يُثنيني عن الدخول في السّجال مرّةً تلو مرّة؟

أغادرُ خِدري وأركبُ المغامرة.

  • الهوامش

    [1] انظر/ي على سبيل المثال تفسير الآية في: تفسير الجلالين، والطبري، ومعاني القرآن للزجاج، وإعراب القرآن للنحاس، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي.

    [2] يختلف أصحاب التفاسير حول هذه الحكاية، فمنهم من يرى أن النزاع كان بين داود ذاته ورجل آخر (أوريا)، ومنهم من يرى أنه كان بين رجلين آخرين حكم بينهما (والنزاع في الحالين على النساء)، وفريق ثالث (أقلّ عددا) يرى أنّ الحكاية كانت في خصومة على نعاج وأن الملكين نزلا يحاكيانها حتى ينبّهاه على خطئه دون أن يُحرجاه، فلا شأن لداود وزوجاته بها. والطريف أنّ ابن عاشور مثلا، يستدلّ من هذه الحادثة على جواز التمثيل.

    [3] حين يُقال فلانٌ مثّل دورًا يعني أنّه تلبّس شخصية أخرى، فالمسافة بينهما غير منصهرة تمًاما، وكذلك التمثيل عن الشيء أو الحالة، صورٌ ملتبسة بأصولها. من المهم أن أذكر أنّني أكتب هنا عن التمثيل بمعناه العامّ؛ ففي البلاغة هناك استعارة تمثيلية وتشبيه تمثيلي، وفي أصول الفقه نجد القياس التمثيلي ويسمّى أحيانا الشرعي، وعند المتكلّمين والفلاسفة هناك قياس التمثيل (يتداخل مع قياس الفقهاء) كذلك الذي يذكر له ابن سينا في «النجاة».

    [4] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج 15، ص 172.

    [5] انظر/ي مادّة (نعج) في لسان العرب، دار صادر، ج 13-14، ص 296.

    [6] انظر/ي: جبر، عبد الستّار (2019)، الهويّة والذاكرة الجمعيّة – إعادة إنتاج الأدب العربي قبل الإسلام – أيّام العرب أنموذجًا. ص 35.

    [7] جاء في معاني القرآن: «والعربُ تكنّي عن المرأة بالنّعجة والشاة كما قال الشاعر فرميتُ غفلة عينه من شاته فأصبتُ حبّة قلبها وطحالها». للنظر في الكتاب، يمكن الاطلاع على هذا الرابط: كتاب : معانى القرآن للنحاس ص 583، أما كتابه إعراب القرآن، فيكتفي فيه بإثبات التكنية دون شاهد. انظر/ي: النحّاس، إعراب القرآن، عالم الكتب، ط 3: ج 3، ص 461.

    [8] انظر/ي: الذهبيّ، سير أعلام النبلاء، ج 15، ص 401. والاعتراف بمنزلة النحّاس لا تُنكر، وهي موجودة عند ابن خلّكان في وفيّات الأعيان وياقوت الحمويّ في معجم البلدان، وعند غيرهم من مؤرّخي الأدب واللغة.

    [9] النصّ في «أحكام القرآن««كنّى بالنعجة عن المرأة، لما هي عليه من السكون والمعجزة وضعف الجانب. وقد يُكنّى عنها بالبقرة والحجر والناقة؛ لأنّ الكلّ مركوب». انظر/ي: ابن العربي، أحكام القرآن، دار الكتب العلمية، ط 1: ج 4، ص 41.

    [10] تُوفّي ابن العربي في (543 هـ)، وتوفّي النحّاس في (338 هـ)، أما القرطبيّ فتُوفيّ في (671 هـ).

    [11] كيليطو، عبد الفتّاح (2015)، الأعمال – الجزء الثاني (الماضي حاضرًا)، دار توبقال للنشر، ص 132.

    [12] لا سيما أنّ الجزء الأول من اقتباسه مطابقٌ لقول النحّاس «والعرب تكنّي عن المرأة بالنعجة والشاة» لا قول ابن العربيّ «كنّى عن النعجة بالمرأة»، وبينما يقف النحّاس عند إثبات التكنية وذكر بيت الأعشى، يضيف ابنُ العربي تعليلًا غريبًا، فيقتبسه القرطبيّ، وينسبه للنحّاس!

    [13] انظر/ي: لسان العرب، مادّة (موه)، دار صادر، ج 13-14، ص 154.

    [14] الخطاب العالِم: «هو الخطاب الذي اعتنى المؤرّخون الرسميّون [وسائر العلماء] برسم صورته رسمًا دقيقًا، وظيفيًّا [لتثبيت الحجج] المطلوبة في الحقول المعرفيّة الدينيّة. وغايتهم هي السيطرة على الدلالات التي ينهض بها الخطاب، فلا يُترك لها مجالٌ لأن تخرج عن المقرّر سلفًا». وهو خطابٌ «يخضع لتصوّر تنظيمي واضح المعالم، يتم فيه توزيع الأدوار وفق معايير محدّدة. هي معايير تتراوح بين العرقيّ أو القبليّ أو الدينيّ من ناحية (…)؛ والجنسويّ من ناحية ثانية. [وهذا الأخير قابعٌ] في زوايا التهميش والنسيان، رغم تحكّمه العميق في عمليّة إنتاج المعنى في الخطاب العالِم بأغلب فروعه». انظر/ي: الوريمي، ناجية (2016)، زعامة المرأة في الإسلام المبكّر، دار الجنوب: المقدّمة.

    [15] انظر/ي على سبيل المثال: الغزالي، أبو حامد، التبر المسبوك في نصيحة الملوك.

    [16] يمكن أن يُنظر في كتاب الوريمي سابق الذكر، إذ تسرد فيه أمثلة على ما أشرتُ في الكتب الرسميّة أو العالِمة؛ من ذلك كتابات الطبري، والغزالي، والصحيحين، وابن الأثير، وابن خلدون، ودونهم كثير من منتجي الخطاب الرسمي عند السنّة أو الشيعة أو حتى الخوارج.

    [17] Look: Goldhammer, A. & Nora, P. (1996), Rethinking the French Past: Realms of Memory, Vol. 1 – Conflicts and Divisions, Colombia University Press: New York. p2-4.

    [18] Look: Olick, K. & Robbins J. (1998), Social Memory Studies: from ‘Collective Memory’ to the Historical Sociology of Mnemonic Practice, Annual Reviews: p52.

    [19] جبر، عبد الستّار، المرجع نفسه: هامش (9).

    [20] Memory situates remembrance in a sacred context: Goldhammer, A. & Nora, P., Ibid.

    [21] انظر/ي: مقدّمة محقّق كتاب أحكام النساء لابن الجوزي، عمر عبد المنعم سليم، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 1997، ص20-21.

    [22] هذا قول ابن الجوزي.

    [23] فوكو، في كتاب سارة ميلز: الخطاب، تر: عبد الوهّاب علوب المركز القومي للترجمة: القاهرة، 2016، ص58.

    [24] انظر/ي المرجع السابق: ص33-40.

    [25] الفقرة هذه وسابقتها، اقتبستُ فيهما ألفاظا وتشبيهات بعينها من قصائد الجاهليّين، فتحيلُ اللغةُ إلى طرفة بن العبد، وامرئ القيس، وعمرو بن كلثوم، والنابغة الذبيانيّ. ويمكن الرجوع إلى شرح الزوزنيّ للمعلّقات للاطلاع على الأبيات بنصوصها.

    [26] ابن جنّي (2011 م)، الخصائص، تح: محمد علي النجار، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب: ج 1، ص 301.

    لا يعدّ النقّاد التشبيه في بيت امرئ القيس «فعنّ لسنا سربٌ كأنّ نعاجه / عذارى دوارٍ في مُلاءٍ مُذيّل» تشبيهًا مقلوبًا حتى مع وضوح قلب الأدوار بين المشبّه والمشبّه به في المثال. يمكن النظر في أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني، فصل الموازنة بين التشبيه والتمثيل، للقراءة حول شروط تحقّق التشبيه المعكوس.

    [27] شرح الواحديّ وغيره من الشرّاح لأبيات قصيدة المتنبي «حاشى الرقيب» كلّها موجودة الكترونيًّا في موقع واحة المتنبّي على هذا الرابط: http://www.almotanabbi.com/poemPage.do?poemId=99 

    [28] الأصبهاني، روضات الجنان، ص 497.

    [29] حديث نبويّ.

 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية