أصدقاء مَن؟ «فريندز» وعصر المسلسلات الأمريكية

الثلاثاء 01 حزيران 2021

في 27 أيار، أذاعت شبكة «إتش بي أو» (HBO) حلقتها الخاصة للمّ شمل ممثلي مسلسل «فريندز»، والتي انتظرها عشاق المسلسل من قبل أن ينتهي بث المسلسل في عام 2004. تستدعي الحلقة، من خلال سيل من الذكريات والحنين ومقاطع المسلسل والمقاطع المستحدثة التي تحاكي مشاهد المسلسل واللقاءات مع صناع المسلسل وممثليه ومشاهديه، المجتمع المتخيل الذي نشأ حوله. 

أثبت هذا المسلسل نجاحه عبر أكثر من عقدين من الزمان، وجعل المشاهدين يتآلفون مع شخصياته لدرجة انتظار لم شملهم لـ15 سنة بعد انتهائه، ولدرجة انتشار الشائعات عبر هذه السنوات بين حين وآخر عن التئام شمل الممثلين في فيلم أو حلقة خاصة من المسلسل أو برنامج حِواري خاص، إلى أن أتمت «إتش بي أو» هذا الأمر أخيرًا.

انتظار المشاهدين لمّ شمل أبطال المسلسل ونجاح الحلقة التي بثتها «إتش بي أو» كان دليلًا أيضًا على نجاح المسلسل في كسر النجومية الفردية، وتقديم مسلسل قائم على مجموعة متجانسة من الأصدقاء. ساهم هذا الشكل الجماعي في جماهيرية المسلسل، إذ خلق إحساسًا نادرًا من الألفة ما بين شخصياته، يمتد كذلك إلى مشاهديه ويجذبهم إلى المسلسل، ويؤثر في حياتهم خارج مشاهدتهم المسلسل.

أثر «فريندز»

ثمة ظاهرة صاحبت انتشار المسلسل، يطلقون عليها أحيانا «أثر فريندز». فمنذ بدأ المسلسل ومشاهدوه، بالذات المراهقين والشباب، يتأثرون بلغة شخصياته ويحاكونها؛ بعض الدراسات اللغوية تقترح، من دون أن تحسم الأمر، أن المسلسل قد ترك أثره على الإنجليزية الدارجة في الولايات المتحدة، يستوي في ذلك المتحدثون بالإنجليزية الذين أثرت مصطلحات المسلسل في لغتهم اليومية، وغير المتحدثين بها الذين لعب المسلسل دورًا في تعليمهم اللغة. هذا التأثير لا يقتصر على اللغة؛ إذ يمتد إلى تأثّر المشاهدين بمواقف من المسلسل، يقارنون بينها وبين مواقف من حياتهم، وتأثرهم بشخصيات المسلسل التي يقيسون شخصياتهم عليها.

وفي حلقة لمّ الشمل على «إتش بي أو»، هناك ما يقرب من خمس دقائق لمشاهدين من بلدان وأعراق مختلفة يتحدثون عما عناه هذا المسلسل لهم؛ فمراهق من كوريا الجنوبية يقول إن المسلسل علمه الإنجليزية كما علمه المعنى الحقيقي للصداقة؛ وشابة هندية تقول إن مشهد مونيكا وهي تطلب الزواج من تشاندلر جعلها تقرر أنها ستتقدم لحبيبها بهذه الطريقة وأنها فعلت ذلك؛ تتبعها امرأة من غانا تقول بأن المسلسل علمها كيف تكون امرأة مستقلة؛ وشباب آسيويون وأفارقة يحدثوننا عن أن المسلسل كان ما يؤنسهم في أحلك لحظات حياتهم، وأنه جعلهم يشعرون أن هناك من يمكنه أن يفهمهم ويتعاطف معهم (واحدة منهم تقول إن المسلسل أنقذ حياة الناس)؛ وشابة من المكسيك تغالب دموعها وهي تقول إن شخصيات المسلسل كانوا بالفعل أصدقاءها. والملاحظ أن أغلب المتحدثين في هذا المقطع الذي يتحدث عن دور مسلسل «فريندز» في تعليم الناس وإنقاذهم هم من غير البيض، وكلهم من غير الأمريكيين، وأن المقاطع الأخرى التي تتحدث عن جماهيرية المسلسل في أمريكا لا تتحدث عن تعليم المشاهدين أو التأثير فيهم أو «إنقاذهم»، كأنما هناك احتفاء ضمني بالمسلسل الأمريكي الذي علم العالم بينما لا حاجة به لتعليم الأمريكيين.

عولمة نيويورك

المفارقة أن هذا المسلسل بينما يعد مشاهديه من مختلف الثقافات والأعراق بالألفة، فهو يمارس نحوهم، إن لم يكونوا من أبناء العرق الأبيض أو الثقافة البيضاء، صنوفًا من الإقصاء والإلغاء.

أثناء الإعداد لهذا المقال أعدت مشاهدة العديد من حلقات المسلسل وأنا أسأل نفسي عن أسباب رواجه غير المسبوق؛ وتحدثت مع العديد من معارفي الذين شاهدوا المسلسل، وراجعت العديد من المقالات المكتوبة عنه. أحد الأسباب التي وجدت عليها إجماعًا، وتطابقت مع انطباعي، هي أن المسلسل يخلق نوعًا من الراحة والألفة مع دائرة الأصدقاء الذين يدعمون بعضهم ويشدون أزر بعضهم، ويلجأون إلى بعضهم حين يريدون الشكوى أو حين يريدون الشعور بالراحة. هذه الألفة تروّج لنموذج الصداقة الأمريكي المديني والنيويوركي بالذات (حيث معظم العشرينيين والثلاثينيين مغتربون أتوا من ولايات أخرى أو من ضواحي ولاية نيويورك للدراسة أو العمل في المدينة، فتصبح شبكة الدعم لديهم محصورة في الأصدقاء لا الأهل؛ وقد لخص منتجو المسلسل فكرته أكثر من مرة قائلين «إنه عن تلك الفترة في حياتك حيث أصدقاؤك هم عائلتك»، طبعًا فاتهم أن يجعلوا كلامهم محددًا: هي «تلك الفترة في حياة النيويوركي (..)، إلخ»).

في كتابها عن ظاهرة «فريندز»، ترصد كيلسي ميلر كيف جعل هذا المسلسل الكثير من الشباب الأمريكيين يرنون إلى مدينة نيويورك -التي تقدم نفسها أصلًا على أنها مركز أمريكا ومركز العالم- ويحلمون بتكوين دوائر صداقات مماثلة في تلك المدينة؛ وترصد كيف امتدت هذه الظاهرة إلى أوروبا: تقول لها صديقتها السويسرية: «بالنسبة للأوروبيين الذين لم يزوروا أمريكا من قبل، «فريندز» كان هو أمريكا». وترصد كيسلي هذه الظاهرة في بلدان أخرى في أوروبا وخارجها، وفي بريطانيا بالذات، حيث زادت جماهيرية المسلسل بفضل تصوير حلقات زفاف روس وإميلي هناك، ثم شهد المسلسل رواجًا ثانيًا هناك عندما تولت شركة باراماونت الإنجليزية تسويقه في عام 2014.

«كان «فريندز» يسوّق (..) فكرة أمريكا ونيويورك تحديدا» تقول كيسلي، ثم تقتبس من دراسة أستاذة دراسات الأزياء نانسي ديل التي تقول «نيويورك [أشبه بـ]موضة لا تبلى؛ إلا أن [مسلسلات] «فريندز» و«سينفيلد» و«سكس آند ذا سيتي» أضافوا إلى رواج نيويورك بين الشباب (..) كأنها أرض الميعاد». 

جنود الإمبراطورية

في كانون الثاني 2003، أي قبل غزو العراق بثلاثة أشهر، انطلقت قناة «mbc 2» التي تخصصت في إذاعة الأفلام والمسلسلات الأمريكية. وكان صاحبها، رجل الأعمال السعودي وليد الإبراهيم، في ذلك الوقت الذي شهد الحرب الأمريكية على أفغانستان وعلى «الإرهاب»، يرى نفسه في حرب ضد «العقلية الطالبانية». وبسرعة أصبحت هذه القناة من أنجح المنصات التي تؤلف قلوب الناس حول نمط الحياة الأمريكي عن طريق مسلسلات مثل «فريندز».

لا نحضر في خيال هؤلاء إلا عندما يقومون بإلغائنا أو يشنون الحروب علينا؛ وتصبح الحروب التي يشنونها علينا مصدر إبهار، بينما تصبح الأرواح التي تزهقها هذه الحروب فائضًا لا يدخل في الحسبان.

جاءت هذه القناة في خضم انتشار القنوات الفضائية، المفتوحة والمشفرة، الذي في أواخر التسعينيات بالذات مع انطلاق القمرين الصناعيين العربيين عربسات ونايلسات. انضمت إلى mbc 2 بعدها بعام قناة «دبي الأولى» التي تخصصت هي الأخرى في بث المحتوى الأمريكي الخفيف (حلت هذه القناة محل قناة دبي 33 الفضائية التي بدأت البث على القمرين العربيين في 2002 وكانت بدورها امتدادًا لقناة دبي 33 المحلية). في هذه الفترة كذلك زادت شعبية شبكة «شوتايم العربية» المشفرة (تأسست في عام 1996) والتي تحولت في 2009 إلى شبكة أو إس إن (والتي عُرضت عليها حلقة لم الشمل في العالم العربي). توسعت بعد ذلك شبكتا إم بي سي وشوتايم العربية/ «أو إس إن» وتعددت قنواتهما وتوسعت خدمات فك التشفير (الرسمية وغير الرسمية)، وأصبح المشاهد العربي يولي وجهه كل يوم شطر أمريكا، أو شطر صورة مُجَمَّلة ومُستأنسة منها، ويتآلف مع هذه الصورة، وتصبح مفرداتها الثقافية والاجتماعية أمرًا طبيعيًا ومعتادًا. 

لم تكن منطقتنا العربية يومًا بمنأى عن هذه التأثيرات، ولم تكف هوليوود وأخواتها يومًا عن اجتذاب المشاهدين العرب والتأثير عليهم. منذ أيام الحرب الباردة والإمبراطورية الأمريكية تطبع نفسها في قلوب الناس وعقولهم عن طريق جهاز إعلامها، وكانت المنتجات الثقافية التي تنشر النموذج الأمريكي دون أن تخوض في الشعارات والعناوين السياسية تُجنَّد دائمًا ضمن حروب أمريكا: في عام 1953 مع بدايات الحرب الباردة أنشأت وزارة الخارجية الأمريكية «الوكالة الأمريكية للمعلومات» بهدف تلميع صورة أمريكا في العالم؛ وقبلها بثلاثة أعوام نشأت «المنظمة العالمية لحرية الثقافة» كمنظمة أمريكية مستقلة غير ربحية (كان من بين أنشطتها نشر مجلة «حوار» الثقافية البيروتية)، لينكشف في عام 1966 أن هذه المنظمة لم تكن سوى ذراع من أذرع المخابرات المركزية الأمريكية.

«من هنا نلحظ» مع المفكر الراحل حسين مروة في تعليقه على دور هذه المنظمة «أن الاستعمار الجديد عظيم الحرص جدًا على أن يقرن كل نشاط له، سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو عسكري، بنشاط في مستواه تمامًا، كَمًّا ونوعًا، في المجالات الفكرية والثقافية». ينطبق هذا الكلام على الأذرع الثقافية الأمريكية في الحرب الباردة، وينطبق على الدور الذي لعبته هوليوود منذ نشأتها، كما ينطبق بدقة على انتشار المسلسلات الأمريكية وتكاثر القنوات التي تبثها بالتزامن مع حرب أمريكا «على الإرهاب» وغزوها العراق. 

أثبت هذا المسلسل نجاحه عبر أكثر من عقدين من الزمان، وجعل المشاهدين يتآلفون مع شخصياته لدرجة انتظار لم شملهم لـ15 سنة بعد انتهائه.

ولكنَّ هجمة المسلسلات التسعينية والألفية كان لها مذاق مختلف. فقد جاءت مع استفراد النموذج الأمريكي بالساحة الثقافية بعد انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة، وتزامنت مع مرحلة جديدة من النيوليبرالية والإمبريالية المالية والثقافية، ربطت المزيد من أبناء الطبقات العليا والمتوسطة بالنموذج الأمريكي وبالثقافة الأمريكية. توسعت في تلك الأثناء المؤسسات التعليمية الأمريكية والأجنبية في البلاد العربية، وصحب ذلك ازدياد في تسليم مقاليد الأمور في بلادنا لحاملي الثقافة الأمريكية وللمتعلمين تعليمًا أمريكيًا. 

لا نعزو عوامل انتشار «فريندز» والمسلسلات الشبيهة إلى هذه الظروف السياسية والاجتماعية وحدها. عوامل الانتشار تكمن كذلك في هذه المسلسلات نفسها: في مواضيعها الخفيفة التي لا تتطلب من المشاهد جهدًا ذهنيًا أو عاطفيًا، وفي تقديم بعض هذه المسلسلات هذا المحتوى الخفيف ببراعة ودون استخفاف، وفي استلهامها للمواقف الطريفة من الحياة اليومية. وبغض النظر عن نوايا صناع المسلسل، فإن ذلك يساهم في جعل أمريكا، أو نيويورك تحديدًا، في عقول الناس، أرض المواقف الطريفة، ويتضافر ذلك مع عولمة هذه المسلسلات لِحِسِّ الدعابة الأمريكي، خاصة عندما يتم تصوير هذه المسلسلات أمام جمهور، كما هو الحال مع «فريندز»، أو حينما تستخدم تسجيلات لضحكات المشاهدين، فكأن المسلسل يخبرنا أين ينبغي أن نضحك: المسألة ليست بطبيعة الحال إملاءً ولكنها عدوى؛ وطبيعة العالم الذي نعيش فيه تجعل هذه العدوى تنتقل من المركز الأمريكي إلى بقية أطراف العالم.

ومما زاد من انتشار هذه المسلسلات وتأثيرها نفاذها إلى خصوصيات شخصياتها، حتى كأننا نعرفهم ونعيش معهم، إذ تسمح لها طبيعتها المسلسلة والممتدة باستكشاف خصائص شخصياتها بأكثر مما تستطيع الأفلام. ثم كونها حلقات قصيرة متسلسلة جعلها تتسرب بشكل أنفذ إلى حياتنا اليومية، وجعل المشاهد في حالة تآلف مع أحداث المسلسل وأبطاله تمتد بامتداد حلقاته وبتعدد المشاهدة؛ فما بالك حين يكون موضوع المسلسل في الأساس قائم على هذه الألفة؟

التآلف مع الإمبراطورية

وفي عالمنا العربي طَبَّع «فريندز» مع غيره من المسلسلات والأفلام المصطلحات والأنماط والمعايير الأمريكية: فمثلًا، كان «فريندز» من بين المسلسلات التي ابتدعت حلقات الأعياد، فاحتوى كل جزء على حلقة عن عيد الشكر الأمريكي، وأصبح هذا العيد ومراسم الاحتفال به وما يعنيه للمجتمع الأمريكي الأبيض من راحة واجتماع للأحبة حول أصناف الطعام المختلفة أمرًا مألوفًا لدى مشاهديه (من دون الإشارة بطبيعة الحال إلى ميراث هذا العيد الاستعماري وكيف يساهم الاحتفال به في محاولة إلغاء أصحاب الأرض الأصليين)، وطَبَّعت هذه المنظومة الإعلامية كذلك مصطلحات المواعدة والعلاقات العاطفية على الطريقة الأمريكية، وكذلك أركان الأعراس في الثقافة الأمريكية وأصبحت الكثير من أعراس الطبقات الثرية والمتوسطة في بعض بلادنا تحاول محاكاتها. وأصبح الكثير من مشاهدي هذا المسلسل العرب، بالذات الأصغر سنًا، يتطلعون إلى شخصيات المسلسل التي تمثل لهم نوعًا من الألفة ونوعًا من المَثَل، وبالذات في فترة المراهقة حين يشعرون بأن أهلهم لا يفهمونهم. لا بد أن نعترف هنا بأن مجتمعاتنا فشلت بشكل كبير في الاستماع إلى المراهقين، فسلمتهم بذلك إلى أصدقائهم المتخيلين، مما جعل الكثير منهم يحسبون أنهم يجدون مع شخصيات المسلسل ما افتقدوه في أهلهم ومجتمعهم من تفهم وألفة.

المفارقة أن هذا المسلسل بينما يعد مشاهديه من مختلف الثقافات والأعراق بالألفة، فهو يمارس نحوهم، إن لم يكونوا من أبناء العرق الأبيض أو الثقافة البيضاء، صنوفًا من الإقصاء والإلغاء.

الانعزالية البيضاء

ليس من الصعب التدليل على عنصرية مسلسل «فريندز»: أحداث المسلسل تدور في إحدى أكثر مدن الولايات المتحدة تعدُدًا، وفي قرية غرينتش الغربية التي تتميز بالتنوع الثقافي والعرقي، وبالرغم من هذا لا وجود للأقليات إلا على الهامش. يصبح النموذج الذي يتآلف المشاهدون معه أبيض صرفًا، أما أصحاب الأعراق والثقافات والهويات الأخرى، بما فيهم الأمريكيون غير البيض، فكأنهم يصبحون مجبرين على تهميش صورتهم الخاصة وعدم التآلف معها.

 يظهر السود في أغلب الأحيان مصدرًا لتهديد أبطال المسلسل أو إزعاجهم: مثل جارهم الأسود الذي يوقظ ريتشل بغنائه الجاز في الصباح الباكر، أو جارهم الأسود الآخر الذي يدق على باب مونيكا بعدوانية بعد منتصف الليل ليطالبها بأن تصنع مزيدًا من الحلوى (قبل أن يغازلها في حضور خطيبها). ربما لم يتعمد صناع المسلسل أن يكونوا عنصريين ولكن هذا النمط يجسد شعور العنصريين الأمريكيين في المدن ذات التنوع العرقي، بأن دخول السود إلى أحياء البيض ومجاورتهم إياهم يمثل إزعاجًا لهم أو خطرًا عليهم. 

ظهرت بعد ذلك شخصيات سوداء أخرى وإن بقيت هامشية باستثناء تشارلي التي واعدت جوي ثم روس ثم تركته لتعود إلى حبيبها السابق. تتمثل تشارلي الصورة العنصرية النمطية للأسود المفتقد للوازع، ويستدعي إيذاؤها لروس حين تكاد تخونه مع حبيبها السابق ثم تتركه من أجله، التصور العنصري الذي يجعل من الجنسانية السوداء خطرًا على «ضحاياها» البيض. 

إلغاء العربي

وبينما يهمش المسلسل السود ويجعلهم تهديدًا، فإن العربي يصبح الآخر المستحيل الذي يتوجب إلغاؤه: تسأل مونيكا صاحب المطعم الإيطالي الذي لم يعجبها طعامه «أنت تملك مطعمًا إيطاليًا ولا تعرف الطعام؟ من أين أنت؟» فيرد «من لبنان» ويضحك الجمهور. هذه المزحة كأنما تنكر وجود المطبخ اللبناني من أساسه أو تنكر على مطبخ شرق المتوسط أن يرقى إلى مستوى شمال/ غرب المتوسط. يضطر اللبناني بعد ذلك إلى أن يطلب من مونيكا النيويوركية أن تعد الطعام الإيطالي في مطعمه: قُدرة الأمريكي على تجسيد بقية الإمبراطورية لا تنفصل هنا عن مركزية نيويورك التي تجعل منها الإمبراطورية الأمريكية مركز العالم، وتجعل النيويوركية البيضاء (واليهودية الأشكنازية) قادرة على تَمَثُّل المتوسطي الجيد بأفضل مما يستطيع المتوسطي العربي. 

وعندما يريد تشاندلر أن يهرب من جانيس، يذهب إلى آخر مكان يمكن أن يذهب رجل أبيض إليه: اليمن؛ ويصبح ذهابه إلى «شارع اليمن في مدينة اليمن في اليمن» مادة للدعابة، لأن اليمن مكان مستحيل، ولأن جانيس المزعجة أجبرته على أن يذهب إلى هذا المكان المستحيل. ونرى تشاندلر وهو على وشك أن يصعد إلى الطائرة التي ستقلع إلى اليمن، ولا يخبرنا المسلسل إن كان ذهب إلى هناك بالفعل أم لا، ولا فرق فاليمن هي لا مكان بحسب الجغرافيا المتخيلة لهذا المسلسل.

يأتي ذكر اليمن قبل ذلك في الموسم الأول عندما نقابل أولى حبيبات تشاندلر في هذا المسلسل: الإيطالية المُغامرة أورورا التي تطوعت في الجيش الإسرائيلي. هذا الحضور الإسرائيلي في بدايات المسلسل، يقابله مرة أخرى إلغاء للعربي، إذ يصبح الجيش الإسرائيلي هو الجناح المُغامِر للعرق الأبيض وللمتوسطي الجيد الذي يلغي المتوسطي العربي. تبهر أورورا تشاندلر بحكاياتها عن الجيش الإسرائيلي، وتحكي له حكاية تبدأ بإطلاق النار عليها مع وحدتها، وتنتهي على حدود اليمن. يمتد إلغاء العربي هنا إلى إلغاء الجغرافيا العربية من أساسها فيصبح اللامكان اليمني على حدود الكيان الصهيوني أو يصبح الجيش الإسرائيلي قادرًا على سبر أغوار اللامكان العربي، والنفاذ إلى جغرافيته كلها، والخروج منها بمغامرة ممتعة تروى في موعد غرامي على مقهى في نيويورك. ويأتي ذكر العراق مرة واحدة عندما يتباهى ممرض بأنه خدم في حرب العراق (الأولى) فيضطر تشاندلر، الذي كان يحاول أن يسخر منه أول الأمر، إلى إظهار احترامه له. 

لا نحضر في خيال هؤلاء إلا عندما يقومون بإلغائنا أو يشنون الحروب علينا؛ وتصبح الحروب التي يشنونها علينا مصدر إبهار، بينما تصبح الأرواح التي تزهقها هذه الحروب فائضًا لا يدخل في الحسبان ولا يقاطع الضحكات المتعالية منهم، ومنا. لا استغراب في إلغائهم لنا أو في انشغالهم عن قتلانا في الضحك علينا؛ ولا أقول إن الحروب الأمريكية ينبغي أن تكون حاضرة في أذهاننا كلما شاهدنا مسلسلًا أو فيلمًا أمريكيًا. ولكن نقد المحتوى الاستعماري والدور الإمبراطوري الذي تلعبه وسائل الترفيه الأمريكية، والتأمل في تأثيرها الأيديولوجي علينا بينما نحن نتسلى، ضروري، لكي لا ننجر إلى الضحك على قتلانا، ولكي لا نتآلف مع النموذج الذي يهمشنا ويلغينا.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية