إخوة ليلى: الفقر بطلٌ غير متوّج

الإثنين 22 أيار 2023
فيلم إخوة ليلى
مشهد من فيلم إخوة ليلى.

«كلما عملت بكد، ازداد فقرك».

بحكمة المتعبين هذه، تدفع ليلى (تلعب دورها ترانة عليدوستي) شقيقها علي رضا (يلعب دوره نافيد محمد زاده) في فيلم (إخوة ليلى) لإنشاء مشروع تجاري، يدرّ لعائلتهما الربح ويؤمّن سقفًا متينًا وراتبًا تقاعديًا لأفرادها السبعة.

تلك هي القصة التي يتتبّعها المخرج الإيراني سعيد رستايي في دراماه العائلية الجديدة عن حياة أسرة فقيرة، يجتمع فيها الإخوة بمبادرة من شقيقتهم ليلى، فيقلّبون الأحجار بحثًا عن قرش يضيفونه إلى كومة الأموال التي يشترطها البنك وديعة مقابل شراء عدة مراحيض داخل المول التجاري ثم ردمها وتحويلها إلى متجر صغير. 

دخل فيلم إخوة ليلى، وهو الرابع لمخرجه الشاب، في المسابقة الرئيسية لمهرجان كان السينمائي، حيث فاز بجائزة الاتحاد الدولي لنقاد السينما، ولاقى امتداحًا نقديًا وجماهيريًا ضخمًا رغم غيابه الواضح عن باقي مهرجانات الجوائز الكبرى.

يشتعل الصراع الرئيسي داخل العائلة مع اتضاح رغبة والدهم إسماعيل (ويلعب دوره سعيد بورساميمي) في خلافة ابن عمه المتوفى على مشيخة العائلة؛ عرش وهمي يدفع إسماعيل ثمنه أربعين ليرة ذهبية، يقدمها هدية في حفل زفاف ابن قريبه، ممّا يعني للأبناء الخمسة التخلي عن المشروع التجاري الذي بات تحقيقه ممكنًا مع ظهور الليرات المخبأة.

ترفض ليلى أن «يتحكم بهم رجل ميت»، وتسرق الليرات التي ادخرها والدها في الخفية، ساحبة البساط الذهبي من تحت قدميه خلال حفل الزفاف الذي يحتفي به شيخًا جديدًا. لكن الغضب الكامن داخلها لا يتشاركه معها إخوتها الذين يرضخون لرغبة والدهم بعد تدهور حالته الصحية ويصدقون ادعاءاته حول رهن المنزل لقاء الحصول على الليرات، فيبيعون المحل بعدما صار ملكًا لهم، آملين استرداد مخزون والدهم من الذهب حتى يتنسى له إعادة اعتباره أمام عشيرته التي سارعت باستبداله بدافع السعر الأعلى. 

يباغت الانهيار الاقتصادي الجميع، وما كان في بداية الأمر فقاعة غلاء زائفة، يتحول على إثر تغريدة واحدة لترامب إلى «أخرى من معدن»، تهوي على رؤوس أفراد العائلة وتطيح بالأحلام الفردية والجماعية على حد سواء؛ يودّع الرجل عملاته الذهبية ومعها كرسي الشيخ، ويخسر الأبناء المتجر/المرحاض الذي ارتفع سعره، بعد بيعهم له، عشرات الأضعاف في أيام قليلة فقط.

يركز الفيلم على تعقيدات البنى العائلية ويتناول الطرق التي يمكن أن تشكّل بها الخرافات الاجتماعية والأساطير المكرسة ميراث العائلة المعنوي والمادي، ويبحث في خيارات شخصياته ضمن ذلك الفضاء محدود الأفق.

رغم كثافة القصة وامتدادها لما يقارب الثلاث ساعات، لا تنطوي أحداث فيلم إخوة ليلى على حشو أو مشاهد زائدة يمكن الاستغناء عنها. وقوة سردها وحواراتها إلى جانب حبكتها المتقنة وبناء شخصياتها المتين، تذكرنا إلى حد كبير بروايات القرن التاسع عشر، تحديدًا تلك التي أنجزها فيكتور هوغو وتشارلز ديكنز، والتي تركز على الفقر بوصفه لعنة وواحدًا من أكبر التحديات التي تواجهها المجتمعات. يستوحي رستايي أيضًا من أسلوب وموضوعات المخرج فرانسيس فورد كوبولا، وتأثيراته تبدو جلية في عرض فشل النظام الأبوي والعشائري في تحقيق مزاعمه بحماية أفراده. 

تقدم القصة بانعطافاتها المؤلمة وتحولاتها المريرة نقدًا طبقيًا مبطنًا، وتحمل في طياتها واقعًا سياسيًا مضطربًا يتسلل إلى قلب المشهد العائلي، حيث ينجو الأبناء الخمسة يومًا بيوم من واقع يسيطر عليه الاحتيال والاقتصاد المتهالك والمنافسات العشائرية والبطالة، وهي موضوعات تكشف عن نفسها مع أولى مشاهد الفيلم؛ يترك علي رضا وظيفته في المصنع بعدما اقتحمته شرطة مكافحة الشغب إثر انتفاضة عمال يكدون منذ أشهر بلا رواتب، أما شقيقه مانوشهير (بيمان معادي) المستقل عن العائلة منذ سنوات عدة، فقد حقق حلم أفراد الطبقة الوسطى في امتلاك بيت متهالك على هامش الحي السكني الجديد، لكن استقراره المالي هش وشكلي، خاصة مع التفاته إلى خُدَع الربح الهرمي بعد فقدان الأمل في إيجاد وظيفة ثابتة. ويعمل بارفيز (فرهاد أصلاني) عامل تنظيفات في دورة مياه أحد المولات التجارية، ينجب طفلًا تلو الآخر آملًا بقدوم الصبي، ويمتهن سرقة مستخدمي الحمام ومنزل والديه المسنين حتى يطعم أولاده الستة. أما فرهاد (محمد علي محمدي) وهو الأصغر من بين الأشقاء، فيقود في النهار سيارة مهترئة ويقضي ليله حالمًا بعضلات مفتولة أسوة بالمصارعين الأميركيين الذين يراهم على تلفازه الصغير. في آخر الرتل، تقف الأم التي أعلنت منذ زمن طويل عداءها لابنتها الوحيدة وغير المتزوجة ليلى، معتبرة إياها سبب بلاء إخوتها. 

يتسع فيلم رستايي كلما اتسعت المحادثة حوله، وفي حين يبدو الفقر وإهاناته أوضح موضوعات الفيلم وأكثرها إلحاحًا، إلا أن المخرج الذي لا يتجاوز 33 عامًا، يتناول في فيلمه موضوعات سوسيولوجية واقتصادية متشابكة ومعقدة، بدءًا من التحيز الجنسي والتبعية الغربية، وصولًا إلى حقوق الطبقة الكادحة والعمال، ويتعمق في المعضلات الأخلاقية التي تنجم عندما يضطر المرء للاختيار بين نجاته والآخر، خاصة ضمن أفراد العائلة الواحدة، حيث تتضارب المصالح وتتلاقى الرغبات وتتباعد، مركزًا على فكرة التضامن البشري، في إحدى أكثر بيئاتها المفترضة خصوبة: العائلة. إذ يطرح الفيلم أسئلة هامة عن مفهوم التكافل في العصر الحديث، خاصة في خضم الأوضاع الاقتصادية المتأرجحة التي تهدد طهران خلال الفيلم، وسببها قنابل تقذفها إدارة ترامب من داخل الولايات المتحدة الأميركية، على هيئة تغريدات وعقوبات اقتصادية وقرارات سياسية. 

رغم الفاقة، يجد الإخوة وسيلة للتعاطف والمساعدة، فيتبادلون هوياتهم الشخصية حتى يتمكن أحدهم من الفرار من جحيم السجن المحتم، ويتقاسمون المساحات الضيقة والفرشات الأرضية وما تبقى من سجائرهم الرخيصة، لكنهم مع ذلك مشتتون ومتباعدون، لكل منهم أسراره وتطلعاته الفردية ونقاط ضعفه، وهي عيوب يجادل الفيلم بأنها ناتجة عن المجتمع الذي يعيشون فيه لا سمات فردية تطبعهم.

يركز الفيلم على تعقيدات البنى العائلية ويتناول الطرق التي يمكن أن تشكّل بها الخرافات الاجتماعية والأساطير المكرسة ميراث العائلة المعنوي والمادي، ويبحث في خيارات شخصياته ضمن ذلك الفضاء محدود الأفق، داعيًا إيانا لفهم أكثرها تطرفًا ولا عقلانية، بما فيها رغبة إسماعيل في كسب احترام عائلته المزيف، بعدما قضى أفرادها سنوات في تجاهله واستثنائه من مناسباتهم الجماعية. يتوق إسماعيل للحظة تقدير واهتمام تعينه على مواصلة حياة خاضها «عبدًا»، بحسب وصف ابنه فرهاد، وأضاع معظمها في ركوب المواصلات العامة والنوم على البلاط. ولعل تواطؤه مع تقاليد عائلته ودفعه لإتاوات فُرضت عليه بالخداع الواضح، تشبه إلى حد كبير الأوهام الأخرى التي يتعلق بها أبناؤه؛ الثراء السريع الذي يودي بمانوشهير إلى مصير قاتم، والمشاركة في بطولات كمال الأجسام التي يحلم بها فرهاد. 

عالم ممتد؛ من المطبخ إلى غرفة المعيشة

يبذل المخرج سعيد رستايي، وهو كاتب السيناريو أيضًا، مجهودًا هائلًا في التقاط المساحات الضيقة والمكتظة. صحيح أن الفيلم لا يحقق إبهارًا بصريًا عالي المستوى، لكنه ينجح في صنع كوادر بسيطة ومعبرة، ويبني عالمًا رحبًا من الأحلام والطموحات والفرص، يمتد بين حوض المطبخ وغرفة المعيشة المعتمة. أما الخارج، فهو غربة أفراد العائلة وأماكن أعمالهم الشاقة والمجتمعات التي تنبذهم بلا رحمة، ويتمثل في صالة العرس والمصنع وفي الشركة الوهمية حيث يعمل مانوشهير. رغم التقشف البصري، يلتقط المخرج واحدًا من أجمل مشاهد الفيلم وأكثرها ثقلًا، حين يصور رقصة الألم التي يؤديها علي رضا بعد وفاة والده أثناء عيد ميلاد إحدى فتيات بارفيز. 

يتجنب رستايي الوقوع في فخ الميلودرامية الذي يهدد أفلامًا كهذه، صانعًا مزيجًا متجانسًا بين التصوير الواقعي والاستعارات الفنية. ولعل أكثر ما يثير الاهتمام في فيلمه هو الاستخدام المدروس للعناصر الكوميدية دون أن تظهر كاستراحات مفتعلة من قسوة المشهد؛ يتشاجر الإخوة ويتعاركون ثم يضحكون ويمزحون، متقاسمين غرفًا أصغر من أن تتسع للأحقاد الطويلة.

يفيض الفيلم بالنقد الطبقي والاجتماعي والسياسي في أكثر أشكاله دقة وحساسية ومعاصرة، ويبعد كل البعد عن إلقاء النظرة الرومانسية على آلام الفقراء أو نسخ الواقع كما هو وتقديم الإجابات الجاهزة.

المواجهة بين القديم والجديد هي أيضًا موضوعة هامة عبر الفيلم؛ يدفع النظام الأبوي العقبات المميتة في وجه مجتمع متصارع بين القديم والجديد، لكن الخوف يوقع أفراده في التردد، والقرارات الخاطئة تلاحقهم وكأنها أمراض مزمنة يرثها الأبناء عن آبائهم وأجدادهم. قد تحمل تلك الاستنتاجات قدرًا عاليًا من التشاؤم، لكنها تدفعنا أيضًا إلى طرح أسئلة هامة عن المستقبل وطرق مواجهته، وتوضح أن الأساليب القديمة لم تعد تجدي نفعًا، حالها حال المدخرات القديمة التي هوت قيمتها بعد انخفاض سعر العملة الإيرانية بنسبة 90% تقريبًا مقابل الدولار الأميركي خلال الفيلم. 

يقدم إخوة ليلى فيلمًا نسويًا من نوع خاص. وخلافًا لكثير من الأفلام الأخرى التي ظهرت عقب مرحلة (أنا أيضًا)، فهو يمرر رسائله بعفوية وهدوء خالصيْن، ويكشف عن الجذور الاقتصادية للهيمنة الذكورية. تُستثنى ليلى من محادثات الرجال وخططهم مع أنها الوحيدة القادرة على التفكير بشكل عقلاني يضمن مصلحة البقية. ممارسات تهميش النساء المتجذرة بعمق في مجتمعها تشل حركتها وتمنعها من مساعدة نفسها والآخرين. مع ذلك، الأمل لا ينضب، وما لم تنجح ليلى في تحقيقه قد يغدو ممكنًا مع الجيل القادم والمتمثل في فتيات بارفيز الصغيرات. 

في مشهد الختام، تخترق الفتيات بأثوابهن البيضاء ووجوههن الضاحكة جو الحزن الخانق في غرفة المعيشة؛ يرقصن ويقفزن وخلفهن يرقد الجد إسماعيل جثة هامدة، وقد باغته الموت قبل أن يكمل سيجارته الأخيرة. 

قد يبدو فيلم إخوة ليلى صعب المشاهدة، خاصة أنه يصور مشهدًا حميميًا ومألوفًا، ويرسم بتنوع موضوعاته وكثافتها صورة جماعية لعائلة نشعر أننا نعرفها جيدًا، مقدمًا عملًا يفيض بالنقد الطبقي والاجتماعي والسياسي في أكثر أشكاله دقة وحساسية ومعاصرة، وبعيدًا كل البعد عن إلقاء النظرة الرومانسية على آلام الفقراء أو نسخ الواقع كما هو وتقديم الإجابات الجاهزة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية